خزانة المواعظ ... (تحديث مستمر)

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع الطبيب
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

الطبيب

New member
إنضم
01/01/2006
المشاركات
105
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات و النور، ثمّ الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد.

فهذا ما أستعين الله تعالى عليه، من محاولة رأب الصدع، وجلي الغشاوة، وإنارة الطريق، وإغاثة الغريق، من بعد ما ران على القلوب ما كسبت، وتبدّلت النفوس وانتكست، وصارت الآيات تقرع من القلوب الأبواب ثلاثاً فلا يؤذن لها، وصارت النُذُر تَرِد إلى سوق الألباب فلا يؤبه بها، وأضحت بضاعة الخير فيه مُزجَاة، والعبرة بالآيات فيه مُرجَاة، وتشعّبت الهموم في الدنيا فتفرّقت، وتعلّقت القلوب بغير الله فتمزّقت، وصارت قلوبُنا باردة ليس لقوة الإيمان فيها جذوة، ويبست عيوننا من ماء الدموع فبينها وبينه جفوة، ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾.

وهذا ما دعاني إليه قلبي المريض، ونفسي المبتلاة، وهمّي المتفرق في شعب الدنيا من كل شعبة منه شعبة، فقلبٌ لا يخشع، وعينٌ لا تدمع، ونفسٌ لا تشبع، وأعوذ بالله من دعوةٍ لا ترفع، بل أعوذ به من هؤلاء الأربع.

وهذا ما اتخذته لنفسي أولاً، ثم رأيت أن لا أبقيه حبيس جهازي، فأحببت أن يكون لي نافلةٌ من عمل صالح أو علم نافع يرقّع ما تمزّق من عملي، مع أنّ النية لم تصح بعد، وحظوظ النفس لا تزال شريكة في هذا الأمر، ولو بقيتُ حتّى أخلص النية من شوائبها إنها إذاً لحياة طويلة، و ودّ الشيطان لو يظفر منّي بهذه، ولكن هيهات. فهذا عمل يسير إن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان، أردت به ترقيق القلب وتجديد الإيمان، وحفز الهمّة للتشمير إلى مرضاة الرحمن، فكرته كانت تراودني منذ زمن، فبدأتها بطريقة تقليدية، ثمّ لمّا خطر لي أن أنشره جعلته على الحاسب، كي يسهل نشره وتوزيعه، فهذا أوان نشره وتوزيعه.

هذه هي (خزانة المواعظ)، لآلئ جمعتها من بطون كتب الرقائق، تسوط القلب بسياط المواعظ، وتلهبه بحرارة الإيمان، وتصقله بمواد التذكير، تعاهدتها بالحفظ والعناية، وملأتها بالكنوز والدرر، وجعلتها بتوفيق الله ملآنة بأطايب الثمر، تجلو الفؤاد الحسير، وتبهج المغموم الكسير، وهي فوق ذلك كله ترطّب القلوب وتَسقي الدموع، وتسلّي النفس بذكر الله تعالى.

هذه هي (خزانة المواعظ)، مقالاتٌ جمعتها من كتب التزكية والسلوك والرقائق، كنت أرصدها لجائحة فتور تصيبني فأباغتها بها فينصر الله أقوى العسكرين، وكنت أقرأ فيها فأنشط و ربّما طبعت بعضاً منها ووزّعته على بعض إخوتي فأرى أثرها عليهم من قريب ولله الحمد. وحرصت على أن تكون من كتب أهل السلف المتقدّمين، فهم أقل تكلُفاً، وأعمق فهماً وأجدر أن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، واستفدت من كتب بعض المتأخرين والمعاصرين، وفي كلٍّ خير.

هذا وخير ما يوعظ به كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلّم، وما استغنى عنهما طالبٌ إلا خذل فيما يطلب، وجعل الله فقره بين عينيه، ولم يأته من الإيمان إلا ما كان عليه من قبل، فهذه المواعظ منها ما هو من كتاب الله أصالةً كتفسير بعض الآيات، ومنها ما هو مستقىً منها ومن السنّة ومبنيٌّ عليهما كعامة المواعظ في هذ (الخزانة)؛ وقدحرصت على التنوع كثيراً وقد أكون وُفِّقت في ذلك وقد أكون أخفقت، وهذا جهدي وسعتي.

وبعض الكلام أطيب من بعض، وبعض الوعظ أنفس من بعض، وقد ميّزت ما هو في نظري حريٌّ بالحفظ والتعاهد باللون الأخضر، وكم أحب أن يستفيد الشباب من هذه المواعظ، وأن ينشروا ما يرونه مناسباً بينهم، أو أن يرسلوها بالبريد أو أن يدّخروها في أجهزتهم لحين حاجتها، فبعض المواعظ فيها بعض طول بحيث تصلح كلمة بعد الصلاة في بعض الرحلات أو غيرها.

ودمتم ،،،
 
من صفات الله الأول والآخر والظاهر والباطن

قال ابن القيم في طريق الهجرتين:
(فأوليَّةُ الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أوليَّةِ كل ما سواه ، وآخريَّتُه ثابتةٌ بعد آخرِيَّةِ كل ما سواه ، فأوليَّتُه سَبْقُه لكل شيء ، وآخريَّتُه بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريَّتُه سبحانه فوقيَّتُه وعلوه على كل شيء ، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه ، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء ، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه ، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه ، هذا لون وهذا لون ، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة ، وهي إحاطتان : زمانيَّة ، ومكانيَّة ، فإحاطة أوليَّتِه وآخريَّتِه بالقَبْلِ والبَعْدِ ، فكل سابق انتهى إلى أوليَّتِه ، وكلُ آخرٍ انتهى إلى آخريَّتِه ، فأحاطت أوليَّتُه وآخريَّتُه بالأوائل والأواخر ، وأحاطت ظاهريَّتُه وباطنيَّتُه بكلِّ ظاهرٍ وباطن، فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه ، وما من باطن إلا والله دونه ، وما من أولٍ إلا والله قبله ، وما من آخرٍ إلا والله بعده ، فالأوَّلُ قِدَمُه ، والآخرُ دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته ، والباطن قربه ودنوه ، فسبق كلَّ شيء بأوليَّته ، وبقي بعد كلُّ شيء بآخريَّتِه ، وعلا على كل شيء بظهوره ، ودنا من كل شيء ببطونه ، فلا تواري منه سماءٌٌٌ سماءً ، ولا أرضٌ أرضاً ، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطناً ، بل الباطنُ له ظاهر ، والغيبُ عنده شهادة ، والبعيدُ منه قريب ،والسرُّ عنده علانية ، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد ، فهو الأوَّل في آخريَّتِه ، والآخر في أوليَّتِه ، والظاهر في بطونه ، والباطن في ظهوره، لم يزل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً).
 
الهجرة إلى الله ورسوله

قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية:
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه ، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله ، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله ، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان :
الهجرة الأولى : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .
والهجرة الثانية الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها .
وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له ، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى :﴿ ففروا إلى الله ﴾ ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه .
وتحت ( من ) و( إلى ) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد ، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر ، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده ، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته ، وما لم يشأ لم يكن ، وامتنع وجوده لعدم مشيئته . فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه .
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وأعوذ بك منك " وقوله : " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك " ، فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقاً وإبداعا . فالفار والمستعيذ : فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه ، وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه ، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه ، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره .
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله : " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق .
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر .
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن : هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه ، وأصلها الحب والبغض ، فان المهاجر من شئ إلى شئ لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه ، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر . وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه ، وقد بلي بهؤلاء الثلاث ، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه ، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات .
 
أبيات في وصف الميّت

ذكرها القرطبي في التذكرة:
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ضعوا خدي على لحدي ضعوه=و من عفر التراب فوسدوه
و شقوا عنه أكفاناً رقاقاً=و في الرمس البعيد فغيبوه
فلو أبصرتموه إذا تقضت=صبيحة ثالث أنكرتموه
و قد سالت نواظر مقلتيه=على وجناته و انفض فوه
و ناداه البلا : هذا فلان=هلموه فانظروا هل تعروفه
حبيبكم و جاركم المفدى=تقادم عهده فنسيتموه [/poem]
 
الدنيا متاع الغرور

قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر:
من تفكر بعواقب الدنيا ، أخذ الحذر ، و من أيقن بطول الطريق تأهب للسفر . ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه ، و يتحقق ضرر حال ثم يغشاه ! و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه .
تغلبك نفسك على ما تظن ، و لا تغلبها على ما تستيقن . أعجب العجائب ، سرورك بغرورك ، و سهوك في لهوك ، عما قد خبىء لك . تغتر بصحتك و تنسى دنو السقم ، و تفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم . لقد أراك مصرع غيرك مصرعك ، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـ مضجعك . و قد شغلك نيل لذاتك ، عن ذكر خراب ذاتك :

[align=center] كأنك لم تسمع بأخبار من مضى و لم تر في الباقين مايصنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك و البقر ! [/align]
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده ، حتى نزل ! و كم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل ! فيا من كل لحظة إلى هذا يسري ، و فعله فعل من لا يفهم لو لا يدري ...
[align=center] و كيف تنام العين و هي قريرة ؟ و لم تدر من أي المحلين تنزل ؟
[/align]
 
الهجرة إلى الله ورسوله (2)

قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية:
وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه ، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه ، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها ، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها ، فسالكها غريب بين العباد ، فريد بين كل حي وناد ، بعيد على قرب المكان ، وحيد على كثرة الجيران ، مستوحش مما به يستأنسون ، مستأنس مما به يستوحشون ، مقيم إذا ظعنوا ، ظاعن إذا قطنوا ، منفرد في طريق طلبة ، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه ، فهو الكائن معهم بجسده ، البائن منهم بمقصده ، نامت في طلب الهدى أعينهم ، وما ليل مطيته بنائم ، وقعدوا عن الهجرة النبوية ، وهو في طلبها مشمر قائم ، يعيبونه بمخالفة آرائهم ، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم ، قد رجموا فيه الظنون ، وأحدقوا فيه العيون ، وتربصوا به ريب المنون، ﴿ فتربصوا إنَّا معكم متربصون ﴾، ﴿ قال رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ﴾ .
[align=center]نحن وإياكم نموت ، فما * افلح عند الحساب من ندما[/align]
والمقصود : أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد . وطريقها على غير المشتاق بعيد .
[align=center]بعيد على كسلان أو ذي ملالة * أما على المشتاق فهو قريب[/align]
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ، ولكن أنت ظلامه ، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ، ولكن أنت غيمه وقتامه، ومنهل عذب صاف وأنت كدره ، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره .
 
تأثير الموعظة

قال ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتماراً، لكنهم عقلوا عن الله مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه نفوسهم وخشعت له جوارحهم ففاقوا الناس بطيب المنزلة وعلو الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة .

 
مظاهر فقر الخلق وغنى الخالق

قال السعدي رحمه الله في تفسيره:
﴿ 15 - 18 ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾
يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم [بها]، لما استعدوا لأي عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
﴿ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال.
ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده].
 
من آثار أسماء الله الحسنى

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر وتوبة تقبل وجرائم يعفى عنها ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق الرزاق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطي والممنوع وهذه الأسماء كلها حسنى ، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه فهو عفو يحب العفو ويحب المغفرة ويحب التوبة ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال ، وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده ، وهو سبحانه الحميد المجيد وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ، ومن آثارهما مغفرة الزلات وإقالة العثرات والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال اقدرة على استيفاء الحق والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزا ويسامح جهلا بقدر الحق بل أنت عليم بحقك قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به ، فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته.
 
نظم لبعض الأسماء الحسنى

قال ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
[align=center]فصل
في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت[/align]

[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
هذا ومن توحيدهم إثبات أو= صاف الكمال لربنا الرحمن
كعلوه سبحانه فوق السما=وات العلى بل فوق كل مكان
فهو العلي بذاته سبحانه= اذ يستحيل خلاف ذا ببيان
وهو الذي حقا على العرش استوى= قد قام بالتدبير للأكوان
حي مريد قادر متكلم= ذو رحمة وإرادة وحنان
هو أول هو آخر هو ظاهر= هو باطن هي أربع بوزان
ما قبله شيء كذا ما بعده= شيء تعالى الله ذو السلطان
ما فوقه شيء كذا ما دونه= شيء وذا تفسير ذي البرهان
فانظر الى تفسيره بتدبر= وتبصر وتعقل لمعان
وانظر إلى ما فيه من أنواع معـ=ـرفة لخالقنا العظيم الشان
وهو العلي فكل أنواع العلـ=ـلو له فثابته بلا نكران
وهو العظيم بكل معنى يوجب التـ=ـعظيم لا يحصيه من إنسان
وهو الجليل فكل أوصاف الجلا=ل له محققة بلا بطلان
وهو الجميل على الحقيقة كيف لا= وجمال سائر هذه الأكوان
من بعض آثار الجميل فربها= أولى وأجدر عند ذي العرفان
فجماله بالذات والأوصاف والـ=أفعال والأسماء بالبرهان
لا شيء يشبه ذاته وصفاته= سبحانه عن إفك ذي بهتان[/poem]
 
إكثار ذكر الموت

قال القرطبي رحمه الله في التذكرة:
قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة، و قناعة القلب، و نشاط العبادة . و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة، و ترك الرضى بالكفاف، و التكاسل في العبادة.
فتفكر يا مغرور في الموت و سكرته، و صعوبة كأسه و مرارته، فيما للموت من وعد ما أصدقه، و من حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، و مبكياً للعيون،و مفرقاً للجماعات، و هادماً للذات، و قاطعاً للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، و انتقالك من موضعك، و إذا نقلت من سعة إلى ضيق، و خانك الصاحب و الرفيق، و هجرك الأخ و الصديق، و أخذت من فراشك و غطائك إلى عرر، و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر، فيا جامع المال، و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان، بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب.
فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
و لقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ﴾ أي : اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا، الدار الآخرة و هي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين و الماء و التجبر و البغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن، و نحو هذا قول الشاعر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
نصيبك مما تجمع الدهر كله=رداءان تلوى فيهما و حنوط[/poem]
 
طلب الله بيقين

جاء في كتاب التقوى لأحمد فريد:
إن صدقت فى طلابهم فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم فالمعين قادر، تعرض لمن اعطاهم، وسل فمولاك مولاهم ، رب كنز وقع به فقير، ورب فضل اختص به صغير، علم الخضر ما خفي على موسى، وكشف لسليمان ما خفي على داود.


 
إرادة الله الخير بالعبد

قال السعدي رحمه الله في تفسيره:
﴿ 26 - 28 ﴾ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل.
﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده.
ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك.
وقوله ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.
وقوله ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم.
﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾ أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون ﴿أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا﴾ أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.
يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.

 
الاعتبار بأصحاب القبور

قال القرطبي رحمه الله في التذكرة:
اعتبر بمن صار تحت التراب ، و انقطع عن الأهل و الأحباب ، بعد أن قاد الجيوش و العساكر ، و نافس الأصحاب و العشائر ، و جمع الأموال و الذخائر ، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه ، و هول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، و درج من أقرانه ، الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال . كيف انقطعت آمالهم ، و لم تغن عنهم أموالهم ، و محا التراب محاسن وجوههم ، و افترقت في القبور أجزاؤهم ، و ترمل بعدهم نساؤهم ، و شمل ذل اليتم أولادهم ، و اقتسم غيرهم طريقهم و بلادهم . وليتذكر ترددهم في المآرب ، و حرصهم على نيل المطالب ، و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب ، و ركونهم إلى الصحة و الشباب ، و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم ، و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع كغفلتهم ، و أنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، و ليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه ، و كيف تهدمت رجلاه . و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه ، و يصول ببلاغة نطقه ، و قد أكل الدود لسانه ، و يضحك لمؤاتاة دهره و قد أبلى التراب أسنانه ، و ليتحقق أن حاله كحاله ، و مآله كمآله ، و عند هذا التذكر و الاعتبار ، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، و يقبل على الأعمار الأخروية ، فيزهد في دنياه ، و يقبل على طاعة مولاه ، و يلين قلبه ، و يخشع جوارحه .

 
عشرة حروز من الشيطان

قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد:
قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب :
أحدها : الاستعاذة بالله من الشيطان . قال تعالى : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : 36 ] ، وفي موضع آخر ﴿ إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : 200 ] ، وقد تقدم أن السمع المراد به ههنا . سمع الإجابة لا مجرد السمع العام . وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة . هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها. وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد ، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه . فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه . وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم . كما قال الله تعالى : والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا . بل يريه أن هذا ذل وعجز ، ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه ، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل ، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : 36 ] ، وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان . بل بالإعراض . وهذا سهل على النفوس غير مستعصي عليها . فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : 200 ] ، وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين ، وبين قوله في حم المؤمن ﴿ فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير﴾ في صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما أحمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد] .
الحرز الثاني : قراءة هاتين السورتين فإن لهما تاثيراً عجيباً في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما ، وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم ، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة . وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم : [إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسي وثلاثاً حين يصبح كفته من كل شيء] .
الحرز الثالث : قراءة آية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث فقال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان] . وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده .
الحرز الرابع : قراءة سورة البقرة . ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان] .
الحرز الخامس : خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان] .
الحرز السادس : أولى سورة حم المؤمن إلى قوله : إليه المصير مع آية الكرسي ، ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة ، عن زرارة بن مصعب ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [من قرأ حم المؤمن إلى ﴿ إليه المصير ﴾ [ غافر : 3 ] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح] ، وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه . فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته .
الحرز السابع : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ، ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك] ، فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه .
الحرز الثامن : وهو من أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل . ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن و أن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن فأتاه عيسى فقال له: إنك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن و تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن و إما أن أبلغهن فقال له: يا روح الله إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن و آمركم أن تعملوا بهن ; و أولهن: أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا فإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه دارا فقال: اعمل و ارفع إلي فجعل العبد يعمل و يرفع إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ؟ و إن الله خلقكم و رزقكم فاعبدوه و لا تشركوا به شيئا و أمركم بالصلاة و إذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز و جل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت ; و أمركم بالصيام و مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك و إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ; و أمركم بالصدقة و مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه و قدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل و الكثير حتى فك نفسه و أمركم بذكر الله كثيرا و مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه و إن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى . و أنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة و السمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد في سبيل الله فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع و من دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله] (صحيح الجامع) ، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح . وقال البخاري الحارث الأشعري له صحبة ، وله غير هذا الحديث ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث . أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قل أعوذ برب الناس ، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي وساوس الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل .
الحرز التاسع : الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه . ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة . فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رايتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض] ، وفي أثر آخر [إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء] ، فأما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة . فإنها نار والوضوء يطفئها .
والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه .
الحرز العاشر : إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس . فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة . فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به . والفكرة في الظفر به . فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم : فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة ، كما قال الشاعر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كل الحوادث مبداها من النظر=ومعظم النار من مستصفر الشرر
كم نظرة فتكت في قلبها صاحبها=فتك السهام بلا قوس ولا وتر [/poem]
وقال الآخر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً=لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لاكله أنت قادر=عليه ولا عن بعضه أنت صابر [/poem]
وقال المتنبي :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وأنا الذي جلب المنية طرفه=فمن المطالب والقتيل القاتل[/poem]
ولي في أبيات :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً= أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له =توقه أنه يرتد بالعطب
ترجوالشفاء بأحداق بها مرض = فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنياً نفسه في أثر أقبحهم =وصفاً للطخ جمال فيه مستلب
وواهباً عمره في مثل ذا سفها = لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعاً طيب عيش ماله خطر =بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبت فاحشاً فلو اسـ =ـترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
ووارداً صفو عيش كله كدر =أمامك الورد صفواً ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصباً = لكل داهية تدن من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب = وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها = والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت = عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت =ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من = تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فافرش الخد ذياك التراب وقل = ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفاً يطوف به = غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج = اشفى إلى ناظري من خدك الترب
منازلاً كان يهواها ويألفها = أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له = يهوي إليها هوى الماء في صبب
أحيى له الشوق تذكار العهود بها = فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه = وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك أن = بثثته بعض شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتدياً = بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة = وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به = يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه = إلا بنور ينجي العبد في الكرب [/poem]
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء ، وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان . فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : [وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم] . وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة طوبى له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه] وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسئمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلىء لم يبق فيه إرادة للطعام ، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات . وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون : ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان . وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر . فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها . فمن وقى شر بطنه . فقد وقى شراً عظيماً ، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام . ولهذا جاء في بعض الآثار ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم :[ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه] ، ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل ، واذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد . فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات . وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت . وأما فضول المخالطة فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات . وهي في القلوب لا تزول بفضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة . وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة . ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغني عنه في اليوم والليلة . فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله ، وأمره ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله .
القسم الثاني : من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للإدواء ونحوها .
القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا . ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما . فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف . ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك . فإذا فارقك سكن الألم . ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها . بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به . فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ، ولا جرها على الأرض . ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر . ورأيت يوماً عند شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعفت القوى عن حمله ، فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل : حمى الربع ، ثم قال ، لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال : وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة . ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم . فإن اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس ، لأكثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً . فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكراً ، والمنكر معروفاً إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ، ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين . وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا : أنت من المفتنين . وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها . قالوا : أنت من أهل البدع المضلين . وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينه وبين جيفة الدنيا . قالوا : أنت من الملبسين . وإن تركت ما أنت عليه ، واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين . فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم . وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإذا أتتك مذمتي من ناقص =فهي الشهادة لي بأني فاضل [/poem]وقال آخر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]وقد زادني حباً لنفسي أنني = بغيض إلى كل امرىء غير طائل [/poem]
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم . وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة ، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان . فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم ، وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه . ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي ، وفي الصباح يحمد القوم السري والله الموفق لا رب غيره ، ولا إله سواه .

 
من أسماء الله: اللطيف

جاء في كتاب الدعاء بالأسماء الحسنى:
قال تعالى: ﴿ ألا يَعْلم من خَلق وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ [الملك:14] .
وصح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (لتخبِرِينِي أو ليُخبِرَني اللطِيفُ الخبِيرُ). [مسلم]
واللطيف سبحانه هو الذي اجْتمع له العلم بدَقائق المصَالح وإيصَالها إلى من قدرها له من خَلقه مع الرفق في الفِعل والتنفيذ، والله سبحانه لطيف بعباده رفيق بهم قريبٌ منهم، يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان، ويدعو المخالفين إلى الإنابة والتوبة والغفران، مهما بلغ بهم الذنب والجرم والعصيان، وهو لطيف بعباده يعلم دقائق أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء مما في صدورهم .
واللطيف أيضا هو الذي ييسر للعباد أمورهم ويستجيب منهم دعائهم فهو المحسن إليهم في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، فنعمه عليهم سابغة ظاهرة لا يحصيها العادون، ولا ينكرها إلا الجاحدون، وهو الذي يرزقهم بفضله من حيث لا يحتسبون، كما أنه يحاسب المؤمنين حسابا يسيرا بفضله ورحمته، ويحاسب غيرهم من المخالفين وفق عدله وحكمته .
ومن الدعاء القرآني باسمه اللطيف ما ورد في قوله تعالى عن يوسف :﴿ إن رَبِّي لطِيفٌ لِما يَشاءُ إنهُ هُوَ العلِيم الحَكِيم ﴾ [يوسف:100]‌.
اللهم إنك لطيف لما تشاء، وأنت العليم الحكيم، ارفع عني البلاء والشقاء، وأعذني من الشيطان الرجيم .
(اللهم الطف بي في تيسير كل عَسير؛ فإن تيسير كل عَسير عَليك يَسير، وأسألك اليُسْر والمعافاة في الدنيا والآخرة).[في رفعه ضعف وقد يكون من دعاء أبي بكر]

 
الخشوع في الصلاة

وفي حليه الأولياء أن محمد بن المنكدر:
قام ذات ليلة فأخذه البكاء وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه ما الذي أبكاك فلم يستطع أن يرد عليهم فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبره بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو مازال يبكى، قال: له يا أخي ما الذي أبكاك، أبكَ عّله ؟!
قال: لا ولكن مرت بي آية من كتاب الله عز وجل.
قال: وما هي؟
قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ !!
فبكى أبو حازم أيضا معه واشتد بكاؤهما، فقال بعض أهله لأبى حازم: جئنا بك لتفرج عنه فزدته !!

 
محبة الله للعبد (نفيس جداً على طوله)

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه وأرسله وأرسل إليه وخاطبه وكلمه منه إليه واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه وخلق لهم الجنة والنار فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي وعليه الثواب والعقاب ، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات وقد خلق أباه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين واتخذه عدوا له ، فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرة الله من العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه فاتخذه محبوبا له وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه وعهد إليه عهدا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه وما يبعده منه ويسخطه عليه ويسقطه من عينه ، وللمحبوب عدو هو أبغض خلقه إليه قد جاهره بالعداوة وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق واستقطع عباده واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم وكانوا أعداء له مع هذا العدو يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدولة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم ومالهم وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم ، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وأنه سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته وأنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر وأن الفضل كله بيده والخير كله منه والجود كله له وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ويغمرهم إحسانا وجودا ويتم عليهم نعمته ويضاعف لديهم منته ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه ، فهو الجواد لذاته وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده فليس الجواد على الإطلاق إلا هو وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطرببال الخلق أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدرا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والإبتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وابتهاجه وسروره هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه بإستخلاف مثله وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الإستعانة بنظيره ومن هو دونه ونفسه قد طبعت على الحرص والشح ، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته فجوده العالي من لوازم ذاته والعفو أحب إليه من الإنتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والفضل أحب إليه من العدل والعطاء أحب إليه من المنع ، فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره ولم يهمله ولم يتركه سدى فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ووالى عدوه وظاهره عليه وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه وفتح طريق العقوبة والغضب والإنتقام فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان ، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقا شاردا رادا لكرامته مائلا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيا لسيده منهمكا في موافقة عدوه قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه وعلم أنه لا بد له من وأن مصيره إليه وعرضه عليه وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قياده وألقى إليه زمامه فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة عليه رحمة به وأبدله بالعقوبة عفوا وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلما فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا فكيف يكون فرح سيده به وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا وراجع ما يحبه سيده منه برضاه وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والإنتقام والعقوبة ، وهذا موضع الحكاية المشهورة أنه حصل له شرود وإباق من سيده فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤيك سواي ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ثم أخذته ودخلت ، فتأمل قول الأم لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ، وتأمل قوله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به ، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها ، ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان ، وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغني والخير فلم يقبله فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع والفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
[align=center] فصل[/align]هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر وأما إن لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودا فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه وإنما يشهده خواص المحبين ، فإن الله سبحانه إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض وهو غاية الخلق والأمر ونفيه كما يقول أعداؤه هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه وهو السدى الذي نزه نفسه عنه أن يترك الإنسان عليه وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم له وطاعتهم له ودعاؤهم له ، وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثا وباطلا وسدى وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين والإله الحق فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج عن أحب الأشياء إليه وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة وصار كأنه خلق عبثا لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكا ودغلا فإذا راجع ما خلق له وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة الرب له فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذي ذكره النبي لذكره ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه في سفره بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده وهذا كشدة محبته لتوبة التائب المحب إذا اشتدت محبته للشيء وغاب عنه ثم وجده وصار طوع يده فلا فرحة أعظم من فرحته به ، فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا أسره عدوك وحال بينك وبينه وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفجأك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويستعينك ويمرغ خديه على تراب أعتابك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك وآثرته على سواه ، هذا ولست الذي أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمك والله عز وجل هو الذي أوجد عبده وخلقه وكونه وأسبغ عليه نعمه وهو يحب أن يتمها عليه فيصير مظهرا لنعمه قابلا لها شاكرا لها محبا لوليها مطيعا له عابدا له معاديا لعدوه مبغضا له عاصيا له والله تعالى يحب من عبده معاداة عدوه ومعصيته ومخالفته كما يحب أن يوالى الله مولاه سبحانه ويطيعه ويعبده فتنصناف محبته لعبادته وطاعته والإنابة إليه إلى محبته لعداوة عدوه ومعصيته ومخالفته فتشتد المحبة منه سبحانه مع حصول محبوبه وهذا هو حقيقة الفرح ، وفي صفة النبي في بعض الكتب المتقدمة عبدي الذي سرت به نفسي وهذا لكمال محبته له جعله مما تسر نفسه به سبحانه ، ومن هذا ضحكه سبحانه من عبده حين يأتي من عبوديته بأعظم ما يحبه فيضحك سبحانه فرحا ورضا كما يضحك من عبده إذا ثار عن وطائه وفراشه ومضاجعة حبيبه إلى خدمته يتلو آياته ويتملقه ، ويضحك من رجل هرب أصحابه عن العدو فأقبل إليه وباع نفسه لله ولقاهم نحره حتى قتل في محبته ورضاه ، ويضحك إلى من أخفى الصدقة عن أصحابه لسائل اعترضهم فلم يعطوه فتخلف بأعقابهم وأعطاه سرا حيث لا يراه إلا الله الذي أعطاه فهذا الضحك منه حبا له وفرحا به وكذلك الشهيد حين يلقاه يوم القيامة فيضحك إليه فرحا به وبقدومه عليه ، وليس في إثبات هذه الصفات محذور ألبتة فإنه فرح ليس كمثله شيء وضحك ليس كمثله شيء وحكمه حكم رضاه ومحبته وإرادته وسائر صفاته فالباب باب واحد لا تمثيل ولا تعطيل.


 
علامات صحة القلب

جاء في الدرر السنيّة نظم علامات صحة القلب التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، والنظم للشيخ سلمان بن سحمان رحمه الله تعالى، من علماء القصيم:

[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بحمد الله نبدأ في المقال = وذكر الله في كل الفعال
فذكر الله يجلو كل هم = عن القلب السليم على التوال
فللقلب السليم إذا تزكى = علامات هنالك للكمال
علامات لصحة كل قلب = سليم عن مداخلة الضلال
علامة صحة القلب ذكره = لذي العرش المقدس ذي الجلال
وخدمة ربنا في كل حال = بلا عجز هنالك أو ملال
ولا يأنس بغير الله طرا = سوى من قد يدل إلى المعال
ويذكر ربه سرا وجهرا = ويدمن ذكره في كل حال
ومنها وهو ثانيها إذا ما = يفوت الورد يوما لاشتغال
فيألم للفوات أشد مما = يفوت على الحريص من الفضال
ومنها شحه بالوقت يمضي = ضياعا كالشحيح ببذل مال
وأيضاً من علامته اهتمام = بهم واحد غير انتحال
فيصرف همه لله صرفاً= ويترك ما سواه من المقال
وأيضاً من علامته إذا ما= دنى وقت الصلاة لذي الجلال
وأحرم داخلاً فيها بقلب = منيب خاضع في كل حال
تناآى همه والغم عنه = بدنيا تضمحل إلى زوال
ووافى راحة وسرور قلب= وقرة عينه ونعيم بال
ويشق الخروج عليه منها= فيرغب جاهداً في الإبتهال
وأيضاً من علامته اهتمام = بتصحيح المقالة والفعال
وأعمال ونيات وقصد= على الإخلاص يحرص بالكمال
أشد تحرصاً وأشدهم= من الأعمال ثمت لا يبال
بتفريط المقصر ثم فيها = وإفراط وتشديد لغال
وتصحيح النصيحة غير غش = يمازج صفوها يوماً بحال
ويحرص في اتباع النص جهداً= مع الإحسان في كل الفعال
ولا يصغي لغير النص طراً= ولا يعبأ بآراء الرجال
فست مشاهد للقلب منها= علامات عن الداء العضال
ويشهد منة الرحمن يوماً= بما أسدى عليه من الفضال
ويشهد منه تقصيراً وعجزاً= بحق الله في كل الخلال
فقلب ليس يشهدها سقيم= ومنكوس لفعل الخير قال[/poem]
 
زهادة اللذات وفناءها

قال ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين:
وإن من أيام اللذات لو صفت للعبد من أول عمره إلى آخره لكانت كسحابة صيف تتقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل، قال الله تعالى: ﴿ أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ﴾.
ومن ظفر بمأموله من ثواب الله، فكأنه لم يوتر من دهره بما كان يحاذره ويخشاه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر:
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كأنك لم توتر من الدهر مرة=إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه[/poem]
 
زيارة القبور

قال القرطبي رحمه الله في التذكرة:
[align=center]فصل[/align]
قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور:
أحدها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر ، و التخويف و الترغيب ، و أخبار الصالحين . فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها .
الثاني: ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل ، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها . فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك . ففعلت ذلك فرق قلبها . فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها . قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، و يلين القلب القاسي ، و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها .
الثالث: مشاهدة المحتضرين ، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته ، و نزعاته ، و تأمل صورته بعد مماته ، ما يقطع عن النفوس لذاتها ، و يطرد عن القلوب مسراتها ، و يمنع الأجفان من النوم ، و الأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، و يزيد في الاجتهاد و التعب .
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه ، و شدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله ، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم . فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه .
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه، و لزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، و يستصرخ بها على فتن الشيطان و إغوائه، فإن انتفع بها فذاك، و إن عظم عليه ران القلب، و استحكمت فيه دواعي الذنب، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول، و الثاني، و الثالث. و لذلك قال عليه السلام زوروا القبور فإنها تذكر الموت و الآخرة، و تزهد في الدنيا.
فالأول: سماع بالأذن، و الثاني: إخبار للقلب بما إليه المصير ، و قائم له مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر، و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة، فلذلك كانا أبلغ من الأول و الثاني.

قال صلى الله عليه و سلم: ليس الخبر كالمعاينة رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره؛ إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات. و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات، و أما زيارة القبور: فوجودها أسرع، و الانتفاع بها أليق و أجدر، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها، و يحضر قلبه في إتيانها، و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من ذلك، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، و إصلاح فساد قلبه.
 
صفة الخائفين

سئل عبدالله بن المبارك عن صفة الخائفين فقال:
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
إذا ما الليل أظلم كابدوه = فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا = وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود =أنين منه تنفرج الضلوع
وخرس بالنهار لطول صمت =عليهم من سكينتهم خشوع [/poem]
 
الصبر عن الشهوات

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتاب تنبيه النائم:
ومما قلته من الشعر في هذا المعنى‏ [الشباب]:‏
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أَمّا الشَبابُ فَظُلمَةٌ لِلمُهتَدى = وَبِهِ ضَلالُ الجاهِلِ المُتَمَرِدِ
لَيسَ الَّذي تَرَكَ الذُنوبَ مَشيباً = كَالتارِكِ لَها وَقتَ شَعرٍ أَسوَدِ
فَافَرَح إِذا جاهَدتَ نَفسَكَ صابِراً = يا صاحِ صِح في اللَهوِ يا نارُ اِخمِدي
اِغنَم مَدِيحَةَ يُوسِفَ في صَبرِهِ = وَاِحذَر تَعَجلَ آدَمَ في المَفسَدِ
لَولا اِجتَباهُ لَكانَ شَيناً فاضِحاً = يَعصى فَيَالَكَ مِن حَزينٍ مُكمَدِ
فَاِقمَعهُ بِالصَبرِ الجَميلِ وَدُم عَلى = الصَومِ الطَويلِ فإَِنَّهُ كَالمَبرَدِ
وَاّغضُض جُفونَكَ عَن حَرامٍ وَاِقتَنِع = بِحَلالِ ما حَصَّلتَ تُحمَد في غَدِ
وَدَعِ الصَبا فَاللَهُ يَحمدُ صابِراً = يا نفسُ هَذا مَوسِمٌ فَتَزّوَّدي
الصَبرُ عَن شَهوَاتِ نَفسِكَ تَوبَةٌ = فَاِثبُت وَغالِط شَهوَةً لَم تَرقُدِ [/poem]
 
منة الله على العبد

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فكلما طالع العبد منن ربه سبحانه عليه قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده وبره به وحلمه عنه وإحسانه إليه : هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي وهو يمده بنعمه ويعامله بألطافه ويسبل عليه ستره ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم ويردهم عنه ويحول بينهم وبينه وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطلع عليه فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه والأرض تستأذنه أن تخسف به والبحر يستأذنه أن يغرقه.
 
اسم الله الكبير

قال تعالى: ﴿ عَالم الغيْب والشهَادةِ الكَبيرُ المتعال ﴾ [الرعد:9]، وقال: ﴿ ذلكَ بأن الله هو الحق وأن مَا يَدْعُون مِن دُونه البَاطِل وأن اللهَ هو العَليُّ الكَبيرُ ﴾ [لقمان:30] .
والكبير سبحانه هو الواسع العظيم عظمة مطلقة في الذات والصفات والأفعال، فهو الذي كبر وعلا في ذاته، قال تعالى: ﴿ وسِعَ كرسِيُّه السَّمَاواتِ والأرضَ ﴾ [البقرة:255]، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم) [تفسير الطبري].
وهو الكبير في أوصافه فلا سمي له ولا مثيل، ولا شبيه ولا نظير، وهو الكبير في أفعاله فعظمة الخلق تشهد بكماله وجلاله، وهو سبحانه المتصف بالكبرياء، ومن نازعه في وصفه قسمه وعذبه.
ومن الدعاء باسم الله الكبير: (لاَ إلهَ إلا الله وحْدَه لاَ شرِيكَ له الله أكْبَرُ كَبيرًا، والحمْدُ لله كثيرًا، سُبْحان الله رَب العَالمِين، لاَ حول ولاَ قوة إلا بالله العَزيز الحكِيمِ، اللهمَّ اغفِر لي وارحمني واهدِنِي وارزُقنِي) [مسلم]، (الله أكْبَرُ كَبيرًا والحمْدُ لله كثيرًا وسُبْحان الله بُكْرَة وأصِيلا) [مسلم].
ومن آثار توحيد المسلم لله في اسمه الكبير خضوعه لله بتوحيد بالعبودية، وأن يخلع عن نفسه أوصاف الربوبية، ولا ينازع ربه أو يتشبه به في الكبرياء والفوقية، فيرى ضآلة نفسه ووصفه مهما بلغت به الرياسة والحاكمية، ولا يغضب لأموره الشخصية، بل يغار إذا انتهكت حرمات الله ويتقبل النصح من آحاد الرعية، وأن يكون أمينا راعيا على قدر الأمانة والمسئولية .

وإذا أخذته العزة بأنه الكبير في أرضه والأمير على بلده تذكر أن الله متوحد في اسمه ووصفه؛ وأنه الكبير الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك .
 
النفاق

قال الشيخ ناصر العمر حفظه الله في (امتحان القلوب):
النفاق : وهو من أخطر هذه الأمراض، وأشدها فتكا بالإنسان، وأفظعها عاقبة في الآخرة. ولا يتصور أحد أن النفاق قد انتهى بنهاية عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونهاية شخصياته البارزة كعبد الله بن أبي بن سلول وغيره، بل إن النفاق الآن لا يقل خطورة عنه في الماضي. ولقد كان السلف الصالح من أشد الناس خوفا من النفاق، وهذا عمر بن الخطاب -وهو من هو صحبة وعلما وعملا وإخلاصا- يناشد حذيفة: هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك.
وهذا ابن أبي مليكة -رحمه الله- وهو سيد من سادات التابعين يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي، كلهم يخشى النفاق على نفسه [ذكره البخاري تعليقاً]
ونحن الآن نقول: هل نجد ثلاثين يخافون النفاق على أنفسهم، ومن تأمل صفات المنافقين مما ذكره الله في كتابه في مواضع كثيرة، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الأمر جد خطير، خاصة ونحن نرى تساهل الناس في الاتصاف بصفاتهم، مع أمنهم من ذلك، ومن ذلك: أن بعض الناس يتحدث عن القضاة وأخطائهم، ومثالبهم بحق وبغير حق، ويتعدى الحديث إلى أقضيتهم وأحكـامهم. ثم هو يحسن للنـاس أحـوال الغـربيين وأحكامهم ومساواتهم، جاهلا أو متجاهلا ما هم فيه من شقاء وتبرم وضياع، بتركهم شرع الله وكفرهم بآياته. والله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء، الآية: 65].
وهذا أمر أصبح حديث بعض المجالس، فالله الله من التشبه بصفات المنافقين، والسير في ركابهم، من كره الدين وبغض المتدينيين ونحو ذلك
 
من علامات صحة القلب

علامات صحة القلب :
- أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها، أو أبنائها ، جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " [البخاري]
وكلما مرض القلب آثر الدنيا، واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
- ومن علامات صحة القلب : أنه لايزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه ، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، فيستغنى بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه ، وبخدمته عن خدمة ما سواه .
- ومن علامات صحة القلب : أنه إذا فاته وِرْدهُ أو طاعة من الطاعات، وجَدَ لذلك ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده .
- ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب .
- قال يحيى بن معاذ : " من سر بخدمة الله سُرت الأشياء كلها بخدمته ، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه " .
- ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً ، وأن يكون فى الله يعنى فى طاعة الله -.
- ومن علامات صحته :أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً كأشد الناس شحاً بماله .
- ومن علامات صحته : أن يكون إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ووجد فيها راحته ، ونعيمه وقرةَ عينه ، وسرور قلبه.
- ومن علامات صحته : أن لا يفتر عن ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به .
- ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه ، والنصيحة ، والمتابعة ، والإحسان، ويشهد مع ذلك منةَ الله عليه فيه ، وتقصيره فى حق الله .
 
الاستعداد للقاء الله

جاء في ديوان ابن المبارك رحمه الله:
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكيف قرّت لأهل العلم أعينهم = أو استلذوا لذيذ نوم أو هجعوا
والموت ينذرهم جهرا علانية = لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
والنار ضاحية لا بدّ موردهم = وليس يدرؤن من ينجو ومن يقع
إذ النبيون والأشهاد قائمة =والإنس والجن والأملاك قد خشعوا
وطارت الصحف في الأيدي منشرة = فيها السرائر والأخبار تطّلع
يودّ قوم ذوو عز لو أنهم =هم الخنازير كي ينجو أو الضبع
طال البكاء فلم ينفع تضرّعهم =هيهات لا رقة تغني ولا جزع
هل ينفع العلم قبل الموت عالمه =قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا[/poem]
 
المعركة مع الشيطان

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره، فوجد القلب في حصنه جالساً على كرسي مملكته، أمره نافذ في أعوانه، وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه.
فسأل عن أخص الجند به، وأقربهم منه منزلة، فقيل له هي النفس، فقال لأعوانه أدخلوا عليها من مرادها، وانظروا مواقع محبتها، وما هو محبوبها، فعدوها به، ومنوها إياه، وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها.
فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جروها بها إليكم.
فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين، والأذن واللسان، والفم واليد، والرجل، فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن الجراحات.
ولا تخلوا هذه الثغور، ولا تمكنوا سرية تدخل فيه إلى القبب فتخرجكم منها، وإن غلبتم فاجتهدوا في اضعاف السرية ووهنها، حتى لا تصل إلى القلب وإن وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئاً.
فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتباراً بل اجعلوا نظره تفرجاً، واستحساناً، وتلهيا، فإن استرق نظره عبرة، فافسدوها عليه بنظرة الغفلة، والاستحسان والشهوة، فإنه أقرب إليه، وأعلق بنفسه، وأخف عليه.
ودونكم ثغر العين فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم اسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة، إلى الإنخلاع من العصمة.
فلا تهملوا أمر هذه الثغر وأفسدوا بحسب استطاعتكم، وهونوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرةٍ تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنعه، وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدى وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه، وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفس مزجاً وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها، فزجوه بأخواتها، وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره.
وإياكم أن يدخل هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء، فإن غُلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء، فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به، إما بإدخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك وتعظيمه، وأن هذا الأمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه، وهو حِملٌ يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك.
وأما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم وأغرب عندهم والقابلون له أكثر، وأما الحق فهو مهجور وقائله معرض نفسه للعداوة. والرائج بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك، فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه ويخرجون له الحق في قالب يكرهه ويثقل عليه.
وإذا شئت أن تعرف ذلك انظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس، والتعرض من البلاء لما لا يطيق، وإلقاء الفتن بين الناس ونحوذلك.
والمقصود أن الشيطان لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه، ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه، وإن دخل بغير اختيار أفسده عليه.
ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه، من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
والثاني: السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخٌ ناطقٌ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح ( المتكلم بالباطل شيطان ناطقٌ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
فالرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق، أو يمسك عن باطل. وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم على مناخرهم في النار. فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر.
وأوصيكم بوصية فاحفظوها، لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كل مرصد.
أما سمعتم الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: ﴿فَبِمَا أَغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ (16) ثُمَّ لأَتِينَهَُّم مّن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِين (17)﴾ [الأعراف:17،16] أوما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها.
وقد حذرهم ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم [إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فخالفه وأسلم، فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتُقتل فيُقسم المال وتُنكح الزوجة]
فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء.
أوما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم.
واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا: طريقة مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها.
ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينوها في قلوبهم واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن ادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم.
ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه.
واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم الثغور مصالحة النفس الأمّارة فأعينوها واستعينوا بها، وأمدوها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها.
فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمّارة، وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمّارة، فإنها لا تأمر إلا بما ترونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه البتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله.
فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له: ذق طعم هذا الوصال وتمتع بهذه العروس، كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب.
ثم وازن بين لذة هذه المسألة ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم.
واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:
أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.
والثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم، وصولوا عليهم بهذين العسكرين، فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة، واقرنوا بين الغافلين.
ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحدٌ خمسة، فإن مع كل واحد من الغافلين شياطين صاروا أربعة، وشيطان الذاكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم - من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم - فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم.
وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا أعواناً له على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوا ثغرها، فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من طريق الشهوة.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دماؤهم وبه قتل أحد ابني آدم أخاه، واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، والشهوة نارٌ تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير.
فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فإن ذلك يطفىء عنهم نار الغضب والشهوة، وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتهم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بذلك فليتوضأ، وقال لهم إنما تطفأ النار بالماء وقد أوصاهم أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة.
فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه، واستعينوه عليهم بالشهوة والغضب، وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة واتباع الهوى، وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى، فإذا رأيتم الرجل مخالفاً لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل.
[poem=font="Traditional Arabic,6,green,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ما يبلغ الأعداء من جاهل = ما يبلغ الجاهل من نفسه[/poem]
 
إطلاق البصر

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج:
... فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور، وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور، فتعدى المباح إلى القدر المحظور، وحام حول الحمى المحوط المحجور، فصار ذا بصر حائر، وقلب عن مكانه طائر، أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام، فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام، فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا، وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا، هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر، وهذا فوت الحرمان وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر، سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر، وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر، يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه، ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه، حتى قطع عليه فيها الطريق، وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق، لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب، ولا له سبيل إلى المرور والذهاب، يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب، ﴿حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب﴾، وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب، تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير، ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير، ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور، والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور، ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ !!
 
من أقوال السلف في النية

جاء في تزكية النفوس لأحمد فريد:
قال يعقوب : " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته " .
قال السوسى: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص " . وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل ، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب ، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات .
قال أيوب : " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال " .
وقال بعضهم : " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال : " الإخلاص ،إذ ليس لها فيه نصيب " .
وقال الفُضَيْل : " ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص : أن يعافيك الله منهما " .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى " .
وقال بعض السلف : " رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية " .
وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية ، فإنها أبلغ من العمل " .
وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول : اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له : " أتُعْلم الناس ، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك".
 
مدح القائمين بالليل

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتاب المواعظ:
لله در أقوام هجروا لذيذ المنام وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام وانتصبوا للنصب في الظلام يطلبون نصيباً من الإنعام إِذا جنّ الليل سهروا وإذا جاء النهار اعتبروا وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا واذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا . قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏عليكم بقيام الليل فإِنه دأب الصالحين قبلكم وإنه قربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم‏)‏ . وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عجب ربنا من رجلين‏:‏ رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته ورجل غزا في سبيل الله فانهزموا فعلم ما عليه في الفرار وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه‏)‏ . قال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أي صلاة الليل أفضل قال‏:‏ نصف الليل وقليل فاعله‏)‏ . قال داود عليه السلام‏:‏ يا رب أي ساعة أقوم لك فأوحى الله إليه‏:‏ يا داود لا تقم أول الليل ولا آخره ولكن قم في شطر الليل حتى تخلو بي وأخلوا بك وارفع إِلىّ حوائجك‏)‏ . وروى عمر بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإِن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن‏)‏ . كان همام بن الحارث يدعو‏:‏ اللهم ارزقني سهراً في طاعتك فما كان ينام إِلا هنيهة وهو قاعد وكان طاوس يتقلب على فراشه ثم يدرجه ويقول‏:‏ طير ذكر جهنم نوم العابدين . وقال القاسم بن راشد الشيباني‏:‏ كان ربيعة نازلاً بيننا وكان يصلي ليلاً طويلاً فإِذا كان السحر نادى بأَعلى صوته‏:‏ يا أيها الركب المعرّسون‏:‏ أهذا الليل تنامون ألا تقومون فترحلون قال‏:‏ فيسمع من ههنا باك ومن ههنا داع . فإِذا طلع الفجر نادى بأَعلى صوته‏:‏ عند الصباح يحمد القوم السرى . قال الضحَّاك‏:‏ أدركت قوماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة . يا منازل الأحباب‏:‏ أين ساكنوك يا بقاع الإِخلاص‏:‏ أين قاطنوك يا مواطن الأَبرار‏:‏ أَين عامروك يا مواضع التهجد‏:‏ أين زائروك خلت والله الديار وباد القوم وارتحل أرباب السهر وبقي أهل النوم واستبدل الزمان أكل الشهوات يا أهل الصوم‏:‏ كَفَى حَزَناً بِالوَالِهِ الصَّبّ أَن يَرى منازِلَ مَن يَهوى معطلة قفرا لله درّ أقوام اجتهدوا في الطاعة وتاجروا ربهم فربحت البضاعة وبقي الثناء عليهم إلى قيام الساعة لو رأيتهم في الظلام وقد لاح نورهم وفي مناجاة الملك العلام وقد تم سرورهم فإِذا تذكروا ذنباً قد مضى ضاقت صدورهم وتقطعت قلوبهم أسفاً على ما حملت ظهورهم وبعثوا رسالة الندم والدمع سطورهم . ولَمَّا وقَفنا والرسائلُ بينَنا دموعٌ نَهاها الواجدون توقفا ذكرنا اللَّيالي بالعَقيقِ وظِلَهُ الأَنيق فقطعنا القلوبَ تأسفا نسيم الصِّبا إِن زُرتَ أَرضَ أَحِبتي فخَصَهُم منِّي بكُلِ سلام وبَلِغهُم أَني بُرهَن صَبابةٍ وأَن غَرامي فَوقَ كُلَ غَرامِ وإِني ليَكفيني طُروقُ خيالِهم لَو أَنَ جُفوني مُتعت بمنام وقَد صُمتُ مِن أَوقات نَفسي كُلَها ويَوم لِقاكُم كانَ فطر صيامي جال الفكر في قلوبهم فلاح صوابهم وتذكروا فذكروا كذكر إعجابهم وحاسبوا أنفسهم فحققوا حسابهم ونادموا للمخافة فأصبحت دموعهم شرابهم وترنموا بالقرآن فهو سمرهم مع أترابهم وكلفوا بطاعة الإله فانتصبوا بحرابهم وخدموه مبتذلين في خدمته شبابهم فيا حسنهم وريح الأسحار قد حركت أثوابهم وحملت قصص غصصهم ثم ردت جوابهم .
 
جهد يشكر جعله الله في ميزان أعمالك
وجعلك ممن صام رمضان ايمان واحتساب فغفرله ما تقدم من ذنبه
اللهم اجمعنا في جنات النعيم
 
تفاوت الناس في التوحيد

قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في المدارج:
اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى..
فمن الناس : من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس ..
ومنهم : من نورها في قلبه كالكوكب الدري ..
ومنهم : من نورها في قلبه كالمشعل العظيم ..
وآخر : كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف ..
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملا ومعرفة وحالا وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد : أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا.
فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارقُ إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره.

 
الخوف لعظمة الله

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه المواعظ:
إخواني‏:‏ من علم عظمة الإله زاد وجله، ومن خاف نقم ربه حسن عمله، فالخوف يستخرج داء البطالة ويشفيه، وهو نعم المؤدب للمؤمن ويكفيه؛ قال الحسن‏:‏ صحبت أقواماً كانوا لحسناتهم أن تُردَّ عليهم أخوف منكم من سيئاتكم أن تعذبوا بها . ووصف يوسف بن عبد المحسن فقال‏:‏ كان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمه وإذا جلس كأنه أسير من يضرب عنقه وإذا ذكرت النار فكأنما لم تخلق إلا له . وكان سميط إذا وصف الخائفون يقول‏:‏ أتاهم من الله وعيد وفدهم فناموا على خوف وأكلوا على تنغصٍ . واعلم أن خوف القوم لو انفرد قتل، غير أن نسيم الرجاء يروح أرواحهم، وتذكر الإنعام يحيى أشباحهم؛ ولذلك روي:‏ ‏(‏لَو وُزِنَ خَوفُ المؤمن ورجَاؤه لاعتدلا‏)‏ . فالخوف للنفس سائق والرجاء لها قائد إن ونت على قائدها حثها سائقها وإن أبت على سائقها حركها قائدها، مزيح الرجاء يسكن حر الخوف، وسيف الخوف يقطع سيف: (سوف) وإن تفكر في الإنعام شكر، وأصبح للهم قد هجر، وإن نظر في الذنوب حذر، وبات جوف الليل يعتذر.

 
يعفى للمحب ما لا يعفى لغيره

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد ورفعه عليه وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدلله لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له وصدع بأمره وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة فى البحر، وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت ولم يحتمل له ما احتمل لموسى.
وفرقٌ بين من إذا أتى بذنب واحد ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد=جاءت محاسنه بألف شفيع[/poem]فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد قال تعالى عن ذي النون ﴿ فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون ﴾، وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال :﴿ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل ﴾ قال له جبريل: ﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾ !!

ملاحظة:
ينبغي ألا يفهم من كلام شيخ الإسلام ما لا يليق في حق نبي الله يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وإنما هو تفضيل لموسى عليه السلام وهو بيّنٌ واضح إن شاء الله. [الطبيب]


 
تواصي السلف بالتقوى

قال الشيخ أحمد فريد حفظه الله في كتاب (التقوى):
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ولم يزل السلف الصالحون يتواصون بها :
كان أبو بكر رضى الله عنه يقول فى خطبته : أما بعد فإنى أوصيكم بتقوى الله ، وان تثنوا عليه بما هو أهله ، وان تخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسالة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾.
ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر دعاه فوصّاه بوصيته ، وأول ما قاله له : اتق الله يا عمر.
وكتب عمر إلى ابنه عبد الله : أما بعد ، فإنى أوصيك بتقوى الله عز وجل ، فإنه من اتقاه وقاه ، ومن أقرضه جزاه ، ومن شكره زاده ، واجعل التقوى نصب عينيك ، وجلاء قلبك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل : أوصيك بتقوى الله عز وجل ، والتى لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها ، ولا يثاب إلا عليها ، فإن الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين .
ولما ولي خطب فحمد الله وأثنى عليه وقال : أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، فإن تقوى الله عز وجل خُلف من كل شئ ، وليس من تقوى الله خُلف.
وقال رجل ليونس بن عبيد : أوصنى ، فقال : أوصيك بتقوى الله والإحسان ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وكتب رجل من السلف إلى أخ له : أوصيك بتقوى الله فإنها من أكرم ما أسررت ، وأزين ما أظهرت ، وأفضل ما ادخرت أعاننا الله وإياك عليها وأوجب لنا ولك ثوابها.
وقال شعبه : كنت إذا أردت الخروج قلت للحكم : ألـك حاجة فقال :
أوصيك بما أوصى به النبى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل :
( اتق الله حيث ما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) .
وقال ابن القيم رحمه الله : ودع ابن عون رجلاً فقال :
عليك بتقوى الله فإن المتقى ليست عليه وحشة.
وقال زيد بن أسد : كان يقال : من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا .
وقال الثورى لابن أبى ذئب : إن اتقيت الله كفاك الناس ، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئاً .

 
ساعة الاحتضار

قال القرطبي رحمه الله في التذكرة:
فمثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات، و نزل بك الأنين و الغمرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، و ماله قد أحصى، و من قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، و لا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، و لا تقدر على رد الجواب، ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة...
و تتضرع و تقول: حبيبي أبي من ليتمي من بعدك ؟؟
و من لحاجتي ؟؟
و أنت و الله تسمع الكلام و لا تقدر على رد الجواب ...
و أنشدوا : [poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]و أقبلت الصغرى تمرغ خدها=على وجنتي حيناً و حيناً على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة=تنادي : أبي إني غلبت على الصبر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم=كأفراخ زغب في بعيد من الوكر ؟ [/poem]
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك، إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل، و ألبست الأكفان، و أوحش منك الأهل و الجيران، و بكت عليك الأصحاب و الإخوان ...
و قال الغاسل أين زوجة فلان؟
و أين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ؟
و أنشدوا : [poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]ألا أيها المغرور ما لك تلعب= تؤمل آمالاً و موتك أقرب
و تعلم أن الحرص بحر مبعد=سفينته الدنيا فإياك تعطب
و تعلم أن الموت ينقض مسرعاً=عليك يقينا طعمه ليس يعذب
كأنك توصي و اليتامى تراهم=و أمهم الثكلى تنوح و تندب
تغص بحزن ثم تلطم وجهها=يراها رجال بعد ما هي تحجب
و أقبل بالأكفان نحوك قاصد=و يحثى عليك الترب و العين تسكب [/poem]
 
امتناع صفاء التوحيد للمصر على المعصية

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
ينبغي أن يعلم ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها، وإلا لم يفهم مراد الرسول، ويقع الخلط والتخبيط.
فاعلم أن النفي العام للشرك أن لا يشرك بالله شيئا ألبتة لا يصدر من مصر على معصية أبدا، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئا، هذا من أعظم المحال !!
ولا يلتفت إليَّ جدليٌّ لاحظ له من أعمال القلوب بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع .. وما وجه الإحالة .. ولو فرض ذلك واقعا لم يلزم منه محال لذاته ...
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمسا في بحار الشرك !!
والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله تعالى وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه فيكون عمله لا بالله ولا لله وهذا حقيقة الشرك.
نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام، وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين.

 
نفعنا الله وإياك ـ أخي الطبيب ـ بما نقلت وذكرت ...

جزاك الله عنا خيرا .. ما أحوجنا إلى هذه السياط والمواعظ .. ففي القلب قسوة ،وفي العين قحط ،وفي البدن كسل ،وللنفس حظ .. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .
 
شكرالله لك و جعله الله في ميزان أعمالك ..
و ما أحوجنا إلى هذه السياط والمواعظ .. ففي القلب قسوة ،وفي العين قحط ،وفي البدن كسل ،وللنفس حظ .. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .
 
كسر العبد بالذنوب من أجل أن يعود

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
فإذا أراد الله بهذا العبد خيراً ألقاه في ذنب يكسره به ويعرفه قدره ويكفي به عباده شره وينكس به رأسه ويستخرج به منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده، فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال كما قيل بلسان الحال في قصة آدم وخروجه من الجنة بذنبه:

يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كَيسك فقد استخرج بها منك داء لا يصلح أن تجاورنا به وألبست بها حلة العبودية ..

[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
لعل عتبك محمود عواقبه=وربما صحت الأجسام بالعلل[/poem]
يا آدم إنما ابتليتك بالذنب لأني أحب أن أظهر فضلي وجودي وكرمي على من عصاني [لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم].
يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك ... واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك !!
يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك من الذنوب فعلى من أجود بحلمى وعلى من أجود بعفوي ومغفرتي وتوبتي؟
وأنا التواب الرحيم..
يا آدم لا تجزع من قولي لك: ﴿ اخرج منها ﴾ فلك خلقتها ولكن اهبط إلى دار المجاهدة وابذر بذر التقوى وأمطر عليه سحائب الجفون فإذا اشتد الحب واستغلظ واستوى على سوقه فتعال فاحصده.
يا آدم ما أهبطتك من الجنة إلا لتتوسل إلي في الصعود، وما أخرجتك منها نفيا لك عنها، ما أخرجتك فيها إلا لتعود، إن جرى بيننا وبينك عتب وتناءت منا ومنك الديار فالوداد الذي عهدت مقيم، والعثار الذى أصبت جيار.
يا آدم ذنب تذل به لدينا أحب إلينا من طاعة تدل بها علينا ...
يا آدم أنين المذنبين ... أحب إلينا من تسبيح المدلين ...
(يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى ...
يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ...
يا ابن آدم لو لقيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بى شيئا أتيتك بقرابها مغفرة).

ويذكر عن بعض العباد: أنه كان يسأل ربه في الطواف بالبيت أن يعصمه ثم غلبته عيناه فنام فسمع قائلا يقول: (أنت تسألني العصمة وكل عبادي يسألونني العصمة فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل وأجود بمغفرتى وعفوى؟!
وعلى من أتوب؟
وأين كرمي وعفوي ومغفرتي وفضلي؟
ونحو هذا من الكلام ...
يا ابن آدم إذا آمنت بي ولم تشرك بي شيئا أقمت حملة عرشي ومن حوله يسبحون بحمدي ويستغفرون لك وأنت على فراشك).

وفي الحديث العظيم الإلهى حديث أبى ذر: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فمن علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي ﴿ قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاإنه هو الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : 53 ] يا عبدي لا تعجز فمنك الدعاء وعلي الإجابة ومنك الاستغفار وعلي المغفرة ومنك التوبة وعلي تبديل سيئاتك حسنات).

 
أقوال في التقوى

جاء في كتاب التقوى لأحمد فريد:
سئل أبو هريرة عن التقوى فقال :
هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت ؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه : قال ذاك التقوى.
وقال بن مسعود في قوله تعالى :﴿ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾:
قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .
قال طلق بن حبيب : إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى . قالوا : وما التقوى ؟ قال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال ابن القيم رحمه الله :
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتسابا ، أمراً ونهياً ، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالأمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفا من وعيده.
وقال مجاهد : هو أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
قال أبو الدرداء : تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً ، يكون حجاباً بينه وبين الحرام ، فإن الله قد بين للعباد الذى يصيرهم إليه فقال :
﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾.
فلا تحقرن شيئاً من الخير أن تفعله ولا شيئاً من الشر أن تتقيه .
وقال ميمون بن مهران : المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه .
قال ابن المعتمر:
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
خل الذنوب صغيرها=وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق=أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة=إن الجبال من الحصى[/poem]وقال الإمام أحمد رحمة الله : التقوى هى ترك ما تهوى لما تخشى.
وقيل : هي الخوف من الجليل ، والرضا بالتنزيل ، والإستعداد ليوم الرحيل.
وقيل : هي أن لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك.
وقيل : هي علم القلب بقرب الرب .
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
لا تحقرنّ من الذنوب صغيراً=إن الصغير غداً يعود كبيراً
إن الصغير ولو تقادم عهده=عند الإله مسطّرٌ تسطيراً
فازجر هواك عن البطالة لا تكن=صعب القياد وشمّرن تشميراً
إن المحب إذا أحب إلهه=طار الفؤاد وألهم التفكيراً
فاسأل هدايتك الإله فتتئد=فكفى بربك هادياً ونصيراً [/poem]
 
تذكّر يا عامل

قال ابن الجوزي رحمه الله في (المواعظ) بتصرف:
يا من له قلبٌ ومات، يا من كان له وقت وفات، أشرف الأشياء قلبك ووقتك، يا من َيَبكي عَلى الموتَى ويَترُكُ نفسه ويزعَمُ أَنَّ قَد قَلَّ عَنها عَزَاؤُهُ، ولَو كانَ ذا رأىٍ وعقلٍ وَفِطنَةٍ لكانَ عَليهِ لا عَليهِم بُكَاؤُهُ.
رئي سمنون يوماً على شاطئ دجلة وبيده قضيبٌ يضرب به فخذه حتى تبدد لحمه وهو يقول‏:‏ كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه رب فاردده على فقد عيل صبري في تطلبه وأغث ما دام لي رمقٌ يا غياثَ المستغاث به.
ابكِ على وقت كان قد صفا، وعلى قلب صار كالصفا، وعلى زمان تبدل فيه الوصل بالجفا، وعلى ربع خلا من اليقظة وعفا‏:‏
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
منَازلُ كنتُ أَهواها وآلَفُهَا=أَيَّامَ كُنتُ على الأَيَّام منصوراً [/poem]ما تتوفى في سمين بدنك، حتى نسيت إدراجك في كفنك، ولا متعت نفسك بمواعيد المُنى، إلا بعد أن أسرك حُب الهوى، أما وعظك الزمان من بسطه وقبضه، أما أجد لك بجديد بعد الاعتبار ببعضه، أما تدرك الحين من طوله وعرضه يا عجباً كيف التذَّ خامل بغَمضِه، وكم طال يوم ما أُديََ بعض فرضِه، أما تعلم أنَّ الممات والحساب أمامك، فتهيأ للرحيل وأصلح خيامك، واحفظ مقالتي واقطع قطع المدى مدامك، واجتهد أن تنشر الإخلاص في المحل إلا على أعلامك، وصل صلاتك في الدجى واهجر للمنام منامك، ولا تترك ولو بت الليل عاصياً صيامك، وأحضر قلبك وسمعك وإن قلا من لامك، وأفق في زمان الإمكان قبل انثات العرى.
 
حال العبد في القبر

جاء في أهوال القبور للقرطبي:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده إنه ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه والصوم عن شماله ، وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه ، فتقول الصلاة ليس من قبلي مدخل ، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن شماله فيقول الصوم ليس قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه ، فيقول : فعل الخيرات والإحسان إلى الناس ليس قبلي مدخل ، فيقال له : اجلس ، فيجلس وقد مثلت الشمس للغروب فيقولون له : ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أشهد أنه رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند ربنا فصدقناه واتبعناه ، فيقال له : صدقت ، وعلى هذا حييت ، وعلى هذا مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، فسيفسح له في قبره مد بصره فذلك قوله سبحانه : ﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ الآية. فيقال : افتحوا له باباً إلى النار فيقال : هذا منزلك لو عصيت الله فيزداد غبطة وسروراً ، ويقال : افتحوا له باباً إلى الجنة فيفتح له فيقال هذا منزلك وما أعد الله لك فيزداد غبطة وسروراً ، فيعاد الجسد إلى ما بدىء منه وتجعل روحه نسم طير معلق في شجر الجنة ، وأما الكافر فيؤتى في قبره من قبل رأسه ، فلا يعني شيئاً فيجلس خائفاً مرعوباً فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به ؟ فلا يهتدى لاسمه فيقال : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت كما قالوا ، فيقال له : صدقت على هذا حييت وعليه متَّ وعليه تبعث إن شاء الله ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، فذلك قوله تعالى ﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ﴾ فيقال : افتحوا له باباً إلى الجنة فيفتح له باب إلى الجنة فيقال : هذا منزلك وما أعد الله لك لو كنت أطعته فيزداد حسرة وثبوراً ، ثم يقال : افتحوا له باباً إلى النار فيفتح له باباً إليها فيقال له : هذا منزلك ، وما أعد الله لك فيزداد حسرة وثبوراً " .
 
الاستعاذة بالرضا والمعافاة من السخط والعقوبة

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك)، فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها.
ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره وأحذر ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
فعياذي بك منك: عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك، مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ إلا بك من شيء هو صادر عن مشيئتك وخلقك بل هو منك، ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك، بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك مما هو كائن بمشيئتك فأعوذ بك منك.
ولا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته، وأشرنا إلى شيء يسير من معناها ولو استقصينا شرحها لقام منه سفر ضخم ولكن قد فتح لك الباب فإن دخلت رأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
 
ذكر الله وتلاوة القرآن

جاء في تزكية النفوس لأحمد فريد:
وضرورة الذكر للقلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : "الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا أخرج من الماء"، وقد ذكر الإمام شمس الدين ابن القيّم ما يقرب من ثمانين فائدة فى كتابه : " الوابل الصيب "، فننقل بعضها بإذن الله تعالى، وننصح بالعودة إلى الكتاب المذكور لعظيم نفعه، ومن هذه الفوائد :
أن الذكر قوت القلب والروح، فإذا فقه العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، ومنها أنه يطرد الشيطان، ويقمعه ، ويكسره، ويرضي الرحمن عزّ وجلّ ويزيل الهمّ والغمّ عن القلب، ويجلب له الفرح والسرور والبسط ، وينور القلب والوجه، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ويورثه محبة الله عزّ وجل ، وتقواه ، والإنابة إليه، وكذلك يورث العبدّ ذكر الله عزّ وجل ، كما قال تعالى : ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ ( البقرة :من الآية 152 ) .
ولو لم يكن فى الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً ويورث جلاء القلب من الغفلة، ويحط الخطايا .
ورغم أنه من أيسر العبادات، إلا أن العطاء والفضل الذى رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ ، فى اليوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب ، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه " [البخاري].
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : " من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة " [صححه الألباني]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلىّ من أن أنفق عددهم دنانير فى سبيل الله عزّ وجلّ " .
والذكر دواء لقسوة القلوب ، كما قال رجل للحسن : يا أبا سعيد : أشكو إليك قسوة قلبي ، قال : " أذبه بالذكر "، وقال مكحول : " ذكر الله شفاءٌ وذكر الناس داءٌ "، قال رجل لسلمان: أي الأعمال أفضل ؟ فقال : أما تقرأ القرآن : ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ (العنكبوت من الآية : 45 ).
وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : " مثل الذى يذكر ربه والذى لايذكر ربه مثل الحيّ والميت " [البخاري]
ودوام الذكر تكثير لشهود العبد يوم القيامة ، وسبب لاشتغال العبد عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة وغير ذلك، فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغِ، فمن فُتح له بابُ الذكر فقد فُتح له بابُ الدخول على الله عز وجل، فليتطهر وليدخل على ربه عز وجل ، يجد عنده ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل شىء ، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شىء .
وللذكر أنواع : منها : ذكر أسماء الله عز وجل ، وصفاته ، ومدحه، والثناء عليه بها، نحو : " سبحان الله " ، و " الحمد الله " ، و " لا إله إلا الله " ، ومنها: الخبر عن الله عز وجل بأحكام أسمائه وصفاته ، نحو : الله عز وجلّ يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم ، ومنها : ذكر الأمر والنهي كأن تقول : إن الله عز وجل أمر بكذا ، ونهى عن كذا .
ومن ذكره سبحانه وتعالى ذكرُ آلائه وإحسانه ، وأفضل الذكر : تلاوة القرآن ، وذلك لتضمنه لأدوية القلب وعلاجه من جميع الأمراض ، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ ( يونس من الآية : 57 ) .
وقال الله تعالى:﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( الإسراء من الآية : 82)

وأمراض القلب تجمعها أمراض الشبهات والشهوات ،والقرآن شفاء للنوعين ، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفيدة للعلم، والتصور ، والادراك بحيث يرى الأشياء على ما هي .
فمن درس القرآن وخالط قلبه ، أبصر الحق والباطل وميزّ بينهما، كما يميز بعينيه بين الليل والنهار ، وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالتزهيد فى الدنيا ، والترغيب فى الآخرة.
وبالجملة فأنفع شىء للعبد هو ذكر الله عزّ وجلّ :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد :28) .
وأفضل الذكر تلاوة كتاب الله عزّ وجل ّ.
قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ (فاطر :29 - 30) .
وعن عثمان رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " [البخاري].
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :" الذى يقرأ القرآن وهو ماهر فيه مع السفرة الكرام البررة ، والذى يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران " [البخاري].
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إن من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " [الترمذي وقال حديث حسن صحيح].
وقال خباب رضي الله عنه: " تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشىء أحب إليه من كلامه " .
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : " لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم " .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرأن ، فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله".
 
تواتر فضل الرب على العبد

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
هذا مع تواتر إحسان الله إليك على مدى الأنفاس أزاح عللك ومكنك من التزود إلى جنته وبعث إليك الدليل وأعطاك مؤنة السفر وما تتزود به وما تحارب به قطاع الطريق عليك، فأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله وأنزل إليك كتابه ويسره للذكر والفهم والعمل.
وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحرسونك ويحاربون عدوك ويطردونه عنك ويريدون منك أن لا تميل إليه ولا تصالحه، وهم يكفونك مؤنته، وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم وموالاته دونهم بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك قال الله تعالى: ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾.
طرد إبليس عن سمائه وأخرجه من جنته وأبعده من قربه إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم لكرامتك عليه فعاداه وأبعده، ثم واليت عدوه وملت إليه وصالحته وتتظلم مع ذلك وتشتكي الطرد والإبعاد وتقول:
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal"
bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0
align=center use=ex num="0,black"]
عودوني الوصال والوصل عذب=ورموني بالصد والصد صعب[/poem] نعم وكيف لا يطرد من هذه معاملته؟! وكيف لا يبعد عنه من كان هذا وصفه! وكيف يجعل من خاصته وأهل قربه من حاله معه هكذا؟!
قد أفسد ما بينه وبين الله وكدره، أمره الله بشكره لا لحاجته إليه ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفر نعمه والإستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه، وأمره بذكره ليذكره بإحسانه، فجعل نسيانه سببا لنسيان الله له ﴿ نسوا الله فأنساهم أنفسهم ﴾ ﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾
أمره بسؤاله ليعطيه، فلم يسأله !! أعطاه أجل العطايا بلا سؤال، فلم يزل يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه ويتظلم ممن لا يظلمه ويدع من يعاديه ويظلمه، إن أنعم عليه بالصحة والعافية والمال والجاه استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلبه ذلك ظل متسخطا على ربه وهو شاكيه، لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء، العافية تلقيه إلى مساخطه والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته وشكايته إلى خلقه ، دعاه إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه ثم فتحه له فما عرج عليه ولا ولجه، أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصى الرسول وقال لا أبيع ناجزا بغائب ونقدا بنسيئة ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به، ويقول:[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal"
bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0
align=center use=ex num="0,black"]
خذ ما رأيت ودع شيئا سمعت به=في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل[/poem]فإن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضى مرسله لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه وأغلق الباب في وجهه.
ومع هذا فلم يؤيسه من رحمته بل قال: متى جئتني قبلتك إن أتيتني ليلا قبلتك وإن أتيتني نهارا قبلتك وإن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا وإن مشيت إليّ هرولت إليك ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جودا وكرما ، عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل إلي تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب ، ومن آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة عندي بواحدة فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له ، أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، ( لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه فطلبها حتى إذا أيس من حصولها نام في أصل شجرة ينتظر الموت فاستيقظ فإذا هي على رأسه قد تعلق خطامها بالشجرة فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته)
وهذه فرحة إحسان وبر ولطف لا فرحة محتاج إلى توبة عبده منتفع بها وكذلك موالاته لعبده إحسانا إليه ومحبة له وبراً به لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة ولا ينتصر به من غلبة، ولا يعده لنائبة ولا يستعين به في أمر ﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ﴾ فنفى أن يكون له ولي من الذل والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه.
فهذا شأن الرب وشأن العبد وهم يقيمون أعذار أنفسهم ويحملون ذنوبهم على أقداره، استأثر الله بالمحامد والمجد، وولي الملامة الرجلا.
وما أحسن قول القائل:[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal"
bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0
align=center use=ex num="0,black"]
تطوي المراحل عن حبيبك دائبا=وتظل تبكيه بدمع ساجم
كذبتك نفسك لست من أحبابه=تشكو البعاد وأنت عين الظالم[/poem]

 
عودة
أعلى