الطريق إلى لندن وإلتحاق زوجتي بي
كنت قد تزوجت فى صيف 1975م، وبعدها بعام تقريبا كنت فى طريقى إلى لندن، وحدى أولا لمدة شهرين إلى أن لحقت بى زوجتى. وكان هناك حمل، لكن الجنين مات قبل نزوله، وكان بنتا وصفت لى أمها شعرها بأنه غزير فآلمنى هذا الوصف كثيرا، وقضينا فى شقتنا وقتا عصيبا كله حزن، وبخاصة بالليل. وكنا فى منطقة منعزلة عن الناس من حولها لا نسمع إلا أصوات الخفراء وضرب النار بين الحين والحين خوفا من لصوص مواد البناء، إذ كانت منطقة مسورة تحتوى على مقادير هائلة من الحديد المسلح والأسمنت وما إلى ذلك مما يغرى اللصوص بالسطو والسرقة، ثم من الله علينا ببنت أخرى فى أكسفورد سميناها بذات الاسم الذى كنا ننوى تسمية البنت السابقة به، وعوضنا الله بها عن أختها التى نرجو منه سبحانه أن يجعلها شفيعة لنا يوم القيامة وتأخذ أمها، ومعها أبوها فوق البَيْعَة (يا رب!)، بحبلها السُّرِّىّ إلى الجنة كما يقول رسولنا العظيم، وهو ما لا يوجد له مثيل فى أى دين من الأديان: سماوية كانت أو أرضية. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن السِّقْط لَيَجُرّ أمه بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبتْه". بل إن هناك حديثا آخر أكثر تفصيلا، وإن لم يكن بنفس قوة الحديث السابق، وهو حديث عجيب ليس له، ككثير من أمور الإسلام العظيم، مثيل فى أى دين آخر: "إن السِّقْطَ ليُرَاغِمُ ربّهَ إذا أَدْخَل أبويهِ النارَ، فيقال: أيُّها السِّقْطُ المُراغمُ ربَّه، أَدْخِلْ أبويكَ الجنّةَ. فيَجُرُّهما بسَرَرِهِ حتى يُدْخِلَهُما الجنة".
نعم عندى أمل كبير فى أن أدخل الجنة، لا بعملى بل برحمة الله. ذلك أن العمل قد يصح وربما لا يصح، أما الرحمة فلا يمكن أن يلحقها أدنى شك. وكثيرا ما أدعو الله قائلا: "أبتهل إليك يا ربى: لا حساب ولا عقاب ولا عتاب، بل دخول للجنة بغير حساب". والله عند ظن عبده به، وأنا لا أتوقع منه عز شأنه إلا خيرا، فهو غنى عن تعذيب عباده، ورحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شىء، وهو يغفر الذنوب جميعا، وقد خلقنا ضعفاء، وفتح لنا باب التوبة طوال اليوم والليلة على مصراعيه دون إغلاق، وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو الغفور الرحيم. ومن جهتنا نحاول التزام الجادّة ونجتهد فى ذلك ونأخذ حياتنا مأخذ الجد، ولكننا لا ندعى ولا يمكن أن ندعى العصمة، بل نخلط عملا صالحا وآخر سيئا، وإن لم يكن بمقدورنا أن نعرف نسبة كل من العملين إلى الآخر. فاللهم رحمتك وعفوك ورضاك.
تعلم الإنجليزية
وقد قامت الحكومة بإلحاقنا، نحن المبعوثين المصريين عام 1976م بمعهد بريطانى فى إمبابة لتعليم الإنجليزية لمدة ثلاثة شهور كى تؤهلنا للتفاهم السريع بمجرد وصولنا إلى لندن. وكانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية بخلاف زملائى كلهم فيما أذكر. ولاشك أننى قد استفدت كثيرا من هذه الدروس، إذ هيأتنى للكلام بتلك اللغة، وإن كان بطريقة مكسرة وبطيئة ومضحكة. ولكن كما هو معروف: شىء خير من لاشىء. كما أنه لا يوجد شىء فى الدنيا يتم للتو واللحظة، فالله قد خلق الدنيا فى ستة أيام. وأى أيام؟ إن كل يوم منها إنما هو دهر طويل، وليس أربعا وعشرين ساعة. ومن وقائع تلك الأيام أننى تناقشت وزميل لنا ممن كان يدرس الإنجليزية فى المعهد البريطانى معنا، وكان متخصصا فى العلوم الطبيعية، حول الموضوع التالى: أيهما أهم فى الإسلام؟ الصلوات النافلة أم القراءة؟ أما أنا فأكدت أن القراءة أهم لأنها فرض، على العكس من صلوات السنة، إذ السنن لا ترقى إلى مرتبة الفروض. بيد أنه ظل متشبثا بالرأى المخالف.
أول مشهد مُلفت!
وعند وصولى إلى مطار لندن شرعت أتلفت حولى لأستوعب الأوضاع هناك كيما أرى الفرق بيننا وبينهم، فشاهدت، ضمن ما شهدت، عاملا من عمال المطار يسير مجدا فى طريقه وبيده قطعة شكولاتة، فاهتممت أن أنظر لأعرف ماذا سوف يفعل بغلاف الشيكولاتة بعد أن يأكل ما فيه، فألفيته بعدما انتهى من أكلها يبقى الورقة فى يده ولا يلقيها على الأرض، فسرنى هذا التصرف، وإن كنت فى طريقى من المطار فى الحافلة التى أقلتنى إلى محطة فيكتوريا قد لاحظت أن جانب الطريق ليس خاليا تماما من بقايا الأوراق الصغيرة، إلا أن نهر الطريق ذاته كان نظيفا تماما. وقد خيبت قطع الورق المتناثرة على جانب الطريق ظنى، إذ كنت أتصور أن بريطانيا نظيفة تمام النظافة. ومع هذا فإن مصر لا يمكن أن تصمد للمقارنة معها ولو لثانية. إلا أننى كنت أحن رغم ذلك إلى مصر حنينا طاغيا، وحين انتهيت من دراستى وقضيت الشهرين اللذين قيل لى إن من حقى قضاءهما فى بريطانيا على حساب الوطن عدت إلى مصر وقلبى يسبقنى لأفاجأ بعد وصولى بقليل أننى صرت أفكر فى بريطانيا أنا وزوجنى تفكير المشوق ونحلم بها ونتمنى العودة إليها، ولكن دون دراسة ووجع دماغ وتعب قلب.
إنجليزي سخره الله لي..لأصل إلى المسجد!
وبعد بلوغى محطة فكتوريا بوسط لندن ذهبت إلى المكتب الثقافى المصرى، فأعطانى الموظف بعض العناوين لأدبر أمرى فى المبيت بأحدها. وهو تصرف سخيف منه لأن هذه كانت أول مرة أذهب فيها إلى تلك البلاد، وكانت لغتى ضعيفة. وقال: حين تعود هنا غدا، وكان الغد جمعة، فسوف تقابل زملاءك، فيأخذونك معهم وتسكن مثلهم فى المدينة الجامعية. وفى ذلك اليوم قابلت رجلا إنجليزيا فى الحافلة طلبت منه المعاونة فلبى عن طيب خاطر، واصطحبنى إلى حانة هناك وطلب لى زجاجة كوكاكولا، ثم طلب لى زجاجة أخرى مشكورا، لم أملك إلا أن أقدم له، كفاءَ كَرَمِه الذى لم أتوقعه، علبة الجلاش الذى لم أحضر من مصر سواها، فقبلها شاكرا. ثم أجرى اتصالا هاتفيا ببيت شباب فيما أذكر أركبنى بعده سيارة أجرة زود سائقها بعنوان الهوستيل (بيت الشباب) الذى اختاره لى لأقضى فيه ليلتى. وهناك بعد أن استقررت فى الغرفة التى خصصوها لى سألت فتاة الاستقبال عن الطعام، فأجابتنى أنهم لا يقدمون سوى الفَطُور. أما العشاء فعلىَّ تدبير أمره بنفسى. ثم اقترحتْ أن أسير إلى نهاية الشارع مرورا بالمسجد لعلى أن أجد دكانا لا يزال مفتوحا (إذ كانت الساعة قد تجازوت الخامسة أصيلا) فأشترى منه بعض الطعام.
كلمة طيبة ألقاها الله على لسان الفتاة
وهنا تركت كل ماقالته الفتاة الهادئة مما فهمتُه، وما أَقَلَّه، وما لم أفهمه، وهو الأكثر، وشَبَطْتُ فى كلمة "المسجد" قائلا فى نفسى: لن تضيع يا أبا خليل، وعندك مسجد. ولما حاذيت المسجد وجدته بناء ضخما جدرانه وسقفه من الخشب، وكان فى مرحلة التشييد لا يزال.
استقبال جميل في المسجد
وهناك وقفت أمام نافذة زجاجية ونظرت بالداخل، فوجدت شابا أسود فيه بعض ضخامة، فنقرت على الزجاج، ففتح وطلب منى أن أَدْخُلْ. فقلت له: أنا مسلم، وأبحث عن محل أو مطعم أبتاع منه طعاما، فكرر الإجابة أَنِ ادْخُلْ. فأعدت الكلام بأننى إنما أريد طعاما، فكرر الرد أَنِ "ادخل، وسوف أقدم لك طعاما". فقلت له: فى المسجد؟ قال: نعم فى المسجد. وهنا رقصت عصافير بطنى بعدما كانت تصيح وتصرخ وتلطم خدودها وتشق جيوبها وتنعى حظها، ولولا الحياء لرقصت أنا أيضا.
وبعدما دخلت وتوضأت وصليت وجدت أمامى أطباقا مملوءة بخيرات ربنا من أرز وبامية فيها نوع من اللحم أكلته فوجدته سمكا، إلا أنه كان لذيذا جدا. والطريف أننى كلما حكيت القصة لطلابى وطالباتى فى الجامعة كان رد فعلهم رسم كل علامات النفور والاشمئزاز على وجوههم وشفاههم. لكن لا ينبغى أن ننسى أننى كنت جوعان جدا، والجوع يضفى على أى شىء نأكله جاذبية وسحرا مهما كانت تفاهته. كما أننى قد علمت حينذاك أن دكاكين بريطانيا تغلق بعد الخامسة أو الخامسة والنصف بما يعنى أن من الممكن جدا أن أقضى بقية اليوم، ثم الليلة بكاملها، دون طعام. كذلك لا ينبغى أن ننسى أنه قد سبق لى قبل ذلك بسنين أن طعمت صراصير البحر مع صديقى اليابانى دون أن يحدث لى شىء. ثم لِمَ تستغربون أن يكون الله قد حَلَّى فى فمى طبق البامية بالسمك، والله على كل شىء قدير؟ وقد أخبرنى مُدَّثِر، وهذا اسم الشاب النيجيرى صاحب طبق السمك بالبامية، أن أهل الخير من السيدات العرببات حين يأتين إلى المسجد يتبرعن ببعض المال، فيصنع منه طعاما للعابرين من أمثالى. تعيش السيدات، ولْيبارك الله فى السيدات، ولْيغفر الله للسيدات، ولْيسعد الله السيدات، اللاتى لولا عطفهن وكرمهن لمات المسكين، الذى هو أنا، فى ذلك اليوم جوعا.
ولو كان الشدياق مكانى لوضع فى فضلهن هذا كتابا يخلّدهن طَوَال الدهر وجلس عند أقدامهن يتغزل فيهن ويقول فى حمدهن والثناء عليهن وعلى حلاوتهن وجمالهن، لا على باميتهن وسمكهن، الشِّعْر الجميل الذى يرى، وأنا معه تماما، أنهن يستحققنه. أما العبد لله فإنه يكتفى بالدعاء لهن من أجل السمك والبامية، والله أعلم بالسرائر وما تكنه. وهو سبحانه وتعالى قد أمر بالستر، فلا داعى للفضائح! آهاه! لقد نسيت شيئا آخر مهما، ألا وهو أن مدثر قد شفع تلك الغدوة الشهية بإصبع أو اثنين من الموز الذى يعادل الإصبع منه سباطة كاملة من موزنا القزم، إذ كانت الموزة فى حجم الذراع. وأرجو أن تمرروا لى تلك المبالغة، فلا شك أن الجوع قد أدار رأسى فلم يعد عندى تمييز. وكان الموز غاية فى الحلاوة وطيب الرائحة. ومنذ ذلك اليوم لم أعد أستلطف مَوْزَنا الصغير ....
استكمال التأهيل اللغوي ، وقرب من النموذج الغربي.
ولما وصلنا إلى لندن انتظمنا فى معهد آخر لاستكمال تأهيلنا اللغوى. وكنت قد تأخرت فى السفر فلم أرافق زملائى عندما غادروا مصر، بل سافرت بعدهم بشهر ونصف فيما أذكر لبعض الظروف التى لا أتذكرها الآن، وكانت ظروفا رسمية فيما أتصور. وبعد وصولى إلى لندن بعدة أسابيع نقلونا إلى ميناء هيستنجز حيث استأنفنا التأهل اللغوى فى معهد آخر، وسكن كل منا مع أسرة بريطانية حتى نكتسب القدرة على التفاهم بلغة جونبول ونعيش فى الجو الإنجليزى. ومن هنا كان القرار بعدم اصطحابنا لزوجاتنا معنا فى البداية. وكان كل شىء يتم فى سلاسة ويسر ودون مشاكل أو لخبطات، إذ من الواضح أن كل أمورنا قد خُطِّطَ لها تخطيطا سليما ودقيقا لا يعرف الارتجال والعفوية والتخبط الذى نعرفه فى بلادنا. وهذا بلا شك ثمرة من ثمار الحضارة المتقدمة. وقد لاحظت أن الأمور كلها تسير فى كل مكان بريطانيا على هذا النحو حتى لأذكر أننى، فى السنة الأخيرة، وقد قضيتها أنا وأسرتى فى لندن، قابلت فى المنطقة التجارية بشرق لندن حيث كنت أسكن، مبشرا روسى الأصل يوزع الكتاب المقدس على الرصيف بعدد من اللغات المختلفة، فأخذت منه نسخة بالإنجليزية وأخرى بالعبرية أملا فى أن أتعلم العبرية بعد عودتى إلى مصر تى أستطيع أن أقرأه بها. ولما لم أجد نسخا بالعربية صارحته برغبتى فى نسخة من الترجمة العربية للكتاب المقدس، فما كان منه إلا أن أخرج نوتة وقلما وسجل ذلك، قائلا لى: تعال إلى هنا الأسبوع القادم فى مثل ذلك الوقت بالضبط، وسوف تجد معى نسخة فى انتظارك. وهو ما كان. لم يقل لى إنه قد نسى، أو فُتْ علينا غدا يا سيد، أو أى شىء من هذا القبيل الذى تجرى عليه حياتنا ببلادنا فى كل المجالات. يا رب، اجعل بلادنا مثل بريطانيا فى التقدم الحضارى. آمين!
وكان من نصيبى الإقامة فى هيستنجز مع أسرة مكونة من رجل ذى أصل إسبانى وامرأة بريطانية، ومعهما بنت فى المرحلة الابتدائية اسمها شارون من زوج المرأة السابق وولد رضيع اسمه آدم كان يبكى كثيرا لعيب خلقى فى خصيته، إن كنت فهمت ما قاله لى أبوه، إذ كانت إنجليزيتى فى ذلك الوقت المبكر شديدة الضعف. وكان معى فى البيت شاب إيرانى أصغر منى أرسله أبوه إلى بريطانيا ليحصل على البكالوريوس اسمه إسماعيل. وكان لطيف المعشر، ولكنه لم يكن يصلى أو يصوم، إلا أنه كان يعرف أحكام الدين فى هذه الأمور جيدا. ومن ذلك ما شرحه لى من أن المسح على اليدين فى التيمم لا يتطلب، كما علمهم الشيخ فى إيران، مسح الذراعين كلهما كما هو الحال فى غَسْل الوضوء، بل المطلوب هو مسح اليدين فقط حتى الرسغين. وكنت قد تعلمت فى الفقه الشافعى أن مسح اليدين يعنى مسح الذراعين بالكامل قياسا على ما يحدث مع الماء. وقد سارعت، حين سمعت من إسماعيل هذا الكلام، فتلوت الآية الخاصة بالتيمم فلم أجد فيها كلاما عن الذراعين بل عن اليدين فحسب على عكس آية الوضوء، التى تنص نصا على غسل الأيدى حتى المرافق، فبدا كلامه مقنعا. ومن عجب أنه، كما قلت، لم يكن يصلى أو يصوم. لكنى انتفعت بما قال. كما كانت تنزل عند تلك الأسرة وتتعلم معنا الإنجليزية فى نفس المدرسة فتاة فرنسية أصغر منا فى السن صِغَرًا واضحًا، فكانت تُقْبِل علىَّ فى المدرسة وتحدثنى وتتعامل معى على نحو طبيعى جدا، حتى إذا كنا فى المنزل شعرتُ بها تبتعد. أتراها كانت حريصة على ألا تغضب الأسرة، التى قد تكون لاحظتْ أن ربها أو ربتها لا ترتاح لى لأننى أصلى وأصوم مثلا؟ مجرد تساؤل.
ذلك أننى كنت حريصا، بقدر إمكانى وفهمى فى ذلك الوقت، على ألا يصدر عنى ما يضايق أحدا حتى إننى كلما استحممت توخيت أن أنظف الإسفنجة والبانيو مما يكون قد عَلِق بهما من شعرات انفصلت عن جسمى، على عكس إسماعيل، الذى كان يتصرف حسبما يحلو له، وحتى إننى كنت أؤجل إفطارى فى رمضان لحين تناول الطعام مع الجميع بعد نحو ساعتين كيلا أرهق ربة البيت. ومع هذا لاحظت أن رَبَِّى الأسرة كانا يستلطفان إسماعيل أكثر. فمن ذلك أننى وإسماعيل، فى اليوم الأول لتركيب السنترال هيتنج (التدفئة المركزية) بالمنزل، كنا فى غرفتى نسمر ونتناقش، فشعرنا أن الجو حار لا يطاق، فقام هو وخفض درجة الحرارة فى جهاز التدفئة. ثم إنى فى اليوم التالى سألت ربة المنزل عما ينبغى أن أفعله إذا ما أحسست بشدة الحرارة فى غرقتى، فقالت ما معناه أننى ينبغى ألا ألمس شيئا، بل علىَّ أن أعود إليهم حتى يتصرفوا هم، وإلا أفسدتُ الجهاز. فرددت عليها بعفوية: لكن إسماعيل قام بتخفيض درجة الحرارة دون أن يحدث شىء. وفى الحال وجدتها تنهض من مكانها كمن أصابتها لوثة، حقيقة لا مجازا، وتبكى قائلة إننا بهذا سوف نهدم البيت، أو كلاما بهذا المعنى. ومع هذا لم تظهر هى أو زوجها شيئا من هذا الغضب لإسماعيل، بينما أَبْدَيَا الضيق نحوى. وكان هذا من أغرب ما صادفت فى حياتى. ولما شكوت لبعض زملائى سلوك المرأة نحوى، وسلوك زوجها بالتبعية، قال لى زميل ممن يظنون أنهم ممن قطعوا السمكة وذيلها، وليس غشيما مثلى، إننى لم أفتح عينى مع الزوجة كما ينبغى. فاستغربت ذلك ضاحكا. ثم عدت فنظرت إلى المسألة من زاوية فكاهية قائلا فى نفسى إن المرأة، وإن لم تكن قبيحة، فهى أيضا عادية وليست جميلة تُغْرِى، فضلا عن أنها أكبر من أمثالى سنا. وإنى لأذكر أيضا أنها، فى بداية إقامتى معهم، قد سألتنى عن زوجتى وهل معى صورة لها أو لا، فأريتها صورتها التى كنت أحضرتها ضمن حاجيّاتى، فتأملتها برهة ثم ردتها لى.
وقد وقعت بعض الطرائف المزعجة أثناء إقامتى مع تلك الأسرة: فمنها أن ربة البيت كانت تقدم لى فى السحور كل ليلة مربى أو عسلا حتى ضاق صدرى بهذا اللون الطعامى الذى لا يتغير، والذى أجده كل ليلة على المائدة حين أستيقظ لتناول السَّحُور، ففاتحتها برغبتى فى شىء من التغيير. مثل ماذا؟ قلت لها: بيضتان مثلا. قالت فى ضيق واضح: ألست تحب السكر وتطلب أن يكون الشاى (باللبن والله!) حلوا؟ قلت: وهل معنى ذلك أن أظل آكل المربى والعسل على الدوام؟ قالت: لكن البيض غال. فقلت فى سرى: ماذا أقول لبنت الفرطوس هذه؟ ثم توكلت على الله قائلا فى نفسى: هى مَوْتَةٌ أم أكثر؟ وأكدت لها أن ثمن المربى والعسل هو نفسه ثمن البيضتين. فاقتنعت ونزلت أخيرا على رأيى بعدما ظننت أن روحى ستطلع قبل أن أنجح فى زحزحتها عن عنادها وتيبُّس مخها. كما لاحظت أنهم ينادون إسماعيل بـ"إشماعيل" (بالشين) فأبديت دهشتى، فغضب الرجل منى وكأننى قد طعنته فى عِرْضه. وهذا إن كان الطعن فى العِرْض يزعجهم فى شىء! ثم نسمع من يقولون إن الإنجليز دائما أهل سياسة ودهاء من طراز رفيع! لا، يا سيدى أنت وهو، ليس دائما، وإن لم تصدقونى فاسألوا مدام جونزاليش وزوجها ذا الصوت الهادئ الصادر عن فمه وأنفه معا، والعينين اللتين لم أكن أرتاح لنظراتهما، وما هما إلا مجرد مثال!
إلى أكسفورد..ومشاهد ملفتة.
وأخيرا ذهبت إلى أكسفورد، وكان أحد الموظفين فى مكتبنا الثقافى بلندن قد أعطانى عنوان دارس مصرى قديم فى تلك المدينة أوصانى أن أتصل به حال وصولى حتى يساعدنى فى التعرف إلى المدينة إلى أن تستقر اقدامى فيها بصفته أقدم منى فى الجامعة هناك. وقد اتصلت بالزميل المذكور متلهفا على مقابلة مصرى مثلى فى تلك المدينة التى لا أعرف ولا يعرفنى فيها أحد، وأحتاج إلى من يزيل عنى مرارة الغربة فيها، وبخاصة أن لغتى الإنجليزية كانت ضعيفة لا تساعدنى على العوم فى بحر المجتمع هناك. إلا أن الزميل المذكور واعدنى أن يلتقى بى بعد يومين. ولما تقابلنا وجدت أنه لم يكن يبعد عنى إلا بعرض شارع واحد، فدهشت من طول أناته فى ضرب الميعاد. ومع هذا فقد استقبلنى هو وزوجته استقبالا طيبا، وقدمت لى السيدة بعض الشطائر المنزلية اللذيذة وعصير البرتقال. وقد استسمحته أن أصلى العصر عنده فسمح مشكورا. ولما أعلنت عن رغبتى فى الاتصال به مرة أخرى قال إنه سوف يقوم هو بهذا الاتصال، فلا ينبغى أن أشغل نفسى بالأمر. ثم لم يحدث أن اتصل بى مرة أخرى طوال السنوات الست التى قضيتها فى بريطانيا.
ومع ذلك فقد تقابلنا بالمصادفة فى وسط المدينة ذات ضُحًى بعد مجىء زوجتى، فأخبرنى أنه ينتظر صديقا له يشتغل فى السلك الدبلوماسى المصرى بسويسرا دخل حانة هناك يأخذ كأسا. وأكد لى دون أن أسأله أنه هو نفسه لا يشرب. ثم افترقنا، ولم ير أحدنا الآخر إلا أثناء استعدادنا نحن الدارسين المصريين بأكسفورد لحفل عشاء أردنا أن نقيمه لأساتذتنا البريطانيين. وقد انقسمنا طائفتين: طائفة تقول إننا لن نقدم للأساتذة إلا الطعام والعصائر، وطائفة قالت: بل لا بد أن نقدم لهم خمرا ما داموا يشربون الخمر. وكنت أنا من الطائفة الأولى، وهو ذات الموقف الذى وقفته زوجتى بين زوجات الدارسين المصريين، على عكس زوجة صاحبنا، التى قالت لزوجتى وبقية النساء إنها، حين تدعو أحدا من الأساتذة إلى بيتها، تعمل كل ما من شأنه إرضاؤهم وإدخال المسرة على قلوبهم بما فى ذلك تقديم الويسكى. ثم رأيت صاحبنا نفسه يشرب الخمر فى إحدى الحفلات. إذن فلم قال لى ما قاله عن صديقه الذى يعمل بسفارتنا فى سويسرا؟ وقد تذكرت صَلاَتى فى بيته، فعزوت إليها السبب فى نفوره من قيام معرفة بيننا، وعرفت أنه كان يكذب علىَّ حين صور نفسه فى صورة الكاره للمشروبات الكحولية.
وفى أول حفل جامعى أشارك فيه، وهو الحفل الذى يستقبلون فيه الطلبة الجدد فى بداية العام، كان هناك عشاء قُدِّم لنا فيه أرز ولحم، وكان قبالتى قسيس الكلية يأكل فى طبقه مشغولا بطعامه دون أن ينظر إلينا. وكانت قطعة اللحم التى فى طبقى كبيرة، وكنت شديد الجوع، إذ كنت أعيش عيشة العَزَب، فلم تكن زوجتى قد لحقت بى بعد، إلا أننى أردت أن أستوثق من أن اللحم ليس خنزيرا، وتصادف أن جلس بجوارى شاب أصغر منى من لبنان اسمه محمد، فسألته: كيف لى أن أعرف أن اللحم ليس لحم خنزير؟ فاستمهلنى حتى يشم الطبق، ثم قربه إلى أنفه دون أن يبدو عليه التحرج، ثم أعلن بكل ثقة أنه خنزير. كل ذلك، وعمنا القسيس ولا هو هنا، وإن كنت متيقنا أنه معنا بكل خلجة فى أعصابه. وإنى لأسأل: ألا تعرف الجامعة أننا مسلمون؟ فلم قدموا لنا لحم خنزير إذن؟ لقد كان البريطانيون يحتلون بلادا إسلامية كثيرة، وعندهم مستشرقون ومبشرون يعرفون كل شىء عن الإسلام وأتباعه، فأين غاب هذا كله عنهم؟
وقد تكرر هذا الأمر مع زوجتى حين كانت فى المستشفى بعد ذلك بشهور أثناء الحمل، إذ وجدتْ قطعة اللحم التى قدمت لها فى الغداء أكبر حجما مما يقدم لها من اللحم كل يوم. ثم اكتشفت أنه لحم خنزير رغم أنها كانت قد أخبرتهم بأنها مسلمة لا تأكل هذا النوع من الطعام ردا على سؤالهم لها لدن دخولها المستشفى. ولما راجعتْهم يومها بخصوص الخنزير اعتذروا، واستبدلوا به قطعة لحم حلال، لكنها كانت أقل حجما بكثير. وإنى لأتصور أنهم يفكرون على النحو التالى: فلنقدم لهم الخنزير، وحينئذ إما أن يأكلوه خجلا من الرفض، أو يأكلوه جهلا ثم يكتشفوا حرمته فيما بعد. وفى الحالتين سيكون الجدار العالى والسميك الذى بين المسلم والخنزير قد انهدم، وهو مكسب ليس بالقليل. أما إن أصر المسلم على عدم أكل الخنزير فما أسهل أن نقول له بكل أدب واحترام: آسفون! لقد فاتتنا هذه المرة، ولن نكررها بعد ذلك، فتقبل عذرنا عن تلك الغلطة. ويا دار، ما دخلك شر!
تقدير ممتاز في الإنجليزية
....وفى الفصل الدراسى التالى التحقت بمدرسة "فرذر إيديوكيشن كولدج" بغية مزيد من تعلم اللغة الإنجليزية، ودخلت مباشرة مستوى "الفرست سرتفيكيت"، وهو المستوى الذى لا يصل إليه المتعلم إلا بعد ثلاث سنوات. وحصلت فى الامتحان على تقدير "A"، أى "ممتاز"، لأنتقل بعد ذلك إلى مستوى "البروفشيانسى"، الذى لم أقض فيه سوى فصل دراسى واحد من ثلاثة فصول، وحصلت فى امتحانه أيضا على تقدير "ممتاز". وكان معى طلاب عرب يدرسون الإنجليزية طول عمرهم، وبعضهم كان يدرس بالجامعة الأمريكية فى بلده، وحصلوا على تقدير "C"، أى "جيد". وكانت زوجتى تتعلم على حسابى فى ذات المدرسة التى أتعلم بها. كما كان هناك مدرس يأتى لتعليمها فى البيت بعد توقفها عن الذهاب إلى المدرسة المذكورة عقب إنجانبا يمنى، وكان يسهر معنا ونقدم له العشاء تعبيرا عن شعورنا بجميله، إذ كان يتقاضى شوية بنسات فى الحصة التى كانت تمتد لساعتين. وكان مستر نايجل نايت رجلا لطيفا لطيف الحضور. وكان يتمتع بصبر أيوب، ويصحح لى كذلك ما أكتبه من فصول الرسالة، فكان ينبهنى عادة إلى غلطة أو اثنتين فقط فى الصفحة الفولسكاب. وأحسب أن الأمر على هذا النحو معقول جدا.
وقد ساعدنى على التفوق فى امتحانات اللغة الإنجليزية كثرة ما قرأته من كتب فى تعليم اللغة الإنجليزية حتى إننى أحصيتها فوجدتها تبلغ الخمسة والثلاثين. وكنت كلما انتهيت من كتاب انتقلت إلى كتاب أعلى... وهكذا. وبطبيعة الحال كانت هناك صعوبات ناشئة من اختلاف اللغتين ونظاميهما. فمثلا كنت إذا أردت أن أقول إننى كنت ألعب الكرة فى صغرى كل يوم عصرا أستخدم الماضى المستمر، فأقول: "I was playing"، فتصحح لى المدرسة الكلام إلى "I played". فأستغرب ولا أفهم السبب فى تصحيحها لما كتبتُه. ذلك أننا فى اللغة العربية نستخدم الماضى المستمر للتعبير عن هذا المعنى أيضا إلى جانب التعبير عن وقوع حدث فى الماضى فى الوقت الذى يقع فيه حادث آخر. وهو نفسه ما يفعله الفرنسيون فى لغتهم. وظللت فى حيرة من الأمر إلى أن تنبهت فى نوبة من نوبات الإلهام التى تحدث عادة على حين بغتة إلى أن اللغة الإنجليزية لا تستعمل الماضى المستمر إلا فى الحالة الثانية، كما أنها لا تستعمل الماضى البسيط للتعبير فقط عن وقوع حدث فى الماضى مرة واحدة، بل عن وقوعه باطراد بوصفه عادة من العادات أيضا، وهو ما يستعملون له كذلك التركيب التالى: "I used to play…".
ومن الأخطاء التى نبهنى فى البداية إليها الأستاذ المشرف علىَّ، وهو د. مصطفى بدوى أستاذ الأدب الإنجليزى فى جامعة الإسكندرية سابقا، عدم تفرقتى بين "foreword" و"forward"، وتصورى أنهما كلمة واحدة هى الأخيرة، وبخاصة أن نطقهما نفس النطق. ومع هذا فلو سئلت عن مدى رضاى عن المستوى الذى أحرزته فى تلك اللغة بعد كل هذا التعب فى تعلمها أقول بملء فمى: لست راضيا عن نفسى. ولكن لا بد أن أضيف أيضا أننى لو كُتِبَ لى أن أبقى فى بريطانيا واشتغلت فى إحدى جامعاتها مثلا لوصلت فيها، فيما أتصور، إلى نفس مستواى فى اللغة العربية بغض النظر عن أن مستواى فى لغتى مرتفع أو لا.