حول تزكية النفس

إنضم
11 يناير 2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
10
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
تتميز الشخصية المسلمة بعقيدتها ، وعبادتها ، وسلوكها وأخلاقها ، ومعاملاتها ؛ فهذه أصول بناء الشخصية المسلمة ، التي يجب على المربين أن يغرسوها في المسلمين صغارًا وكبارًا ، لبناء الشخصية المسلمة ، التي تعيش بإسلامها ولإسلامها ، تؤثر ولا تتأثر ، ليعود إلى الأمة مجدُها وعزُّها ؛ فما ارتفعت الأمة إلا بالإسلام ، وما عزَّت إلا به ؛ ولله در أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين قال : إن الله أعزَّنا بالإسلام ، فإن ابتغينا العزَّةَ في غيره .. أذلنا الله .​

وأساس ذلك هو العقيدة التي ينعقد بها إيمان المسلم بالله تعالى ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .. فهذه أصول الإيمان التي ينبعث عنها كل أعمال المسلم الصادق : إضمارًا وقولا وفعلا ؛ فهو لا يضمر إلا ما يحبه الله تعالى ، ويبغض ما يبغضه الله تعالى ، ويرتكز في قلبه : حب الله ، والإخلاص له ، والرجاء فيه ، والخوف منه ، والتوكل عليه ، والثقة به وبما وعد ، وحسن الظن به سبحانه ، واليقين ... إلى غير ذلك من العبادات القلبية التي تحكم حركة المسلم وانفعالاته في الحياة .​

فهذه العبادات القلبية هي التي تحركه لطاعة الله تعالى والبعد عن معصيته ، وجهاد نفسه والشيطان ؛ فتزكو نفسه ، ويرتفع بذلك في الدنيا والآخرة ؛ فقد قال الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] . .. وللحديث صلة .​



 
كما أن إيمان المسلم باليوم الآخر وما يشتمل عليه من أهوال الحشر ، والحساب ، والميزان والصراط ، والجنة والنار ؛ يدفعه لفعل الطاعات واجتناب المعاصي ، وفي ذلك زكاة نفسه .
ودائما ما كنت أتساءل : لماذا أُكثر من ذكر آيات اليوم الآخر في السور القصيرة ؟ لعل ذلك لأن كثيرًا من المسلمين يحفظها ، لأنها أسهل على الناس ، فيكونون على ذكر منها .
بل لماذا أوجب الله تعالى علينا نحن المسلمين قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من ركعات الصلاة ؟ لأن فيها التوحيد ، والتذكير باليوم الآخر ، والعبادة ، والتذكير بأيام الله ؛ فبدأت بتوحيد الله وتنزيهه ، ثم ثنت بالتذكير بيوم الدين ، وأنه سبحانه مالكه ، ثم ثلثت بالحديث عن العبادة والاستعانة ، ثم اختصرت التذكير بأيام الله في الدعاء الأخير .
فهل إن كان في قلب المسلم الإيمان باليوم الآخر ومشاهده ومشتملاته يمكن أن يصر على فعل معصية ؟!
 
التربية وجهاد النفس أساس زكاتها
قال الله جل جلاله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 7 – 10 ] ؛ في هذه الآيات بيان بأن الله عز وجل قد أودع في كل نفس أسباب تقواها ، وأسباب فجورها ؛ فمن جاهد نفسه وألزمها أسباب زكاتها من طاعة الله تعالى فهو من المفلحين ، ومن لم يفعل ذلك فقد دساها بمعصية الله تعالى ؛ فقد قضى سبحانه بالفلاح لمن يزكي نفسه بطاعة الله ، ويطهرها من الرذائل والذنوب ، وبالخيبة والخسار على من يخمدها ، ويضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى ، حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله عز وجل .
فالنفس قابلة للتزكية وعكسها ، فبالإيمان والعمل الصالح تزكو النفس وتعلو وتطمئن ، وبعكس ذلك تخبث ، وتُدَسُّ ، ويكون ذلك سببًا في خيبتها وخسارتها .
ذلك لأن الإنسان يتكون من عنصرين أساسين ، هما هذا الجسد الذي هو الغلاف الخارجي ، والعنصر الثاني : الروح وهو أهم العنصرين ، إذ به تتحقق حياة الإنسان وحركته في الكون ، وبلا هذه الروح لا يكون للإنسان وجود حقيقي ؛ لأنه ليس له حياة بدونها ؛ وحقيقة الإنسان تكمن في معانيه النفسية التي أرادها الله منه ؛ هذه المعاني التي يمكن أن نقف عليها إذا تدبرنا قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : أي أفلح من كبَّرَها وكثَّرها ونَمَّاها بطاعة الله ؛ وخاب مَنْ صغَّرَها وحقَّرها بمعاصي الله ؛ فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها ، وأحمدها عاقبة ؛ والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات ، وتقع عليها ، كما يقع الذباب على الأقذار .
فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ، ولا بالفواحش ، ولا بالسرقة والخيانة ؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل ؛ والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك ، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها ، وهذا معنى قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ] ، أي على ما يشاكله ويناسبه ، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته ، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألفها وجُبِل عليها ؛ فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي ، والإعراض عن المنعم ؛ والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ، ومحبته ، والثناء عليه ، والتودد إليه ، والحياء منه ، والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله .ا.هـ[SUP][1] [/SUP].

[1] ( الفوائد ) لابن القيم ، ص 177 ، 178 .
 
من جاهد لزكاة نفسه أعانه الله تعالى
وعد الله تعالى من جاهد لزكاة نفسه أن يعينه ويهديه سبيله ؛ قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] ؛ وفي ذلك بشرى لأهل جهاد النفس في طاعة الله تعالى .
 
العبادات وتزكية النفس
اعلموا - رحمكم الله - أن كل ما يتقرب به الإنسان لله تعالى من فرائض ونوافل فهو من تزكية النفس ؛ قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة :21 ] ؛ والتقوى زكاة لنفس صاحبها .
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] .
والزكاة تزكية لنفس صاحبها من البخل والشح ، وتطهير له ، قال الله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
والصيام مدرسة في تزكية النفس ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183 ] .
والحج بمناسكه مدرسة أخرى في تزكية النفس ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "[SUP] [1] [/SUP].
وفي الدعاء - وهو العبادة - طلب لتزكية النفس ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ، وَالْهَرَمِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ؛ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا "[SUP] [2][/SUP] .

[1] البخاري (1521) ، ومسلم (1350) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

[2] مسلم ( 2722 ) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .
 
حسن الخلق وزكاة النفس
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أهل حسن الخلق هم من خيار الناس ؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا " متفق عليه ؛ كما أخبر أن حسن الخلق أكمل خصال الإيمان ؛ فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا " رواه أحمد ، والترمذي ، وصححه ؛ وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة هو حسن الخلق ؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ " رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي ، وصححه الألباني .
فما أعظمها من درجة بلغت بصاحبها درجة الصائم النهار ، القائم الليل لله تعالى ؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن الأخلاق تزكي صاحبها وترفعه عند الله تعالى ؛ حتى يكون من خيار الناس ؛ وفي هذا دعوة لأصحاب العقول السليمة لأن يكونوا من خيار الناس بتحليهم بمحاسن الأخلاق .
ولله در القائل :
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُه ... فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ
والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ ... والنفسُ من شَرِّها في مرتع وخمِ
اللهم أعط نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ... آمين ؛ وصل اللهم وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
 
البعد عن أسباب المعاصي​

من أهم الأمور التي يزكي بها الإنسان نفسه : البعد عن أسباب المعاصي ، إذ فعل المعصية يسود القلب ، ويدسي النفس ؛ روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهُ تَعِالَى : { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } " ؛ قال الحسن البصري : وهو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت .​

والإنسان إذا بعد عن أسباب المعصية ، فلا شك أنه لا يقع فيها فيكون ذلك إصلاحًا لقلبه ، وزكاة لنفسه ؛ ولنضرب مثالا ؛ قال الله عز وجل : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] ؛ فنهى عن النظر إلى النساء الأجنبيات ، وقال سبحانه : { ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } ؛ لأن النظر بريد الزنا ، وأول أسبابه ، فإذا لم ينشغل الإنسان بذلك ، فقد زكَّى نفسه ، وبَعُد عن الوقوع في الفاحشة .​

وهاهنا نكتة لغوية وهي أن فعل ( يغضوا ) من الأفعال الخمسة ، فلماذا حذفت نونه ؟ لأنه وقع جوابًا للأمر ، والتقدير : قل للمؤمنين : غضوا يغضوا ؛ فجزم بحذف النون ؛ وقيل : التقدير : إن تقل للمؤمنين : غضوا يغضوا ؛ وذلك أن المؤمن أسرع في إجابة الله ورسوله .​

وجاء الأمر بعد ذلك للنساء أيضًا ، قال جل ذكره : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ] ؛ فهذه أسباب للوقوع في الفاحشة : النظر ، وعدم حفظ الفرج ، وإبداء الزينة ، وهو تبرج النساء ؛ والتساهل بعد ذلك في النواهي الشرعية من عدم الاختلاط ، وعدم الدخول على النساء ، وعدم سفر المرأة بلا محرم ... وغير ذلك مما تساهل فيه الناس ، فكان نتيجته ظهور الزنا ... سلمنا الله من المعاصي وآثارها .​

فالبعد عن أسباب المعصية ، زكاة للنفس ، وراحة للقلب والبدن ؛ وفي الأثر : ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، من ترها مخافتي ، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه ) .​

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، فضلا منك ونعمة ، يا ذا المن والفضل .. يا سميع الدعاء .​



 
عودة
أعلى