عشرة حروز من الشيطان
قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد:
قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب :
أحدها : الاستعاذة بالله من الشيطان . قال تعالى : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : 36 ] ، وفي موضع آخر ﴿ إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : 200 ] ، وقد تقدم أن السمع المراد به ههنا . سمع الإجابة لا مجرد السمع العام . وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة . هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها. وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد ، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه . فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه . وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم . كما قال الله تعالى : والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا . بل يريه أن هذا ذل وعجز ، ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه ، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل ، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : 36 ] ، وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان . بل بالإعراض . وهذا سهل على النفوس غير مستعصي عليها . فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : 200 ] ، وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين ، وبين قوله في حم المؤمن ﴿ فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير﴾ في صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما أحمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد] .
الحرز الثاني : قراءة هاتين السورتين فإن لهما تاثيراً عجيباً في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما ، وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم ، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة . وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم : [إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسي وثلاثاً حين يصبح كفته من كل شيء] .
الحرز الثالث : قراءة آية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث فقال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان] . وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده .
الحرز الرابع : قراءة سورة البقرة . ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان] .
الحرز الخامس : خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان] .
الحرز السادس : أولى سورة حم المؤمن إلى قوله : إليه المصير مع آية الكرسي ، ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة ، عن زرارة بن مصعب ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [من قرأ حم المؤمن إلى ﴿ إليه المصير ﴾ [ غافر : 3 ] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح] ، وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه . فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته .
الحرز السابع : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ، ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك] ، فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه .
الحرز الثامن : وهو من أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل . ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن و أن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن فأتاه عيسى فقال له: إنك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن و تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن و إما أن أبلغهن فقال له: يا روح الله إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن و آمركم أن تعملوا بهن ; و أولهن: أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا فإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه دارا فقال: اعمل و ارفع إلي فجعل العبد يعمل و يرفع إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ؟ و إن الله خلقكم و رزقكم فاعبدوه و لا تشركوا به شيئا و أمركم بالصلاة و إذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز و جل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت ; و أمركم بالصيام و مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك و إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ; و أمركم بالصدقة و مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه و قدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل و الكثير حتى فك نفسه و أمركم بذكر الله كثيرا و مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه و إن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى . و أنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة و السمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد في سبيل الله فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع و من دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله] (صحيح الجامع) ، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح . وقال البخاري الحارث الأشعري له صحبة ، وله غير هذا الحديث ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث . أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قل أعوذ برب الناس ، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي وساوس الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل .
الحرز التاسع : الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه . ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة . فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رايتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض] ، وفي أثر آخر [إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء] ، فأما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة . فإنها نار والوضوء يطفئها .
والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه .
الحرز العاشر : إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس . فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة . فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به . والفكرة في الظفر به . فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم : فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة ، كما قال الشاعر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كل الحوادث مبداها من النظر=ومعظم النار من مستصفر الشرر
كم نظرة فتكت في قلبها صاحبها=فتك السهام بلا قوس ولا وتر [/poem]
وقال الآخر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً=لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لاكله أنت قادر=عليه ولا عن بعضه أنت صابر [/poem]
وقال المتنبي :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وأنا الذي جلب المنية طرفه=فمن المطالب والقتيل القاتل[/poem]
ولي في أبيات :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً= أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له =توقه أنه يرتد بالعطب
ترجوالشفاء بأحداق بها مرض = فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنياً نفسه في أثر أقبحهم =وصفاً للطخ جمال فيه مستلب
وواهباً عمره في مثل ذا سفها = لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعاً طيب عيش ماله خطر =بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبت فاحشاً فلو اسـ =ـترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
ووارداً صفو عيش كله كدر =أمامك الورد صفواً ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصباً = لكل داهية تدن من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب = وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها = والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت = عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت =ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من = تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فافرش الخد ذياك التراب وقل = ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفاً يطوف به = غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج = اشفى إلى ناظري من خدك الترب
منازلاً كان يهواها ويألفها = أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له = يهوي إليها هوى الماء في صبب
أحيى له الشوق تذكار العهود بها = فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه = وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك أن = بثثته بعض شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتدياً = بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة = وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به = يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه = إلا بنور ينجي العبد في الكرب [/poem]
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء ، وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان . فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : [وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم] . وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة طوبى له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه] وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسئمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلىء لم يبق فيه إرادة للطعام ، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات . وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون : ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان . وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر . فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها . فمن وقى شر بطنه . فقد وقى شراً عظيماً ، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام . ولهذا جاء في بعض الآثار ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم :[ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه] ، ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل ، واذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد . فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات . وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت . وأما فضول المخالطة فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات . وهي في القلوب لا تزول بفضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة . وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة . ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغني عنه في اليوم والليلة . فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله ، وأمره ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله .
القسم الثاني : من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للإدواء ونحوها .
القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا . ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما . فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف . ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك . فإذا فارقك سكن الألم . ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها . بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به . فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ، ولا جرها على الأرض . ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر . ورأيت يوماً عند شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعفت القوى عن حمله ، فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل : حمى الربع ، ثم قال ، لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال : وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة . ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم . فإن اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس ، لأكثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً . فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكراً ، والمنكر معروفاً إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ، ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين . وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا : أنت من المفتنين . وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها . قالوا : أنت من أهل البدع المضلين . وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينه وبين جيفة الدنيا . قالوا : أنت من الملبسين . وإن تركت ما أنت عليه ، واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين . فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم . وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإذا أتتك مذمتي من ناقص =فهي الشهادة لي بأني فاضل [/poem]وقال آخر :
[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]وقد زادني حباً لنفسي أنني = بغيض إلى كل امرىء غير طائل [/poem]
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم . وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة ، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان . فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم ، وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه . ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي ، وفي الصباح يحمد القوم السري والله الموفق لا رب غيره ، ولا إله سواه .