عدنان الغامدي
Active member
- إنضم
- 10/05/2012
- المشاركات
- 1,360
- مستوى التفاعل
- 37
- النقاط
- 48
- الإقامة
- جدة
- الموقع الالكتروني
- tafaser.com
بسم الله الرحمن الرحيم
حَقِيْقَةُ هَارُوْتَ وَمَارُوْتَ فِيْ ضَوْءِ السِّياَقِ القُرْآنِيْ
- الآياتُ الكريمة موضع الدراسة:
- مقدمة:
لاشك أن القصة الواردة في الآية الكريمة الثانية بعد المائة من سورة البقرة تثير تساؤلات عميقة وقضايا إيمانية دقيقة مهما تجاهلنا ما يختلجُ في أنفسنا تجاهها فإنه تبقى في النفس منها ما يبقى ، فمفهومُ الآية ِالظاهرِ أنَّ هاروتَ وماروتَ كانا مَلَكيْن من الملائكةِ يعلِّمان الناس السِّحر ، وفي نفس الآية نَسَبَ تعليم السحر إلى الشياطين (وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ولا شك أن السِّحرَ كفر فكيف يرسل الله ملكين ليعلمان الناس الكفر وهو الهادي دوماً إلى سواء السبيل ؟؟ ، وكيف يكون هذا العمل منسوباً لملكين من الملائكة وهم الذين لا يختارون بل يطيعون على الدوام فهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
لقد تعرضت هذه القصة لتفسيرات ورؤى عديدة أقحمت فيها الإسرائيليات الباطلة والمنقولات الواهنة والتفسيرات المخالفة لسياق ومقتضى الآية الكريمة ، ولم أقع على ما يستحضر آيات القرآن الكريم ليسترشد بها فيما يقول ، ولا يمكن في ما أعتقد أن تفهم الآية بمعزل على السياق القصصي والسردي القرآني في مواضع القرآن المختلفة ، كما أن توظيف الإسرائيليات في هذا الموضع بالذات وفي هذه القصة سقطة كبيرة وخطأ بيِّن فبني إسرائيل هنا موضع اتهام بالتحريف والتزوير والكذب في هذه الآية فكيف يحتج بقولهم لتفسيرها ؟؟.
وفي هذا البحث انجلى فهمي الخاص عمَّا تنطوي عليه الآيات بما لا يخالف ظاهرها ولا يعسف مفهوم النص إلى مرمىً بعيد ويتفق مع سنن الله تعالى حتى يستقر الفهم السليم ويتميز عن سواه ، وسأبدأ ببيان مواطن التناقض والانحراف في السائد من التفاسير والتأويلات التي نسب معنى الآية إليها ومن ثم أبدأ في سرد تاريخي للجوانب التي تمس هذه القصة في تاريخ سليمان عليه السلام بنقاط ضوء حتى تصل بنا وتقودنا لمفهوم هذه الآية بناءً على الآيات الكريمة التي سنسترشد بها بإذن الله.
ومن ثم ننتقل إلى تأمل الآية ومفرداتها وربط حقائقها بعضها البعض والتأويل الذي أراه متفقاً ومتسقاً مع مقتضى الآية الكريمة وهو ما نختم به هذا المقال.
- بعض ما اشتُهِر في تأويل الآية الكريمة:
أولها : القول بأن “ما” للجحد أي : لم ينزل الله على هاروت وماروت سحراً.
أقول: ولكن توجيه ذلك لا يستقيم مع سياق الآية وتقديرها ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما انزل على الملكين ببابل) ودليل ذلك تثنية قوله (يعلِّمان) أي الملكين وبذلك يكون هذا القول مردود بسياق الآية.
ثانيها: القول بإثبات نزول السحر على الملكين وتعليمهما وتعذيبهما لقاء ذلك : قال قتادة والزهري عن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأُهبِطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ، قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : “إنما نحن فتنة فلا تكفر“.
أقول : وهذا قول باطل في حق ملائكة كرام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولم يعرف في كتاب الله أن الله أنزل ملائكة تحكم بين الناس أو أرسل ملائكة من غير جنس البشر تقوم فيهم مقام الرسل وكيف يكون العصيان من الملائكة وهم لا ينبغي لهم العصيان وليس لديهم ارادة الاختيار والتمييز أصلا فهم مجبولين على الطاعة فقط.
ثالثها : عن قتادة قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .
اقول : من أين له ذلك ؟؟ والله جل وعلا عطف السحر الذي تتلوه الشياطين على السحر الذي أنزل على الملكين فكانا في آخر الأمر سحراً يخرج من الملة (إنما نحن فتنة فلا تكفر).
رابعها : عن مجاهد : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .
أقول : ولكن الله يقول (ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي يختارون من علوم السحر ما يفسدون به بين المرء وزوجه ولكن هذا لا يلزم أن كل ما لدى الملكين من علوم السحر حصراً في مسألة التفريق ، ولكن ذلك فيما يبدو غالب اختيار اليهود من علم الملكين.
خامسها: عن قتادة قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : ” بيذخت ” فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل .
والقول عن عمير بن سعيد قال ، سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا .
أقول : : تلك من الأخبار المنكرة التي لا يصح نقلها لما تحمله من مفاهيم تناقض ما علمناه في القرآن من شأن ملائكة السماء المكرمين الذين نزههم الله عن الفحش والسوء وعصمهم منه عصمة تكوينية فمثل تلك الأقوال لا يشك في بطلانها ثم أنها لا تناسب السياق القرآني الذي يخبرنا بنزول السحر علماً على الملكين وتحذيرهما لكل من يتعلمه بأن العمل به كفر ، وما جاء من أحاديث في شأن هاروت وماروت فضلا عن وهنها والحكم بوضعها فلم تتطرق إلى تعليم السحر مما يدل على اضطراب موضوع الرواية أصلا ومتناً.
سادسها : وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين . قال عطاء : تتلو تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا . وقال الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا .
أقول : لا يستقيم ذلك مع ما لسليمان عليه السلام من سلطان وملك عظيم وتسخير أن يدفن تحت مصلاه بخيانة كاتب له وهنا نحن نستنسخ طعن اليهود في سليمان عليه السلام ونعتقد انه تنزيها له وهو في حقيقته طعنٌ صريح في ملكه ونزاهة من ائتمنهم على شئونه ، كما أن القول بأن سليمان عليه السلام هو من دفن تلك الكتب تحت كرسيه طعناً في نبي الله فكيف تقع تحت يده كتب كهذه ولا يمزقها وينتقم ممن أحضرها بسلطة ملكة وقوته.
- السياق التاريخي وتوجيه الآية الكريمة :
- أورث الله الملك لسليمان بعد أبيه داود عليهما السلام وآتاه ملكاً لم يسبق لأحد مثله استجابة لدعوته إذ يقول تعالى : قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40) (ص).
- فأخضع الله جل وعلا الجان والشياطين تحت سطوة عبده سليمان عليه السلام فسخرهم لعمل ما يشاء يقول ربنا جلت قدرته : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (13) سبأ ، وعاقب من يقصر منهم فصفدهم في الأغلال وكانت تلك الحقبة أسوأ حقبة مرت على شياطين الجن في التاريخ فقد أهان سليمان عصاتهم وعذبهم شر عذاب وكانوا في أحسن أحوالهم مسخرين يصنعون له الأسلحة والآنية والمصنوعات بأنواعها ولا يجرؤ أحدهم على الاعتراض أو التقصير وإلا فإن العذاب الشديد هو مصيره يقول تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) سبأ.
- من ذلك نتيقن ونعلم ما كان الشياطين يكنون من بغض شديد وعداء منقطع النظير لسليمان عليه السلام حتى شعروا بالحقارة والضعف حتى آخر لحظات عبوديتهم فيقول جل من قائل: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) سبأ . ومن ذلك نستنتج أن القول بأن تسخير الجان استمر في حكم رحبعام ابن سليمان غير دقيق ، فالآية تفيد بانتهاء التسخير باكتشافهم لموت سليمان عليه السلام ، ثم أن ملك سليمان لا ينبغي لأحد من بعده.
- من كان طليقاً حراً من عتاة الشياطين ومردة الجان لم يكونوا صامتين تجاه ما يتلقاه الشياطين من اهانة وتصفيد وعذاب على يد سليمان فأوحوا لفساق من بني اسرائيل طلاسم وتعاويذ وشعوذات يتلونها على ملك سليمان لعلها تستنقذ اخوانهم ويظهرون بها على ملك سليمان (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن :6 ، ولا يتمكن الجان من إحداث تأثير على البشر ما لم يعينه على ذلك أحد منهم فكانت الشياطين تختار لشعوذاتها وتعاويذها من انحرف من قوم سليمان لتلاوة تلك التعاويذ لعلها تحقق مرادهم (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).
- مفهوم التلاوة يختلف عن مفهوم القراءة العادية فالتلاوة إنما هي قراءة لنص بعد قراءة آخر ، فعندما تقرأ نصاً تتبع في قراءته قارئاً يسبقك تكون قراءتك بذلك تلاوة ، والقارئ الذي يُقرأ عليه يصح أن يقال له (يتلو) والتالي الذي يتبع ما يقول القارئ ويكرره (يتلو) أيضاً ، والتلاوة تختلف عن القراءة العادية إذ يرجى بتلاوتها حدوث أمر كحصول نفع أو وقوع ضر ، فمراسيم الملوك إذا تصدر وتقرأ يقال (تتلى) إذ أن قارئها مملي عليه وليس هو صاحب القول ، وينتج عن تلك التلاوة حدوث نفع أو وقوع ضرر.
والقرآن الكريم حين تلاوته فإننا نقرأ نصه كما قرئ على نبيه صلى الله عليه وسلم وكما قرأه عليه من بعده أصحابه فكانت قراءة القرآن في أصلها تلاوة.
وقراءة القرآن يرجى بقراءتها برء من سقم أو حصول أجر أو اتباع أمر فلذا كانت قراءة القرآن تلاوة من هذا الباب أيضاً.
- وبذلك فاتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي قراءة الشعوذات والطلاسم التي تقرأها الشياطين يتلوها فجار اليهود لإحداث ضرر – في ظنهم – على ملك سليمان واستنقاذ أسرى الجان بذلك ولكن الله أفشلهم عما يريدون.
- ومن جراء فشلهم وبغضهم الشديد لسليمان أشاعوا من خلال أوليائهم ممن تبعهم من اليهود بأن ملك سليمان كان سحراً استعان به لتسخير الجان والشياطين والريح لسلطته كذباً وبهتاناً وزوراً على نبي الله وهدفهم تدمير عقيدة التوحيد وإحلال الشرك في نفوس الناس فنفى جل وعلا عنه ذلك (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) وكانوا في ذلك شديدي الإخلاص لأوليائهم من اليهود ولذلك فإن سحرهم من أشد السحر وأسوأه.
- لما قضى الله عليهم أن يدمر ملكهم على يد نبوخذ نصر ويسبي اليهود رقيقاً على بابل عاشوا حياة الذل والسخرة تحت حكم البابليين مئات السنين وفشا بينهم أخبار دولتهم العظيمة التي كان سليمان على قمتها فانتشر بينهم أن ما كان من قوة عند سليمان إنما كانت سحراً واستعانة بالجان والشياطين ، وهذا يدفع كثير من بني إسرائيل اعتبار ذلك السحر شرعياً جائزاً لا حرمة فيه طالما كان هذا فعل سليمان عليه السلام وكان هذا المفهوم الخطير ينذر بتحول الديانة التوحيدية إلى عبادة للشيطان من دون الله ، وكان في بابل أقدم المذاهب السحرية والشعوذات القائمة على النجوم وبني اسرائيل ما عاشوا بين قوم ضُلّال إلا ونافسوهم في الضلال والوثنية أو السِّحر والشعوذة كما حدث معهم في مصر قبل الخروج الأول وبعده عندما عبدوا العجل وكما حدث في السبي البابلي إذ تطلعوا إلى الوصول لدرجات متقدمة من السحر والاستعانة بغير الله لما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة من الشر والشرك والكفر.
- هاروت وماروت.
- أن الله جل وعلا حينما رأى ضلال بني إسرائيل في السبي البابلي عن حقيقة سليمان عليه السلام وأن ضلالهم هذا سيشرِّع السحر كعقيدة أصلية من الديانة أرسل إليهم ملكين مكرمين منزهين عن الضلال هما هاروت وماروت.
- أنزل الله عليهما علوم السحر وكيفيته ليبينونه لبني إسرائيل ويميزون المعجزة التي أوتيت لسليمان عن هذا الكفر فبثهما في بني إسرائيل يعلمانهم بكيفية السحر وكيف أنه استعانة بغير الله وكفر به وشرك وأن هذا يستحيل أن يكون فعل سليمان عليه السلام بل هو مروق وكفر وخروج من الإسلام والتوحيد.
لماذا أرسل جل وعلا ملائكة ؟؟ ولماذا أرسل ملكين وليس واحد ؟؟
أولا : أن الملائكة لا تنتفع بالسحر ولا تسعى إليه وقد أودع الله فيها من القدرات والخوارق ما يتجاوز قدرات الجان والشياطين كما أن ما يحوزون من (علم السحر) لا يمكن أن يطبقونه لاختلاف طبيعتهم وبالتالي لا يمكن أن يطلق عليهم سحرة لأنهم لا يستعينون بالجان فهم أقدر وأقوى من الجن والإنس.
ثانياً : أن الملائكة لا يحصل منهم العصيان والانحراف البتة فهم مجبولون على الطاعة الدائمة بينما البشر قد يحصل منهم الضعف وتحدثهم أنفسهم الأمارة بتطبيق هذا العلم لمعرفة نتائجه فقد يقع في المحظور ويخرج من الإسلام بسبب ما قد توسوس به إليه نفسه.
ثالثاً : أن بني إسرائيل شعب مشاكس عنيد مجادل فإن أُرسل إليهم بشر استغل مجرميهم ذلك ليثبتوا به أن السحر من أصول الديانة وأن سليمان كان بالفعل ساحراً وقد يقتلون هذا المرسل كما هي عادتهم في قتل الأنبياء بل إنهم قتلوا في بابل من الأنبياء عدد كبير ولكنهم يعجزون عن ذلك حينما يكون ملكٌ من الملائكة وهذا دليل رحمة الله بهم وإمهاله لهم.
رابعاً : اختار الله جل وعلا ملكين لأنه فيما يبدو لو كان واحداً لربما ألَّهوه وقدسوه وربما عبدوه من دون الله فكانا ملكين شاهدين على البلاغ.
خامساً: أن الملائكة أقدر المخلوقات على تبيان الفرق بين السحر والمعجزة في طريق تنزيه سليمان عليه السلام وتبرئته مما الصق به فهم يملكون من القدرات ما يبين للناظر كيف أن السحر تخييل والمعجزة حقيقة وقدرة مودعة من الخالق.
فأدى هاروت وماروت رسالة ربهم إلى بني إسرائيل وبينوا لهم أن الفعل كذا يكون بالكفر والتجديف في حق الله ولا ينبغي أن يكون ذلك من سليمان وأخبرا من يعلمان بأن تطبيق هذا العلم كفر والسحر كفر لذلك فلم يقولا (إنما نحن فتنة فلا تفعل السحر فتكفر) بل قالا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) فأصبح عمل السحر كفر بذاته.
ومن يقول أن الله لا ينبغي أن ينزل علم السحر ليتعلمه البشر غاب عنه أن الله عنده علم كل شئ وأنه جلت قدرته علم الإنسان وأرشده لطريق الخير ودله وأرشده على سبيل الشر وجعل الاختيار رهين بإرادته فقال جل وعلا (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد:10 وقال سبحانه عن نفس الإنسان (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس . ، فلولا دلالة الله جل وعلا للإنسان إلى طريقي الخير والشر وتحذيره له من سلوك طريق الشر لما عُرِفَ التقي من العاصي والكافر من المؤمن وهذا من تمام عدله جلت قدرته ومما يمايز به بين خلقه ويرفع بذلك أناسا ويخفض آخرين بأعمالهم.
وأما القول بتساوي الفعلين بين الملكين والشياطين إذ يقول جلت قدرته : (وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ويقول في ذات الآية (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) فالأول تعليم تزيين و إضلال وغواية ، وتعليم الملكين تعليم إنذار ودعوة وهداية .
فهاروت وماروت ملكين مبعوثين من الله لإنذار بني إسرائيل وتعليمهم الفرق بين السحر والمعجزة إنذاراً وتحذيراً لبني إسرائيل الذين فشا فيهم السحر والكفر وإثباتاً لبراءة سليمان عليه السلام وإقامة للحجة الدامغة عليهم بما لا يجعل لبني إسرائيل حجة يركنون إليها هرباً من عقاب الله جل وعلا
هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رابط المقال في المدونة
رابط المقال في المدونة