حوار ملتقى الانتصار للقرآن الكريم مع الدكتور ابراهيم عوض

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
في بداية هذا الحوار الطيب مع أديبنا الكبير وناقدنا الإسلامي الرائد الدكتور ابراهيم عوض- الأستاذ بكلية الآداب جامعة عين شمس- نود ان نتعرف ويتعرف معنا القارئ الكريم على سيرة ذاتية لكم، يتداخل في التعريف بها-ان شئتم- الشخصي مع الموضوعي، المؤثرات القديمة مع التطورات النفسية والعلمية، البدايات الأولى في الطفولة والمراحل المتتابعة في مسيرة رائدنا،ولاشك أن ذلك لايقربنا فقط من شخصيتكم وتكوينها في مراحل الحياة المختلفة، وحضورها في عالم الفكر والأدب والنقد، ومن البيئة التي نشأتم وترعرعتم فيها، ومن حياتكم العلمية الفوارة ،ومجالها العلمي والعملي الممتد الى يومنا هذا،بل يقربنا ايضا من نشاط اسلامي عارم وموار في زمن تكالبت علينا فيه الأعداء،وشوهت فيه سير الأصحاب والعلماء، ولاشك ان السرد الحياتي يقربنا من مشاهدة حركة تطور الفكر ونشأته، وتربته الأصيلة، في عقل ووجدان قامة من قامات النقد الإسلامي الحديث ، ووجه من الوجوه المشرقة التي دافعت بموضوعية عن الإسلام ولغة القرآن وسيرة النبي.
إن مزيدا من السرد قد يفتح القارئ على سيرة أنتجت مفكرا وأديبا، وناقدا إسلاميا، مازال ينتج في عالم الأدب ونقد ظاهرة الإستشراق ورؤوسه المتضخمة، والدفاع عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وعن سيرته وسيرة صحابته الكرام الذين بذلوا الغالي والرخيص في رفعة هذا الدين وتوسيع جغرافية عالمه، لتنتشر الرحمة في أقطار الأرض وآفاقها.
 
التعديل الأخير:
أتابع بشوق هذه الذكريات الجميلة التي أتحفتمونا بها وأنا متأرجحة معها بين حزن وانقباض وبين ابتسامة وانبساط .. ولي عودة كي أعلق عليها عند تمامها بإذن الله.
 
ولدت عام 1948م فى اليوم السادس من الشهر الأول طبقا لما تقوله شهادة الميلاد. ودخلت الكُتَّاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم بقريتنا (قرية كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بالغربية) مبكرا...ومما لا يزال ملتصقا بالذاكرة رغم مضى كل هاتيك الأعوام أننى كنت لا أحب الذهاب إلى جميعة المحافظة على القرآن مفضلا البقاء فى المنزل بجوار والدتى، وكانت سيدة هادئة وطيبة، وكانت تدللنى كثيرا. وكنت، ككل طفل فى مثل سنى، لا أريد مفارقة البيت وحنان الأم.

حفظ القرآن على يدي الشيخ مرسي
وقد أتممت حفظ القرآن المجيد قبل الثامنة حسبما أذكر مما كان يردده على مسامعى المشايخ الذين حفَّظُونِيه، وكانت والدتى قد تُوُفِّيَتْ قبل ذلك بعامين أو أكثر، فأهدى والدى سيدنا الشيخ مرسى، الذى حَفِظْنا القرآن على يديه المباركتين، باكو شاى كبيرا وتلفيحة ضخمة مما كان يبيعه فى الدكان تدفئه فى الشتاء حلاوةَ إتمامى حفظ القرآن. وكان يقع فى يدى، بين الحين والحين فى ذلك الوقت، كتاب من كتب الأطفال كنا نتصفحه ونحاول القراءة فيه. ومما أذكره من هذه الكتب كتاب عن سيدنا نوح، ويبدو اعتمادا على ما لا يزال منقوشا فى الذاكرة أنه قصة من قصص الأنبياء التى ألفها للأطفال عبد الحميد جودة السحار أو محمد أحمد برانق، وكان قد أحضرها تلميذ اسمه محمد المسيرى معه إلى كتاب سيدنا الشيخ مرسى. كما عثرت فى بيتنا على نسخة من "ألف ليلة وليلة" ممزقة الصفحات الأولى والأخيرة حاولت أن أطابق بينها وبين حلقات المسلسل الذى كان يبدعه المرحوم طاهر أبو فاشا، وفشلت أن أجد ذلك التطابق الذى كنت أبحث عنه، إذ لم أكن أعرف أن أبو فاشا كان يكتفى باستيحاء الجو الألفليلى فقط غير ملتصق بما جاء فى "الليالى العربية" كما يسميها المستشرقون.

مؤثرات..وتقليد أصوات قراء كبار ..
كذلك كان فى أحد الأدراج بدكان أبى بعض الكتب مثل "فقه السنة" وبعض أعداد من "كتاب الهلال" ومن مجلة "الدكتور". وكان الوالد أيضا يشترى بانتظام مجلتى "المصور" و"الإذاعة" وكل الصحف تقريبا بما فيها "البعكوكة". وبالمثل كنت ألاحظ اهتمامه بالمذياع، الذى كان يتاجر فى أجهزته، فكنت أستمع معه إلى القرآن الكريم وإلى الأغانى وأحاديث السهرة والتمثيليات، وتتكرر على مسامعى أسماء العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وأحاديثهم وأخبارهم، فنشأت وأنا أسمع تلك الأسماء الكبيرة وأصوات القارئين ... وكانت تشجينى وأحب أن أقلد أصحابها. وما زلت أذكر كيف كنت، وأنا ولد صغير بالكتاب، أقلد صوت الشيخ الشعشاعى، الذى كنت أجده فى ذلك الحين منفرا قبيحا، فكنت أقلده متهكما، فيضحك أبى . إلا أننى، بعدما كبرت، صرت أستمتع بصوت الشيخ نور الله رَمْسَه، وأجد لما فيه من رسوخ وفخامة وجلال نداوةً وحلاوةً فى قلبى، على عكس صوت ابنه الشيخ إبراهيم، الذى لم أستطع قط ابتلاعه ولا حتى قبول منظره وقد ارتسمت على ملامح وجهه علامات المعاناة الشديدة لَدُنْ قراءته للقرآن.
لقد كنا نحب صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لحلاوته الحادة، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل لفخامته وشموخه، وصوت الشيخ رفعت لما فيه من حنان متدفق كأنه آت من الفردوس، وكان ولا يزال مرتبطا فى أذهاننا بأذان مغرب رمضان والاستعداد للإفطار بعد صوم يوم طويل، وصوت الشيخ الشعشاعى المختنق الجميل (غريبة! أليس كذلك؟)، وصوت الشيخ محمد صديق المنشاوى الحنون الرقراق، وصوت الشيخ طه الفشنى، وصوت الشيخ عبد العظيم زاهر العريض القوى الذى يستولى على الأذن تماما فى سخاء وثقة، وصوت الشيخ الدروى، الذى كنا نسمعه صباحا، ونحن لا نزال فى الفراش، فأربط بينه وبين اللبن الحليب، الذى كنا نأكله عادة فى الصباح يأتينا من عند جيراننا فى تلك الأيام حيث كنا نستمتع بكل ما لدى جيراننا الفلاحين من لبن حليب ولبن رائب وجبن قريش وأذرة مشوية بكل سهولة، وربما دون مقابل أو بمقابل طفيف على عكس الأمور الآن تماما. وكنا ننتظر قرآن السهرة فى الثامنة على إذاعة القاهرة كل ليلة فى دكان أبى . وكان دور الشيخ عبد الباسط فى أول الأسبوع مساء السبت، يليه يوم الأحد الشيخ الحصرى الهادئ الوقور الرتيب الذى لا يعرف صوته أى نتوء، والجميل مع ذلك جماله الخاص. كما أذكر أن الشيخ الشعشاعى كان يقرأ مساء الخميس، ليكون مسك الختام الأسبوعى هو صوت الشيخ مصطفى إسماعيل مساء الجمعة.

مفاخرة أبوية تربوية وثقة تُزرع
... وكان أبى من جانبه يفاخر بى ويشجعنى ويستعرض دائما ما يظنه ذكاء وتفوقا منى أمام أصدقائه، مما أعطانى ثقة عجيبة فى نفسى وإمكاناتى جعلتنى حتى الآن أتصور أنى قادر على التصدى لأية مشكلة علمية رغم ما ألاحظه من أن ذكائى ليس بالذى هناك. وهو ما يدل على أن العبرة فى الأساس برصيد الشخص من الثقة بذاته، إذ إن هذا الشعور كفيل باستفزاز مواهبه واستخراج أفضل ما عنده وحَفْزه على إنجاز أشياء ما كان لينجزها بقدراته العادية لولا تلك الثقة بالنفس. وآية ذلك أننى قد انتهيت من حفظ القرآن قبل أخى، الذى كان يكبرنى بثلاث سنوات، وكان ذكيا جدا، وهو الذى علمنى القراءة والكتابة. رحمة واسعة. لقد كان موقف أبى منى عاملا عجيبا من عوامل الحفز والتشجيع والدفع بقوة إلى الأمام. كتب الله لأبى الجنة. لقد كان رجلا عجيبا يتمتع بالدماثة والنظافة فى كل شىء مع الأناقة والوسامة والانفتاح على الآخرين، ويحب الحياة والسفر ولعب الكرة، ويصلى ويخطب الجمعة دون مقابل فى المسجد المجاور لبيتنا أو فى عزبة عاشور، التى تبتعد عن قريتنا نحو ثلاثة كيلومترات، كما كان حَسَن الخط، وهى سمة ورثتها عنه، وإن لم أطورها وأتعلم الخطاطة حسبما كان ينبغى أن يحدث. وكنت أحبه حبا شديدا وأتعلق به. وكان إذا سافر، وكثيرا ما كان يفعل، وقد يغيب فى سفره يوما أو يومين، تجتاحنى الأحزان. وأظل أنتظر عودته بفارغ الصبر، حتى إذا رأيته، وأنا ألعب مع لِدَاتى فى السوق، راجعا من طنطا راكبا درجته البخارية شعرت بسعادة الدنيا كلها تجتاح أحزانى فى هجوم مضاد وتهزمها بالضربة القاضية. ولا تَسَلْ عن مشاعرى المهتاجة وأنا عائد إلى البيت لأجده هناك. ولسوء حظنا مات أبى فى بداية العِقْد الرابع من عمره بعد وفاة أمى بسنواتٍ جِدِّ قليلةٍ، مما أورثنا حزنا وشعورا بالضياع منذ الطفولة.

موت الوالدة وتأثير جدتي علي
لقد مات بعد أن أتممت حفظ القرآن بسنة ونصف تقريبا، وكان عمره لا يتجاوز الثلاثين إلا بسنتين أو نحو ذلك. وكانت الوالدة، وأنار قبرها وأسكنها فراديس الجنان، قد سبقته إلى لقاء ربها بنحو ثلاث سنوات بعد معاناة شديدة مع مرض لا أستطيع أن أحدده لأننى كنت فى ذلك الوقت صغيرا جدا، لكنى كنت واعيا بالاهتمام الذى أولاه إياها أبى ، إذ كان يذهب بها إلى الأطباء فى طنطا، وما برح يرن فى ذاكرتى اسم د. عمر شاكر بالذات. وربما كانت مريضة بالسرطان لأنى سمعتهم يتحدثون عن انتشار القيح تحت جلدها. وهكذا صرنا يتامى تامِّى اليتم، ولولا أن الله استبقى لنا جدتنا (أم أمنا) لَضِعْتُ، فقد كانت تنفق علىَّ وأنا فى طنطا أتعلم. ولم يخلِّف لنا أبى شيئا كثيرا، إذ كان لا يزال صغيرا حين فارقنا، فقد مات فى بداية ثلاثيناته. ورغم أنه كان تاجرا نشيطا وبارعا ومحبوبا، ويتاجر فى أشياء كثيرة من بينها أجهزة المذياع فى وقت لم يكن أحد فى الريف يوزع مثل تلك الأجهزة فى خمسينات القرن الفائت، فقد كان ينفق لا يبالى، ويحب السفر ويقوم فى الغالب بمصاريف أصحابه الذين كان يأخذهم معه لا على موتوسيكل واحد من الموتوسيكلين اللذين كان يمتلكهما، بل عليهما جميعا. ومن ثم فبعد أن كنا من المساتير بل من الميسورين نسبيا فى حياته صرنا بعد وفاته من المكشوفين.
وليس معنى ما كتبتُه عن أبى أنه كان بلا عيوب، فما من بشر إلا وفيه عيوب قَلَّتْ أو كَثُرَتْ. والرجل النبيل الحق من عُدَّتْ معايبه لا من خلا تماما من العيوب، فهذا أمر من الاستحالة بمكان مكين. كل ما هنالك أننى أنظر إلى الشخص لأَرُوزَه: فإن كانت حسناته تَرْجَح عيوبه تكلمتُ فى حقه بكلام طيب، أما إن كانت الأخرى فهذا الذى يمكن أن يعاب. وأبى، ، كان من الصنف الأول بكل يقين. وحتى لو كان مَعِيبًا أيصح أن أفضحه وأنال منه على رؤوس الأشهاد؟ فأين البِرّ وواجب البنوّة نحو الآباء والأمهات؟ إننى ما زلت أستغرب ما كتبه د. إدوارد سعيد عن والده فى ترجمته الذاتية: Out of Place"، التى تُرْجِم عنوانها بـ"خارج المكان"، ولا أدرى ما المقصود بهذا. ذلك أن الترجمة كان ينبغى أن تكون مثلا: "فى غير موضعه" أو "فى غير مكانه المناسب"، أو "فى وضع غير ملائم"... لقد نال د. إدوارد من أبيه نَيْلاً شديدًا، وحاكمه محاكمة غير إنسانية. ولقد نظرتُ فيما ساقه من مسوغات كى يقنعنا بأن أباه يستأهل ما كتبه ضده، ولكنى لم أقتنع. ألا يكفى أن أباه قد رباه أحسن تربية، وأنفق عليه وواصل تعليمه فى كل مكان حتى حصل على أعلى الشهادات، ولم يقصر يوما معه فى حاجة احتاجها؟ هل كان د. إدوارد ينتظر من أبيه أن يكون ملاكا؟ فهل هو نفسه ملاك أو يمكن، تحت أى ظرف من الظروف، أن يكون ملاكا؟
أما أنا فرَاضٍ عن أبى تمام الرضا رغم أنه لا يخلو من عيوب، ويكفينى أن حسناته غطت على عيوبه بقوة، وإلا فلن يرضى ابن عن أبيه أبدا ما دامت السماوات والأرض. بل إن هناك من أساء إلىَّ ممن لا تربطنى بهم صلة قرابة، إلا أننى لدى الحكم عليهم أتذكر ما جنيتُه عن طريقهم من منافع مهمة لى قيضهم الله لإيصالها إلىَّ، فأغلِّب هذه على تلك، وأشكر الله، الذى أتاحهم لى كى يؤازرونى حتى لو كانوا قد انقلبوا علىّ تاليا. اللهم ارحم أبى وأمى وجدتى وكل من أحسن إلىَّ قريبا كان أو غير قريب، واجعل أولادى يحبوننى رغم ما أعرفه من عيوبى وما آلمتهم به سواء أكان هذا الإيلام قد صدر منى على سبيل الخطإ أم نزولا على متطلبات التربية السليمة، التى لا تستطيع أن تستغنى عن العقاب والإيلام مهما كان المربى حنونا صبورا طيبا. إن الإيلام جزء من الحياة لا ينفصل عنها أبدا مهما فعلنا، فلِمَ ننتظر من التربية الأبوية أن تكون خالية منها تمام الخُلُوّ؟ إن هذا ضد طبيعة الحياة!
ثم إلى أين نهرب من أمر الله لنا ببر الوالدين حتى لو أرادانا على الكفر به مع عدم الانصياع لهما فى ذات الوقت فيما يدعواننا إليه من الشرك به سبحانه؟ فما بالنا لو كانوا هم الذين علمونا الإيمان به وحَبَّبُونا فيه وعوَّدونا الصلاة والصوم وشرَّبونا الأخلاق الحسنة. لقد كان لوالدى، ، فضل عظيم علىَّ، إذ كان يأخذنى معه إلى المسجد المجاور لبيتنا حين يذهب للصلاة أو إلى مسجد عزبة عاشور حين يركب دراجته البخارية إلى هناك قبيل صلاة الجمعة كى يخطب ويؤم الناس هناك فأصلى مع المصلين خلفه، ثم يستضيفنا كبار رجال العزبة ويتحفوننا بالبَتَّاوِى اللذيذ واللبن الرائب وما أشبه من طعام الفلاحين الجميل، ثم يتركنى ألعب مع أولاد العزبة هنا وهناك، وبالذات فى المسجد، الذى كان جديدا وبهيا، إلى أن يَؤُون أَوَانُ رجوعنا عند العصر.


تأثير الصورة الأبوية الإيجابية
وكنت أرى أبى وهو يتوضأ فأجد كل شىء فيه جميلا نظيفا. وكان هو من جانبه لطيف المعشر محبوبا من الناس محترما. وكان بشوشا ضحوكا. ومن ذلك أننى رأيته أكثر من مرة يلعب فى الدكان مع أحد طلاب الأزهر ممن كانوا قريبين من سنه لعبة "ملك ووزير" مستخدمَيْن قطعتين صغيرتين مدورتين من قشر البرتقال يلقى كل منهما قطعته على البنك، ومن يخسر يضربه الآخر بمسطرة من الخشب الأبلكاش صنعاها كيفما اتفق لذلك الغرض. وكان صوت الضرب يفرقع فى الدكان، فأسمعه وأشاهد انهماكَهما وجِدَّهما فى الضرب كأنهما يؤديان مهمة جليلة وأنا متعجب. ولا شك أن الضرب لم يكن مؤلما بأى حال نظرا إلى لدونة سَلْخَة الأبلكاش ونحافتها.
وفى رمضان كان، ، يأخذ الكلوب أبا رَتِينَة إلى الجامع المجاور فى صلاة الفجر بعد أن يغلق الدكان فى ذلك الوقت المتأخر على خلاف ما كان يجرى فى الريف فى ذلك الزمن من الإخلاد إلى الفراش بعد العشاء، ثم بعد الصلاة يذهب هو وبعض من صَلَّوْا وراءه إلى المقابر فيقرأون الفاتحة ويطوفون بأقربائهم من الأموات، ثم يرسل أحدَهم بالكلوب إلى البيت، ويَبْقَوْن هم يتبارَوْن فى العَدْو على الزراعية. وذات مرة، حسبما سمعت من زوجة أبى أومن غيرها: لا أدرى، طلب من الشيخ على نوفل، وهو طالب أزهرى كفيف قريب من عمره، أن يتأبط ذراعه وهما يعدوان فى تلك المسابقة، ثم اتجه به نحو جدول ماء ضحل جدا، ثم قفز فوق الجدول فى الوقت الذى ترك الشيخ الشاب يسقط فيه، فيضحك الجميع بما فيهم بل على رأسهم الشيخ نفسه. كما كان يلعب كرة القدم فى السوق مع أمثاله من الشبان، ويبدو أنه كان ماهرا فيها، أو هكذا أظن. وقد ورثت عنه كثيرا من شمائله، فأنا أحب الأسفار والصحبة، وكنت بارعا فى كرة القدم على مستوى القرية والمركز.

مهمة جدتي مهمة مقصودة
ومن عجائب الأقدار أن جدتى ظلت على قيد الحياة إلى أن انتهيتُ من دراستى فى طنطا ثم انتقلتُ إلى التعليم الجامعى فى القاهرة ثم تخرجتُ ومعى ليسانس اللغة العربية وآدابها. وهنا، وبعد تخرجى واستقلالى بنفسى، توفاها الله تعالى، فكأنه قد تركها لى كى تؤدى هذه المهمة ثم تغادر الحياة بعد أن تنتهى من مهمتها الربانية. ولم أتمكن للأسف أن أرد لها شيئا من جميلها، اللهم إلا أننى اشتريت لها طرحة وحذاء بسيطا عُقَيْبَ تخرجى، فدعت لى كثيرا بفرحة عجيبة وكأنى اشتريت لها الدنيا جميعا ناسية أنها صاحبة فضل عظيم علىَّ لا يمكننى، مهما صنعت لها، أن أوفيه أبدا. وكلما تذكرت تهلُّل وجهها وهى تدعو لى أحسست باطمئنان، وعزوت ما أنا فيه من ستر ويسر إلى دعوتها الكريمة لى، أكرمها الله تعالى برحمته وبره ولطفه.
والغريب أننى لم أشعر بتلك المنة التى أولانيها المولى الكريم فى شخصها إلا بعد رحيلها وبعد أن نضجت شخصيتى وفهمى للحياة، فعندئذ، وعندئذ فقط، تنبهت إلى الدور العظيم الذى أدته تجاهى والذى لولاه لما تعلمت ولما وصلت إلى ما وصلت إليه. ودائما ما أدعو الله فى صلواتى بكل ما فى كيانى من حرارة وحب وإخلاص وشعور بالجميل وأمل فى رحمته سبحانه أن يتغمدها بكرمه وفضله وأن يبوئها أعلى منزل فى الجنة. رحمة عميمة. لقد كان ظُفْرها برقاب رجال كثيرين رغم أنها، ككل أمهاتنا وجداتنا فى القرية آنذاك، كانت امرأة أمية. بل إنى لأدعو لها عادة أكثر وأقوى مما أدعو لوالدىَّ رغم حبى الشديد لهما. وكانت، ، كثيرا ما تقضى الليالى لَدُنْ إخلادنا فى طفولتنا إلى النوم فى البكاء والتعديد على أمى وأبى (وكان ابن أختها. وقد مات ميتة مأساوية، إذ دخل بالموتوسيكل ذات ليلة شتوية وهو عائد من طنطا فى النصف المظلم من مقدمة عربة تضىء فانوسا أماميا واحدا، فتحطمت جمجمته ومات فى مستشفى محلة مرحوم ليلة الأحد السابع عشر من يناير 1957م)، وخال لى مات فى شبابه مقتولا، بعد أن بجست بطنه سيارة نقل كان يقف وراءها قريبا من حائط، فرجع السائق إلى الخلف دون أن يحسب حسابه فدعسه فى الجدار، فكان وقت نومنا فى كثير من الليالى حزينا. وظلت الجدة تبكى وتعدِّد بصوتها الواله الضعيف إلى أن التهب جفناها.
إنى أكتب هذا وأنا أغالب دموعى حنانا إليها وتذكرا للعطف الذى كانت تفيضه علىَّ حين أعود أحيانا أصيل يوم الخميس من طنطا متشوقا إلى دفء قلبها فتأخذنى عند النوم فى حضنها وتغطينى بمَلَسِها الأسود ذى الكرانيش تقينى من البرد، حتى إذا انقضى باقى الخميس ونصف يوم الجمعة الأول ووجب أن أعود إلى طنطا هجمت جيوش الحزن على قلبى وأنا أغادر القرية فى إحدى سيارات الأجرة عائدا إلى الغربة والضياع فى شوارع المدينة وحواريها حيث لا جَدَّة ولا أحد يسأل عنى. وذلك كله على العكس مما كنت أشعر به وأنا أترجل من الحافلة المتهالكة لدن وصولها إلى مشارف القرية قبل نحو أربع وعشرين ساعة، إذ كنت أحس بروحى ترفرف عند رؤيتها للمنازل والحقول، وكأنها أسير طال اعتقاله وتعذيبه ثم أفرجوا عنه بغتة، فعاد إلى أهله ودياره، ديار المحبة. ولقد كتبت فيما بعد قصة موت خالى ووصفت مشهده وهم يحملونه إلى المقعد البحرى على سطح بيت خالى الكبير، ولطخات باللون الأحمر تغطى بطنه ظننتها وقتذاك عصير طماطم أكلها قبيل موته وسال من بطنه المنفجرة، ولكن عندما كبرتُ رجحتُ أن تكون هى الدماء التى سالت من بطنه بعد انبجاسها. كما وصفتُ الناسَ الكثيرين الذين صعدوا وراء جثمانه وأنا طفل صغير تائه بينهم.

كذلك كتبتُ قصة قصيرة عن طفلٍ مات أبوه، لكنه كان يظن أنه سافر إلى مكان بعيد وسوف يعود يوما، فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر القرية ينتظر عودته، إلى أن رأى من بعيد فى يوم من الأيام فرسا يعدو برجل ظنه أباه، ليفاجأ عندما اقترب منه بأنه ليس هو بل شخصا آخر، فعاد إلى البيت كاسف البال ثقيل القلب، إلا أنه رغم ذلك لم يفقد الأمل ورجع يخرج كل يوم فى انتظار الوالد الغائب. وقد أردت، من خلال هذه القصة، أن أقول إن بعض حقائق الحياة ثقيلة على النفس، وإن كثيرا من البشر يعيشون فى الأوهام على أمل لن يتحقق، إلا أن له رغم ذلك دورا فى حياتهم بالغ الأهمية إلى أن يكبروا ويفهموا أوضاع الدنيا على حقيقتها وبشاعتها. ثم ضاعت القصتان: الأولى الساذجة، والثانية المقبولة، فيما ضاع من أشيائى الكثيرة فى مضطرَب الحياة.
 
هل لنا أن نعود معكم إلى أيام الدراسة الأولى ومافيها من ذكريات وماكان لذلك من تأثير عليكم ، وربما حتى اليوم؟
 
مرحلة حرجة في بداية المسار
لقد كان تعليمى فى المرحلة الإعدادية تعليما أزهريا، وكنت أشعر فى بداية ذهابى إلى طنطا بالهم يملأ قلبى، وكنت أتمنى أن أعود إلى القرية وأترك كل هذه الأحزان التى لم يكن لى بها قِبَل، إلا أن القدر كانت له كلمة أخرى. وأذكر أمسية قضيتها أنا وزميل لى من القرية كان يشعر مثلى بالحزن، وكان أبوه وأمه على قيد الحياة، ومشينا فى شارع البحر فى أواخر الخمسينات من القرن الماضى بدءا من الحارة التى كنت أسكنها قبالة مدرسة القديس لويس فى اتجاه الجنوب وسط الشارع نتشاكى، وكنا فى السنة الأولى بالمعهد الدينى، فتمنينا لو استطعنا ترك الجمل بما حمل والعودة إلى القرية، ولكن ضاعت شكاوانا وتمنياتنا سُدًى لحسن الحظ.
وفى يوم الجمعة، يوم سفرنا إلى طنطا فى صيف 1959م للتقدم إلى امتحان الأزهر فى اليوم التالى، ارتفعت حرارتى بعد الصلاة ارتفاعا شديدا وشعرت بضعف وتضعضع كبيرين، فتمددت، بعد أن استحممت وغيرت ملابسى، على شلتة موجوة عندنا منذ كان جدى لا يزال حيا، إذ كنت أراه راقدا عليها ينظر إلىَّ وأنا أدور وأتقافز فى أرجاء البيت مارا به داخلا وخارجا لا أستقر فى مكان كما يفعل الأطفال، وأخذت أشكو لجدتى ما أنا فيه من تعب وإرهاق، فاقترحت علىَّ عطفا منها وحنانا أن أبقى فى البيت هذا العام لظروف مرضى وأتقدم العام المقبل، إلا أننى رفضت قائلا فى سذاجة ملهمة إن زملائى سوف يسبقوننى بعام. وأغلب الظن أننى لو بقيت إلى العام القادم ما كنت ذهبت إلى طنطا أبدا بعد ذلك. وكان السبب فى اتخاذ خالى وجدتى قرار ذهابى إلى طنطا الشيخ عيد عطا، وهو أحد طلاب القرية الكبار، وكان يومها منتقلا إلى السنة الرابعة الثانوية فى معهد طنطا الأحمدى، إذ هوّن عليهما الأمر قائلا إننى لن أكلفهما شيئا. رحمة عظيمة، فلولا هذا الاقتراح وذلك التشجيع من جانبه لما كان من نصيبى الذهاب إلى المعهد الدينى ولا غير الدينى. والحمد لله، الذى رعانى ولم يسمح لظروفى المعاكسة قط أن تعوقنى عن التعلم وبلوغ أعلى الدرجات الرسمية فيه بغض النظر عن استحقاقى ذلك أو لا. وكان التعليم جادا مرا تمام الجد والمرارة، ولا موضع فيه للهزل.
لقد كنا ندرس الآجرومية مثلا والسيرة النبوية والفقه من متن أبى شجاع وشرحه، وما أدراك ما أبو شجاع ومتنه وشرحه؟ ولا تنس أننا كنا أطفالا طرييى العظم، فكنا نحفظ ما لا نفهمه. ومع هذا فلا شك أن طريقة التعليم تلك بخشونتها وجِدّها الـمُرّ كان لها فضل كبير علينا، إذ صَلَّبَتْ أعوادنا وصقلت شخصياتنا وعقولنا. ولم نكن نعرف الدروس الخصوصية ولا كنت أستعين بأحد من أجل فهم شىء فى الكتب مهما كانت صعوبته أو تعقيده. كان علينا أن نصارع الأمواج وحدنا معتمدين على قوتنا الذاتية وعلى الله سبحانه قبل قوتنا الذاتية. وإذا لم نفهم شيئا كنا نحفظه، وإلا فماذا كان يمكننا أو ماذا كان ينبغى أن نفعل؟ ثم قليلا قليلا ينقشع غموض ما كان غامضا وتلين صعوبة ما كان صعبا، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وإن لم يعن هذا أن كل شىء فى دنيا العلم صار سهلا ولينا، فما قصدت إلى هذا، بل قصدت إلى أن ما كان صعبا علينا فى البداية أضحى ميسرا فيما بعد، إذ العلم لا يمكن أن يخلو من الصعوبة والغموض يوما.
وحين وصلت إلى طنطا عصر الجمعة استعدادا لامتحانات القبول التى تبدأ اليوم التالى كنت فى حالة يرثى لها، ولم أستطع الخروج مع زملائى للفسحة فى المدينة، وبقيت نائما على كنبة فى صالة الشقة التى كنا ننزل فيها أعانى المرض والإنهاك وارتفاع درجة الحرارة. وقد تولى الشيخ عيد عطا، عليه رحمة الله، مهمة علاجى، إذ أحضر رأس ثوم وطلب منى تفصيصها وتقشيرها، فصدعت بالأمر، ثم أحضر كوب خل لا أدرى من أين، وأمرنى أن أمضغ فصوص الثوم كلها مرة واحدة، ففعلت وشعرت أن نارا شبت فى فمى ولسانى، ثم ناولنى كوب الخل لأشربه كى يطفئ نار الثوم، فأطعته، وكان شيئا جديدا لم أفعله فى حياتى قبل ذلك ولا بعده. وكان معروفا عن الشيخ عيد أنه ينظر فى "تذكرة داود" يستلهمها طرق معالجة ما يقابله من أمراض. وقد شعرت أن لسانى قد تَنَفَّط أو هكذا تصورت، فقد كنت ألقى صعوبة وعناء وألما شديدا فى لسانى إذا ما أكلت مع زملائى ومن حضر معهم من أهليهم. وكان الخبز الذى كنا نتناوله خبزا ريفيا جافا، فزاد هذا من معاناتى وآلامى، إضافة إلى مقاساتى الجوع بسبب أنى لم أكن آكل كفايتى كرفقائى، الذين لا يعانون فى أفواههم أو ألسنتهم أية مشاكل. وكنت إذا ما أردت أن أرفه عن نفسى أخرج إلى رأس الحارة، وأجلس وحدى بجلبابى الريفى فى ظل شجرة من أشجار الجزيرة المعشوشبة الجميلة الهادئة التى تفصل بين اتجاهَىْ شاعر البحر قبالة مدرسة القديس لويس أتأمل ما حولى أو أقرأ فى المصحف استعدادا للامتحان الشفوى فى حفظ القرآن.
ولقد فهمنا منذ البداية أن الحياة جِدٌّ واستقامة وجهد ومعاناة، ولا تحتمل الهلس، فحفظنا الدرس، ومشينا على العجين لا نلخبطه أبدا، اللهم إلا فى الشهادة الإعدادية حيث بداية التفتح العاطفى خلال طور المراهقة حيث تختلط السعادة الفردوسية السامقة الشاهقة بالقلق والحزن، فأهملتُ بعض المقررات وكنت، فى حصص مادة الرياضيات، ألفّ رأسى بالكاكولا ببطانتها الحريرية وأستنيم إلى ما تشيعه فى دماغى من دفء فى فصل الشتاء، بينما الأستاذ عاطف ذو الوجه المنمش واللثغة الظريفة التى كانت تقلب سيناتِه ثاءً ماضٍ فى طريقه كالبلدوزر يشرح الرياضيات للطلاب، الذين يتجاوب كثير منهم معه تجاوبا عظيما وأنا مخدر بدفء الكاكولا، مع شعورى فى ذات الوقت بالتنغيص جراء تخلفى عن زملائى أنا الولد الجاد النشيط، وكانت مسافة الخلف بينى وبين الزملاء تزداد اتساعا كل يوم، وأخذ اليأس يكشر لى عن أنيابه، فى الوقت الذى كنت متفوقا عليهم فى النحو والصرف والفرنسية.
ترى أين إبراهيم القديم البارع فى حل الحساب والهندسة؟ لقد كان العم أحمد نحلة، ، يسهر معى فى بيتهم بقريتنا قبل الامتحان، وكان ابنه محمود (الأستاذ الآن بآداب الإسكندرية فى علوم اللغة) زميلا لى بالمعهد الدينى قبل أن يترك الأزهر ويلتحق بالمدارس مثلى، وإن كان قد حول أوراقه إلى إحدى مدارس الثغر لوجود عمه هناك حيث يملك عدة لوكاندات فى وسط المدينة. فكان الأستاذ أحمد نحلة يفتح معى الكتاب ونقوم معا بحل المسائل الصعبة بينما يكون محمود قد تركنا وذهب ينام. وكنت قريب عهد بالكتاب حيث لم نكن ندرس الكسور الاعتيادية والعشرية والمسائل الصعبة التى شرعنا ندرسها فى الأزهر، فكان العم أحمد يستحثنى على حل ما يصعب من المسائل، وأنا مرهق من السهر والحر، إذ كان الصيف على الأبواب، فأهرش رأسى فيهتف فى ظرف قائلا: أيوه! هيه! ها هو ذا الغراب يوشك أن ينقر نقرته؟ إذ كان يصور لحظة الإلهام عندى بنقر الغراب لرأسى. فكنت أضحك، وفى نفس الوقت كان الغراب من جهته يضع فى عينه حصاة ملح وينقر، وأتوصل أنا عندئذ لحل المسألة. ولا يبقى أمام الولد الذى ينقر رأسَه الغرابُ سوى أن يعود إلى جدته لينام، إلى أن يصبح الصباح، فنقوم أنا وحنف وبعض الزملاء الآخرين وننطلق، بعدما نكون قد صلينا الصبح، إلى الزراعية فى اتجاه بسيون وفى أيدينا الكتب نستذكر ما فيها حتى نصل إلى عزبة حسام الدين وكوم الغابة فنرجع، وقد نتريث قليلا عند سور الجسر المؤدى إلى عزبة قارون على المصرف ونحن ماضون فى الاستذكار أو الثرثرة، ثم نعود أدراجنا إلى القرية، وتكون الشمس قد ملأت الآفاق.
وكان من الممكن جدا أن تنزلق قدمى فى الإعدادية الأزهرية فأرسب رغم تفوقى وحصولى على الجائزة الأولى دائما فى الاختبارات التى كان يعقدها لنا بعض المشايخ قبل ذلك، إلا أن الله ستر وسلَّم، فحين أتت إجازة آخر العام، وكانت شهرين كاملين قبل خوض غمرات الامتحان، ولم أكن قد استذكرت مادة "الرياضيات" بحسابها وهندستها وجبرها، صارحت أحد زملائى بالكرب الذى أنا فيه، فما كان منه إلا أن أجابنى برجولة وشهامة وحب أَنْ: لا تبتئس يا إبراهيم ولا تحزن.
- ولكن كيف يا أبا السِّيد؟
- سوف أعطيك كتابا خارجيا للرياضيات هدية، وما عليك إلا أن تمشى معه خطوة خطوة، وسوف تجد كل شىء سهلا، ولن تقابل صعوبة على الإطلاق. ولم أكذِّب خبرا، فمررت عليه بقرية قحافة القريبة من طنطا، فأيقظته من نومة القيلولة، فأعطانى الكتاب، وأخذته ومضيت إلى قريتى أستعد للامتحان. وكنت، طوال العام، قد أهملت بعض المقررات الأخرى كالجغرافيا والتاريخ والعلوم والفقه والتوحيد، وإن لم تكن مصيبتى فيها فى فداحة مصيبتى فى الرياضيات. وكان علىَّ أن أبدأ استذكار معظم المواد من البداية. فكنت كمن يجرى من عدو يطارده ويوشك أن يلحقه ويقضى عليه. ولهذا كان الاستذكار قلقا. أما الرياضيات فما أصدق ما قاله لى زميلى! لقد كنت أقطعها كما تقطع السكين قطعة الزبد الطرية، ولم تقف أمامى أية مسألة. وعلاوة على هذا كان هناك خمسة دروس كاملة فى مقرر اللغة الفرنسية التى كنا ندرسها فى الأزهر لأول مرة لم يشرحها الأستاذ لنا، فكان علىَّ أن أستذكرها بكلماتها وتعبيراتها الجديدة وقواعدها معتمدا على نفسى وحدها دون أية مساعدة من أحد. ورغم أن المواد الأخرى كانت مشوشة فى ذهنى للسبب المشار إليه فقد جاء ترتيبى الثالث على الجمهورية على الطلاب المبصرين فى امتحان الشهادة الإعدادية الأزهرية سنة 1964م. الحمد لله.
وقد ترك هذا الزميل النبيل الأزهرَ كما تركته أنا أيضا، وأغلب الظن أنه التحق بمدرسة التجارة الثانوية. وقد أتى علىَّ وقت فى نهاية تسعينات القرن الماضى حاولت فيه بكل ما أستطيع أن أعثر على ذلك الزميل الشهم، ومررت ببعض القرى القريبة من طنطا وبسيون أزور الأسر التى تحمل ذات اللقب: "زيادة" لعلى أضع يدى على أول الخيط الذى يمكن أن يقودنى إلى ذلك الرجل العجيب الذى قيضه الله لى ليمدنى بالحل السعيد، فأرد له بعضا من الجميل العظيم الذى يطوق به عنقى وقلبى وضميرى. لكن للأسف ضاع كل مجهودى فى محاولة التوصل إليه هدرا. جازاه الله عن هذا الموقف الكريم خير الجزاء، فإنه يحب الشهامة والنبل، وقد كان هذا الزميل بالغ النبل والشهامة. بارك الله فيه وفى ذريته ووفقه فى كل أموره.

مشاجرة ومشاغبة
نسيت فى غمرة كلامى السابق أن أذكر أننى، فى السنة الثانية من تعليمى بالمعهد الدينى الأحمدى، كنت أستذكر مع طلاب قريتى فى مسجد السيد البدوى عصرا، وأراجع مادَّتَىِ امتحان اليوم التالى. ولست أستطيع أن أتذكر الآن لماذا قامت خناقة بينى وبين زميل لى عرفت فيما بعد أباه وأمه وإخوته، وكنت أذهب معه كثيرا إلى بيتهم حيث تعاملنى والدته، ، معاملة حنونا. ولا أستطيع أن أتذكر السبب فى خناقة ذلك اليوم، إلا أننا على كل حال قد تشابكنا فى المسجد وبركت فوقه أيام، وكنت فى تلك الأيام أستطيع الخناقة إلى حد ما، وضربنى من غيظه بالقبقاب الخشبى فشعرت بجمجمتى ترن، ولكن دون ألم ودون أن تترك الضربة أثرا فى دماغى. ولما لم يستطع أن ينتقم منى أخذ نفسه وخرج من المسجد، وأنا لا أدرى ماذا انتوى. لكنى بعد قليل سمعت زملائى يُهِيبُون بى أن أهرب لأنه أحضر عمه من سوق العَدَّاسة القريب من السيد البدوى حيث كان لهم دكان لبيع العلافة هناك، وهم صعايدة، فخَشِيتُ أن يقتلنى عمه بِشُومَةٍ أو سكين، فأخذت ذيلى فى أسنانى، وانطلقت لا ألوى على شىء فى شوارع طنطا حتى قطعت مسافة كبيرة من شاعر الحلو (أو شارع سعيد الموازى له: لا أذكر بالضبط) وأمسيت بعيدا عن الأنظار بحيث لا يستطيع الجن والعفاريت أن يعرفوا أين أنا. وأظن أننى، فى غمرة رعبى من عم زميلى، قد خرجت من المسجد حافيا، إذ لم يكن هناك وقت للبحث عن الحذاء (أو ربما الشبشب).

قلق الصبي المُعان
ولكم أن تتصوروا مشاعر صبى يتيم غريب لا أحد يسأل عنه فى طنطا ولا فى غير طنطا يجرى فى شوارعها لا يشعر به ولا يلتفت إليه أو يرأف بحاله سوى الله فى عليائه، ولديه امتحان فى اليوم التالى، وهو محروم من فرصة مراجعة ما سوف يُمْتَحَن فيه بعد ساعات. ومضى بعض الوقت، وهو جالس فى ذلك المكان البعيد قلقا مستوحشا لا يؤنسه سوى تطلعه إلى النسوة اللاتى يفدن إلى حنفية الماء العمومية التى هناك ويتبادلن الأحاديث أثناء ملء صفائحهن، إلى أنْ نَسَخَ الوقت بعضا من فزعى السابق، وحل محله قلق شديد على مصيرى إذا لم أسارع إلى استذكار الكتابين اللذين سوف أُمْتَحَن فيهما صبيحة اليوم التالى، فعدت إلى المسجد أحوم حوله إلى أن استطعت التواصل من أحد بابيه الغربيين مع بعض أبناء قريتى، فأحضروا لى، وأنا واقف أرقب المكان جيدا وأمسحه بعينىَّ القلقتين خارج المسجد، كتابىَّ وشبشبى (أو ربما حذائى) فأخذت أغراضى وانطلقت إلى مسجد سيدى مرزوق قريبا مِنَ الغرفة التى كنت أسكنها مع بعض طلبة القرية فى آخر درب سيدى مرزوق من جهة الصاغة، وشرعت أراجع المادتين المذكورتين محموما وكأن عفريتا يلهبنى بالسوط، كل مادة مرتين، حتى اطمأننت ورضيت عن المراجعة، ثم عدت بعد أن أغلق المسجد أبوابه إلى المسكن وأنا أحمد الله أنْ لم يَضِعْ علىَّ اليومُ دون مراجعة، مما كان يمكن أن يؤدى إلى رسوبى أو على أقل تقدير: إلى حصولى على درجة متدنية فى الماديتن. فالحمد لله!

زوجة تعين زوجها في الوفاء
ولتسمحوا لى هنا بشىء من الاستطراد، عيبى الفظيع، لأقول إن علاقتى بزميلى هذا وأسرته نشأت وتوثقت وظلت قائمة إلى ما بعد عودتى من بريطانيا فى ثمانينات القرن الماضى بزمن طويل. وكانت زوجتى تأتى معى لزيارة والدته بعدما مات أبو زميلى، الذى تزوج على أمه أرملة عمه بإيعاز منه هو، وكذلك بعد أن أصيبت أم زميلى بالشلل جراء ما حاق بها من الابتلاءات المتلاحقة، ومنها موت ابنتها الصغرى، الفتاة الرقيقة الحيية المهذبة التى أتمت وحدها التعليم العالى دون سائر إخوتها، فكانت زوجتى تأتى معى لنزورها وتجلس بجوارها على السرير وتلاطفها وتقدم لها الهدايا وتقبّلها وتضحك معها وتربت عليها شاعرة أن هذا واجب لا بد لها من تأديته نظير ما أفاضته هذه السيدة علىَّ فى صباى من حنان كأنها والدتى. بل لقد كانت هذه السيدة تذكِّرنى دائما من خلال طباعها بوالدتى، لأنها كانت هادئة وقمحية مثلها، وربما كانت ملامحها قريبة من ملامح الوالدة أيضا. وكانت زوجتى تقوم بهذا الواجب عن طيب خاطر مطلق، إذ كانت تحب ما أحبه ومَنْ أحبه، وبخاصة من كانوا يعاملوننى معاملة طيبة فى صباى وشبابى، وظللنا نزور السيدة النبيلة الكريمة إلى أن توفاها الله، طيب الله ثراها، وكتبها من سعداء الآخرة.
أما بالنسبة لوفاة أخت زميلى الشابة الرقيقة التى كنت أعدها بمثابة أخت صغرى لى فأذكر أننى، حين عدت من بريطانيا إثر حصولى على الدكتورية، ذهبت إلى بيت ذلك الزميل أجدد العهد به وبوالدته وسائر أفراد أسرته، فقابلتنى الأم بذات الترحيب القديم، وأخذنا نتبادل الحديث، وكان وراءها صورة كبيرة لتلك الابنة الصغرى، فسألتها عنها وأين هى الآن وهل تزوجت أو لا، فأجابتنى بنبرة غريبة أنها فعلا قد صارت عروسا، فمضيت أسأل: ومن زوجها؟ فقالت ما معناه أنه القبر. وهنا أحسست كأن إرزبة قد نزلت على يافوخى، وانخرطت فى بكاء عصبى لم أستطع له مقاومة. وبدلا من أن أواسيها أنا أخذت هى تواسينى، وكأننى أنا المصاب لا هى. ومع ذلك فقد أشفقت على السيدة الكريمة أن يصيبها سوء، وهو ما وقع سريعا، إذ رأيتها فى إحدى زوراتى التالية وقد شَلَّتْ وصارت ملازمة لسريرها لا تَرِيمُه، ثم ماتت . وقد استمرت صلتى بأبنائها، وبخاصة ابنتها الكبرى وزوجها وأولادها، وكانوا يسكنون بالطابق الثانى فى نفس المنزل الذى انتقلوا إليه من بيتهم الأول فى العداسة. وكثيرا ما قضيت عندهم الليل، فأقوم أصلى الفجر لأجد زوجها الشيخ محمد قد أحضر الخبز الفينو الطازج واللبن والجبن والمربَّى وغير ذلك من ألوان الطعام والمشروبات لنفطر أنا وهو. الحق أن مثل هذه الذكريات هى التى تجعلنى، كلما ضقت بسلوك كثير من الناس الآن، أعود فأقول إن الحياة رغم ذلك مليئة بعباد الله الذين حباهم المولى بالنبل والكرم والرحمة والذوق الجميل.

دين ضخم في رقبتي لأم زميلي
إن فى رقبتى، بل فى كيانى كله، لَدَيْنًا ضخمًا لا يمكن قضاؤه لأم زميلى هذا ولأم صديقى المرحوم أحمد الزاهد (طنط أنوار)، التى كانت تفتح على الدوام بيتها لأصدقاء أبنائها كلهم آكلين شاربين، وبالنسبة لى: نائمين أيضا، كل ذلك فى أريحية وابتسام وصفاء قلب ونبل عجيب. ومهما فعلت فلن أستطيع أن أوفى هذه السيدة العظيمة النادرة المثال بالكلام حقها، وهى الوحيدة التى لم أَرُدَّ شعرة واحدة من جميلها الهائل كالجبال. وإنى لا أكف أبدا عن الدعاء لها والحديث إلى زوجتى عن بِرّها وكرمها وإنسانيتها ورحابة قلبها وطول أناتها حتى إننى لا أستطيع أن أتذكر أنها تجهمت يوما فى وجوهنا، وبالذات فى وجهى أنا. وأحيانا ما أروح فى الدعاء لها عقب صلواتى مبتهلا إلى الله سبحانه أن يبلغها فى الدار الآخرة (فى الجنة بمشيئته تعالى) دعواتى لها ورغبتى فى أن يُبَوِّئها سبحانه الفردوس الأعلى. وكلى أمل أن يستجيب الله لى فيوصل لها ابتهالاتى وإخلاصى وأسفى على أَنْ لم تُتَحْ لى الفرصة لرد بعض جميلها لظروف خارجة إلى حد ما عن إرادتى ولما استجدَّ لدىَّ من الخجل بعدما تزوج صديقى المرحوم أحمد فى الشقة التى كنت أتردد عليهم فيها وتغيرت أوضاع الأسرة من ثم تغيرا جذريا. ومن المرات القليلة التى حاولت أن أعبر لها عن شكرى لصنيعها العظيم بعد أن عدت من بريطانيا أننى اصطحبت ذات مساء واحدا من طلبة القرية الجامعيين، ووقفتُ قرب المنزل الذى تسكنه أسرة صديقى، وكلفت ذلك الشاب أن يصعد إلى الشقة المذكورة ويسأل عن طنط أنوار: فإن كانت موجودة اشتريت لها هدية عيد الأم، الذى كانت مصر تحتفل به فى ذلك الوقت. ولم أكن رأيتها منذ سنوات طويلة. إلا أن الشاب المذكور عاد وأخبرنى أنها ليست هناك، بل تقيم لدى أختها حسبما ذكروا له. اللهم أكرم نزلها وأَطِبْ مثواها وأَحِلَّها دار المُقَامَة فى أعلى عليين.
وفى مناسبة أخرى منذ ستة عشر عاما اتصلت بهاتف صديقى أحمد للمرة الأولى فى حياتى بعد أن عرفت الرقم فى سياق غريب، فسألت عنه الفتاة التى ردت على الهاتف، وكانت ابنته، ولم تكن تعرفنى إلا من بعيد من خلال كلام الأسرة عنى، فردت: البقية فى حياتك يا عمو. لقد توفى والدى منذ سنتين. فحوقلت واسترجعت وأنا لا أصدق نفسى. ثم أعطتنى رقم عمها الأصغر، وكان أيام ترددى على بيتهم حتى تخرجى من الجامعة صبيا ظريفا ضحوكا لطيف المعشر، إلا أنه رغم ذكائه لم يكمل تعليمه وترك مدرسة القديس لويس واشتغل فى مشروع تجارى، فاتصلتُ به، وكان يسكن فى الشقة الأصلية على حين تسكن أسرة أخيه المتوفَّى فى شقة جديدة بالبيت المقابل. وتحدثنا لبعض الوقت فبدا من نبرات صوته أنه متحفظ، ثم مررت عليه فى مكان عمله لأعزيه، فألفيته ما فتئ متحفظا رغم كل محاولاتى استعادة الصديق الصغير الظريف الذى كانه أيام الصفاء. وفى النهاية استأذنت وغادرت. ومضت الأيام، وسافرت مرة أخرى خارج البلاد للمرة الثالثة. وفى أثناء كل هذا الوقت كنت أفكر فى كيفية كسر حاجز الثلج المرتفع بيننا، إلى أن كنت منذ شهور مع أستاذ جامعى مُصْهِر إلى فرع آخر من أسرتهم، وهو فى نفس الوقت صديقى وصديقهم، فجاءت السيرة، فإذا به ينهى إلىَّ أن أخا صديقى أحمد هذا قد مات. ثم ها هو ذا نفس الأستاذ الصديق يزيد فينبئنى منذ أيام أن أختهم قد توفيت هى أيضا. وهكذا أُغْلِق الطريق نهائيا.

الطبيعة ورفقة في استذكار الدروس
وفى الصِّبَا كنت أستذكر دروسى، حين أكون بالقرية، فى الحقول وعلى شطوط الأنهار غالبا أثناء النهار، وكانت الطبيعة حنونا علينا تَهَبُ قلوبنا كثيرا من السكينة والبهجة فتعوضنا عن الجهامة والقتامة التى عليها بيوت القرية وشوارعها. وأشعر أن انطلاقى بين أحضان الطبيعة وشعورى بالفناء فيها حين أجوس خلال الحقول وعلى ضفاف الجداول قد عصمنى من التشوه النفسى. لقد كنت أحس بالطبيعة من حولى وكأنها أم رءوم. وكم قرأت بين أحضانها كتب النحو والصرف والبلاغة التى كنت أستعيرها فى إجازة الصيف من من أبناء قريتى الأزهريين وأعكف عليها بين مجاليها الفاتنة أصارعها وتصارعنى كما هو الحال مثلا حين عكفت فى الصيف الذى سبق التحاقى بالمدرسة الأحمدية الثانوية على كتاب "شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" وحدى دون مشرف أو موجه بعدما أعدت قراءة كتاب "قطر الندى" لابن هشام هو وكتاب الصرف، وكنا قد درسناهما فى الأزهر. وكان كتاب ابن عقيل مطبوعا على ورق جرائد كابٍ، وخاليا تماما من علامات الترقيم والتشكيل. ومع هذا لم أَنْكِل عن أداء المهمة الصعبة، وهو ما نفعنى بعد ذلك بثلاثة أعوام حين التحقت بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة حيث درسنا ذلك الكتاب ذاته، فلم أجد أية مشكلة أو غرابة مثلا فى حفظ الصيغ الخاصة بجموع التكسير التى تزيد على الثلاثين.
وكنت فى البداية أتصور أن هذه الصيغ مبنية على أساس لا يخر منه الماء ومطردة اطرادا لا يعرف الخلل، إلى أن كنت فى أوكسفورد بعد ذلك بأعوام طوال وجاءت سيرة تلك الجموع فى مناقشة بينى وبين د.مصطفى بدوى الأستاذ المشرف علىَّ، وهو متخصص فى الأدب الإنجليزى ولغته، فكان من رأيه أنها مجرد صيغ تقريبية. وأنا الآن أرى أن الأمر يقع فى منزلة بين المنزلتين. ومعروف أنه إذا كان هناك، كما هو الحال فى معظم الحالات، أكثر من صيغة جمع تكسيرى للمفردة الواحد فإن الذوق يتقدم لينهض بدوره عندئذ قابلا فى بعض الأحيان استعمال أية صيغة من تلك الصيغ المتعددة بالتساوى أو بالتفاضل، بينما فى بعض الأحيان الأخرى لا يشيع استعمال إحدى الصيغ رغم صحتها. أى أن على الذوق والاستعمال معوَّلا كبيرا، وليست القاعدة صاحبة الكلمة الحاسمة دائما.
وكنا، خلال موسم الاستعداد للامتحان فى تلك الأيام، نخفف التوتر الذى كان يَؤُودُنا بلعب الكرة الشراب فى مباريات تجرى عصر كل يوم فى فناء الوحدة المجمعة التى تقع فى نهاية القرية على الطريق الزراعى إلى بسيون. وكان اللعب ممتعا غاية الإمتاع، ولم نكن نضع فى حسباننا أن من الممكن انكسار رِجْل أى لاعب من اللاعبين. ومن ستر الله علينا أن أيا منا لم ينكسر فى تلك المباريات، وإلا لكان معنى هذا عدم دخوله الامتحان وضياع السنة عليه.

إمتحان الإعدادية
وفى أول ليلة لى فى طنطا استعدادا لامتحان الشهادة الإعدادية بدا لى أن أدخل دار الخيالة، وكان الفلمان أجنبيين كما هو الحال معى فى الغالب، إذ كنت أوثر مشاهدة الأفلام الأجنبية، وأظن أن السينما التى دخلتُها كانت سينما أوبرا الصيفية التى تقع فى نهاية شارع البحر من جهة الخان. ولكن ما إن اندمجت مع الفلم حتى ركبتنى الوساوس والمخاوف من الامتحان، إذ ثارت المعلومات كلها فجأة فى ذهنى واختلط الحابل منها بالنابل، وبدا لى مخى وكأن ليس فيه شىء يُعْتَدّ به أو يُعْتَمَد عليه، فامتلأتُ هَمًّا ورعبًا أفسد علىَّ المشاهدة، وخرجتُ فى منتصف العرض وأنا أكاد أختنق تحت ضغط الفزع والارتباك. وحاولتُ ليلتها أن أراجع المواد كلها، وهو بطبيعة الحال أمر مستحيل، ولم ينقذنى من الغم إلا النوم طبيب كل الأمراض المستعصية.
وكنت قد مررت قبلها بأيام قليلة، وأنا فى القرية، بتجربة مشابهة، إذ قابلت بين المغرب والعشاء عند الجامع الكبير قريبا من دكان الشيخ يوسف نصر، الذى كان نوره يضىء المكان، زميلا لى كان راسبا فى الإعدادية فهو يعيدها معنا، وأخذنا فى الحديث عن الامتحان، فأخذ يَكُرّ علىَّ ما حفظه من كتاب الصرف كَرًّا، بينما أقف أنا أمامه ذاهلا لا أكاد أذكر مما استذكرته من هذه المادة شيئا رغم أنى كنت أفهم كل دروسها، وهو ما انتهى بشعورى بالفزع والهم. والغريب أن زميلى هذا رسب فى تلك السنة أيضا وترك التعليم واشتغل بعد ذلك فى الشرطة. وإنى لأشعر الآن بالحنين إليه رغم أننا لم نكن صديقين ولا متفقى المشارب، إلا أن حنينى إلى الماضى الجميل هو سِرّ هذا الشوق الجارف إلى رؤيته. كما كان يتمتع بخفة ظل، وكانت فيه تأتأة بسيطة محببة سماه أصدقاؤه بسببها: "تُهْتُه". وهذا إن كان لا يزال حيا، فقد ترك القرية منذ ذلك الحين إلى الإسكندرية، ومات أبوه، وبيع بيتهم فيما أذكر، ولم أعد أسمع عنه خبرا. وهكذا الحياة!
وقد قابلته مرة فى الإسكندرية أيام الجامعة، ثم لم أره بعد ذلك. وقد غضب فى ذلك اللقاء بناء على سوء فهم لكلمة قلتها، وحاولت بكل طاقتى أن أوضح له مقصدى منها، وكانت بعيدة عن أى سوء فهم، إلا أن فى النفس البشرية زوايا وخبايا لا يستطيع حتى صاحبها أن يتنبه لها أو يوقف تأثيرها عليه رغم عدم منطقيتها. كما كتبت قصة قصيرة فى أواسط سبعينات القرن المنصرم جعلته أحد أبطالها، وسميته باسمه الحقيقى ككل شخصياتها، وكانوا جميعا زملاء لى فى تلك الحقبة، وعنوانها: "بَلَنْطة". وهى تصور فعل الزمن بنا نحن البشر وما ينزله بأجسامنا وأرواحنا من تَحَيُّفٍ وتحويرٍ. وقد نُشِرَتْ فى منتصف سبعينات القرن الفائت بأحد أعداد مجلة "الثقافة"، التى كان يرأس تحريرها د. عبد العزيز الدسوقى. ترى هل ما فَتِئَ زميلى ذاك حيا؟ وإن كان فكيف يعيش؟ عِلْم ذلك عند الله!
وكنت فى ذلك الوقت، وقت امتحان الشهادة الإعدادية، قد اتفقتُ مع ذلك الزميل وآخرين على شاكلته أن نسكن معا أيام الامتحان، إلا أن طالبا من نفس شارعنا أكبر منى كان ذاهبا فى نفس التوقيت لتأدية امتحان الثانوية الأزهرية حذرنى مما كنت أنتويه وأغرانى بالسكنى معه قائلا إن زملائى هؤلاء يمكن أن يتركونى نائما ويذهبوا للامتحان دون إيقاظى فيفسدوا علىَّ مستقبلى. وقد انتهى الأمر بأن ذهبت معه وقضينا أيام الامتحان فى الحجرة التى كان يؤجرها من سيدة طيبة فى شقتها بشارع عبد الحليم. واطلعت على جانب من شخصيته لم أكن أعرف عنه شيئا من قبل، ألا وهو الفكاهة التى تجعلك تضحك حتى تدمع عيناك وهو يقلد الأطفال الصغار فى أحاديثهم الظريفة أو يعترض طريق أية امرأة كبيرة تقابله متبالها عليها كأنه طفل صغير يتهته فى سذاجة. أرجو أن يعذرنى القراء إذا سمعوا الآن قهقهاتى وأنا أروى تلك الحكايات العجيبة.
ومن الذكريات الطريفة الآن، المخيفة فى إبّانها رغم ذلك، أننى خرجت من امتحان الإنشاء، الذى كان مادة مستقلة قائمة برأسها فى الأزهر، وكانت ثمرةُ القراءة قد بدأت تظهر فىَّ وتؤتى أُكُلَها، فكتبت مائة وخمسة وثلاثين سطرا فى ورقة الإجابة، وخرجت من الامتحان أباهى بذلك من يسألنى عما صنعته فى الامتحان، فما كان من أحد طلاب قريتنا ممن يكبروننى بسنة أو اثنتين إلا أن صفعنى بأننى سوف أرسب فى تلك المادة.
- لماذا يا مصطفى، فأل الله ولا فألك؟
- لأن الأساتذة لا تسمح بأكثر من خمسة عشر سطرا فى موضوع الإنشاء.
- إذن يا خراب بيتك يا خِلُّ!
وقضيت وقت انتظار الدخول إلى المادة التالية أمام بوابة المعهد الدينى فى الشارع فى هم عصيب. إلا أن الله، برحمته ذلك الولد المسكين الذى هو أنا، سرعان ما مسح على قلبى الغض الصغير فأنسانى الأمر برُمَّته، فكأنى لم أسمع شيئا ولم يقل لى ابن قريتى شيئا، إلى أن ظهرت نتيجة الامتحان على النحو الذى رويتُ.

تطوري في ميدان الكتابة..بداية
ولكى يعرف القراء مدى التطور الذى لحقنى فى ميدان الكتابة أقول له إننى فى العام السابق على ذلك العام لم أستطع باللتيا والتى أن أكتب فى موضوع الإنشاء أكثر من ثلاثة عشر سطرا بالتمام والكمال. وكان عن المستشفيات فيما أذكر الآن، وكنت سعيدا حين استطعت أن أضمن موضوعى عبارة "أمشى فى مناكبها"، أى مناكب المستشفى. ولا أظننى قلت شيئا له قيمة فى تلك المرة. أما الآن فكنت قد بدأت القراءة بشكل موسع وجاد، وفى فرحة بل نشوة، وكانت المائة والثلاثون والنيف من السطور التى كتبتها فى موضوع الإنشاء هى الثمرة الطيبة لتلك القراءة. وقد هدتنى التجارب الطويلة فى دنيا التعليم إلى أن ضعف الطلاب المزرى الآن سببه أن عقولهم فاضية ليس فيها علم لأنهم لا يقرأون، ومن ثم يعجزون عن التعبير عن أى شىء.
وقد ذكرنى بالنشوة التى كنت أحسها وأنا أدلف إلى عالم الكتاب والقراءة ما سمعته من طالبة لى منذ سنتين حين أتتنى فى المكتب ووصفت لى فرحتها وتحمسها وهى تتعرف إلى ذلك العالم بعد أن كانت لا تقرأ ولا تفكر فى الإمساك بكتاب غير الكتاب المقرر. لقد كانت عيناها تلمعان وهى تحدثنى عن شعورها بالبهجة عند القراءة، التى لم يكن إقبالها عليها إلا تخلصا من كثرة حديثى إليها هى وسائر زملائها وزميلاتها عن وجوب القراءة كى يصبحوا آدميين وكثرة نخسى لهم من أجل هذه الغاية، ثم سرعان ما شَغِفَتْ بها وصارت من مدمنيها، ولم تكن تدرك أو تصدق أن الكتاب يحوى كل هذا القدر من أسباب السعادة والانتشاء.
وفى العام الحالى وجدت، وأنا أصحح أوراق الإجابة فى قسم اللغة العربية، طالبا يقول: "قوايل" و"سجوع"، يقصد "أقاويل" و"أسجاع"، ومعظم الطلاب والمعلقين فى الصحف الألكترونية يقولون: "حسالة" بدلا من "حثالة". وكثير من طلابنا يقولون: "عادتًا" و"فجأتًا"، أو إذا لم يعجبك التوت فارض بشرابه وخذ "عادتَنْ" و"فجأتَنْ"، ومن الصعب جدا عليهم أن يكوّنوا جملة مقبولة. وعلى ذلك فَقِسْ. إن العقل البشرى يشبه الحصالة التى تضع فيها ما يتجمع لديك من مال. فإن وضعت فيها شيئا فلسوف تجده عند الحاجة إليه. أما إن تركتها فاضية كما يترك الطلاب والطالبات أمخاخهم خاوية على عروشها فلسوف تجد نفسك عاجزا حائرا بائرا لأنه ليس لديك ما يمكن أن تستخرجه من باطنك لتعرضه على الناس.
أذكر الآن أنه، بعد عودتى من العمل بجامعة قطر منذ ثمانى سنوات، قام طالب فى اللقاء الذى يعقده القسم فى آخر كل فصل دراسى حيث يجتمع الأساتذة ببعض ممثلى الطلاب لإلقاء نظرة على الفصل الفائت وتقويمه، فشكا من أنه مضى عليه لا أدرى كم من الأعوام فى القسم وهو عاجز عن الحصول على الليسانس. وطبعا كان يقصد أن الأساتذة هم المسؤولون عن هذا بتصعيبهم وتحبيكهم الأمور دون داع. وأشار إلى مادة الترجمة التى كنت أدرّسها لهم ثم انخرط فى الموال المعتاد الذى يتلخص فى أننا طلاب بقسم اللغة العربية، فما الداعى لدراسة الإنجليزية أو الترجمة منها؟ فقلت له ضاحكا: دعنا من الإنجليزية، وأخرج ورقة وقلما واكتب لنا بضعة سطور تحكى لنا فيها ما فعلتَه منذ قيامك من النوم إلى أن حضرت هنا. وأعقبت هذا بقولى إنه لا يوجد ما هو أسهل من هذا الطلب بتاتا. فأخذ يلف ويدور محاولا تشتيت انتباهى حتى أنسى ما طلبته منه. إلا أننى أصررت على طلبى، وزدت فوعدته خمسة جنيهات إن فعل. وعبثا حاول التهرب، إلا أنه فى النهاية لم يجد مناصا من تقديم الورقة المطلوبة لأفاجأ بأنها حديث قدسى لم يستطع "بسلامته" أن يكتب فيه كلمة واحدة سليمة لا إملاءً ولا نحوا. ومع ذلك فقد أعطيته الجنيهات الخمسة وأنا أضحك. أما لماذا ضحكت فلكيلا أنفجر من الغيظ.
وبالمناسبة فلا أزال أذكر بعض الكلمات الجديدة التى دخلت معجمى فى ذلك الوقت البعيد حين كنت طالبا فى الإعدادية الأزهرية: فمنها عبارة "بِيَدِه المجرَّدة" فى قول نيقولاى جوجول فى "أمسيات قرب قرية ديكانكا" إن البطل صعد فى السماء وأمسك بالقمر "بيده المجردة". ولا تسل عن فرحتى الطاغية عندما قابلت هذه العبارة وفهمت من السياق أن جوجول يقصد أن الرجل كانت يداه عاريتين. ومن تلك الكلمات كلمة "مِنْسَأة" فى سورة "سَبَأ"، إذ أخبرنى طالب أزهرى كان يكبرنى ببضع سنين بأن معناها "العصا". وكنا واقفين عند النقطة القديمة أمام نادى الشباب، وكان الوقت بُعَيْد العصر فيما أذكر الآن، وكنا فى إجازة الصيف التى عقبت حصولى على الإعدادية الأزهرية. وكنت سعيدا أَنْ عرفتُ كلمة جديدة أضفتها إلى معجمى الذى شرع يتكون تكونا منظما ومتسارعا فى ذلك الحين بفعل القراءة المتحمسة.

أسلوب المنفلوطي الفخم
وفى تلك الفترة أيضا تعرفت إلى بعض الكلمات الجديدة فى أسلوب المنفلوطى الفخم الجميل، وكان الناشر يشرحها فى الهامش، ومنها كلمة "تمرمر"، أى "اهتزَّ (من الغضب)" حسبما أذكر الآن. ومن هذا الوادى أيضا معرفتى أن كلمة "سنوات" يمكن أن يقال فيها: "سنهات"، و"سنون وسنين" كأنها جمع مذكر سالم، وكذلك "سنينٌ، وسنينٍ، وسنينًا" كأنها كلمة مفردة مثل كلمة "حين" مثلا. وأذكر أنه، قد كُلِب منى فى إجازة الصيف التالية لامتحان الشهادة الإعدادية، أن أكتب موضوع إنشاء تصادف أن جاءت فيه كلمة "سنوات"، فغيرتها إلى "سنهات" إدلالا بمعرفتى هذه الصيغة الغريبة. طبعا، وإلا فكيف يعرف الناس أننى "أبو العُرِّيف"؟ أما قبل ذلك بثلاث سنوات فكنت أنطق كلمة "الوثنية" بتسكين الثاء. لقد كنت قادما لتوى من القرية بعُجَرِى وبُجَرِى، أوكما نقول فى قريتى: بعَبَلِى، لم أدرس شيئا سوى أننى حفظت القرآن، وأعرف الإملاء والقواعد الأربعة فى الحساب: الجمع والطرح والضرب والقسمة، وللأعداد الصحيحة فقط، وكان الله يحب المحسنين. وكانت تلك أول مرة تقابلنى تلك الكلمة، بل ذلك المفهوم كله. وأخذ منى الأمر وقتا قبل أن ينبهنى أحدهم إلى أنها بفتح الثاء لا بسكونها.

كتب العربية والأزهر
ولا ريب أننا قد تعلمنا الكثير من كتب الأزهر ومن الروح الجادة التى كانت تسوده فى ذلك الوقت حتى إنه لم يكن مسموحا مثلا أن يفتح أى منا فمه أثناء الامتحانات. ويكفى أننى تعلمت فى النحو "شرح الآجُرُّوميّة" و"شرح الأزهرية" وكتاب "قَطْر النَّدَى وبَلُّ الصَّدَى" لابن هشام، وكتابا فى الصرف من تأليف بعض مشايخ الأزهر المعاصرين. كما حفظنا كثيرا من الشواهد الشعرية القديمة مع شرح ما فيها من ألفاظ صعبة، علاوة على معرفة الظروف التى قيلت فيها تلك الشواهد. وهذه ثروة لا تقدر بثمن وضعنا أيدينا عليها غنيمة باردة. ومنذ ذلك الحين وأنا أعتمد فى معرفة النحو والصرف على هذه الكتب إلى حد بعيد، ومنذ حصولى على الإعدادية أجدنى أكتب فلا أكاد أخطئ فى الإعراب، وكل ذلك بسبب ما درسناه فى الأزهر من كتب. إلا أننى أخذت بعض الوقت حتى استطعت أن أنقل معرفتى ببعض الأمور فى الصرف من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، ومنها ضبط آخر "تَرَيْنَ" و"سَعَوْا" و"يتمنَّوْن" وأمثالها من الأفعال، إذ كنت أكسر الراء فى الفعل الأول، وأضم العين فى الثانى.

الحرص على القراءة مشهد مثير
لكن ذلك لم يستغرق وقتا طويلا، ولا أظنه قد امتد لما بعد الإجازة الصيفية التى تلت حصولى على الشهادة الإعدادية الأزهرية. أضف إلى ذلك ما كنت أقرؤه قبل ذلك من روايات عن أرسين لوبين وروكامبول وطرزان من الكتب التى كان بعض زملائى يحضرونها معهم ويقرأونها فى الحصص التى لا يغيب أساتذتها لسبب أو لآخر، فكنت أنظر فى الرواية التى كان زميلى بجوارى يقرؤها، وأطلب منه ألا ينتقل إلى الصفحة التالية إلا بعد أن أنتهى أنا أيضا من قراءة الصفحة، مثلما كان علىَّ أن أنتظره حتى ينتهى هو بدوره من قراءة الصفحة التى أكون قد فرغت منها، وأنا على أحر من الجمر أريد أن أعرف ما الذى حدث لطرزان أو روكامبول بعد هذا. كذلك أحضر لى أخى الأكبر، وكان يشتغل فى الإسكندرية، مجموعة كبيرة من الروايات الأرسينلوبينية التى اشتراها وقرأها.

بداية القراءات بجميع أصناف كتابها
ثم ابتدأت أتنبه إلى كتب الكبار كالمنفلوطى والعقاد وأحمد أمين وطه حسين ومحمود تيمور ومحمود شلتوت وبنت الشاطئ وسهير القلماوى وحسين عفيف وغيرهم، فضلا عن الروايات المترجمة من روائع الآداب العالمية، ومنها "مرتفعات وذرنج"، التى قرأتها حتى الآن عدة مرات: ملخصة وكاملة، فى ترجماتها المختلفة إلى لغة الضاد وفى أصلها الإنجليزى. وكنت دائما أذرف الدموع وأنا أطالعها معايشا بقوةٍ أبطالَها العجيبين. وأذكر أن هذه الرواية كانت مدخلى إلى عالم النقد الأدبى دون أن أعرف أن ما أمارسه آنذاك هو نقد أدبى. أذكر أننى استلقيت على ظهرى ظهر يوم فى الإجازة الصيفية على الحصيرة فى المقعد الذى يفتح بابه إلى الناحية البحرية على سطح بيت خالى الذى تربيت فيه بعد وفاة و الدى إلى جانب بيتنا، الذى لا يبعد عنه سوى بضعة بيوت، وذلك بعد الانتهاء من قراءتها لأول مرة من ترجمة موجزة فى سلسلة "روايات الهلال"، وأخذت أتساءل عن السبب الذى جعل هذه الرواية تقتحم كيانى بهذا العنف المزلزل الذى لم أخبره من قبل. وشرعت أستعرض فى عقلى الأسباب التى أتصور أنها هى السبب فى ذلك. وكلما تذكرت تلك الظهرية وتلك الاستلقاءة على الحصير فى قيلولة صيف 1964م أضحك فى نفسى وأقول: لقد صرتَ والله يا أبا خليل ناقدا أدبيا منذ صغرك وأنت لا تدرى. وكنت أشعر بنشوة علوية وأنا أدلف إلى هذا العالم الجديد، وأصاحب أولئك الكبار.
ومن الكتب التى قرأتها فى المرحلة الإعدادية "الحسين بن على" و"هذه الشجرة" للعقاد، و"هارون الرشيد" لأحمد أمين، و"سلوى فى مهب الريح" والجزء الأول من "الأيام" لطه حسين وبعض المسرحيات لمحمود تيمور، وجميع مترجمات المنفلوطى، و"فى سبيل الحرية" لكل من عبد الرحمن فهمى وعبد الرحيم عجاج وعدد كبير من "روايات عالمية" و"روايات الهلال" وطائفة من روايات تاريخ الإسلام و"علم الفراسة الحديث" لجورجى زيدان، وبعض الروايات الأجنبية المترجمة ترجمة كاملة كـ"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى و"أمسيات قرب قرية ديكانكا" لنيقولاى جوجول، و"الشقيقتان" لأليكسى تولستوى و"كل شىء هادئ فى الميدان الغربى" لإريك ماريا ريمارك، و"هى أو عائشة" لريدر هجارد مثلا.

سيد قطب والأشواك وناصر
كما لا يمكننى أن أنسى رواية "أشواك" لواحد اسمه سيد قطب حاولت وقتها أن أعرف شيئا عنه لكنى لم أستطع. ذلك أنى كنت أريد أن أعرف من ذلك المؤلف الشاب (كما كنت أتصور، فى ذلك الوقت، الكاتب) الذى أبدع هذه القصة الرائعة وضَمَّخها بهذا الأسلوب العطر وقال فى كلمة الإهداء هذين السطرين البديعين: "إلى التى سـارت معى فى الأشواك، فدَمِيتُ ودَمِيَتْ، وشَقِيتُ وشَقِيََت، ثمّ سـارت فى طريق وسرتُ فى طريق: جريحين بعد المعركة، لا نفسها إلى قرار، ولا نفسى إلى استقرار"، بيد أنى للأسف لم أصل إلى شىء لأباغت بعد ذلك بسنتين وقليل باسمه يدوى كالطبول الحزينة التى تعلن أنباء الموت حين أعلنت الحكومة الناصرية سنة 1965م القبض على سيد قطب وكثير من الإخوان المسلمين بتهمة الإعداد لقلب نظام الحكم. ولم أصدق شيئا من تلك التهم، وتعاطفت مع المقبوض عليهم مستغربا أن يكره ناصر وحكومته ناسا يدعون إلى الله كما كنت أقول فى ذلك الحين. وقلت ذلك يومها فى الشارع أمام عند بيت خالى، الذى كنت أعيش فيه، فحذرنى الشيخ عدس زيد التاجر الملاصق لبيت خالى أن أكرر هذا الكلام حتى لا "أذهب وراء الشمس"، بيد أننى أظهرت لامبالاتى، مطمئنا طبعا إلى أن عيون الحكومة لن تقع علىَّ فى تلك القرية البعيدة عن العاصمة وعن عيون رجال المباحث ومن إليهم.
وزاد استغرابى لتصرف عبد الناصر تجاه سيد قطب بالذات حين عرفت بعد ذلك أنه كان يقوم بدور الأستاذ أو المرشد لضباط يوليه، وأنهم كانوا كثيرا ما يذهبون لبيته فى حلوان اعترافا منهم بأستاذيته. لكنى لم أجد فى هذا غرابة بعدما قرأت أيضا مذكرات أحمد حسين، الذى هام على وجهه فى الأرض بعد قيام الثورة ببعض الوقت خوفا من عبد الناصر رغم ما كان يدين به ناصر ورفاقه له قُبَيْلَئِذٍ، وبعدما عرفت ما عامل به الرئيسَ النبيلَ محمد نجيب وأولاده من قسوة مجرمة غبية غير إنسانية، ولم يرق قلبه طوال ستة عشر عاما قط متناسيا ما قام به الرجل الكريم الشهم من تضحية وما استفاده هو وزملاؤه الضباط من اسمه المحترم وسمعته الناصعة ومنصبه الرفيع فى الجيش لترسيخ قواعد الثورة اليوليوية. وعودة إلى رواية سيد قطب أحب أن أنهى هذه الفقرة بالإشارة إلى أننى قد كتبت فى السنوات الأخيرة فصلا من عشرات الصفحات عن "أشواك"، التى فتنتنى فى مراهقتى ولا تزال تفتننى فى شيخوختى، فوضعت دراسة عنها تعبر عن إعجابى بها إزاء هذه الموجة العارمة من الروايات التافهة البائسة التى يضعها أرباع المؤلفين ويمطروننا بها فى السنوات الأخيرة، وأنتصف لها ممن يقللون من شأنها، بينما أراها واحدة من الروايات الجميلة التى تستولى على النفس والعقل استيلاء مدهشا.
صحيح أننى عدت فى أول العام الدراسى 1965- 1966م فكتبت موضوعا إنشائيا عن المكاسب الاشتراكية أغلب الظن أنه قد قُرِّر بإيعاز ممن يريدون التقرب إلى عبد الناصر، هاجمت الإخوان فيه تأثرا بالجو السائد بعدما زالت فورة إحساسى بظلمهم فى البداية. لكنى، بعد انتقالى إلى الجامعة، استقر موقفى تقريبا على التنديد بعبد الناصر، اللهم إلا لفترة جد قصيرة عقيب هزيمة 67 المذلة، وإن كان تحمسى للإخوان قد خف بعد ذلك، فأصبحت أراهم بشرا من البشر: فيهم المخلصون المستعدون لبذل النفس والنفيس من أجل الإسلام، وفيهم الذين يركبون الموجة ويتظاهرون بأنهم خَدَمٌ للدين، وهم إنما يخدمون أنفسهم ومصالحهم ويريدون تصدر الصفوف والمجالس، ومنهم الأذكياء والأغبياء، ومنهم رقيقو المشاعر والغليظو الأكباد، ومنهم أصحاب الأفق الواسع والضيقو العطن، ومنهم الثقال الظل والخفيفو الروح الذين يهبّون على النفس كنسمة صيف بليلة، ومنهم المتعمقون فى الفهم والسطحيون الذين كل همهم المظاهر والشكليات، ومنهم المقتنعون المقنعون وأصحاب الشعارات التى لا تقدم ولا تؤخر ولا تقتل ذبابة، ومنهم من يُشَغِّل ذهنه ومن يسلم أذنه لزعيمه ملغيا عقله رافعا حسه بالعبارات الطنانة الخالية من الحرارة والإيمان.
وهناك كتاب وضعه د. أحمد الشرباصى عن الفترة التى قضاها فى المعتقل مع الإخوان المسلمين فى عام 1949م بعنوان "مذكرات واعظ أسير"، وسجل فيه تصرفاتهم وأفكارهم ومشاعرهم وعواطفهم وأخلاقهم، فظهروا ناسا من الناس فيهم وفيهم كما شرحت آنفا. وعلى كل حال فالعبرة بالفعل لا بالكلام، وعلى هذا فليس المهم أن يدبج أحد لنا الشعارات، فليس أسهل من تدبيجها على أى إنسان، بل المهم هو التنفيذ والقدرة على الإنجاز. وقد وصل الإخوان مؤخرا إلى الحكم، وكنت من الذين انتخبوهم فى مجلس النواب وفى الرئاسة، ويبقى أن نرى ماذا سيصنعون فى الحكم، وهل سيكونون كغيرهم ممن سبقوهم فلم ينجزوا تغييرا ولا إصلاحا أم هل سيثبتون أنهم رجال صلاب ذوو عزيمة ونية خالصة نقية، وأنهم عند كلمتهم. فلننتظر لنرى، وإن كان يغلب على ظن الكثيرين ممن سمعتُ أو قرأتُ انتقادهم للإخوان أن همهم فى المقام الأول هو نصرة الجماعة حتى إنهم لا يهتمون بوضع أيديهم إلا فى أيدى من يعمل لصالحهم لا الذى يعمل لصالح الإسلام، مع إقرار أولئك المنتقدين بأن الإخوان قد عُذِّبوا واضطُهِدوا طويلا منذ ما قبل حركة يوليه 1952م "دون أن يَفُتّ ذلك فى عضدهم" كما يقال. ومع هذا فكثيرون جدا ممن لا ينتمون إلى جماعة الإخوان، بما فيهم من ينتقدونهم ويأخذون عليهم بعض مواقفهم وتصرفاتهم، يكرهون لهم الهزيمة فى الصراع الدائر الآن فى حلبة السياسة المصرية بينهم وبين ما يسمى بـ"جبهة الإنقاذ"، فهم رغم ذلك، حسب قولهم ، يرتبطون على الأقل بالإسلام بخلاف من يمدون أيديهم إلى الكنيسة، التى يرون من شواهد كثيرة أنها تخطط للقضاء على دين الله فى مصر بشبهة أن مصر هى فى الأصل نصرانية، وأن المسلمين قد أَتَوْا من خارج الحدود وغير ذلك من الأوهام الزائفة التى لا تستند إلى حقائق التاريخ، إذ إن النصرانية قد أتت هى أيضا من وراء الحدود، كما أن المسلمين فى مصر هم مصريون أصلاء بل أكثر أصالة من غيرهم، مصريون كانوا وثنيين أو يهودا أو نصارى ثم انخلعوا من دينهم القديم واعتنقوا دين الله عن اقتناع وبصيرة وحب، وهو الانخلاع الذى لا يزال يجرى على قدم وساق أمام أعيننا من رفقاء الوطن، بل من الأوربيين والأمريكان فى بلاد الغرب ذاتها، دون أية شائبة من إكراه أو تضليل....
 
حضرتك كتبت كتابا حللت فيه فكر الأستاذ سيد قطب وأراءه ، فكيف كانت معرفتك به منذ البداية، وموقفك من خصومه التاريخيين،خصوصا أنك عايشت وأنت شاب ،تلك الفترة الحالكة من حياة الرجل، وهل كان له او لغيره تأثير ما على دخولكم عالم الكتابة والتأليف،أو عالم الأدب والنقد، والدفاع عن الإسلام وحضارته وقيمه؟ ومن كنت تقلد في البداية، في مجال الكتابة، سواء أكان ذلك في كتابة مقال، أو في محاولة الكتابة عموما ؟ وهل للتشجيع دور في عملية تنبيه خيال أو ايقاظ موهبة الطفل الذكي او الشاب النبيه؟ هل لنا أن نسمع منكم ماهو دال من سيرتكم على تأثير ذلك على شخصكم الكريم؟ ولاشك ان هناك من كان له أعظم تأثير على تكوينكم العلمي و الأدبي من الأدباء والعلماء، في المدرسة او الجامعة ؟
 
أما بالنسبة إلى سيد قطب فما فَتِئْتُ حتى الآن أرى فى استمساكه بموقفه تجاه عبد الناصر ضربا من الرجولة لا يُبَارَى رغم أننى لم أَعُدْ أُرَافِئُه على كل ما كتبه فى أمور الدين والسياسة. وهذا واضح من الفصل الذى خصصته لتفسيره المعروف: "فى ظلال القرآن" فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسات فى مناهج التفسير ومذاهبه"، حيث حللت طريقته وآراءه فى ذلك الكتاب وأثنيت على كثير جدا مما جاء فيه مع هذا. وكنا فى الجامعة نحرص على تتبع كتب سيد قطب، التى أذكر مثلا أننا كنا نقرأ منها كتاب "معالم فى الطريق" فى السنة الأولى بالجامعة فى الحافلات العامة ذاتها، لكن بعد تجليدنا إياه بفرخ ورق كيلا يعرف حتى من يجلس أو يقف بجوارنا فى الأوتوبيس أننا نقرأ سيد قطب. وكان من عاداتى الإدمانية فى الجامعة القراءة فى الحافلات العامة مهما كانت مزدحمة حتى إننى ذات مرة، وكنت محشورا فى أحدها كأنى سردينة فى علبة، قد رفعت كتابا كنت أقرؤه إلى مستوى عينى فاستقر دون انتباه منى فوق قفا الراكب الذى يقف لصقى بفعل الزحام الشديد، فما كان منه إلا أن صاح مستنكرا: هل حُبِكَتْ القراءة إلى الدرجة التى تستذكر فيها على قفاى؟ ولا أدرى الآن أضحكتُ وقتذاك من عبثية الموقف أم اعتذرتُ للرجل أم جادلتُه كعادتنا نحن المصريين حين لا نريد أن نعترف بأخطائنا. المهم أن الأمر، بطبيعة الحال، قد عَدَّى على خير، وإلا ما كنت معكم الآن أسطر هذا الكلام السخيف، فتحملونى من فضلكم!
وظلت هذه العادة ترافقنى بعد ذلك عقودا حتى خَفَّت الآن بعدما صرت أوثر القراءة الكاتوبية على الكتاب الورقى، وأصبح بمستطاعى أن أركب الحافلة لمدة ساعة دون أن أشعر بالضجر لعدم القراءة، إذ أضحيت أنظر إلى ذلك على أنه فرصة لراحة العقل، الذى لم يعد يهدأ من التفكير، فأهتبلها فرصة لـ"تكبير مخى" حسب التعبير المصرى المشهور الذى يورد الواحد موارد الهلاك والخراب! وكنت فى لندن أركب الحافة أُمّ دورين من شرق لندن حتى وسط المدينة، وهى رحلة تستغرق نحو ساعة كنت أقضيها فى قراءة الكتب فى الطابق العلوى فى متعة ما بعدها متعة، مع التغيير بين الحين والحين بالنظر إلى الشوارع والمحلات وحركة الناس على الأرصفة، ويا لها من متعة أخرى! فأين من عينىَّ هاتيك المجالى؟ وكنا أنا وزوجتى حين يغلبنا الحنين هناك إلى مصر نغنى، ونحن نضحك وندفع كرسى ولدينا فى الشوارع، افتتاحية هذه القصيدة الرائعة لعلى محمود طه مع تحوير كلمة "المجالى" إلى "المجارى" إشارة إلى طفح المجارى الذى نعانى منه كثيرا فى مصر، ولا تعرفه بريطانيا أبدا.
وبدأتُ، فى أواخر المرحلة الإعدادية الأزهرية، أجرب قلمى فى الكتابة مقلدا العقاد فى أسلوبه وموضوعاته وآرائه. ومن العجيب أننى، على رغم حداثة معرفتى بالعقاد، قد شعرت بعد ذلك بسنة حين صرت طالبا فى السنة الأولى الثانوية بحزن شديد على موته مع أنه حين مات لم أشعر بذلك الحزن الشديد، بل كنت فخورا وسعيدا أننى حصلت على كتابين يترجمان له فقرأتهما وأنا فى غاية الابتهاج. لقد أحسست، وأنا طالب فى الأحمدية الثانوية، أننى قد صرت يتيما مرة أخرى، ولا أدرى لماذا. وأتصور أننى كنت واعيا على نحو ما بالدور الذى قام به العقاد فى حياة العرب والمسلمين، وبخاصة دفاعه عن الإسلام، فقد شعرت أن الإسلام قد فقد نصيره الجبار، وإن لم يكن تدينى فى ذلك الوقت بالتدين القوى كما أصبح عليه الحال بعد ذلك بسنة ونصف كما سيأتى بيانه. وكنت، وأنا فى الإعدادية، أردد فى سذاجة مخلصة أننى أريد الالتحاق بالكلية التى تخرّج الأدباء. أقصد كلية الآداب. ذلك أنى كنت أتصور أن الإبداع الأدبى لون من ألوان التخصص المختلفة، وأن هناك كلية تتكفل بإنتاج الأدباء هى كلية الآداب، خالطا بين التخصص فى دراسة الأدب وبين الإبداع الأدبى ذاته. ومن هنا كنت أتطلع فى شوق ولهفة إلى الالتحاق بها عندما يؤون الأوان وأحصل على الثانوية العامة. ونتيجة لـ"سذاجتى المخلصة" لم أصر أديبا ولا حتى صلحت لدراسة الأدب كما يرى القارئ بنفسه. وفى الصيف الذى تلا حصولى على الإعدادية قرأت كتاب العقاد: "أنا" وكتاب د. شوقى ضيف عنه: "مع العقاد". وقد سألت فى ذلك الحين طالبا أزهريا من قريتى أكبر منى عن الأستاذ الدكتور فأخبرنى أنه أستاذ بآداب الإسكندرية. ترى كيف عرف ذلك الطالب أن د. شوقى ضيف أستاذ بكلية الآداب، وإن أخطأ فقال: "جامعة الإسكندرية" بدل "جامعة القاهرة"؟ لا أدرى، ومن قال: "لا أدرى" فقد أفتى.
ولم أكن أعرف أننى بعد خمس سنوات سوف أدرس فى كلية الآداب على يد الأستاذ الدكتور حينما عاد من إعارته إلى الأردن وأنا فى السنة الثالثة بالكلية، وتكون بينى وبينه لقاءات فى بيته بشارع المقياس بحى الروضة حيث نظل نتحدث بين العصر والمغرب، وربما إلى العشاء أيضا. وقد أكون أثقلت على الرجل رحمه الله فى بعض هذه الزيارات، ولكنى كنت كمن وجد مرفأ آمنا أستكن فيه فأجد شيئا من الدفء فى القاهرة التى كنت أشعر بالغربة فيها مثلما كنت أشعر بها فى طنطا فى بداءة أمرى هناك. وكان الرجل يأتى لى فى كل مرة أزوره بفنجان قهوة وقطعة من الشيكولاته. وأحيانا كان يهدى لى كتابا من كتبه كـ"العصر العباسى الثانى" و"البطولة فى الشعر العربى"، فيكتب فى الإهداء: "إلى الصديق السيد فلان". نور الله قبره وكتبه من أصحاب الفردوس الأعلى.
وهأنذا أعود الآن إلى ذكريات الصبا، فأجدها تهيج بى، وتضغط على قلبى فى عذوبة مؤلمة. والحق أننى لم أتصور أننى سوف أتألم وأنا أكتب مستعيدا هذه الذكريات التى كم قاسينا فيها ومنها، ولكنها كانت تشتمل، رغم كل شىء، على ألوان من المتعة والسعادة. وهذا من رحمة الله بعباده، إذ لوكانت السعادة متوقفة على الغنى أو الصحة أو المنصب أو الحسب لكان معظم البشر تعساء. لكن الله سبحانه يضمّن أبسط الأشياء صورا من المتعة والرضا لا يكاد يصدقها العقل. وما زلت حتى الآن أذكر حكاية قرأتها ضمن مقرر اللغة الفرنسية فى الجامعة تتلخص فى أن طفلا لأحد الأثرياء كان يلعب فى حديقة قصر أبيه بلعبة آلية، لكنه كان يحس بالملل من الحبسة التى هو فيها داخل الحديقة فى حين كان هناك ولدٌ حافٍ بَذّ الهيئة رَثّ الأسمال يقف على الجانب الآخر من السور وفى يده فأر ميت يلعب به. وهنا تلبست الولد الغنى رغبة حارقة فى أن يحوز هذا الفأر، الذى بدا له أكثر حيوية وطرافة من لعبته الآلية التى ضاق بها من كثرة ما يملك من أمثالها، وتطلعًا إلى التغيير، فعرض على الولد المتشرد تبادل اللعبتين. تصوروا؟
وكان أولاد الفلاحين الذين يذهبون إلى وسيّة العمدة فى قريتى رحمه الله يحكون أمامى أيام الطفولة أنه قد يتصادف أن يكون ابن أخت العمدة الوسيم الأنيق المترف معهم فى الحقل مرتديا ملابس الفروسية وممتطيا حصانه، ويأتى موعد الغداء، فيصله أفخم الطعام فى سلة نظيفة مغطاة، بيد أنه كان يتنازل لهم عنه ويأكل من طعامهم الجَشِب، تغييرا للأوضاع ودفعا للسأم من كثرة ما طعم من هذه الألوان الفخمة من الأكل. وكانت سعادتى تتلخص فى ذلك الوقت فى لعب كرة القدم، التى كنت بارعا متميزا فيها، وفى مطالعة الكتب والالتحاق بنادى الكبار، هؤلاء الذين وهبنى الاقتراب منهم قدرا كبيرا من الاعتزاز بالنفس. ألست أصاحب أولئك العظام وأظل فى رفقتهم لأى وقت أريد دون أن يتدخل أحد بينى وبينهم أو يزعجنى أى شىء عنهم؟ فماذا أرغب أكثر من ذلك؟ ليس هذا فقط، بل لقد كنت أتطلع إلى أن أكون واحدا منهم. فكان فى هذا وذاك قدر هائل من الرضا بالحياة وعنها رغم ما كنا نقاسيه من فقر ويتم وغربة وضآلة. يا ألله! الحمد لك وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام.
لقد بدأت الصورة تتضح لى فأعرف على الأقل، ولو على نحو غامض وساذج، ماذا كنت أريد أن أكون، وذلك على العكس مما كان عليه الحال وأنا أدرس فى المدرسة الابتدائية بالقرية، وهى المدرسة التى أخرجنى أبى من الكتاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم وألحقنى بها إعدادا لى كى التحق بالمدارس بينما كان ينوى أن يدخل أخى الأكبر المعهد الدينى فى طنطا، إلا أن موته المأساوى المباغت قد أفسد كل شىء وأخذَنا جميعا فى اتجاه لم يكن يدور لنا فى بال ولا يخطر لنا على خيال. ذلك أننى أذكر أن المدرسين والمدرسات فى المدرسة الابتدائية، التى تحولت إليها قُبَيْل، وظللت فيها بُعَيْد وفاة والدى إلى أن رجعت أدراجى إلى الكتاب وجميعة المحافظة على القرآن الكريم، كانوا كثيرا ما يسألوننا اثناء الحصة لسبب أو لآخر عما نتطلع إلى أن نكونه عندما نكبر، فكان زميلى الذى يجلس بجوارى يعلن عن أمنيته أن يكون ضابطا، أما أنا فأرتبك وأخجل ولا أدرى ماذا ينبغى أن أقول، إذ لم يكن هناك شىء واضح فى ذهنى ولا كان لى تطلع أصلا لأى شىء، فقد مات والدى ولم أعد أعرف رأسى من رجلى، وكنت كلما حاولت أن أبصر شيئا فى المستقبل فوجئت بجدار مصمت يلفه الصمت والظلام الحالك يمنعنى من التقدم أو حتى التطلع. وقد انتهى زميلى ذاك إلى مدرسة الصنايع، ولم أعد أعرف أين هو الآن، وربما يكون قد مات ونسيتُ، رحمنا الله جميعا.
بل لقد اضطربت أمورى بعد وفاة الوالد إلى الحد الذى لم أعد أحفظ معه القرآن كما ينبغى حتى إنى لأذكر أصيل يوم ومغربيته قضيتهما فى غرفة نوم سيدنا الشيخ مرسى رضوان فى الطابق الثانى من بيته القريب من بيت خالى، جالسا معه على الحصير فى حضور خال أمى، وكان يسمِّع لى سورة "النساء"، فلم أستطع أن أحوز رضاه أنا الذى كان يتباهى بى ويشير إلىَّ بفخر بوصفى الولد الذى يحفظ ربعا كاملا فى اللوح الواحد فى بعض الأحيان، ويحفظ فى اليوم الواحد عدة ألواح، ويتخطى من كانوا يسبقونه بمسافة طويلة، ولذلك انتهى من حفظ القرآن فى وقتٍ جِدِّ مبكرٍ وغير اعتيادى. وكانت النتيجة فى ذلك اليوم أن عصا سيدنا الشيخ مرسى قد ألهبت جسدى إلهابا. وكنت أتوقع أن يتدخل خال أمى (ابن عم جدتى لأمى) فيشفع لى فلا أُضْرَب، لكنْ طَلَع نَقْبِى على شُونَة، إذ كانت الخيزرانة تنزل على جسمى فأبكى من النار التى تشعلها فيه، وخالى (كما كنا ننادى خال أمى) ولا هو هنا، مع أنه كان معروفا عنه طيبته ولطفه. وربما كان هو الذى ساقنى إلى سيدنا كى يمتحننى، فقد نسيت الآن الظروف التى أوقعت بى فى براثن سيدنا فى ذلك اليوم العصيب بعد أن انصرف الأولاد منذ وقت طويل إلى منازلهم.وكانت هذه أول وآخر مرة يسمِّع لى سيدنا فى هذا الوقت وبهذه الطريقة. ورغم ذلك فحينما عرض الشيخ عيد عطا على جدتى وخالى أن يأخذنى معه إلى طنطا لأتعلم فى المعهد الأحمدى عكفتُ على المصحف أحفظه، فاسترجعتُ ما كان قد تفلت منى فى وقت قياسى، ونجحتُ فى امتحان القبول دون مشاكل على الإطلاق، بل دون أن تخالجنى مشاعر الرهبة أو الخشية من الرسوب، فالحمد لله.
ومع هذا كانت كرة القدم وصيد الطيور، وبخاصة الهدهد ذو العرف الملون الجميل وأبو فصادة، الذى لا يكف عن ترعيش ذيله، وتطيير النموس وطيارات الورق ساعة العصارى على الزراعية تمدنا بزاد عظيم من البهجة. وكانت القرية على فقرها وقَشَف المعيشة فيها أمتع منها الآن، وكانت الحقول والبساتين تحيط بها قريبا من بيتنا بخلاف الوضع الحالىّ، إذ يجب علىَّ أن أمشى مسافة كبيرة داخل الشوارع والحارات الجديدة التى نشأتْ مع توسع العمران بالقرية قبل أن أجد نفسى فى النهاية وسط الحقول حيث أحب دائما أن أكون وأتنزه وأفنى فى الطبيعة وأنا أجوس وحدى بين الغيطان والأشجار والنخيل والجداول والطيور والمزروعات فى سكون وسكينة. ولم تعد فى قريتنا أية حدائق منذ وقت بعيد.
وما زلت حتى الآن أعشق التجول وسط الحقول بعيدا عن المساكن، ومتى ما زرت القرية، على قلة ما أزورها الآن على عكس ما كنت أفعل قديما، أنتهز أية فرصة لآخذ جولة بين الحقول حيث أرتدّ بسرعة فأصير ذلك الصبى القديم الذى يريد أن يذوب فى عناصر الطبيعة، وأتمنى على الله أن يبعثنى يوم القيامة فى مثل هذه الخضرة وبين هذه الأنهار، وأسمع أصوات هذه الطيور، وتشملنى هذه السكينة العجيبة. وبين الحين والحين أتطلع إلى السماء وأبتهل صمتا أو همسا إلى الله أن يرحمنى ويتجاوز عن عيوبى وأخطائى وتقصيرى.
مرة من هذه المرات منذ سنوات بعدما كبرت وصرت أستاذا جامعياكنت أجوس خلال الحقول على شط جدول قريب من القرية فيما وراء المقابر ورأيت هناك رجلا ريفيا طيب القلب دائما ما كنت أداعبه كلما مررت به، وكان مستلقيا تحت شجرة صفصاف، فقلت له بعد أن توقفت عنده وتحادثنا قليلا: يا عمّ سْدَحْمَد، هل يمكنك أن تصف لى الجنة كما تتصورها؟ فأخذ يشير بيده إلى الحقول والزراعات من حوله قائلا: ستكون مثل ما نراه حولنا الآن: برسيم وبصل وأشجار. وأخذ يعدد ألوان النباتات الموجودة فى الحقول آنذاك. فضحكت مسرورا بالإجابة وقلت فى نفسى: يمينا لتكونن أحسن البشر حظا لو كُتِبَ لك يا إبراهيم أن تنجو من العذاب فيبعثك الله يوم القيامة فى مثل ذلك المكان ببصله وبرسيمه وشجره ومائه وطيره وسكينته وهدوئه ونظافته وشمسه الحنون ونسيمه العليل. وهل أنت طائل؟ المهم ألا يُلْقَى بك فى النار. ثم مضيت وأنا أستعجب من الرد العبقرى الذى سمعته من الشيخ الطيب سائلا المولى أن يجعله من أهل الجنة.
والآن إذا ما نظرت إلى أبرز ما بقى فى ذهنى من أحداث تلك المرحلة، أى المرحلة الإعدادية الأزهرية، فإنى لا أزال أذكر كيف كنت أمشى فى طرقات القرية فى إجازة الصيف التى سبقت انتقالى إلى السنة الرابعة الإعدادية فى معهد طنطا الأحمدى وأنا أقرأ فى كتاب "الحسين أبو الشهداء" للعقاد. ولا أظننى كنت أفهم الكتاب الفهم المطلوب، لكن المهم أننى كنت حريصا على القراءة فى مثل هذا الكتاب، وكنت حريصا أيضا على ألا تفارقه عيناى حتى أثناء المشى. وكان ذلك فى الإجازة التى تفصل بين السنتين الثالثة والرابعة، إذ كانت المرحلة الإعدادية الأزهرية أوانذك أربع سنوات، بينما الثانوية خمس.
وكانت المرحلة الإعدادية الأزهرية تسمى قبل ذلك: "الابتدائية"، وظلت تحتفظ بهذه التسمية إلى أن انتقلنا إلى السنة الثالثة، فتغيرت تسميتها، ودخلتها اللغات الأجنبية فى نفس التوقيت، فكان من نصيبى دراسة اللغة الفرنسية. لم يخيرونا فى ذلك، بل فرضوه علينا فرضا، إذ جعلوا الفرنسية من نصيب الفصول الأربعة الأولى، والإنجليزية من نصيب الفصول الباقية. ولما كان اسمى "إبراهيم"، أى فى أول فصل، كان لزاما علىَّ أن أدرس الفرنسية. وقد كان. وفى البداية ألفيت الأمر عسيرا بعض الشىء، إذ دخل بنا الأستاذ على الجمل الكاملة مرة واحدة تقريبا بما فيها من أفعال متصرفة لا ندرى ما علاقتها بمصادرها، وبالذات صيغ الفعلين: "être" و"avoir" مثلا التى تبتعد فى التصريف عن مصدريها ابتعادا تاما فلا أستطيع الربط بين الأمرين بخلاف ما عليه الوضع فى العربية، فضلا عما لاحظته، فى كل كلمة تقريبا، من وجود حروف لا تنطق، فماذا أصنع فيها؟ صحيح أن الأستاذ قد علمنا بعض القواعد التى تحكم النطق فى الفرنسية، إلا أننا كنا فى البداية كالقطط المغمضة لم نتنبه الانتباه الكافى لما يقول.
بيد أن الله سبحانه وتعالى قد قيض لى أخا لأحد زملائى اسمه كمال الصروى، والعجيب أننى لست متأكدا من اسم زميلى نفسه، ولعله فتحى، وكان أبوهما شيخا أزهريا، وكانت أسرتهما تسكن قريبا من المعهد الدينى بجوار محطة السكة الحديد بطنطا، فأفهمنى أنه ينبغى أن أضع نقطة تحت كل حرف لا يُنْطَق، وشَرْطَة تحت كل حرفين متجاورين لا يُنْطَقان. كما كنت أضع فوق الحرف أو الحروف التى يختلف نطقها عن كتابتها النطق الفعلى لها. وبهذا انحلت أكبر عقدة فى تعلم اللغة الأجنبية حتى إننى كنت الأول فيها دائما، وحصلت فى كل سنة من السنتين اللتين قضيتهما بعد ذلك فى الأزهر على 39 درجة من40. ولا أستطيع فى هذا السياق أن أنسى فضل أخى زميلى كمال الصروى، بارك الله فيه. ترى أين هو الآن؟ وأين أخوه؟ لقد طوتهما عنى الحياة مثلما طوتنى عنه. وكان أستاذ المادة يشجعنى بقوة ويباهى بى، فأعطانى هذا، إلى جانب الثقة التى بثها فىَّ والدى رحمه الله، ثقة جديدة فى نفسى لدرجة أننى فى السنة الرابعة كنت قد أخذت مع زملائى إجازة امتحان آخر العام دون أن ندرس مع أستاذ الفرنسية، وهو أستاذ آخر غير هذا، خمسة دروس كاملة تمثل ثلث المقرر، فلم أجد أية صعوبة فى أن أستذكرها بنفسى دون أية مساعدة من أحد، وحصلت فى الامتحان على شبه الدرجة النهائية مثلما حصلت عليها فى امتحان التجربة الذى أخذناه فى منتصف العام، وكذلك الأمر فى النحو، وربما الصرف أيضا، على عكس الرياضيات، التى حصلت فيها فى هذا الامتحان التجريبى على درجة النجاح الدنيا من مجرد استذكارها سريعا بنفسى قبيل الامتحان، إذ كنت، كما أشرت من قبل، قد أهملتها إهمالا تاما كان من الممكن أن يتسبب فى رسوبى وانقطاعى من ثم عن التعليم فيما أظن. وكنت الطالب الوحيد من قريتى الذى اجتازها فى ذلك الامتحان.
لكن الله سلم، وأفلت العبد لله من الفشل برحمة منه تعالى وفضل، وبالثقة التى بثها فىَّ أبى وبعض أساتذتى، أما البعض الآخر فلا أظننى كنت أُوحِى لهم بأى ذكاء أو تميُّز، كأستاذ الجغرافيا مثلا وأستاذ التاريخ وأستاذ العلوم، وكذلك أستاذ الرياضيات، وكان اسمه عاطف، وكان أحمر الوجه أنمش ألثغ ينطق السين ثاء، وكان ماهرا فى مادته ومتحمسا تحمسا ناريا، بينما أكتفى أنا بالنوم فى حصته، فيتركنى فى حالى وأنا متلفف الرأس فى بطانة الكاكولا شبه الحريرية أستمتع بالدفء والنعاس اللذيذ، وإن ظللت فى ذات الوقت أشعر بتأنيب فى ضميرى جراء شعورى بتخلفى عن زملائى، الذين كنت أسمع من بعيد، وأنا نائم، أصواتهم يجاوبون أسئلة الأستاذ ويحلون معه المسائل بصوت عال متحمس بل ملتهب تكاد نبراته تحرقنى إحراقا، فأغوص فى النوم أكثر وأكثر بغية الابتعاد عن مشاعر الهم واليأس. أما حين كنت أستيقظ وأحاول تعطيل الحصة كما يفعل التلاميذ الكسالى فى مثل تلك الحالة فقد كان الأستاذ عاطف ينهرنى ويقول لى مقرعا: "اُثْكُتْ يا عَيِّل. أنت لن تفلح أبدا"، فـ"يثكت العَيِّل"، وقد ازداد إحساسه بالعجز والهوان. لكن الله الكريم قد سَلَّم مرة أخرى وأنقذ العَيِّل المهمل الكسلان من عدم الفلاح. الحمد لله! ترى ماذا كان يمكن أن أكون لو كنت قد تركت التعليم؟ إن أهلى تجار، ومن المؤكد أننى كنت سأكون تاجرا مثلهم. بيد أن الرعاية الإلهية كان لها كلام آخر. والطريف أننى لم أحنق على الأستاذ عاطف قط. لكن بالله عليكم أيها القراء لم ينبغى أن أحنق عليه، والخيبة كانت خيبتى أنا، وبُنِّيَّةً أيضا؟
وفى السنة النهائية لى بالأزهر كنت أحرر مجلة حائطية، وكنت أستعرض فيها مهاراتى الكتابية البدائية الساذجة ظانا أننى كاتب كبير نحرير. وأذكر مرة أن أستاذ مادة الفقه وقف أمام المجلة وهو يَشْرَئِبُّ حتى يمكنه قراءتها لأنه لم يكن طويلا بما فيه الكفاية، فأخذت أنظر إليه من جُنُبٍ وأنا سعيد لا تسعنى الدنيا من الفرح، لأفاجأ به ينادينى ويعاتبنى قائلا إنه سوف يبلغ الأستاذ صِدِّيق عوض (مدرس النحو، ولا علاقة بين لقبه ولقبى، فهو من قرية أخرى لا علاقة لها بقريتى، ولم تكن لى به أية معرفة سوى أنه كان يدرس لنا النحو والصرف) بأن إبراهيم عوض يرفع اسم "إن" المتأخر. الله أكبر! إذن فأنا لا أزال ولدا صغيرا يقف على الشاطئ ويظن نفسه مع ذلك سباحا كبيرا. ومن يومئذ وأنا أتنبه إلى تلك الغلطة ولا أقع فيها، وأضحك كلما وجدت أحدهم يرتكبها من الصحفيين والكتاب الذين أقرأ لهم، وكثير ما هم، إذ أتذكر عتاب الشيخ لى وما شعرت به ساعتئذ من خزى. أما الآن فلم يعد الطلاب يهتمون بشىء من هذا، بل إن كثيرا منهم حتى فى أقسام اللغة العربية لا يستطيعون كتابة أسمائهم كتابة صحيحة، ودعك من النحو والصرف. وقد قصصت على القراء كثيرا من طرائفهم فى ذلك المجال فى كتاب لى عن د. ثروت عكاشة فى الفصل الخاص بالميجر طومسون وما قاله عن مواطنيه الفرنسيين، وهى طرائف تبعث على الهم والنكد لتَدَهْدِى حال التعليم على هذا النحو البشع مثل أى شىء فى حياة العرب والمسلمين فى الفترة النَّحِسَة الحاليّة من تاريخهم، الذى لم يعد منذ وقت طويل بالمجيد.
ومع هذا فقد كان بعض زملائى يشجعوننى ويتحدثون عنى بوصفى أديبا، ومن ذلك أننى كنت أسكن فى إحدى حارات شارع الحلو بطنطا فى تلك السنة حيث يسكن الحجرة التى تقع فوق حجرتنا بعض الزملاء الأزاهرة من قرية أخرى، وكان أكبرهم شابا يسبقنى فى الدراسة بعام ويسمى: وحيدا، فكان كلما ضمنا مجلس مع بعض من لا يعرفنى من الزملاء أشاد بى ورفعنى إلى السماء، وكأننى أتيت بالذئب من ذيله. ولا ريب أن لوحيد وأمثاله ممن كانوا يتعطفون علىَّ بكلمات الثناء المعطرة دَيْنًا عظيمًا فى رقبتى. ترى أين هم الآن؟ لقد ابتلعتهم زحمة الحياة مثلما ابتلعتنى أنا أيضا، اللهم إلا إذا تصادف أن قرأ أحدهم هذه السطور فتذكر ذلك الصبى البائس الذى كانوا يحنّون عليه بعبارات التشجيع ذات التأثير الساحر. والحمد لله أن لم تفسدنى تلك العبارات ولم تخرجنى عن طورى.
وكنت فى ذلك الحين أحاول تقليد أسلوب كامل الشناوى فى عموده: "ساعات"، الذى كان يكتبه بجريدة "الأخبار" تارة، والعقاد تارة أخرى. أما فى حصص الإنشاء فكنت موفقا إلى حد معقول، لكن كان هناك شاب أكبر منى قليلا اسمه أحمد سنبل يشتغل أبوه مدرسا فى قريتهم: الرجدية على طريق طنطا- المحلة الكبرى، وكان يكتب موضوعات إنشائية قوية يضمنها العبارات المحفوظة بسلاسة عجيبة، وكان يقف بناء على طلب الأستاذ فيقرأ موضوعه قراءة جَهْوَرِيّةً تستولى على لبى رغم أنه كان منافسا لى، وأحسبه كان يحظى من الأستاذ بتقدير أكبر من تقديره لى. وكان معنا فى نفس الفصل تلميذ من قريته يدعى: أحمد مسلَّم، يتحمس له ويقلل من شأنى بالقياس إليه، فكنت أسلّم ضمنا بما يقول مع بعض الشعور الطبيعى بالغيظ، إذ لم تكن موضوعاتى سوى اجتهادات خالصة من قِبَلى لا أضمّنها شيئا من تلك العبارات المحفوظة فتبدو باهتة بعض الشىء. والعجيب أننى سألت بعد زمن طويل عن الزميل صاحب الموضوعات الإنشائية البارعة فقيل لى إنه اختصر الطريق ودخل مدرسة المعلمين فيما أظن، مكتفيا بشهادتها المتوسطة. غريبة!
أما كيف كنت أحصل على ما أريد قراءته من الكتب، فأقول لك، أيها القارئ، إننى كنت أقرأ ما يحضره زملائى معهم من كتب يخرجونها لمطالعتها فى الحصص الفاضية كما صورت ذلك فيما مضى من هذه الصفحات. كما كنت أشترى بعض ما أحتاجه من مكتبة صغيرة للكتب القديمة بشارع القاضى يملكها شاب اسمه مصطفى فافا (مع ملاحظة نطق الياء الأولى مثل حرف الـ"V" لماذا؟ لا أدرى؟ وما معناها؟ لا أدرى أيضا والله). فكنا نبدل الكتب التى قرأناها ونأخذ مكانها كتبا أخرى لقاء نصف قرش. وكان ذلك الشاب رقيقا معنا يعاملنا بلطف. ثم رأيته فى السنوات الأخيرة فى مكتبة بنفس الشارع بعد مكتبته الأولى بعدة دكاكين فى اتجاه الجنوب قريبا من ميدان الساعة ومحل عبد الفتاح مرزوق الحلوانى، لكنها مكتبة فخمة تحتوى على الكتب الجديدة المجلدة تجليدا فاخرا، وقد أطلق لحيته فى أناقة ولبس نظارة طبية ظريفة، ومعه زوجته المحجبة. باسم الله، ماشاء الله! وقد فكرت مرارا أن أحمل إليه بعض كتبى على سبيل الهدية اعترافا منى بجميله الكبير علىَّ وعلى أمثالى ممن كانوا يترددون على دكانته الصغيرة ويستبدلون بما قرأوه من كتب كتبا أخرى لم يقرأوها. وربما فعلتُها عما قريب. والغريب أن إمكاناتى المالية فى ذلك الحين كانت جِدَّ شحيحةٍ. لكن ماذا تقول فى الغرام بالقراءة والرغبة المجنونة فى أن أدخل الكلية التى تخرّج الأدباء كما كنت أعتقد فى سذاجة آنئذ؟ وهأنذا قد تخرجت من الكلية التى تخرج الأدباء، لكن دون أن أصير أديبا أو ناقدا أو أى شىء، ودون أن يحتفل المجتمع بنا، فنحن لا نقدم له طعاما ولا شرابا ولا ملابس، فلم بالله عليك ينبغى أن يهتم بنا أحد فى مجتمعاتنا العربية التى لم تعد منذ وقت طويل تفكر إلا فى الطعام والشراب والتناسل؟
لقد كان طعامنا جَشِبًا فى ذلك الوقت لا يكاد يخرج عن الفول والفلافل والجبن القريش الذى كانت جدتى ترسله لى يوم الجمعة فى السلالى مع عربة الأجرة التى كنا ننتظرها بفارغ الصبر، مع قطعة من اللحم وبعض البيض المسلوق والقُرَص والخبز الفلاحى ("العيش المرقرق" حسب تسمية أهل قريتى له، أو "العيش البَطّ"، بمعنى "المبطوط"، طبقا لما صار بعضهم على الأقل يطلق عليه)، ذلك الخبز الذى لم نكن مغرمين به آنذاك، والآن أشتريه "بشىءٍ وشُوَيَّات" بعدما اختنقنا من خبز الأفران السىء فى القاهرة. فكان السائق يسلم كلا منا السَّلاَّلى الخاص به ومعه بعض القروش، فنعود إلى المسكن ونحن متأبطون سلاليّاتنا، والخجل يسربلنا من منظرنا الغريب الذى ينم على أصلنا الريفى الكئيب. أقول ذلك لكى يعرف التلاميذ والطلاب فى هذا الجيل أن القراءة لا تتوقف على اليسر المادى، وإلا لكنا أبغض الناس لها ولكنا أجهل الجهلاء لما كنا نعانيه من فقرٍ ذَكَرٍ. لقد كنا نوفر بعض القروش الشحيحة التى كان أهلونا يرسلونها إلينا، لنشترى بها الكتب، تلك التى كانت تفتح لنا فى جدار حياتنا الصلب الغليظ القاسى نافذة نطل منها على عالم الفكر والأدب، فنشعر أننا بشر راقون رغم كل ألوان الفقر والبؤس التى كانت تسود حياتنا. ولم نكن نشكو قط جشوبة طعامنا ولا قلته. بل كنا نوفر من تلك القروش الزهيدة ما ندخل به السينما أيضا. يا ألله! ترى كيف استطعنا تحمل تلك الحياة؟ وكيف لم نسقط إعياء ويأسا وعجزا؟ ليس هناك من جواب سوى أنها العناية الكبرى! لقد شاءت، فكان ما شاءت.
وهنا سوف أخرج قليلا عن خط السياق لأقول إننى قد كتبت أولا فى الفقرة السابقة أننا "لم نكن نشكو جَشَبَ طعامنا"، ثم مضيت فى الكتابة لا ألوى على شىء. بيد أننى قد حاك فى نفسى شىء من صيغة المصدر هذه رغم أنها تجرى على القياس، إذ الفعل حسبما أعرف هو "جَشِبَ يجشَب"، وهو فعل لازم، ومن ثم يقتضى القياس أن يكون مصدره: "جَشَبٌ". لكنى بعد قليل عدت فتساءلت: ألا يمكن أن تكون تلك الصيغة غير موجودة فى المعجم؟ ومع أننى أرى وجوب الجرى مع القياس إلى حد بعيد بناء على أن الواحد منا، بالغة ما بلغت إحاطته باللغة، ليس كاتوبا يحتوى على كل شىء أو يتذكر كل شىء فى المعاجم، فقد آثرت هذه المرة الرجوع إلى القواميس، وهى قريبة منى لا تحوجنى إلى أكثر من ضغطة على فأرة الكتابة، إذ هى مشحونة فى الجهاز أمامى، لأفاجأ أن الصيغة هى "جُشُوبَة" (رغم أن صيغة "فعولة"، و"فَعَالَة" أيضا، هى المصدر القياسى من الأفعال التى على وزن "فَعُلَ يَفْعُلُ" لا التى على وزن "فَعِلَ يَفْعَلُ" كما هو الوضع مع الفعل الحالى)، وأن من الممكن أيضا أن نقول: "جَشَب الطعام يَجْشُب" (من باب "نَصَرَ"). فغيرتُها من "جَشَب" إلى "جشوبة" لا لشىء إلا لكى أسلم من الاتهام بالجهل. وكله إلا هذا الاتهام.
صحيح أنى كثيرا ما أقف أمام طلابى مقرا بجهلى الشديد، لكن إقرارك بعيبك شىء، ورضاك بسماع هذا العيب ذاته على لسان غيرك شىء آخر. وبالمناسبة فقد عرفت أن صفة الطعام فى تلك الحالة ليست "جَشِب" فحسب، بل هى أيضا "جَشْب" و"جَشِيب" و"مجشوب" و"مِجْشَاب". الله أكبر! والآن لماذا خرجت عن خط السياق واستطردت كل هذا الاستطراد؟ لقد فعلت ذلك لأبين للقارئ أننا كلنا أمام العلم صغار، فلا ينبغى أبدا أن نستنكف من الرجوع إلى الكتب والمعاجم أو استشارة الآخرين، لأن ما نعرفه بجانب ما نجهله هو نقطة فى محيط.
وبالمناسبة أيضا كنت قد استخدمت أمس فى حضور زميل لى أعمل معه فى أحد المشاريع الثقافية كلمة "توفَّرَ" بمعنى "تجمَّع وكَثُر"، فقال لى إن الصواب هو "تَوَافَرَ"، أما "تَوَفَّرَ على كذا" فمعناه اتجه بهمته إليه وانكب عليه. فأجبته أننى أتصور الاستعمالين صحيحين، لكنه أصر على ما يقول. وكان معنا "المعجم الوسيط" فوجدته يقول ما قاله الزميل الفاضل، وإن كان قد ذكر صيغة "وَفَّر" بمعنى"كَثَّر"، وهو ما يجعل استعمال "تَوَفَّر" بالمعنى الذى استخدمتها له صحيحا على سبيل المطاوعة قياسا. فسكتُّ لأن المعجم لا يفكر بطريقتى.
ثم لما عدت إلى البيت وجدت "تاج العروس" يقول: "والوافِرُ: البحرُ الرابع من بحور العَرُوضِ. وَزْنُه "مُفاعَلَتُنْ" ستّ مرّات. كذا! وفي اللسان: "مُفاعلتنْ مفاعلتن فعولنْ" مرَّتين، أو "مفاعلتن مفاعلتن" مرَّتين. سُمِّي هذا الشَّطرُ: "وافِرًا" لأن أجزاءَه مُوَفَّرة له وُفورَ أجزاءِ "الكامل"، غير أنه حُذِف من حروفه فلم يَكْمُل. والمَوْفور والمُوَفَّر منه،كمُعَظَّم: كلُّ جُزءٍ يجوز فيه الزِّحافُ فيَسْلم منه. قال ابنُ سِيدَه: هذا قول أبي إسحاق. قال: وقال مرَّةً: "المَوْفُور: ما جازَ أن يُخرَمَ فلم يُخرَم، وهو فعولن ومَفاعيلنْ ومفاعلتن"، وإن كان فيها زِحافٌ غير الخَرْمِ، فلم تَخْلُ من أن تكون موفورةً، قال: وإنّما سُمِّيت موفورةً لأنّ أَوْتَادَها تَوفَّرت. منَ المَجاز: تَوَفَّرَ عليه، إذا رَعَىَ حرماته وبَرَّه...". ومن هذا النص نرى أن هناك "توفر" بالمعنى الذى استعملتها له، وأن "توفر على" هو استخدام مجازى لا حقيقى.
ثم لم أكتف بهذا، بل بحثت فى كتب "الموسوعة الشعرية" الإماراتية وشعرها، فألفيت الإمام الشوكانى يستعملها بهذا المعنى ذاته فى بيت شعر له، فضلا عن بعض الشعراء المحدثين الآخرين، كما ألفيت عددا من كبار الكتاب فى العصور الأولى يصنعون صنيعى كالتوحيدى ولسان الدين بن الخطيب وياقوت الحموى وصلاح الدين الصفدى والحريرى وأبى هلال العسكرى وغيرهم ممن لا أذكر أسماءهم الآن. جاء فى "جمهرة الأمثال" للعسكرى مثلا فى شرح المثل القائل: "مات عريض البطان": "خرج من الدنيا سليما لم يثلم دينه. وقيل: معناه أنه خرج منها وماله متوفر كثير، ولم يُرْزَأ منه شيئا". وفى "خزانة الأدب" للبغدادى: "أنه لا يتصور في الفعل المرفوع أن يكون بدلاً من فعل مرفوع، وذلك لأن سبب الإعراب متوفر فيه مع قطع النظر عن التبعية، وهو تجرده عن الناصب والجازم، فرفعه لتجرده لا لكونه تابعا لغيره". ومع هذا كله فإنى لا أفكر فى مجادلة صديقى فيما قاله. لماذا؟ لا أدرى. وهل يعيبنى أن أكون أنا المخطئ؟ أبدا. أما هو فما قاله صحيح، إلا أن وجه الخلاف هو إنكاره صحة ما قلت، وهو ما أرى أنه صحيح أيضا.
وكنا أحيانا ما نذهب فى السنة الرابعة الإعدادية إلى مكتبة البلدية فى دارة جميلة (بمقياس ذوقنا فى ذلك الزمان طبعا) فى آخر شارع النحاس قبالة السجن العمومى، فنقرأ بعض ما يتيسر لنا من كتب مثل روايات المنفلوطى المترجمة، أو بالأحرى: التى يُظَنّ أنها مترجمة. وسمعت فى ذلك الحين بمصطفى صادق الرافعى ابن طنطا، وإن لم أذكر أننى قرأت له أوانذاك شيئا. كما سمعت من زميل لى بـ"الدكاترة" زكى مبارك، ولا أظن أننى قرأت له هو أيضا فى ذلك الحين شيئا مما كتب.
ومع هذا فتأبى الظروف إلا أن تتم قراءتى لأول كتاب أطالعه للدكتور زكى مبارك فى شارع النحاس هذا، إذ كنت قد انتهيت من امتحان الثانوية العامة، وكنت أنزل عند زميل لى هو المرحوم أحمد الزاهد قريبا من النهاية الأخرى من الشارع من جهة شارع البحر، وتحديدا عند تقاطع النحاس مع شارع الشيخة صباح، وكأنى واحد من الأسرة بسرير خاص بى بناء على إلحاح والدته السيدة الطيبة الكريمة النبيلة ذات القلب الكبير التى كانت تفتح بيتها لأصدقاء أولادها يأكلون ويشربون حتى لقد عددت أكواب الشاى التى قدمت لنا ذات مرة بعد انتهائنا من الغداء فألفيتها تزيد عن الخمسة عشر كوبا، طيب الله ثراها وأسكنها أعلى فراديس الجنة، ووقع فى يدى كتاب "العشاق الثلاثة"، فقرأته وأنا فى حال رومانسية عجيبة، وطرت إلى السماوات العلا مع صاحبه فى حديثه عن جميل بثينة وكُثَيّر عزة، وبالذات عن العباس بن الأحنف، الذى أعجبت به وبشعره إعجابا هائلا، وكذلك باسم صاحبته "فوز"، التى كانت ولا تزال فى حدود علمى هى الفتاة الوحيدة المسماة بهذا الاسم البديع. وقد كانت أيضا أول مرة أعرف أن المصدر من "فَتَنَ" يمكن أن يكون "فُتُون" حسب استعمال زكى مبارك، الذى كان يستكثر من استخدام تلك الصيغة بدلا من "فتنة"، وهو ما أخذته عنه وأكثرت منه استحسانا للصيغة الجديدة وحبا فى زكى مبارك رحمه الله. كما تنبهت فى ذلك الوقت إلى إكثاره أيضا من عبارة "وبعد"، "أما بعد"، "وبعد فأما بعد"، "وبعد فماذا أريد أن أقول؟"، وهو ما توقفت أمامه بعض الشىء عند دراستى له.
ومنذ ذلك اليوم دخل زكى مبارك عقلى وذوقى، ولم يخرج قط. بل لقد وضعت عنه كتابا كبيرا فى نحو ثلاثمائة صفحة وخمسين درست فيه أسلوبه، أسلوبه فقط دون أى شىء آخر. واهتبلت تلك الفرصة فدافعت عنه ما اتهمه به طه حسين من تهم سخيفة. وخرج الكتاب من قلبى كأنه طلقة الرصاص. ترى أكان يدور فى خيالى أثناء قراءتى أول كتاب من كتبه أننى سوف أكتب يوما عنه رحمه الله؟ والغريب أننى لم أؤلف أى كتاب عن العقاد رغم أن العقاد هو كاتبى الأثير، بل هو عندى عملاق الشعر والنقد والأدب والفكر الذى لا يمكن أن يضارعه مضارع، وإن كنت قد حللت له ثلاث قصائد كاملات فى كتابى: "فى الشعر العربى الحديث- تحليل وتذوق"، كما تحدثت فى فصلين كاملين عن منحاه النقدى فى كتابىَّ الآخرين: "نقد القصة فى مصر" و"مناهج النقد العربى الحديث"، فضلا عما كتبته عنه من فقرات هنا وهناك فى كتبى الأخرى.
أما المنفلوطى فقد دارت الأيام وعدت إلى روايته: "ماجدولين" منذ عدة أعوام، ووضعت عنها دراسة أقارن فيها بين الأصل الفرنسى والنسخة المنفلوطية بينت خلالها ما عثرت عليه فى صنيع المنفلوطى من تقديم فى الأحداث وتأخير وتبديل وحذف وإضافة، علاوة على النفحة العربية الإسلامية التى أضفاها على الرواية فى بعض المواقف. وأشركت معى عند ذاك سلوى الصغيرة، أقصد التى كانت صغيرة فى ذلك الحين، لأنها الآن طالبة فى كلية الهندسة على سن ورمح، فقرأتها معى وأبدت رأيها فيها، وشرحت لها أنا ذكرياتى مع الرواية حين كنت طالبا فى آخر المرحلة الإعدادية.
وهناك مصدر آخر أمدنى بعدد من الكتب الجميلة فى الإجازة التى كانت تفصل بين أزهريتى ومدرسيتى، أى بعد الانتهاء من المرحلة الإعدادية، وهو الزميل إبراهيم ربيع، الذى كان طالبا بمدرسة التجارة الثانوية، وكان من طلاب قريتى الذين يقرأون، فكنت أذهب إلى بيته فى عز الظهر و"العفاريت مُقَيِّلة" بتعبير أهل القرية عندنا وأقف خلف العضادة اليمنى من الباب وأناديه فيخرج لى فأطلب منه كتابا فيعطينيه عن طيب خاطر رغم أنه لم يسبق أن كانت بيننا صداقة من قبل. بل إن الذكريات البعيدة كانت كفيلة أن تباعد بينى وبينه لأنه كانت هناك فى بداية الخمسينات من القرن الماضى بركة كبيرة فى المنطقة التى يقوم فيها بيتهم غويطة جدا لدرجة أنه قد غرق فيها ولد أو أكثر ونحن أطفال، وكنت أذهب لأصطاد منها، فكان يخرج ويخطف منا السنانير ويجرى بها إلى بيته مفسدا علينا متعتنا. إننى أضحك الآن وأنا أتخيل ما كان يحدث حينذاك، وكيف انقلبت الأمور فصار الولد المشاغب صديقا أوشبه صديق لى يعيرنى الكتب.
ومنذ بضعة عشر عاما فكرت أن أهديه بعض كتبى اعترافا بالجميل العظيم الذى طوق به عنقى، فسألت عنه أحد إخوته، وهو يسكن قريبا من بيتنا القديم، فإذا به يباغتنى بأنه قد مات منذ فترة، فبُهِتُّ. رحمه الله رحمة واسعة وأدخله الجنة. لقد كان لطيفا فى ذلك الحين أشد اللطف وأَرَقَّه إن جاز أن تجتمع الشدة والرقة فى شىء، وهما هنا تجتمعان بمشيئة الله، التى لا تقف فى وجهها مشيئة. ومن الكتب التى أذكر أنى استعرتها منه "أمسيات قرب قرية ديكانكا" للقصاص الروسى نيقولاى جوجول، و"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى، وهو الكتاب الذى لم تتسع الإجازة لقراءة الجزء الثانى منه فقرأته فى السنة الدراسية التى تلت تلك الإجازة بمكتبة المدرسية الأحمدية الثانوية التى التحقت بها بعد تركى المعهد الدينى. وما زلت أذكر وصف هاردى لسقوط بطل الرواية فى النهر ومصارعته أمواجه فى آخر الكتاب، وإن كنت لا أذكر الظروف التى حدث فيها ذلك.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن أول كتاب طويل أقرؤه كان رواية "غادة كربلاء" لجرجى زيدان، الذى صادفته فى صندوق مهمل على سطح بيت صديق الصبا والأزهر محمود نحلة، الذى أصبح أستاذا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة الإسكندرية والذى قرأت معه بعد ذلك بصوت عال بعض الكتب فى دواسة الجمع الكبير بوسط القرية أثناء القيلولة، وعَرْف شجرة ذقن الباشا يهب علينا فينعش حياتنا القَشِفة، فكأننا فى الجنة يلاطف وجوهنا النسيم الحنون المضمخ بالعطر. والدواسة هى الشرفة التى تدور بالمئذنة قرب نهايتها العليا المدببة والتى يطوف عليها المؤذن وهو ينادى الناس للصلاة. كما كنا نذهب إلى حديقة أحد أقارب والدته قريبا من الوحدة المجمعة من ناحية الطريق المفضى إلى عزبة الزواوى حيث نقضى الظهرية نقرأ أو نتناقش، مع الاستمتاع بالورد البلدى من أحمر وأبيض، وما أدراك ما الورد البلدى، ونتناول ما نجده هناك مما تخرجه الحقول فى موسم الصيف، كل ذلك دون أن ندفع مليما واحدا لقاء ذلك.
لقد كنا فى الوقت المذكور نستذكر على سطح بيت محمود نحلة استعدادا لامتحان السنة الثالثة الإعدادية بالمعهد الدينى بطنطا يوم الثلاثاء الذى يسبق يوم الامتحان بثلاثة أيام لا غير، فوجدت ذلك الصندوق هناك، فأخذتُ بفضول صبى صغير أفتش فى محتوياته، فخرجت يدى بكتاب منزوع الصفحات الأولى والأخيرة، فأمسكته أنظر فيه فشدنى، فتركت الاستذكار وانهمكت فى مطالعة الكتاب لا أستطيع أن أحول عنه عينى إلى أن انتهيت من صفحاته المتاحة على المغرب تقريبا، مضيعا هكذا يوما كاملا دون استذكار، تاركا الامتحان لربٍّ اسمه الكريم كما نقول فى قريتنا تعبيرا عن الثقة فى الله والتوكل عليه. ولم يخيب الرب الكريم ظنى. أما بقية حكايتى مع "غادة كربلاء" فهى أننى ظللت متشوقا إلى أن أعرف مصير أبطالها، إلى أن كنت فى دكاننا ذات ضحى، فرأيت شابا مارا أمامى فى الشارع كان معنا فى الكُتَّاب، وكنت أحبه لظرفه وهدوء طبعه، وكان قد ترك الكُتَّاب منذ وقت طويل واشتغل حلاقا كأبيه وإخوته، فأبصرت فى يده كتابا دفعنى فضولى القاتل إلى سؤاله عنه، فإذا به "غادة كربلاء". ترى ماذا كان ذلك الشاب يفعل به؟ بل أَنَّى له به أصلا؟ لا أدرى. لكنى أدرى أننى استعرته منه بشىء من الإلحاح وأكملت قراءة الرواية بعد أكثر من عام. ما رأيك أيها القارئ فى هذه الفوضى الشاملة التى كنا نتحرك بها فى دنيا المطالعة؟ لكن لا تنس من فضلك أن الغزَّالة تَغْزِل برجل حمار! ولا تنس قبل ذلك ما قاله رسولنا الكريم من أن "التدبير نصف المعيشة". ومن الكتب التى قرأتها فى بيت صديق الصبا أو استعرتها منه عدد من سلسلة "المكتبة الخضراء"، ومنها قصة "البجعات السبع"، التى تألمت وأنا أقرؤها بسبب ما وقع على بطلاتها الطيبات من سحر غشوم ظالم.
وأذكر هنا أننى كنت مفتونا بروايات جرجى زيدان عن تاريخ الإسلام وأصدق ما يرد فيها من وقائع تصديقا مطلقا غير دار أن الرجل، كما لاحظ نقاده، كان يدس السم فى العسل. وبلغ من تأثرى الشامل بما تقوله رواياته أننى مثلا، حين فرغت من رواية "العباسة أخت الرشيد، وكانت تدور حول تزوج العباسة سرا بأحد البرامكة وإنجابها منه ولدين دون علم أخيها الخليفة، الذى ما إن علم بالأمر حتى قتل الزوج والطفلين جميعا، قد كتبت على ظهر إحدى صور الرواية كلاما غاية فى القسوة فى حق الرشيد وَسَمْتُه فيها بالتوحش وانعدام الإنسانية. ثم انصرمت الأعوام، وتخصصت فى النقد الأدبى، وفى القصصى منه بالذات، فكتبت فى الرسالة التى حصلت بها على درجة الدكتورية من أوكسفورد أنتقد صنيع زيدان وأفند مزاعمه الكاذبة فى أن رواياته هذه لا تختلف فى شىء عن كتب التاريخ الموثوقة سوى أنها تحتوى على قصة غرامية لا دخل لها فى أحداث القصة ولا فى صور شخصياتها، مبينا أن ما يقوله لا يمكن أن يكون صحيحا لا نظريا ولا واقعيا.
أيضا من مصادر الحصول على الكتب فى تلك الأيام الفقيرة مكتبة الوحدة المجمعة، وكان يشرف عليها الأستاذ محمد صالح، وهو جار لنا، ونعرفه جيدا، وكنت أتردد على بيتهم، بل كان يعطجينا بعض الدروس الخصوصية قبيل وفاة والدى، الذى كان يجهزنى أنا وأخى لإرسالنا إلى طنطا: أنا إلى المدارس، وهو إلى الأزهر. وكان الأستاذ صالح قد تخرج حديثا من كلية دار العلوم. وكنت أظن أنه سيكون سهلا فى إعارتنا ما نشاء من الكتب، إذ لم نكن نعرف أن هناك لوائح وقوانين تنظم المسألة وتحدد عدد الكتب التى يجوز أن يستعيرها الشخص فى كل مرة. لكنه كان يحيب ظنى دائما بإصراره على أن أنتهى من الكتاب الذى أستعيره وأعيده أولا حتى يمكنه إمدادى بكتاب آخر. وهأنذا الآن أضحك وأنا أكتب هذا الكلام. لقد كنت أستغرب من تصرفه غير المفهوم لى فى ذلك الوقت، إذ ما الذى يضيره لو أعطانى المكتبة كلها دفعة واحدة؟ ولا حاجة على الإطلاق. لقد كنت أرى أنه يحبِّكها دون داع. وقد تعرضت أنا أيضا لموقف مثل هذا حين كنت معارا إلى جامعة قطر منذ عدة سنوات، إذا كانت الطالبات يردن، ككل طلاب الخليج وطالباته، الحصول على الألف، أى على تقدير الامتياز بأية طريقة. وكن يبدين استغرابهن لأننا لا نستجيب لرغبتهن فيقلن: ترى ما الذى يضيركم فى أن تريحونا؟ فكنت أقول لهن ضاحكا: لو فعلنا ذلك لرفتتنا الجامعة وعدنا بفضيحة إلى بلادنا. إلا أن البنات البجحات الظريفات كن يقمن بهجوم مضاد قائلات إن الجامعة لن تفعل هذا أبدا. وما عليكم إلا أن تحققوا لنا ما نريد، ولسوف ترون أنه لن يحدث أى شىء. فكنت أقوم بدورى بهجوم مضاد على هذا الهجوم المضاد قائلا: طبعا بعد أن تكون البصرة قد خربت فحصلتن أنتن على الألف، ورحنا نحن فى أبو نكلة. وأرجو، أيها القارئ العزيز، ألا تسألنى عن "أبو نكلة" هذا، فقد حفظتها هكذا بمعنى أننا سنروح فى داهية، والسلام.
المهم أننى قرأت من مكتبة الوحدة المجمعة بالقرية بعض مسرحيات محمود تيمور، وكتاب "هارون الرشيد" لأحمد أمين طبعة كتاب الهلال الأخضر الذهبى، وكتاب "دور القرآن فى بناء المجتمع" للشيخ محمود شلتوت، الذى أطلعنى فى تلك الفترة الباكرة من حياتى على الجانب الاجتماعى والحضارى من الإسلام، ذلك الذى لا يعرف عنه معظم المسلمين الآن إلا أنه صلاة وصيام ولحية وحجاب وتقصير جلباب، ودمتم، حتى إننى حين أصدرت منذ نحو سنتين كتابى: "الحضارة الإسلامية: نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ"، وألححت فيه على الجوانب الحضارية فى ديننا العظيم من علم وعمل وإتقان ولياقة وجمال ونظام وإبداع وحرص على الوقت والتدبير قد فوجئت بطالبة تأتينى إلى مكتبى وتقول لى تعبيرا عن دهشتها وفرحتها إنها قرأت الكتاب وقرأه معها أخوها وأختها وأمها، فكان تعليقهم جميعا أن أحدا لم يخبرهم من قبل بأن الإسلام هو هذا. وأتصور أن تأليفى ذلك الكتاب قد جاء، ضمن أسباب أخرى، تأثرا بكتاب الشيخ شلتوت الصغير الجميل الذى وقع فى يدى وأنا لا أزال طالبا فى المرحلة الإعدادية.
 
كذلك حدث، خلال السنة الأخيرة لى بالمرحلة الثانوية وطنطا، أن أعلن التلفاز عن لقاء بين د.طه حسين ولفيف من الأدباء والكتاب، فحرصت على أن أشاهده. وبالفعل شاهدته عند صديقى المرحوم أحمد الزاهد، واستمتعت برؤية الدكتور طه وبأسئلة الكُتَّاب له وردوده عليها وقوله: "لا تَعْنُفُوا بالبيت"، وأعجبتنى هذه العبارة كثيرا وأخذت أفكر فى الفعل الموجود فيها من ناحية الميزان الصرفى... ولفت نظرى بوجه خاص قوله إنه لم يفهم عبقريات العقاد، مما أثار زملائى الذين كانوا يشاهدون معنا اللقاء وسائر طلاب مصر على كتاب "عبقرية الصديق"، الذى كان مقررا علينا فى مادة اللغة العربية فى ذلك العام. وكان منطقهم أن طه حسين قد أعلن بكل صراحة ووضوح أنه لا يفهم العبقريات، فكيف يقررون علينا واحدة منها، ونحن لسنا طه حسين؟ وعبثا شرحت لهم ما فهمته من أن طه حسين لا يقصد المعنى الظاهرى، بل يريد أن يقول إنه لا يوافق العقاد على غايته من كتابة العبقريات ولا يوافق على ما فيها من آراء. ومن المؤكد أننى كنت قرأت قبل ذلك "عبقرية محمد"، وربما قرأت أيضا ما كتبه طه حسين عنها من أنه لا يفهم معنى المقارنة بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين نابليون من ناحية القيادة العسكرية ووضع الخطط الحربية، إذ رأى طه حسين أن اختلاف الظروف بين طَرَفَىِ المقارنة لا تسمح بعقدها، فأين عصر نابليون والحروب التى خاضها والخطط التى كانت متبعة فيها من الرسول وعصره وحروبه؟ إلا أن الطلاب فى أنحاء الجمهورية كانوا قد وجدوا مناحة يشبعون فيها لطما.
وأذكر بهذه المناسبة أن أنيس منصور قد كتب عقب هذا اللقاء مقالا يهاجم فيه طه حسين على لمزه للعقاد قرأته فى مسجد المنشاوى بطنطا حيث كنت أستذكر دروسى ظهر اليوم التالى إذا صحت ذاكرتى. والطريف أن أنيس منصور عاد بعد فترة فأخذ يثنى على طه حسين وعلى أستاذيته العطوفة المتفهمة ووضوح فكرته وما إلى ذلك مما يجرى على العكس من هجومه المذكور على الرجل. ومع هذا فقد ظل يُكْبِر العقاد ويذكر مفاخره حتى لقد كتب كتابا كبيرا جدا عن تطوره هو فى دنيا الفكر والثقافة جعل منطلقه صالون العقاد، أقصد كتابه: "فى صالون العقاد كانت لنا أيام"، الذى تحدث فيه عن نفسه أكثر مما تحدث عن عملاق الفكر والأدب العربى.
وفى ذلك العام أيضا بدأت أكتب قصة قصيرة استوحيتها من فتاة متعلمة فى سننا كنت أسمع عنها من بعيد، لكنى لم أجد نفسى فى هذا اللون من الكتابة إذ أردت أن أصور عبثها واستهتارها مما لم أكن مهيأ له لبعدى عن عالم البنات والنساء تماما وجهلى به وشعورى من ثم أن ما أكتبه عن عبث الفتاة ولهوها مع الشبان وتلاعبها بعواطفهم وغرورها المهلك هو كلامٌ متكلَّفٌ غير صادر عن خبرة وتجربة، فتركت القصة بعد صفحتين أو نحو ذلك. وكنت فى السنة الأولى الثانوية قد كتبت قصة أقلد فيها قصص أجاثا كريستى البوليسية، تلك القصص التى تختلف عن سائر شبيهاتها من قصص الجرائم فى أنها لا تقوم على الإثارة والمطاردة وحيل المجرمين فى الإفلات من تعقب الشرطة لهم، بل على الذكاء وتعمية القاتل استفزازا لعقل القراء كى ينهض وينشط ويحاول معرفة القاتل، الذى لم أفلح إلا مرة واحدة يتيمة فى تخمينه على كثرة ما قرأت لها من روايات وأقاصيص فى هذا الصدد. وبطبيعة الحال قد ضاعت تلك القصة مع ما ضاع من أشيائى فى تلك الفترة وما تلاها، وما أكثر ما ضاع من تلك الأشياء!
ولكن هل فى تلك الفترة اقتنيت تفسير محمد فريد وجدى الميسر؟ أم هل كان ذلك فى فترة لاحقة عندما ذهبت إلى القاهرة؟ لا أدرى. كل ما أذكره أننى عكفت على ذلك التفسير فقرأته، وقد أكون قرأته مرتين، وكنت سعيدا غاية السعادة أننى أطالع تفسير القرآن الكريم كاملا. لقد كتب الرجل تفسيره ذاك بأسلوب بسيط أقرب ما يكون لأسلوب الصحافة، مع شرح الكلمات التى تحتاج شرحا، فضلا عن إيراده أسباب النزول فى مواضعها، وفى وسط كل ذلك صفحة المصحف التى فيها النص المفسَّر. والآن كلما رأيت مع الطلبة أو الطالبات مصحفا يقرأون فيه أنبههم إلى أن قراءة القرآن هكذا لا تؤدى الغرض المطلوب، إذ ليس المقصود أن أتلفظ بكلماته، بل المقصود أن أفهمه، وهذا لن يتأتى إلا إذا عرفتُ أولا معانى تلك الكلمات، وقرأت تفسيرا له، مبسطا أول الأمر ثم موسعا بعد ذلك حسب ظروف كل شخص وغايته من قراءة التفسير. كما قرأت فى تلك الفترة تفسير جزء "عَمَّ" للشيخ محمد عبده، وتفسير جزء "تبارك" للشيخ عبد القادر المغربى السورى. وهكذا تعرفت إلى عظمة الإسلام وجماله من خلال العقاد ومحمد عبده وشلتوت ومن فى مستواهم. وهذه منة جليلة من الله سبحانه وتعالى لا أستطيع تأدية شكرها. وكان معى فى تلك الفترة معجم "مختار الصحاح"، أعطانيه طالب أزهرى كان قد أخذه من ابن عمه الذى يدرس فى مدرسة المعلمين بطنطا. وكنت سعيدا باقتنائى إياه سعادة عظمى، وكأنى قد ملكت اللغة العربية كلها فى يدى. إلا أننى لاحظت أننى لا أجد كثيرا من الكلمات فيه ولا فى معجم "المصباح المنير"، وبخاصة الكلمات الحديثة، غير متنبه إلى أن هذين المعجمين هما معجمان صغيران جدا للطلاب المبتدئين، وأنهما قد أُلِّفا منذ عدة قرون. لكن كان استعمالى لهذين المعجمين مع ذلك خطوة مهمة أشد الأهمية، وكان تعاملى معهما سهلا لمعرفتى الجيدة بالصرف ومقدرتى، بطريقة أو بأخرى، على تجريد أية كلمة تقريبا من أحرف الزيادة واستطاعتى العثور عليها فى المعجم ومعرفتى لمعناها....
وفى الجامعة صارت القراءة أغزر وأعمق، وتصدرت قائمة الكتب التى أقرؤها تلك المتصلة بتخصصى من نحو وصرف وتفسير وتاريخ أدب ونقد وما إلى ذلك. وكانت زمالتى وصداقتى لبعض طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سببا فى انغماسى فى المناقشات السياسية، والدينية أيضا، فقرأنا وتناقشنا فى الشيوعية والوجودية والاتحاد السوفييتى، الذى كان له بين زملائنا أنصار ومفتونون، مثلما كان له كارهون، وإن كانوا فى ذلك الوقت قليلين، وكنا منهم، إلا أننا كنا نتميز عنهم بأننا لا نحب أمريكا أيضا، ونرى ولا نزال أن الإسلام أفضل من الشيوعية والرأسمالية معا جميعا. ومما أذكره من الكتب التى قرأناها فى ذلك الحين كتاب "آثرت الحرية" لفيكتور كرافتشنكو، الذى اشتريناه بعشرة قروش من سور الأزبكية القديم أيام كانت حديقة الأزبكية بجواره مكانا شاعريا مخضوضرا. وكنت أسمع من زملائنا الكارهين للشيوعية أن نار الرأسمالية ولا جنة الشيوعية. وكنا نقرأ كتب العقاد، رحمه الله، عن "الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام" و"لا شيوعية ولا استعمار" و"هتلر فى الميزان" و"فى عالم السدود والقيود" والعبقريات، بالإضافة إلى ردوده على المستشرقين والمبشرين من خصوم الإسلام، وكنا نعتز بما كتبه أيما اعتزاز، ونعد ما خطه يراعه هو القول الفصل، ونفضله كثيرا على طه حسين على العكس من اليساريين والعلمانيين، الذين كانوا يرون أن طه حسين أفضل من العقاد.
وكان زملائى هؤلاء من خيرة طلاب الجامعة، إن لم أقل إنهم خيرهم بإطلاقٍ ذكاءً وثقافةً ونفاءً وتدينًا واستنارةً. ولم نكن ننتمى إلى أية جماعة أو تنظيم، وكنا نستقى ديننا من العقاد وشلتوت وأمثالهما فى المقام الأول، كما كنا نقرأ فى الفلسفة والمذاهب السياسية، ولم نعرف الانغلاق ولا التبعية لأى شخص. كذلك كنا نحب أن نقرأ لزكى نجيب محمود لنصاعة أسلوبه وسخريته المبطنة رغم مخالفتنا لكثير مما يكتب. وقد شعرنا بالفرحة حين علمنا أنه سوف يناقش طالبا من طلابه فى المدرج الكبير بكلية الآداب، وهو الطالب إمام أحمد إمام، فذهبنا لحضور تلك المناقشة، وكانت أول مرة نحضر مناقشة رسالة جامعية. واشترك معه فى مناقشة الطالب د. فؤاد زكريا، الذى أذكر أنه اعترض، ضمن ما اعترض عليه من لغة الطالب، على استعماله كلمة "لاشَى"، قائلا إنه لا وجود لها فى المعجم، فاستغربت أنا من تلك التخطئة لتصورى أنه ما دام هناك "تلاشى" فمن الطبيعى أن يكون الفعل: "لاشى" موجودا أيضا لأن "تلاشى" هو المطاوِع له، والمطاوِع فرع من المطاوَع، وهو هنا "لاشَى". ذلك أننى أحب أن يطرد القياس فى اللغة إلى أبعد مدى، وإلا فما معنى القواعد اللغوية؟ وما لزومها؟ هكذا كنت أفكر. والانطباع الذى خرجت به من جَرْس صوت د. فؤاد زكريا هو الحذلقة، إلا أنها كانت حذلقة محببة. كما كان هناك كذلك د. يحيى هويدى، الذى حظى منا بأقل قبول بين الأساتذة الثلاثة المناقشين الذين أَثْنَوْا على مقدرة الباحث فى الترجمة من "الألمانية"، إن كنت لا أزال أتذكر ما حصل جيدا.
وكعادتى فى سبق الأحداث قبل حلول موعدها أذكر أننى قد دخلت مع د. فؤاد زكريا بعد ذلك بنحو عشرين سنة فى معركة فكرية على صفحات "الوفد"، إذ كانت تلك الصحيفة قد اتفقت معى فى منتصف الثمانينات على كتابة مقال نقدى كل أسبوع فى نحو ست صفحات أو سبع، وزودنى الأستاذ جمال بدوى مدير التحرير ببعض الكتب أتخذ منها فى البداية موضوعات لمقالاتى، فاستقر عزمى على تناول كتاب د. زكريا عن "الحقيقة والوهم فى الحركات الإسلامية"، واختلفت معه فيما قال، لأفاجأ فى الاسبوع التالى بنشر الصحيفة ردا له على ما كتبت، وهو أمر طبيعى، إلا أن ما ليس طبيعيا أنهم لم يخبرونى بالأمر، علاوة على أنهم أجّلوا مقالى التالى ودون أن يخطرونى مسبقا كذلك. ثم زادوا فقالوا إنهم يغلقون باب الأخذ والرد فى الأمر، ودون أن يرجعوا إلىَّ أيضا، معتذرين عن نشر ردى على رد الرجل، فزاد هذا من حنقى، إلا أننى ضغطت على نفسى وقلت: دعك من العصبية المعروفة عنك يا خِلّ، وامض فى الكتابة وكأن شيئا لم يكن. بيد أننى فوجئت بهم ينشرون مقالا فى الرد على رد د. فؤاد زكريا لدكتور آخر ينتمى إلى الإسلاميين، فكانت هذه قاصمة الظهر، إذ توقفت عن إرسال أى شىء لهم بعد المقالين الآخرين اللذين كنت بعثت بهما إلى الصحيفة. وقد جاءنى شاب من تلاميذى كان يشتغل مصححا هناك يسألنى عن مقالى الجديد، فرفضت أن أعطيه شيئا رغم ما قاله لى من أنهم وعدوا بأنهم لن يقدموا بعد ذلك على فعل أى شىء مما أغضبنى. إلا أننى أصررت على موقفى، لتنتهى صلتى بـ"الوفد" ولم تكد تبدأ. وقد عاتبنى صديق لى بأن هذه فرصة لى للانتشار وتحقيق الجماهيرية، لكنى اختلفت مع وجهة نظره مؤثرا كرامتى على جماهيريتى رغم أنه لم يجد فيما فعلته "الوفد" ما يمس تلك الكرامة....
 
وماذا كان حال جيلكم في العهد الناصري، خصوصا و قد كان يفرض على الطلبة الفكر الإشتراكي المستورد ، في حقبة يمكن تسميتها بحقبة محنة العلماء، وهم الذين شعروا وقتذاك أن المذاهب الإشتراكية والشيوعية والأفكار الماركسية وجدت لها دعما سياسيا وأمنيا وتثقيفيا عند بعض الأنظمة في المنطقة العربية، ولاشك أن الصراع مع التيار الإسلامي ، وحصاره وتشويه صورته، وإعدام قادته لاحقا، كان من تداعيات هذا الحضور الماركسي او الإشتراكي الذي تلبس ألوان شتى من الفكر العربي الذي شارك فيه فلاسفة عرب راهنوا على الإنتهاء من الإسلام وخلود الإشتراكية...وكثير منهم دعموا الأنظمة التي نشرت الفكرة الإشتراكية او تبنت بعض ملامحها ومقوماتها؟
 
المؤامرة الشيوعية على الإسلام
فى أثناء العام الجامعى الأول، والمحاضرات فى الكلية على أذنه، صدرت الأوامر بمنعنا نحن طلاب المدينة الجامعية من الذهاب إلى المحاضرات والانتظام فى دورة تثقيفية اشتراكية تابعة لمنظمات الشباب بلغت روحى منها الحلقوم لأكثر من سبب: فأنا لا أحب الاشتراكية بالمعنى الذى صدعوا أدمغتنا به، وبخاصة أننا كنا نشعر أنها شىء يراد إدخاله رؤوسنا بدلا من الإسلام. وكانت رائحة الشيوعية النتنة تفوح من كلام المشرفين الذين أحضروهم يقيمون معنا فى المدينة ويتقيأون ما عبأوهم به من الفكر اللقيط. وكان هؤلاء المشرفون الذين كانوا يقودون المناقشات ليلا فى مجموعات هم من السماجة والتنطع الاشتراكى، أو قل: الشيوعى، بحيث لم أكن أطيق الجلوس هادئا، بل كنت أتهكم على كل شىء فى الجلسة ولا أراعى النظام إلا مضطرا، وكنت أستغرب كيف أن بعضنا نحن الطلاب يأخذ الأمر مأخذ الجِدّ ويدخل فى مناقشات مع المشرفين وكأنه فعلا يؤمن بما يريدون أن يلقنونا إياه....
ثم بان الملعوب حين حانت الجلسات الخاصة بالدين، إذ جعلوها جلسة واحدة فى آخر يوم، وبالنهار، وجمعونا فى مطعم المدينة بربطة المعلم قبل الظهر، وأحضروا أستاذا من الحقوق فيما أذكر، ففتح الكتاب وهات يا قراءة مما أمامه، فلا تقسيم إلى مجموعات صغيرة ولا مناقشة ولا يحزنون ولا سهر لمدة خمسة عشر يوما فيما أذكر كمحاضرات الاشتراكية ومناقشاتها. أى أن المسألة فيما يخص الدين كانت بكشا فى بكش. وقد كانت النتيجة بعد أشهر قلائل هى الهزيمة الساحقة الماحقة، وعاش أبو خالد نَوَّراة بلدى! وإنى لأستعجب من الحمقى الذين يرددون فى سخف منقطع النظير أنه لو كان عبد الناصر حيا الآن لأوقف إسرائيل وأمريكا عند حدهما، وأرد عليهم وأنا أكاد أنفجر من الغيظ جراء هذا العته الميؤوس من علاجه: طبعا بأمارة الهزيمة التى أكلها وأكلناها معه بالسم الهارى على يد شذاذ الآفاق، فلم تقم لنا قائمة من يومها!

اليساريون والهيمنة
وكنت أكتب فى مجلة الحائط التى أصدرها أنا وبعض زملائى بين حين وآخر معارضا الماركسية. ويبدو أن مثل تلك المقالات والمناقشات التى كنا ندخل فيها مع بعض الزملاء والأساتذة اليساريين كانت سببا فى أنْ رفضوا تكليفى بالمعيدية فى آداب القاهرة وتَعَطَّلَ تعيينى معيدا فى آداب عين شمس فترة من الوقت مما اقتضى، حين استقر اختيار قسم اللغة العربية علىَّ لشغل وظيفة "معيد" التى أعلن عنها سنة 1971م، أن يرسلنى د. إبراهيم عبد الرحمن الأستاذ المساعد آنذاك بالقسم، بعد مرور عام ونصف من تاريخ الإعلان، إلى عميد شرطة يعرفه بلاظوغلى أحالنى بدوره إلى عميدٍ زميله بمبنى فى الدقى خلف كلية الفنون التطبيقية تقريبا حيث كان مَلَفِّى موجودا فيما أتصور، فكلف هذا الأخيرُ مشكورا ضابطًا شابًّا من مرؤوسيه بمقابلتى وتسديد الاستمارة الخاصة بى من خلال إجابتى على ما فى الاستمارة من أسئلة تريد الاطمئنان إلى أننى وأسرتى لسنا من الإقطاعيين أو الرأسماليين، وبطبيعة الحال لسنا من هؤلاء ولا هؤلاء، وذلك بعد أن أحضر لى ينسونا أو حلبة (المهم أنها كانت حاجة أَصْفَرَة، والسلام). وانتهى الأمر فى سلاسة عجيبة بعدما كنت، على مدار ثلاثة أشهر، لا أعرف رأسى من رجلى ولا أدرى هل سيتم تعيينى فى وظيفة المعيد أو لا، وطمأنونى أنهم فى خلال يومين سوف يرسلون إلى الجامعة موافقة الأمن. وقد كان. فاللهمَّ اجْزِ عنى كل من ساعدنى فى ذلك الأمر جزاء عظيما يكافئ هذه المعونة القيمة.

نكسة مصر الإشتراكية وخداع روادها
وحين وقعت الهزيمة، التى سموها: "نكسة" لم نكن نعرف فى البداية أننا قد هزمنا، بل هزمنا شر هزيمة يمكن تخيلها. لقد كانت الآمال عند جماهير الشعب فى الانتصار على إسرائيل على يد عبد الناصر تبلغ عنان السماء، وكان المذياع يعلن على الناس صبيحة الخامس من يونيه سنة 1967م أن الطائرات الإسرائيلية تتساقط كالذباب، وكان هذا يسعدنا جدا. وكنت قد انتهيت من امتحاناتى بكلية الآداب قبلها بيوم، لكنى لم أكن قد عدت إلى القرية. وكنت، كما سبق التنويه، أسكن غرفة مشتركة فى المبنى الثانى بالمدينة الجامعية مع ريانج "الكافر"، وأذكر أننى وقفنا معا فى الشرفة نتطلع إلى السماء وهو يضحك جذلان سعيدا من الانتصار المؤزر الذى انتصرته مصر الاشتراكية على يد زعيمها الملهم. وأظن أنه هو صاحب تشبيه تساقط الطائرات الإسرائيلية الموهوم بتساقط الذباب. ثم أخذت مشارعنا تتغير قليلا قليلا مع تقدم اليوم، فكان هناك قلق لا ندرى مبعثه، إلى أن علمنا الحقيقة بعد ذلك بيومين وتبين لنا أن الصوة الوردية التى رسموها لنا فى وسائل الإعلام كانت تضليلا فى تضليل. ومن بين ما قرأته فى الصحف ثانى يوم قبل انكشاف الحقيقة مثل لأنيس منصور فيما أذكر يتحدث فيه، طبقا لما قال، من غرفة عمليات بالجبهة ماضيا فى تخديرنا بالأنباء الكاذبة، على حين لم تكن هناك جبهة ولا يحزنون. وبعد ذلك بأيام كنت فى القرية فقابلت أحد الجنود من أبنائها الذين كانوا يلعبون معنا فى صغرنا، ففهمت منه أنه عاد إلى القرية من سيناء مباشرة دون أن يمر بوحدته العسكرية أو يسلم بندقيته، فعددت ذلك قلة وطنية غير دار بأبعاد الكارثة على وجهها الصحيح وأن المسكين لا ذنب له فى الإطلاق، إذ لم يكن أمامه إلا أن يهرب بجلده من مجزرة تنتظر جميع جنودنا إذا بقوا فى سينا بعد الهزيمة المذلة، أذل الله من تسبب فيها بغبائه واستبداده وكراهيته لدين أمته وموالاته للشيوعيين وكل من يبغضون الإسلام، وإن كانت الحقيقة تقتضينا القول بأنه لم يكن وحده فى ذلك، بل كان معظم حكام العرب والمسلمين مثله كراهية للإسلام وتآمرا مع الأجانب على أممهم. وكالعادة لا بد من المسارعة إلى القول بأن الشعوب التى يحكمها أولئك الحكام الخونة لا تستحق أفضل منهم لأنها كانت راضية بحكمهم بل كانت تُكِبّ على أحذيتهم تلعقها تعبيرا عن تقديسها لهم رغم حماقتهم وخيانتهم وقلة رحمتهم وما كانوا ينزلونه بها من عصف وهوان وتقتيل واعتقال ومصادرة للحريات والأموال. والدليل على ما نقول أن تلك الشعوب حين هبت وثارت على أولئك الخائنين قد نجحت فى التخلص منهم فى شبه غمضة عين، فلم تُغْنِ عنهم جيوشهم ولا جلاوزتهم ولا أجهزة أمنهم ومخابراتهم، بل انهارت دولهم انهيارا سريعا لم يكن يخطر لأحد على بال. وكنت أظن أن عبد الناصر سرعان ما سينهض من الكبوة العارضة ويحارب إسرائيل ويمرغ أنفها فى التراب انتقاما مما وقع بنا على حين غرة ليس عليه فيها أدنى مسؤولية. لكن زملائى المتخصصين فى العلوم السياسية قالوا لى حين تقابلنا فى العام التالى إن ذلك أمر بعيد لأن الجيش انتهى أمره، وإن الأمر يحتاج إلى وقت جد طويل حتى نحصل على طائرات جديدة بدل التى دمرت ويتدرب عليها الطيارون جيدا، وهو ما سوف يستغرق زمنا غير قصير.

محاولة توريط الإسلام في الهزيمة
وقد قام عبد الناصر بإعلان تنحيه وتحمله المسؤولية عن كل ما حدث، فما إن انتهى من خطابه الذى أعلن فيه ذلك حتى خرج المصريون إلى الشوارع يهتفون ببقائه ويجددون الثقة به. وكنت ليلتها فى طنطا، وسرت مع أستاذى أبو رية فى المظاهرات بشارع البورصة فيما أظن. ومما لا أَبْرَح أذكره حتى هذه اللحظة أننى شاهدت فى أول شارع أحمد ماهر على شمال الداخل من ناحية شارع البحر، بين العصر والمغرب عقب معرفة الناس بالوكسة التى سموها: "نكسة"، رَفّاء بجلباب يتجه إلى السماء ويسب الدين لله سبحانه بسبب الهزيمة الفاضحة القاصمة، فاستغربت أشد الاستغراب من الغباء الذى يسول لبعض المتخلفين التطاول على الله فى أمر هم سببه الأول والأخير بسكوتهم على القهر والطغيان وتأليههم لحاكم فاشل أذاقهم صنوف العسف والتنكيل فى الوقت الذى يهتفون له فيه ويفدون بحياتهم ودمائهم، وإن لم يكن عندهم دم البتة. وقد ساعد على هذا التخدير القاتل ما برع فيه نظام عبد الناصر من تجنيد للفنانين من مؤلفى أغانٍ وأناشيدَ وملحنين ومغنين لتمجيد عبد الناصر والتغنى بالوطنية وبالكفاح وهجاء الاستعمار فى أعمال اتسم معظمها، والحق يقال، بالجمال والجاذبية رغم كل شىء حتى إننى، حتى الآن ومع كل ما قلته فى عبد الناصر مما يستحق أفظع منه وأشنع، ما إن أسمع شيئا من تلك الأعمال حتى يستولى على فؤادى السحر القديم الذى كنت أجده لها فى نفسى عند سماعها فى صباى وشبابى، وأرتد مبهور الأنفاس إلى ذلك الماضى الذى كنا نظنه لشدة تخديرنا حينذاك جميلا ورائعا، ثم انكشف فى نهاية المطاف عن كابوس بشع مرعب. لقد كانت مشاعرى تجاه عبد الناصر ومواقفى منه متذبذبة، وأغلب الظن أن التيار العارم المناصر له كان له تأثير شديد علينا. لكنى بعد ذلك قد اتخذت موقفا ثابتا أوشبه ثابت منه حتى إننى، يوم وقاته وخروج الملايين لتشييع جثمانه، لم أشعر بالحزن ولا تعاطفت مع تلك الملايين، بل كنت أقرب إلى الضيق بهم منى إلى تفهم عذرهم....
 
في تلك الفترة المليئة بالأحداث والأفكار ، وفي مرحلة الجامعة، من كانوا اساتذتكم ، ممن كان لهم تأثير عليكم في الجرأة على ولوج مجال البحث العلمي وإثارة حاسة النقد العلمي عندكم، وممن كان لهم حضور في عالم الفكر او ممن كان يبطن الكيد للإسلام أو يتبنى نظرات غربية باطلة، فأنتم كما يبدو لاتتركون المسائل العلمية (المزورة على وجه الخصوص) تمر عليكم من دون وضعها تحت مجهز التحليل والتفكيك، ومن ثم الإبطال والفضح والهتك والنقض، كما فعلتم في ردكم على خليل عبد الكريم في كتابكم المسمى"هتك الأستار عن كتاب فترة التكوين" او ردكم على د. محمود علي مراد الموسوم ب" إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية" ولا أخالكم كنتم مستمعين فقط بدون اعتراض على فكرة خاطئة أو موقف غير بريء!، وهل لاحظتم وقتها -أيام التعامل مع اولئك الأساتذة الكبار -ان نموكم الفكري وتطوركم العلمي والتثقيفي يزداد اشتعالا ونموا، ثم من كان لك ،في تلك الفترة، معهم حوارات او مواجهات، وهل استفدت منهم في شيء من أخلاقهم او طريقتهم في الحوار او التعامل مع الطلبة؟
ثم والسؤال المرتبط عضويا بما سبق هو هل تربص بك أحد من العلمانيين او اليساريين في الجامعة او مابعدها؟
 
شكري عياد ومعاناة التفكير
من أساتذتى الجامعيين الذين أرى أن أتوقف أمامهم قليلا د. شكرى عياد، الذى كان إذا أملى علينا شيئا ينحاز ناحية النافذة الجنوبية القريبة من مقعد المحاضر ويملى علينا جملة أو نحوها ثم يصمت قليلا وينظر إلى الخارج وهو يفكر فى شىء من المعاناة يظهر فى تجاعيد جبهته. وكان يلبس فى العادة بيريها أزرق. وقد شرعت أبحث أنا أيضا هذه الأيام عن مثل هذا البيريه، ولعلى أوفق إلى شراء اثنين منه أرتديهما بالتبادل فأكون من المفكرين. أليس لى نفس كبقية من يلبسون البيريه فيظهر على سمتهم أنهم مفكرون؟ كما كان من أساتذتى أيضا د. يوسف خليف، الذى كان لطيفا دمثا رقيقا، وكان يملى علينا هو أيضا مادة تاريخ الأدب الجاهلى، وكنت أتصور أنه لا يصنع شيئا سوى تلخيص ما كتبه أستاذه د. شوقى ضيف فى كتابه عن العصر الجاهلى وإعادة صياغته بأسلوبه الحلو القائم على الترادف. وذات مرة لاحظ أننى لا أكتب ما يمليه علينا فعلق ضاحكا بأن إبراهيم عوض (الذى هو أنا طبعا) يعرف أن د. خليف ينتهج الترادف فى أسلوبه دائما، فهو لذلك يكتب مما أمليه جملة ويترك جملتين أو ثلاثا لها نفس المعنى. وقد ذهبت إلى بيته مع محسن اليابانى ذات ليلة، وأذكر أنه كان قريبا من ميدان الجيزة. كما ذهبت مع بعض زملائى فى مناسبة أخرى إلى شقة د. حجازى، وكان لايزال عَزَبا، وقدم لنا سباطة موز أخرجها من الثلاجة لنأكل منها. ولا أدرى أأكلنا منها فعلا أم غلبنا الحياء. ومن بين ما دار بيننا من نقاش انتقاد أستاذنا فى تلك الليلة بعض الزعماء السوفييت الذين يريدون أن ينظروا لِلُّغة من زاوية شيوعية لا تلائم طبيعة اللسان البشرى.

شوقي ضيف وعادة تعلمتها واستفزاز قدرات
أما د. شوقى ضيف فلم أره إلا فى العام الثالث لى بالكلية، إذ كان معارا قبل ذلك إلى الأردن. وكنت قد تأخرت تلك السنة فى القرية ولم أحضر فى أول الدراسة لبعض الظروف الخاصة، فأتانى خطاب من صديق لى بقسم اللغات الشرقية هو المرحوم سليمان سباق يستحثنى على القدوم قائلا: "أقبل أقبل يا إبراهيم، فقد أتانا أستاذ عظيم يحتاج وجوده أن يكون واحد مثلك بيننا"، أو كلاما بهذا المعنى. ففى الحال صح منى العزم على السفر إلى القاهرة. وفى أول محاضرة تقريبا خرجت وراءه فى الفسحة التى تفصل بين نصفى الدرس، وسألته عن الكيفية التى أتغلب بها على تشتت الحديث عن الشاعر الواحد فى عدة مجلدات من كتاب "الأغانى"، فوعدنى بأنه سوف يجيب على هذا السؤال حين يعود لاستكمال الدرس بعد دقائق الراحة. وحين عاد تناول الموضوع فعلا كما وعدنى، لكنه انتقدنى قائلا إنه من الواضح أن الطالب الذى سألنى قبل قليل فى كذا وكذا لم يقرأ كتاب "الأغانى" ولا يعرف أن المستشرقين قد ألحقوا به مجلدا كاملا يحتوى على الفهارس التى من شأنها تعريف القارئ بمواضع الحديث عن الشاعر المراد. فآلمتنى الملاحظة، ومكثت طوال كلامه وأنا قلق متوتر لا أدرى أأرد عليه أم أسكت حتى تنتهى المحاضرة ويصير لكل حادث حديث. وقد تغلب صوت الحكمة عندى هذه المرة على غير مألوف عادتى، فسكتُّ إلى أن انتهى الدرس وخرج الأستاذ، فخرجت وراءه سريعا حيث لحقت به فى الغرفة الملاصقة لقاعة المحاضرة.
وكان معى زميلتان، فتكلمت وقلت له إننى أعرف جيدا كتاب "الأغانى" وأقرأ فيه، ولا يقلل من شأنى أنى لا أعرف فهارس المستشرقين، فالعبرة بأنى أقرأ وأتابع وأهتم. ثم أضفت قائلا فى حدة فنية لا أقصد بها تجاوز حدود اللياقة بل التدلل حتى يعرف أستاذى أننى غير راض عما قاله فى حقى: وإذا كنتم، يا أساتذتنا، قد وضعتم منا أصابعكم العشرة فى الشق فنحن قد وضعنا منكم أصابعنا العشرين: أصابع يدينا وأصابع قدمينا معا. ففغرت إحدى الزميلتين، وكانت من قسم اللغات الشرقية، فاها استغرابا واستنكارا لهذه الجرأة غير المعهودة. فأشرت إليها برفق أن تتركنى أتحدث على راحتى، وهو ما أَمَّن عليه الأستاذ الدكتور فى رقة وعطف.
ثم انتهى الموقف وعدت إلى المدينة الجامعية، وشيطان الفن يتنمر ويتقافز فوق كتفى تارة، وبين عينىَّ تارة أخرى، فلم أهدأ تلك الليلة حتى سطرت خطابا طويلا للدكتور شوقى ضيف أعنف من الكلام الذى تفوهت به فى اللقاء المذكور، ولم أنس أن أضمنه حكاية الأصابع العشرة والعشرين، وسلمته إياه فى غرفته، وانتظرت إلى المحاضرة التالية التى جئتها مبكرا وجلست فى الصف الأول على عادتى متحفزا بجوار الممر الذى يفصل بين نصفى القاعة. فلما دخل الأستاذ الدكتور كنت كُلِّى أعصابا مرهفة انتظارا لما سوف يكون عليه رد فعله. فما كان منه إلا أن تيممنى حيث أجلس وانحنى علىَّ هامسا بحنو جميل أنه قرأ رسالتى وأنه معجب بها، وأنه سوف يهدينى كتابا من كتبه، وهو ما حدث، إذ وجدته يحضر لى نسخة من كتابه: "العصر العباسى الثانى" وقد كتب فيها إهداء جميلا نعتنى فيه بـ"الصديق السيد فلان".
الله أكبر. نعم هكذا ينبغى أن تسير الأمور، وإلا فلا. وقد أخذت منه رحمه الله تلك العادة، فلا أكاد ألمح طالبا نشيطا محبا للعلم والبحث حتى أشجعه بكل سبيل: بالكتب والمال والبسكويت والشيكولاتة والحديث الكثير عنه فى المحاضرة ومداعبته دائما أمام زملائه حتى أستفز قدراته ومواهبه وأُرْهِف اهتمامه بالعلم والثقافة لافتا إياه إلى خطر أمر العلم فى منظومة الحضارة وعند الله والرسول والملائكة، مبينا له أنه ما من دين يضع العلم فى ذات المكانة التى وضعه فيها الإسلام ولا تحدث عنه بنفس الحراراة والاهتمام كدين محمد. وبالمناسبة فالأستاذ الدكتور هو الذى اقترح علىَّ الكتابة عن محمود طاهر لاشين فى أطروحة الماجستير، وقد كتبتها تحت إشراف د. عبد القادر القط حين صرت معيدا بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس، وإن كنت أنهيتها دون أن يرى شيئا مما كتبته فيها تقريبا، وتمت مناقشتى ونجحت والحمد لله، وكانت لجنة المناقشة مكونة منه ومن د. عز الدين إسماعيل ود. أحمد كمال زكى. ولست أذكر أننى كنت خائفا أو قلقا فى ذلك الوقت ولا فى أكسفورد عندما انتهيت من أطروحة الدكتورية هناك وناقشنى فيها د. هُوبْووُد (الذى كان يقول مفاخرا على سبيل الدعابة إن اسمه مكون من كلمتى "حُبّ" و"وُدّ") ود. محمد عبد الحليم الأستاذ بمدرسة اللغات الشرقية بلندن ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية فيما بعد
ومنذ ذلك اللقاء الأول والخطاب الأول للدكتور شوقى ضيف قامت علاقة خاصة بينى وبينه، فكان يستقبلنى فى بيته متى ما زرته ويحمل لى بنفسه كرما منه ولطفا فنجان القهوة وقطعة من الشكولاتة، فأشرب القهوة رغم أنى لست من شاربيها لا هى ولا الشاى، وأجد فيها لذة وسرورا لأنها من يد الدكتور، وآكل الشيكولاتة هَمّ يا مَمّ. وما أكثر المناقشات التى دارت بيننا فى تلك الزورات: ومنها مثلا أن همزة "أنَّ" بعد كلمة "حقا" تفتح ولا تكسر على أساس أنها واسمها وخبرها مصدر مؤول بالصريح فى محل رفع فاعل للفعل المقدر: "حَقَّ". كما أبديت أمامه ذات مرة ضيقى بنفسى لإحساسى أننى أقل ثقافة ومقدرة على التأليف من العقاد وطه حسين وأحمد أمين، فكانت إجابته أنه ليس لى الحق فى هذا الضيق لأن المقارنة ظالمة، إذ يجب أن أقارن بينى وبينهم حين كانوا فى مثل سنى، لا بعدما صاروا كتابا مشهورين يكبروننى بعقود من السنين، فهدأت نفسى قليلا.
ومن تلك المناقشات أيضا المقارنة بين العقاد وطه حسين. وقد فوجئت به يفضل الأول على الثانى كثيرا قائلا إن العقاد كان يبدو جهما مترفعا فى ظاهر الأمر، لكنه كان شعبيا ديمقراطيا فى حياته وتصرفاته على عكس طه حسين، وإنه من ثم قد ألف كتابا كاملا عن العقاد (هو "مع العقاد"، الذى قرأته بعد انتهائى من المرحلة الإعدادية)، فى الوقت الذى لم يفكر فيه أن يضع كتابا عن أستاذه طه حسين. وقد سجلت ما دار فى هذا الحديث وأردت نشره فى إحدى المجلات ضمن مقال لى رسمت فيه صورة قلمية له، إلا أننى فكرت أولا أن أطلعه عليه حتى يبدى ما يراه من ملاحظات، فأشار علىَّ بأن أبقى على كلامه الخاص بالعقاد وأحذف ما قاله فى طه حسين حتى لا يتهمه الناس بالتنكر لأستاذه، أو كما قال. فانصعت لرغبته احتراما له ولما يراه، ونشرت المقال فى منتصف سبعينات القرن الفائت بملحق "الزهور" التابع لمجلة "الهلال" على أيام المرحوم صالح جودت فيما أذكر، وكان بعنوان "د. شوقى ضيف شيخ مؤرخى الأدب العربى- صورة قلمية". نشره لى الأستاذ نصر الدين عبد اللطيف، الذى لا أدرى ألا يزال حيا حتى الآن أم لا، وكان رقيقا مجاملا يشجعنا ويرحب على قدر وسعه بما أحمله إليه أنا وغيرى من مقالات. شكر الله له رقته ولطفه.

حسن حنفي وآراء غربية
ومن الأساتذة الذين لا يمكن الصمت عنهم فى هذه اللمحات د. حسن حنفى، الذى حاضرنا عامين متتابعتين فى السنتين الأخيرتين لى بآداب القاهرة فى الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامى على التوالى. ولم يكن له كتاب نرجع إليه، بل كان الطلاب يعتمدون على تسجيل ما يقوله فى المحاضرات: يقوله لا يمليه، إذ كان يتحدث بالإيقاع المعتاد فى الحديث ودون أى تنظيم. أما أنا فلم أكن أكتب شيئا مما أسمعه منه، بل كنت أعود إلى المراجع أقرؤها فى المكتبة. وكنت ألاحظ أن د. حنفى يعزو بعض الآراء الغريبة إلى هذا الفيلسوف المسلم أو ذاك حتى إذا ما ذهبتُ وقرأتُ ما كتبه الفيلسوف نفسه فى كتبه ألفيته شيئا مختلفا عما يقوله الدكتور، فأعود فى المحاضرة التالية وأعلن هذا على رؤوس الطلاب دون جمجمة أو تردد. وكانت المناقشات كثيرا ما تحتد بينى وبين أستاذى. ولا أذكر أنه حاول إسكاتى أو الانتقام منى طوال العامين اللذين قضيتهما فى الاعتراض معظم الوقت على ما يقول والمقارنة بينه وبين ما يقوله الفلاسفة المسلمون فى مؤلفاتهم، واتهامه بأنه يلوى كلامهم وينسب إليهم ما لم يقولوه.
فمثلا كان ينسب إلى بعض الفلاسفة المسلمين القول بأن الله يعلم الكليات فقط دون الجزئيات أو أنهم ينكرون الحياة الآخرة. فرجعت مثلا إلى كتابى ابن رشد: "فصل المقال" و"مناهج الأدلة" لأجده يؤمن بالحياة الآخرة وأنه لا شىء يند عن علم الله. كل ما هنالك أنه قد عرض آراء المتكلمين المسلمين فى تصور البعث من قائل بأنه سيكون جسديا، ومن قائل بأنه سيكون روحيا، ومن قائل بأنه سيكون جسديا لكن بأجساد جديدة أو شىء قريب من هذا. وقد علمنى هذا شيئا مهما، وهو عدم تصديق ما يسمعه الشخص أو يقرؤه من الآخرين دون تمحيص. وكان من رأى الأستاذ الدكتور أن ابن رشد قد بث آراءه فى شرحه لفلسفة أرسطو، على حين كان رأى العبد لله أن شرحه لأرسطو إنما هو عرض لأفكار أرسطو لا يُسْأَل هو عن شىء منه، أما كتاباه الآنفا الذكر فهما مناط البحث عن آراءئه.
وأذكر أيضا أننى، فى إحدى المحاضرات وبعد انتهاء الدكتور حنفى من قول ما عنده وحلول ميعاد المناقشة، رفعت يدى طلبا للتعقيب، وكنت قريبا من آخر القاعة، فقال: سنبدأ من الصف الأول. فما كان منى إلا أن انتقلت من موضعى إلى الصف الأول كى أستطيع التعليق على ما قال قبل انتهاء المحاضرة. وكان معه قطعة من الطباشير فقذفها نحوى قائلا: ماذا تريد بانتقالك هذا؟ قلت له: أريد أن أتكلم قبل أن تنتهى المحاضرة. فقال: إذن تكلم، ولكن لا تُطِلْ. فقلت ضاحكا، ولكن فى جد تام: بل سآخذ راحتى فى التعليق. فأجابنى حينئذ إلى طلبى دون تعسف. وقد حصلت فى المادتين اللتين حاضرَنا الأستاذ الدكتور فيهما خلال تَيْنِكَ السنتين على تقدير "ممتاز" و"جيد جدا" على التوالى. ولم يحصل أحد فى السنة الرابعة فى مادة "التصوف الإسلامى" على أعلى من "جيد جدا" بما يدل على أنه لم يكن كذلك الأستاذ الآخر الذى أعطانى فى مادتيه فى ذينك العامين أنفسهما أدنى درجة فى تقدير "الجيد". ولم أكن فى إجاباتى على أسئلة الدكتور حسن حنفى أستشهد بما يقول إلا على سبيل المناقشة له والاختلاف معه، ومع هذا لم يفكر الرجل فى طعن ظهرى فى الظلام. لكن لا بد من القول رغم ذلك بأننى حين أقرأ له شيئا الآن لا أستطيع إلا أن أتذكر طريقته فى عرض أفكاره أثناء المحاضرة، تلك الطريقة القائمة على الإتيان بنتائج خاطئة مبنية على مقدمات متهافتة. إلا أن هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى! وقد تحدثت إلى د. شوقى ضيف ذات مرة عن آراء الدكتور حسن حنفى واختلافى مع ما يردده فى المحاضرات، فأبدى استغرابه لأنه، حسبما أخبرنى، كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين!
وهناك الدكتور الذى كان يحاضرنا فى خلال السنة الثالثة فى مادة "النقد الأدبى"، وهو الذى ذكرت آنفا أنه أعطانى فى مادتيه أدنى درجات "الجيد"، ولم يكن له كتاب، كما أنه لم يكن يملى علينا شيئا، اللهم إلا من يريد الكتابة السريعة وراءه. ومع هذا وجدت فى كتاب د. سهير القلماوى فى "النقد الأدبى" ما يقوله أستاذنا، الذى كان مثل د. حسن حنفى ود. محمود فهمى حجازى لا يزال مدرسا فى أول الطريق. وحدث ذات محاضرة أن كان يشرح مفهوما من مفاهيم النقد وجدت أنا أنه بحاجة إلى تمثيل يوضح ما يريد أن يقوله ويزيل ما يبدو فى كلامه عنه من غموض، فرفعت يدى وطلبت منه أن يزودنا بمثال توضيحى. إلا أنه توقف عن الشرح بغتة، وطلب منى أن أقف سائلا إياى ماذا أقول، مع رنة غضب فى صوته، فارتبكت لأنى لم أتوقع قط أن يكون هذا هو رد الفعل، إذ أنا متعود على مثل تلك الأسئلة، وليس فى طلبى ما يمكن أن يضايق أحدا. وقد أسرع أحد الطلبة الفلسطينيين إلى توضيح ما يريده إبراهيم، فما كان من الدكتور إلا أن سكت ولَمَّ أوراقه وكراريسه وترك المحاضرة دون تعليق. وحتى الآن لا أدرى لماذا فعل ذلك. وقد حصلت فى مادته، رغم المراجع المتعددة التى استعنت بها فى إجابتى فى آخر العام، على أدنى درجات "الجيد" كما قلت آنفا على حين حصلت فى كل مواد القسم تقريبا على تقدير "ممتاز"، وهو ما تكرر معى فى المادة التى حاضرَنا فيها العام الذى يليه.

يساريون وعلمانيون متربصون
ودارت الأيام إلى أن كنا فى عام 1986م، وهو العام الذى قدمت فيه ثمانية كتب من أجل الترقى لرتبة "الأستاذ المساعد"، وكان الرجل عضوا فى لجنة تقويم أعمالى هذه، فلم تجد اللجنة فى أى كتاب من تلك الكتب شيئا واحدا إيجابيا، وكتبت تقريرا خلاصته أن كتبى الثمانية تخلو تماما من أى شىء يصلح لترقيتى إلى مرتبة "الأستاذ المساعد". وكانت النتيجة أننى لم أُرَقَّ للرتبة المذكورة، وهو ما أفزعنى وصرفنى عن محاولة التقدم مرة أخرى للترقية لمدة خمس سنوات إيمانا منى بأن هناك تربصا بى لمنعى من نيل حقى رغم أنه كان من السهل علىَّ أن أعيد الكرة العام القادم بكل سهولة. ولولا أن زوجتى، بعد مضى خمس سنوات على الواقعة الأولى، قد أقدمت ذات زورة لها إلى أرض الوطن على تقديم بعض ما كان جاهزا لدىَّ من كتب للترقية من وراء ظهرى، إذ كنت متوجسا من تكرر ما وقع فى المرة الماضية، فطلبت منها بالهاتف ألا تقدم شيئا وتشددت فى ذلك تشددا عنيفا، إلا أنها تظاهرت بطاعتى ونوت فى سريرتها أمرا شجعها عليه والدتها حين سألتها عن توترها وضيق صدرها، فباحت لها بمخاوفى، فظنت السيدة النبيلة أن السبب هو خوفى أن يضيع ما أنفقته على طباعة الكتب الجديدة سدى، فقالت لها: تقدمى على بركة الله، ولسوف أدفع تكلفة الطباعة لإبراهيم إذا لم يوفقه الله. فلما أخرتها ابنتها بالسبب الحقيقى غضبت ودعت على الظالمين وظلت تدفعها إلى التقدم، فقدمت زوجتى الكتب من ورائى، وكعادتى لم أعرف من أعضاء اللجنة التى تقرأ لى. ثم اتضح كل شىء بعد ذلك، إذ كان من بين الأعضاء د. عبد الصبور شاهين وعضوان آخران معاديان لى بسبب اتجاهى الفكرى، عضوان مستنيران لا رجعيان مثلى. وقد كانت النية متجهة هذه المرة أيضا، بما يدل على أن توجساتى كانت فى محلها لولا أن د. شاهين قد تحدى العضوين الآخرين طالبا منهما أن يقرأ تقريره ويقرآ هما أيضا تقريرهما على لجنة الترقية الدائمة، وما إن انتهى من قراءة تقريره، الذى رفع فيه أعمالى إلى السماء حتى أعرب العضوان الآخران عن موافقتهما على ذلك التقرير بعدما كانا قد أعدا تقريرا بأن أعمالى هذه المرة أيضا لا تصلح.
وكنت قدمت فى المرة الأولى ثمانية كتب أتصور أنها كافية لترقية مدرسين اثنين لا مدرس واحد. ومن بينها مثلا ثلاثة كتب عن المتنبى: واحد عن حياته وشخصيته تناولت فيه، ضمن ما تناولت، عقيدته وبينت أن الرجل مسلم ولم يتنبأ كما أشيع عنه، وليس فى إيمانه ما يشين سوى أنه مندفع هجام لا يتأنى فى الحديث عن نفسه وعرض أفكاره، وهو ما اقتضى منى تفلية شعره بيتا بيتا وتقليب كل ما قيل عن تمرده على الإسلام خبرا خبرا... إلى آخر تلك التحقيقات المرهقة التى يعرفها عنى من يقرأون لى شيئا. كما أننى عالجت فى ذلك الكتاب ما يقال عن أصله الأسرى، وهل هو ابن سقاء كوفى أم هل هو ابن رجل من الهاشميين كما يقول الأستاذ محمود شاكر أم هل هو ابن الإمام المهدى المنتظر حسبما كتب أحد الباحثين العرب. وكعادتى لم أترك حجرا إلا قلبته على كل وجوهه بحثا عما يمكن أن يكون تحته من أشياء قد تفيد الموضوع... وغير ذلك من الموضوعات على مدار ثلاثمائة صفحة وثلاثين ونيف. ومع هذا قيل إننى لم أقدم أى جديد.
أما الكتاب الثانى فكان عن لغة المتنبى، وهو أكبر من الكتاب الأول. وقد تناولت فيه كل ما قيل فى ذلك الموضوع مناقشا مصححا مستدركا متوصلا إلى نتائج جديدة مستشهدا على هذه النتائج الجديدة بأشعار كثيرة من أشعار الرجل على عكس ما فعل من رددت عليهم إذ يقفون عند شاهد أو اثنين ثم يخرجون بما يخرجون به من نتائج. وقد استطعت من خلال القراءة المتفحصة الدقيقة لديوان المتنبى التوصل إلى عشرات السمات الأسلوبية التى تطبع لغته مما لم يتوصل إليه باحث من قبل فى حدود علمى. ومع هذا لم تجد اللجنة فى ذلك الكتاب أيضا شيئا يصح أن يُحْسَب لى، فى الوقت الذى وقفتْ فيه مثلا إزاء ألف مثبتة بعد واو فعل مضارع (لعله الفعل: "يدعو")، قائلة ما معناه أن "السيد الباحث" (هكذا بمثل تلك اللغة المهذبة!) لا يستطيع أن يفرق بين واو الفعل وواو الجماعة، مع أن هذا الأمر لم يتكرر فى هذا الكتاب ولا فى أى من الكتب الأخرى، فضلا عن أنهم قد علمونا هذه المعلومة فى الكتاب ونحن أطفال صغار، فالتزمنا بها منذ ذلك الحين لم نخطئ فيها قط. كما أن واحدا مثلى لا ينبغى أن يقال فى حقه هذا الكلام الصغير الذى ما كان يليق أن تردده اللجنة. وقد عدت يومذاك إلى أصول الكتاب عندى: سواء المسوَّدة التى كتبتها بيدى أو المبيَّضة التى نسختها لى زوجتى لأعرف من أين جاءت تلك الألف، فلم أجد تلك الألف، وهو ما يدل على أنها ليست سوى غلطة من طابع الكتاب. ولنفترض أنها غلطتى أنا، فهل يحاسب الباحث على غلطة لم تتكرر عنده قبل ذلك ولا بعد ذلك قط؟
وفى الكتاب الذى ترجمتُ فيه عن الفرنسية بحث ماسينيون عن قرمطية المتنبى درست كل ما قاله الرجل عن مذهب الشاعر وفَلَّيْتُه تفليةً ولم أترك شيئا كتبه المستشرق الفرنسى إلا بينت عواره تماما من خلال الشواهد الكثيرة على عادتى التى أراعيها دائما بحيث لا أترك لأحد مُتَعَلَّقا يشغب به على ما أقول، ثم لم أكتف بهذا، بل عمدت إلى كل الأخبار التاريخية المتصلة بهذا الموضوع فناقشتها خبرا خبرا فلم أجد فيها شيئا يمكن الاعتماد عليه فى اتهام الرجل بالقرمطية كما صنع ما سينيون بِلَيِّه للنصوص وتأويله للأخبار لَيًّا وتأويلاً لا يصلحان فى ميدان البحث العلمى، وإن كان قد ذاع هذا الاتهام الماسينيونى بين الباحثين عربا وأجانب. فتركتِ اللجنة المذكورة هذا كله مما من شأنه أن يقلب ما هو شائع فى ذلك الحقل من حقول الدراسات المتنبئية رأسا على عقب، ووقفتْ عند كلمة مجاملة قلتها فى مقدمة الكتاب تشير إلى أنى قد ناقشت إحدى زميلاتى بقسم اللغة الفرنسية على الواقف فى "بضع" كلمات (أربع حسبما أتذكر الآن) من بحث ماسينيون. ويعلم الله أن الزميلة لم تقل شيئا أستفيد به، إلا أن طبيعة المجاملة عندى أبت علىَّ إلا أن أشكرها على مناقشتى لها فى "بضع" كلمات فى النص الفرنسى. فماذا قالت اللجنة الموقرة؟ قالت إننى استعنت فى ترجمة البحث بفلانة هذه. يا للهول! والله الذى لا إله إلا هو لا أظن الزميلة المشار إليها تتذكر شيئا مما دار بيننا فى المرة اليتيمة التى "وقفت" فيها أنا وهى لدقائق معدودات لا غير نتحدث أثناءها فى تلك الكلمات الأربع. أإلى هذا الحد يتربص بعض الناس ببعض ويُقَوِّل بعضهم بعضا كلاما لم يقولوه؟
وفى كتاب آخر لى أشرت إلى ما لاحظته من أن كلمة "أَوَى" كثيرا ما تكتب فى كتب د. طه حسين بمَدَّة على الألف، ولا أدرى حتى الآن لماذا. فهو يقول مثلا: "آوَى الرجلُ إلى بيته"، بمعنى"لجأ إليه أو دخله"، بدلا من "أَوَى" كما ينبغى أن تكون صيغة الفعل الماضى فى هذا السياق. ترى هل كفر العبد لله حين لاحظ هذه الملاحظة؟ لكن اللجنة التى كانت تقرأ أعمالى كان لها رأى آخر، إذ خطأتنى أنا، ثم لم تكتف بهذا بل استشهدت بالقرآن على صواب استعمال الـمَدَّة بدل الفتحة هنا. وهذان هما الشاهدان اللذان خطأتنى بهما: "قال (أى ابن نوح): سآوِى إلى جبل يعصمنى من الماء"، "قال (أى لوط) : لو أن لى بكم قوة أو آوِى إلى ركن شديد". وكان رأى اللجنة أن القرآن الكريم قد استعمل الـمَدَّة لا الفتحة على الهمزة. فماذا يريد "السيد الباحث" بعد هذا؟ وطبعا هذا كلام "فى البطيخ" أو "فى الهجايص" كما يقال فى مصر، إذ الفعل هنا مضارع لا ماض، وماضيه هو "أَوَيْتُ"، والـمَدَّة سببها همزة المضارعة لا همزة التعدية، وهو ما يعضد ما قلت، إلا أن كلام اللجنة طبعا لا ينزل الأرض. ترى بالله عليك أيها القارئ الكريم ماذا يمكن أن يقال فى مثل هذا الكلام؟ ويستطيع القارئ أن يقيس رأى اللجنة فى كتبى الأخرى على ما سبق.

الإجحاف بحقي ومقارنة مع قضية نصر ابو زيد
والعجيب فى رأى كثير من الناس أننى لذت بالصمت فلم أحاول الشكوى ولا الكتابة فى الصحف. والسبب هو أننى بطبيعتى أشعر بالخجل من لَوْك اسمى فى الصحف والمجلات وعلى ألسنة الناس بوصفى مظلوما أشكو. وبطبيعة الحال فإننى لو كنت يساريا أو حداثيا لانتفضت الكرة الأرضية من اليابان إلى أمريكا، ومن القطب الشمالى حتى القطب الجنوبى، دفاعا عنى وهجوما على من وقفوا ضدى حتى لو كان كل ما قالته اللجنة فى حقى هو الصواب المطلق. وقد حدث هذا بعدها بقليل فى موضوع د. نصر أبو زيد. بل إن بعض من وقفوا يدافعون عن د. نصر كانوا من أعضاء اللجنتين اللتين قرأتا أعمالى واشتركوا فى الإجحاف بحقى. وأنا الآن حين تأتينى أعمال أى دكتور متقدم للترقية أتذكر ما وقع لى فأقرؤها بعين العطف والخوف من الله وأُغَلِّب النظرة الإيجابية، ولا أفكر فى الانتقام من أحد ولا حتى ممن أشعر أن لهم فكرا يختلف عن فكرى واتجاها يغاير اتجاهى، واضعا فى ذهنى دائما أن له أولادا وزوجة سوف يتألمون أشد الألم إذا لم ينجح فى الترقية وشعروا أن هناك إجحافا بحقه. وأرجو ممن له رأى فى تقاريرى غير ما أقوله هنا أن يتقدم بما عنده.
مرة واحدة يتيمة طوال ما يقرب من عشرة أعوام أعطيت بحثا واحدا يتيما لدكتور متقدم للترقى صفرا. لكن لماذا؟ لقد كان البحث مكتوبا بالإنجليزية، وهى إنجليزية لا صلة بينها وبين الإنجليزية التى نعرفها ولا أية لغة أخرى. وربما وضعها الباحث على جوجل فتمت ترجمتها آليا. وقد أكون مخطئا فى هذا التعليل رغم ذلك. والسبب فى كتابة البحث بالإنجليزية أنه مقدم إلى مؤتمر أحنبى خارج مصر، ولكن كان من الممكن تقديم أصله باللغة العربية إلى لجنة الترقية. أما سبب الصفر فلأن الباحث أقام بحثه على المقارنة بين بنت الشاطئ بجلالة قدرها وبين جيل الكاتبات الحاليات، فلم يجد من تمثل أولئك الكاتبات إلا فتاة تكتب على المشباك (الإنترنت) خواطر من خواطر الهواة الذين يجربون أقلامهم فى فضاء المشباك المفتوح لكل من هب ودب تتحدث فيها ضمن ما تتحدث عن راكب بجوارها فى الطائرة رأته يخرج عضوه ويستمنى أمامها، فشرعت تصف ما يقع. دعونا من النتانة التى تفوح فوحانا كريها من ذلك الكلام، وتعالوا فقط إلى المقارنة التى تَغَيَّاها الباحث فى كلامه. ترى هل يصح أن نقارن بين بنت الشاطئ وبنت مفعوصة وقحة لا علاقة لها بالتأليف والإبداع تكتب مثل هذه النتانات؟ هل مثل تلك الفتاة يصح أن نوقفها رأسا برأس إزاء د. عائشة عبد الرحمن؟ ومنذ متى تقدَّم البحوث للترقى فى ميدان الأدب العربى من باحث مصرى إلى لجنة مصرية باللغة الإنجليزية؟ ويا ليت اللغة التى كُتِب بها البحث قد تحقق لها الحد الأدنى من الصلاحية. أما بقية أبحاث ذلك الدكتور فقد أجزتُها، ولم آخذها بذنب هذا البحث الغريب.

التيار اليسارى متحفز بعد تمكن
وبعد أربع سنين قضيتها فى آداب القاهرة أخذتُ الليسانس بتقدير "جيد جدا"، وكنت الأول على الدفعة، والوحيد الحاصل على مرتبة الشرف. ومع ذلك قال القسم، الذى كان يرأسه فى ذلك الحين د. شكرى عياد بعدما بلغ د. شوقى ضيف سن المعاش، إنه لا يحتاج إلى معيدين، مع أنهم عينوا فى كلتا السنتين: السابقة واللاحقة معيدين. وفهمت أن التيار اليسارى فى القسم لا يريد أن يعين معيدا ذا ميول إسلامية. وكعادتى سكتُّ فلم أكتب شكوى أو أخاطب أية جهة رسمية كما يصنع عادة من هم فى مثل وضعى مع أن أحد من وقفوا ضد تعيينى هناك قد أرسل قبل بضع سنوات رسالة إلى جمال عبد الناصر كى يعين فى القسم حين وجدهم يستبعدونه من التعيين، وهو ما أثمر تعيينه بفضل رئيس الجمهورية، الذى دخل إليه صاحب الرسالة من باب الكادحين قائلا إنهم رفضوا تعيينه لأنه من اولئك الكادحين. كما قرأت منذ عدة سنين فى بعض الصحف أنه كان وراء فوز إحدى العميدات المصريات بجائزة من جوائز الدولة رغم تدنى مستواها، وذلك لقاء تعيينها ابنته معيدة عندها. ثم أعلنت كلية الآداب بجامعة عين شمس عن حاجتها إلى معيد، فقدمت طلبا إلى الكلية المذكورة، وعُمِلَتْ لنا مقابلة شخصية، وكان عدد المتقدمين لهذه الوظيفة كبيرا، إذ أذكر أنهم كانوا نحو خمسة عشر. وقد استقر الأمر فى نهاية المطاف على العبد لله بعد سنة وثلاثة شهور سمعت فى أثنائها أكثر من مرة أنهم اختاروا واحدا غيرى من المتقدمين، فامتثلت للأمر كعادتى، ولم أجد فيه ما يبعث على الاعتراض.

كشف السر الخفي وشائعات
وقد أخبرنى د. إبراهيم عبد الرحمن رحمه الله، بعد أن تم تعيينى بتزكية منه عقب سماعه قصتى كلها، أنهم فى القاهرة كانوا يحذرونهم من تعيينى عندهم لأنى "ولد قليل الأدب"، مع أنى لم أُقِلَّ أدبى يوما على أحد من أساتذتى، يعلم الله، بل كنت مجرد طالب طموح يحب المحاضرات، ويحرص على الاستزادة من العلم ما أمكن، ولا يكف عن المناقشة والسؤال، مع احترام أساتذتى ولزوم حدودى. وأغرب ما فى الأمر أن تلك التهمة وأمثالها كانت من العوامل التى أتت بأثر عكسى، إذ جعلت بعض الأساتذة المؤثرين بآداب عين شمس يتعاطفون معى، وبخاصة بعدما عرفونى عن قرب بدلا من الشبح الذى كان غارقا فى الظلام لا يظهر منه شىء، فيصدقون كل ما يبلغهم عنه. لقد رَأَوْنِى واضحا صريحا، وبى رغبة إلى العلم. وأطرف من هذا وذاك أنه كان هناك اثنان من المتقدمين لشغل الوظيفة المذكورة حاصلان على تقدير "الامتياز"، إلا أن أحدهما آثر فى آخر لحظة أن يعيَّن فى جامعة المنيا مدينته، أما الثانى فقد بلغنى فى البداية أنهم قد اختاروه، لكنه كان كبير السن، وترك الدراسة منذ زمن بعيد، إذ لم يحاول فى تلك الفترة الطويلة مواصلة الدراسات العليا، ولا أدرى ماذا أيضا من الاعتبارات، مما جعل القسم لا يتحمس له. وهكذا فاز العبد لله بالوظيفة، التى أريد حرمانه منها بكل سبيل.
وأنا، حين أنظر إلى الماضى بعد كل هاتيك الأعوام، أحمد الله كثيرا لأنه لم يكتب لى التعيين فى آداب القاهرة، وكتبه لى فى آداب عين شمس حيث قضيت عشرات السنوات دون مشاكل تذكر. ولا أستطيع أن أتذكر طوال تلك السنين أنى آذيت أحدا أو نممت بين اثنين أو نلت بالباطل من أى زميل. كما أن عين شمس قد أرسلتنى فى بعثة علمية إلى جامعة أكسفورد للحصول على درجة الدكتورية حيث عشت هناك ست سنين أتقنت فيها الإنجليزية إلى الحد الذى كتبت بها رسالتى العلمية بأسلوب مفهوم ومعقول، بالإضافة إلى معايشتى البريطانيين فى بلادهم واطلاعى على الحضارة الأوربية فى منابعها الأصلية فى بلد من أكبر بلادها، إن لم يكن أكبرها وأقواها.
ومن بين الشائعات التى طاردتنى عقب تخرجى من آداب القاهرة الزعم بأننى، حين كنت طالبا هناك، كنت أدخل القسم فأسأل عن "شكرى عياد" و"شوقى ضيف" وغيرهم من الأساتذة الكبار هكذا حافيا دون ألقاب رغم أنى حتى الآن، وبعدما نَيَّفْتُ على الستين بخمس سنين وزيادة، لا أنادى عادة أى معيد من تلامذة تلاميذى إلا بـ"الأستاذ فلان". بل لا أذكر أننى ذكرت أى واحد من أساتذتى الذين وقفوا فى طريق تعيينى إلا مسبوقا بلقبه رغم إساءتهم لى. ودائما ما أنبه ابنى وبنتى، وهما يعملان بالتدريس فى الجامعة، أن يحترما أساتذتهما مهما كان الخلاف معهم، قائلا لهم على سبيل التحميس: هل تَرْضَوْن لأحد من تلاميذ والدكما أن يسىء إليه؟ هذه عادتى التى يلاحظها الجميع، ولست كهؤلاء الزملاء والتلاميذ الذين يفعلون ما اتُّهِمْتُ أنا به ظلما وعدوانا، حتى إذا ما واجهوا من يجردونه فى غيبته من الألقاب كانوا حراصا أشد الحرص على تبجيله والتخاشع أمامه ومناداته بـ"أستاذنا".
وقد اشتغلت فى السنة التى تفصل بين تخرجى (1970- 1971م) وتعيينى فى آداب عين شمس بمدرسة بنات ثانوية خاصة فى حى الحلمية الجديدة. وأتصور أننى لم أكن شديد السوء فى وظيفتى الجديدة. وقد حاولت فيها شيئا من التجديد، فكنت أقترح على الطالبات مثلا كتابة موضوعات تعبير مثل "بنت السابعة عشرة: عالمها ومشاكلها"، أو "أنتِ الآن فى عام 1981م. تكلمى". كما كنت أشرح أحيانا بعض الدروس الفرنسية إذا دخلت حصة إضافية تغيَّب عنها مدرس لغة الإفرنسيس، فكانت الفتيات والناظرة يستغربن أن يعرف أستاذ العربى اللغة الفرنسية، وكانت بعض الفتيات يقلن لى إنهن لا يصدقن أننى مدرس عربى لا فرنسى.
ومع أننى لم أكن شابا "لخمة"، بل كنت أقرب إلى الانطلاق كان تدينى يمنعنى من استغلال وجودى بين البنات رغم طماح النفس وتطلع القلب. وكانت البنات يتكأكأن حولى فى الفسحة كما يفعلن مع سائر المدرسين، ويقدمن لنا الشيكولاتة، فلا أدرى ماذا أفعل: فأنا أستحى أن آخذها، ومن جهة أخرى سوف تتألم البنت إذا رفضتها. فكنت أعتذر قبل أن ألين تحت ضغط إلحاح البنات، ثم أشكرهن شكرا جزيلا على لطفهن. ومع ذلك كنت أغايظهن طلبا للضحك. حدث مرة أن أخذت طالبة اسمها عطيات تثرثر حول حقوق المرأة وقاسم أمين، مستشهدة بالعبارة المشهور: "وراء كل عظيم امرأة". فأجبتها ضاحكا على الفور: فعلا وراء كل عظيم امرأةٌ تجعل حياته جحيما لا يطاق. أو وراءه لا أمامه. أو وراءه والزمن طويل. فتغتاظ من إجابتى معلنة أننى متحيز ضد النساء. ترى ماذا كانت قائلة لو رأنتى الآن وأنا أكتب فى قضايا النسوية، ولى فيها أكثر من كتاب تناولت من خلاله كتابات نوال السعداوى وأمينة ودود وعبد الله الغذامى وغيرهم من العرب وغير العرب من المسلمين ممن يتهمون المجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتمعات ذكورية تظلم المرأة وتتجنى على حقوقها، وبينتُ أن كثيرا مما يقال دفاعا عن المرأة هو كلام لا أساس له من الصحة؟ لكن أين الآن عطيات، إن كانت لاتزال حية؟ هل يمكن أن يقع كلامى هذا فى يدها فتتذكر أستاذها القديم؟ ولكن هل هناك أحد يقرأ فى بلاد العرب والمسلمين سوى من ابتلاهم الله بهذا الداء الوبيل وكتب عليهم الشقاء به، داء الاهتمام بالكتاب، ونادرٌ ما هُمْ؟
 
أخبرنا سيدي الدكتور إبراهيم عن أول إنطباعاتك عن إنجلترا حين سافرت إليها للدراسة للمرة الأولى، خصوصا وحضرتكم اطلعتكم ،قبل السفر، كما يبدو مما تقدم من سردكم، على كتابات أدبية عن الرحلات وقصص الأدباء عن الغربة، وأخبرنا ايضا إن شئت،عن أول لقاء لك بالمسجد هناك ، وهل وجدت صعوبة في البداية على التأقلم مع الحياة الغربية، مع إختلاف العادات، والقيم والأخلاق؟
 
الطريق إلى لندن وإلتحاق زوجتي بي
كنت قد تزوجت فى صيف 1975م، وبعدها بعام تقريبا كنت فى طريقى إلى لندن، وحدى أولا لمدة شهرين إلى أن لحقت بى زوجتى. وكان هناك حمل، لكن الجنين مات قبل نزوله، وكان بنتا وصفت لى أمها شعرها بأنه غزير فآلمنى هذا الوصف كثيرا، وقضينا فى شقتنا وقتا عصيبا كله حزن، وبخاصة بالليل. وكنا فى منطقة منعزلة عن الناس من حولها لا نسمع إلا أصوات الخفراء وضرب النار بين الحين والحين خوفا من لصوص مواد البناء، إذ كانت منطقة مسورة تحتوى على مقادير هائلة من الحديد المسلح والأسمنت وما إلى ذلك مما يغرى اللصوص بالسطو والسرقة، ثم من الله علينا ببنت أخرى فى أكسفورد سميناها بذات الاسم الذى كنا ننوى تسمية البنت السابقة به، وعوضنا الله بها عن أختها التى نرجو منه سبحانه أن يجعلها شفيعة لنا يوم القيامة وتأخذ أمها، ومعها أبوها فوق البَيْعَة (يا رب!)، بحبلها السُّرِّىّ إلى الجنة كما يقول رسولنا العظيم، وهو ما لا يوجد له مثيل فى أى دين من الأديان: سماوية كانت أو أرضية. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن السِّقْط لَيَجُرّ أمه بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبتْه". بل إن هناك حديثا آخر أكثر تفصيلا، وإن لم يكن بنفس قوة الحديث السابق، وهو حديث عجيب ليس له، ككثير من أمور الإسلام العظيم، مثيل فى أى دين آخر: "إن السِّقْطَ ليُرَاغِمُ ربّهَ إذا أَدْخَل أبويهِ النارَ، فيقال: أيُّها السِّقْطُ المُراغمُ ربَّه، أَدْخِلْ أبويكَ الجنّةَ. فيَجُرُّهما بسَرَرِهِ حتى يُدْخِلَهُما الجنة".
نعم عندى أمل كبير فى أن أدخل الجنة، لا بعملى بل برحمة الله. ذلك أن العمل قد يصح وربما لا يصح، أما الرحمة فلا يمكن أن يلحقها أدنى شك. وكثيرا ما أدعو الله قائلا: "أبتهل إليك يا ربى: لا حساب ولا عقاب ولا عتاب، بل دخول للجنة بغير حساب". والله عند ظن عبده به، وأنا لا أتوقع منه عز شأنه إلا خيرا، فهو غنى عن تعذيب عباده، ورحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شىء، وهو يغفر الذنوب جميعا، وقد خلقنا ضعفاء، وفتح لنا باب التوبة طوال اليوم والليلة على مصراعيه دون إغلاق، وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو الغفور الرحيم. ومن جهتنا نحاول التزام الجادّة ونجتهد فى ذلك ونأخذ حياتنا مأخذ الجد، ولكننا لا ندعى ولا يمكن أن ندعى العصمة، بل نخلط عملا صالحا وآخر سيئا، وإن لم يكن بمقدورنا أن نعرف نسبة كل من العملين إلى الآخر. فاللهم رحمتك وعفوك ورضاك.

تعلم الإنجليزية
وقد قامت الحكومة بإلحاقنا، نحن المبعوثين المصريين عام 1976م بمعهد بريطانى فى إمبابة لتعليم الإنجليزية لمدة ثلاثة شهور كى تؤهلنا للتفاهم السريع بمجرد وصولنا إلى لندن. وكانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية بخلاف زملائى كلهم فيما أذكر. ولاشك أننى قد استفدت كثيرا من هذه الدروس، إذ هيأتنى للكلام بتلك اللغة، وإن كان بطريقة مكسرة وبطيئة ومضحكة. ولكن كما هو معروف: شىء خير من لاشىء. كما أنه لا يوجد شىء فى الدنيا يتم للتو واللحظة، فالله قد خلق الدنيا فى ستة أيام. وأى أيام؟ إن كل يوم منها إنما هو دهر طويل، وليس أربعا وعشرين ساعة. ومن وقائع تلك الأيام أننى تناقشت وزميل لنا ممن كان يدرس الإنجليزية فى المعهد البريطانى معنا، وكان متخصصا فى العلوم الطبيعية، حول الموضوع التالى: أيهما أهم فى الإسلام؟ الصلوات النافلة أم القراءة؟ أما أنا فأكدت أن القراءة أهم لأنها فرض، على العكس من صلوات السنة، إذ السنن لا ترقى إلى مرتبة الفروض. بيد أنه ظل متشبثا بالرأى المخالف.

أول مشهد مُلفت!
وعند وصولى إلى مطار لندن شرعت أتلفت حولى لأستوعب الأوضاع هناك كيما أرى الفرق بيننا وبينهم، فشاهدت، ضمن ما شهدت، عاملا من عمال المطار يسير مجدا فى طريقه وبيده قطعة شكولاتة، فاهتممت أن أنظر لأعرف ماذا سوف يفعل بغلاف الشيكولاتة بعد أن يأكل ما فيه، فألفيته بعدما انتهى من أكلها يبقى الورقة فى يده ولا يلقيها على الأرض، فسرنى هذا التصرف، وإن كنت فى طريقى من المطار فى الحافلة التى أقلتنى إلى محطة فيكتوريا قد لاحظت أن جانب الطريق ليس خاليا تماما من بقايا الأوراق الصغيرة، إلا أن نهر الطريق ذاته كان نظيفا تماما. وقد خيبت قطع الورق المتناثرة على جانب الطريق ظنى، إذ كنت أتصور أن بريطانيا نظيفة تمام النظافة. ومع هذا فإن مصر لا يمكن أن تصمد للمقارنة معها ولو لثانية. إلا أننى كنت أحن رغم ذلك إلى مصر حنينا طاغيا، وحين انتهيت من دراستى وقضيت الشهرين اللذين قيل لى إن من حقى قضاءهما فى بريطانيا على حساب الوطن عدت إلى مصر وقلبى يسبقنى لأفاجأ بعد وصولى بقليل أننى صرت أفكر فى بريطانيا أنا وزوجنى تفكير المشوق ونحلم بها ونتمنى العودة إليها، ولكن دون دراسة ووجع دماغ وتعب قلب.

إنجليزي سخره الله لي..لأصل إلى المسجد!
وبعد بلوغى محطة فكتوريا بوسط لندن ذهبت إلى المكتب الثقافى المصرى، فأعطانى الموظف بعض العناوين لأدبر أمرى فى المبيت بأحدها. وهو تصرف سخيف منه لأن هذه كانت أول مرة أذهب فيها إلى تلك البلاد، وكانت لغتى ضعيفة. وقال: حين تعود هنا غدا، وكان الغد جمعة، فسوف تقابل زملاءك، فيأخذونك معهم وتسكن مثلهم فى المدينة الجامعية. وفى ذلك اليوم قابلت رجلا إنجليزيا فى الحافلة طلبت منه المعاونة فلبى عن طيب خاطر، واصطحبنى إلى حانة هناك وطلب لى زجاجة كوكاكولا، ثم طلب لى زجاجة أخرى مشكورا، لم أملك إلا أن أقدم له، كفاءَ كَرَمِه الذى لم أتوقعه، علبة الجلاش الذى لم أحضر من مصر سواها، فقبلها شاكرا. ثم أجرى اتصالا هاتفيا ببيت شباب فيما أذكر أركبنى بعده سيارة أجرة زود سائقها بعنوان الهوستيل (بيت الشباب) الذى اختاره لى لأقضى فيه ليلتى. وهناك بعد أن استقررت فى الغرفة التى خصصوها لى سألت فتاة الاستقبال عن الطعام، فأجابتنى أنهم لا يقدمون سوى الفَطُور. أما العشاء فعلىَّ تدبير أمره بنفسى. ثم اقترحتْ أن أسير إلى نهاية الشارع مرورا بالمسجد لعلى أن أجد دكانا لا يزال مفتوحا (إذ كانت الساعة قد تجازوت الخامسة أصيلا) فأشترى منه بعض الطعام.

كلمة طيبة ألقاها الله على لسان الفتاة
وهنا تركت كل ماقالته الفتاة الهادئة مما فهمتُه، وما أَقَلَّه، وما لم أفهمه، وهو الأكثر، وشَبَطْتُ فى كلمة "المسجد" قائلا فى نفسى: لن تضيع يا أبا خليل، وعندك مسجد. ولما حاذيت المسجد وجدته بناء ضخما جدرانه وسقفه من الخشب، وكان فى مرحلة التشييد لا يزال.

استقبال جميل في المسجد
وهناك وقفت أمام نافذة زجاجية ونظرت بالداخل، فوجدت شابا أسود فيه بعض ضخامة، فنقرت على الزجاج، ففتح وطلب منى أن أَدْخُلْ. فقلت له: أنا مسلم، وأبحث عن محل أو مطعم أبتاع منه طعاما، فكرر الإجابة أَنِ ادْخُلْ. فأعدت الكلام بأننى إنما أريد طعاما، فكرر الرد أَنِ "ادخل، وسوف أقدم لك طعاما". فقلت له: فى المسجد؟ قال: نعم فى المسجد. وهنا رقصت عصافير بطنى بعدما كانت تصيح وتصرخ وتلطم خدودها وتشق جيوبها وتنعى حظها، ولولا الحياء لرقصت أنا أيضا.
وبعدما دخلت وتوضأت وصليت وجدت أمامى أطباقا مملوءة بخيرات ربنا من أرز وبامية فيها نوع من اللحم أكلته فوجدته سمكا، إلا أنه كان لذيذا جدا. والطريف أننى كلما حكيت القصة لطلابى وطالباتى فى الجامعة كان رد فعلهم رسم كل علامات النفور والاشمئزاز على وجوههم وشفاههم. لكن لا ينبغى أن ننسى أننى كنت جوعان جدا، والجوع يضفى على أى شىء نأكله جاذبية وسحرا مهما كانت تفاهته. كما أننى قد علمت حينذاك أن دكاكين بريطانيا تغلق بعد الخامسة أو الخامسة والنصف بما يعنى أن من الممكن جدا أن أقضى بقية اليوم، ثم الليلة بكاملها، دون طعام. كذلك لا ينبغى أن ننسى أنه قد سبق لى قبل ذلك بسنين أن طعمت صراصير البحر مع صديقى اليابانى دون أن يحدث لى شىء. ثم لِمَ تستغربون أن يكون الله قد حَلَّى فى فمى طبق البامية بالسمك، والله على كل شىء قدير؟ وقد أخبرنى مُدَّثِر، وهذا اسم الشاب النيجيرى صاحب طبق السمك بالبامية، أن أهل الخير من السيدات العرببات حين يأتين إلى المسجد يتبرعن ببعض المال، فيصنع منه طعاما للعابرين من أمثالى. تعيش السيدات، ولْيبارك الله فى السيدات، ولْيغفر الله للسيدات، ولْيسعد الله السيدات، اللاتى لولا عطفهن وكرمهن لمات المسكين، الذى هو أنا، فى ذلك اليوم جوعا.
ولو كان الشدياق مكانى لوضع فى فضلهن هذا كتابا يخلّدهن طَوَال الدهر وجلس عند أقدامهن يتغزل فيهن ويقول فى حمدهن والثناء عليهن وعلى حلاوتهن وجمالهن، لا على باميتهن وسمكهن، الشِّعْر الجميل الذى يرى، وأنا معه تماما، أنهن يستحققنه. أما العبد لله فإنه يكتفى بالدعاء لهن من أجل السمك والبامية، والله أعلم بالسرائر وما تكنه. وهو سبحانه وتعالى قد أمر بالستر، فلا داعى للفضائح! آهاه! لقد نسيت شيئا آخر مهما، ألا وهو أن مدثر قد شفع تلك الغدوة الشهية بإصبع أو اثنين من الموز الذى يعادل الإصبع منه سباطة كاملة من موزنا القزم، إذ كانت الموزة فى حجم الذراع. وأرجو أن تمرروا لى تلك المبالغة، فلا شك أن الجوع قد أدار رأسى فلم يعد عندى تمييز. وكان الموز غاية فى الحلاوة وطيب الرائحة. ومنذ ذلك اليوم لم أعد أستلطف مَوْزَنا الصغير ....

استكمال التأهيل اللغوي ، وقرب من النموذج الغربي.
ولما وصلنا إلى لندن انتظمنا فى معهد آخر لاستكمال تأهيلنا اللغوى. وكنت قد تأخرت فى السفر فلم أرافق زملائى عندما غادروا مصر، بل سافرت بعدهم بشهر ونصف فيما أذكر لبعض الظروف التى لا أتذكرها الآن، وكانت ظروفا رسمية فيما أتصور. وبعد وصولى إلى لندن بعدة أسابيع نقلونا إلى ميناء هيستنجز حيث استأنفنا التأهل اللغوى فى معهد آخر، وسكن كل منا مع أسرة بريطانية حتى نكتسب القدرة على التفاهم بلغة جونبول ونعيش فى الجو الإنجليزى. ومن هنا كان القرار بعدم اصطحابنا لزوجاتنا معنا فى البداية. وكان كل شىء يتم فى سلاسة ويسر ودون مشاكل أو لخبطات، إذ من الواضح أن كل أمورنا قد خُطِّطَ لها تخطيطا سليما ودقيقا لا يعرف الارتجال والعفوية والتخبط الذى نعرفه فى بلادنا. وهذا بلا شك ثمرة من ثمار الحضارة المتقدمة. وقد لاحظت أن الأمور كلها تسير فى كل مكان بريطانيا على هذا النحو حتى لأذكر أننى، فى السنة الأخيرة، وقد قضيتها أنا وأسرتى فى لندن، قابلت فى المنطقة التجارية بشرق لندن حيث كنت أسكن، مبشرا روسى الأصل يوزع الكتاب المقدس على الرصيف بعدد من اللغات المختلفة، فأخذت منه نسخة بالإنجليزية وأخرى بالعبرية أملا فى أن أتعلم العبرية بعد عودتى إلى مصر تى أستطيع أن أقرأه بها. ولما لم أجد نسخا بالعربية صارحته برغبتى فى نسخة من الترجمة العربية للكتاب المقدس، فما كان منه إلا أن أخرج نوتة وقلما وسجل ذلك، قائلا لى: تعال إلى هنا الأسبوع القادم فى مثل ذلك الوقت بالضبط، وسوف تجد معى نسخة فى انتظارك. وهو ما كان. لم يقل لى إنه قد نسى، أو فُتْ علينا غدا يا سيد، أو أى شىء من هذا القبيل الذى تجرى عليه حياتنا ببلادنا فى كل المجالات. يا رب، اجعل بلادنا مثل بريطانيا فى التقدم الحضارى. آمين!
وكان من نصيبى الإقامة فى هيستنجز مع أسرة مكونة من رجل ذى أصل إسبانى وامرأة بريطانية، ومعهما بنت فى المرحلة الابتدائية اسمها شارون من زوج المرأة السابق وولد رضيع اسمه آدم كان يبكى كثيرا لعيب خلقى فى خصيته، إن كنت فهمت ما قاله لى أبوه، إذ كانت إنجليزيتى فى ذلك الوقت المبكر شديدة الضعف. وكان معى فى البيت شاب إيرانى أصغر منى أرسله أبوه إلى بريطانيا ليحصل على البكالوريوس اسمه إسماعيل. وكان لطيف المعشر، ولكنه لم يكن يصلى أو يصوم، إلا أنه كان يعرف أحكام الدين فى هذه الأمور جيدا. ومن ذلك ما شرحه لى من أن المسح على اليدين فى التيمم لا يتطلب، كما علمهم الشيخ فى إيران، مسح الذراعين كلهما كما هو الحال فى غَسْل الوضوء، بل المطلوب هو مسح اليدين فقط حتى الرسغين. وكنت قد تعلمت فى الفقه الشافعى أن مسح اليدين يعنى مسح الذراعين بالكامل قياسا على ما يحدث مع الماء. وقد سارعت، حين سمعت من إسماعيل هذا الكلام، فتلوت الآية الخاصة بالتيمم فلم أجد فيها كلاما عن الذراعين بل عن اليدين فحسب على عكس آية الوضوء، التى تنص نصا على غسل الأيدى حتى المرافق، فبدا كلامه مقنعا. ومن عجب أنه، كما قلت، لم يكن يصلى أو يصوم. لكنى انتفعت بما قال. كما كانت تنزل عند تلك الأسرة وتتعلم معنا الإنجليزية فى نفس المدرسة فتاة فرنسية أصغر منا فى السن صِغَرًا واضحًا، فكانت تُقْبِل علىَّ فى المدرسة وتحدثنى وتتعامل معى على نحو طبيعى جدا، حتى إذا كنا فى المنزل شعرتُ بها تبتعد. أتراها كانت حريصة على ألا تغضب الأسرة، التى قد تكون لاحظتْ أن ربها أو ربتها لا ترتاح لى لأننى أصلى وأصوم مثلا؟ مجرد تساؤل.
ذلك أننى كنت حريصا، بقدر إمكانى وفهمى فى ذلك الوقت، على ألا يصدر عنى ما يضايق أحدا حتى إننى كلما استحممت توخيت أن أنظف الإسفنجة والبانيو مما يكون قد عَلِق بهما من شعرات انفصلت عن جسمى، على عكس إسماعيل، الذى كان يتصرف حسبما يحلو له، وحتى إننى كنت أؤجل إفطارى فى رمضان لحين تناول الطعام مع الجميع بعد نحو ساعتين كيلا أرهق ربة البيت. ومع هذا لاحظت أن رَبَِّى الأسرة كانا يستلطفان إسماعيل أكثر. فمن ذلك أننى وإسماعيل، فى اليوم الأول لتركيب السنترال هيتنج (التدفئة المركزية) بالمنزل، كنا فى غرفتى نسمر ونتناقش، فشعرنا أن الجو حار لا يطاق، فقام هو وخفض درجة الحرارة فى جهاز التدفئة. ثم إنى فى اليوم التالى سألت ربة المنزل عما ينبغى أن أفعله إذا ما أحسست بشدة الحرارة فى غرقتى، فقالت ما معناه أننى ينبغى ألا ألمس شيئا، بل علىَّ أن أعود إليهم حتى يتصرفوا هم، وإلا أفسدتُ الجهاز. فرددت عليها بعفوية: لكن إسماعيل قام بتخفيض درجة الحرارة دون أن يحدث شىء. وفى الحال وجدتها تنهض من مكانها كمن أصابتها لوثة، حقيقة لا مجازا، وتبكى قائلة إننا بهذا سوف نهدم البيت، أو كلاما بهذا المعنى. ومع هذا لم تظهر هى أو زوجها شيئا من هذا الغضب لإسماعيل، بينما أَبْدَيَا الضيق نحوى. وكان هذا من أغرب ما صادفت فى حياتى. ولما شكوت لبعض زملائى سلوك المرأة نحوى، وسلوك زوجها بالتبعية، قال لى زميل ممن يظنون أنهم ممن قطعوا السمكة وذيلها، وليس غشيما مثلى، إننى لم أفتح عينى مع الزوجة كما ينبغى. فاستغربت ذلك ضاحكا. ثم عدت فنظرت إلى المسألة من زاوية فكاهية قائلا فى نفسى إن المرأة، وإن لم تكن قبيحة، فهى أيضا عادية وليست جميلة تُغْرِى، فضلا عن أنها أكبر من أمثالى سنا. وإنى لأذكر أيضا أنها، فى بداية إقامتى معهم، قد سألتنى عن زوجتى وهل معى صورة لها أو لا، فأريتها صورتها التى كنت أحضرتها ضمن حاجيّاتى، فتأملتها برهة ثم ردتها لى.
وقد وقعت بعض الطرائف المزعجة أثناء إقامتى مع تلك الأسرة: فمنها أن ربة البيت كانت تقدم لى فى السحور كل ليلة مربى أو عسلا حتى ضاق صدرى بهذا اللون الطعامى الذى لا يتغير، والذى أجده كل ليلة على المائدة حين أستيقظ لتناول السَّحُور، ففاتحتها برغبتى فى شىء من التغيير. مثل ماذا؟ قلت لها: بيضتان مثلا. قالت فى ضيق واضح: ألست تحب السكر وتطلب أن يكون الشاى (باللبن والله!) حلوا؟ قلت: وهل معنى ذلك أن أظل آكل المربى والعسل على الدوام؟ قالت: لكن البيض غال. فقلت فى سرى: ماذا أقول لبنت الفرطوس هذه؟ ثم توكلت على الله قائلا فى نفسى: هى مَوْتَةٌ أم أكثر؟ وأكدت لها أن ثمن المربى والعسل هو نفسه ثمن البيضتين. فاقتنعت ونزلت أخيرا على رأيى بعدما ظننت أن روحى ستطلع قبل أن أنجح فى زحزحتها عن عنادها وتيبُّس مخها. كما لاحظت أنهم ينادون إسماعيل بـ"إشماعيل" (بالشين) فأبديت دهشتى، فغضب الرجل منى وكأننى قد طعنته فى عِرْضه. وهذا إن كان الطعن فى العِرْض يزعجهم فى شىء! ثم نسمع من يقولون إن الإنجليز دائما أهل سياسة ودهاء من طراز رفيع! لا، يا سيدى أنت وهو، ليس دائما، وإن لم تصدقونى فاسألوا مدام جونزاليش وزوجها ذا الصوت الهادئ الصادر عن فمه وأنفه معا، والعينين اللتين لم أكن أرتاح لنظراتهما، وما هما إلا مجرد مثال!

إلى أكسفورد..ومشاهد ملفتة.
وأخيرا ذهبت إلى أكسفورد، وكان أحد الموظفين فى مكتبنا الثقافى بلندن قد أعطانى عنوان دارس مصرى قديم فى تلك المدينة أوصانى أن أتصل به حال وصولى حتى يساعدنى فى التعرف إلى المدينة إلى أن تستقر اقدامى فيها بصفته أقدم منى فى الجامعة هناك. وقد اتصلت بالزميل المذكور متلهفا على مقابلة مصرى مثلى فى تلك المدينة التى لا أعرف ولا يعرفنى فيها أحد، وأحتاج إلى من يزيل عنى مرارة الغربة فيها، وبخاصة أن لغتى الإنجليزية كانت ضعيفة لا تساعدنى على العوم فى بحر المجتمع هناك. إلا أن الزميل المذكور واعدنى أن يلتقى بى بعد يومين. ولما تقابلنا وجدت أنه لم يكن يبعد عنى إلا بعرض شارع واحد، فدهشت من طول أناته فى ضرب الميعاد. ومع هذا فقد استقبلنى هو وزوجته استقبالا طيبا، وقدمت لى السيدة بعض الشطائر المنزلية اللذيذة وعصير البرتقال. وقد استسمحته أن أصلى العصر عنده فسمح مشكورا. ولما أعلنت عن رغبتى فى الاتصال به مرة أخرى قال إنه سوف يقوم هو بهذا الاتصال، فلا ينبغى أن أشغل نفسى بالأمر. ثم لم يحدث أن اتصل بى مرة أخرى طوال السنوات الست التى قضيتها فى بريطانيا.
ومع ذلك فقد تقابلنا بالمصادفة فى وسط المدينة ذات ضُحًى بعد مجىء زوجتى، فأخبرنى أنه ينتظر صديقا له يشتغل فى السلك الدبلوماسى المصرى بسويسرا دخل حانة هناك يأخذ كأسا. وأكد لى دون أن أسأله أنه هو نفسه لا يشرب. ثم افترقنا، ولم ير أحدنا الآخر إلا أثناء استعدادنا نحن الدارسين المصريين بأكسفورد لحفل عشاء أردنا أن نقيمه لأساتذتنا البريطانيين. وقد انقسمنا طائفتين: طائفة تقول إننا لن نقدم للأساتذة إلا الطعام والعصائر، وطائفة قالت: بل لا بد أن نقدم لهم خمرا ما داموا يشربون الخمر. وكنت أنا من الطائفة الأولى، وهو ذات الموقف الذى وقفته زوجتى بين زوجات الدارسين المصريين، على عكس زوجة صاحبنا، التى قالت لزوجتى وبقية النساء إنها، حين تدعو أحدا من الأساتذة إلى بيتها، تعمل كل ما من شأنه إرضاؤهم وإدخال المسرة على قلوبهم بما فى ذلك تقديم الويسكى. ثم رأيت صاحبنا نفسه يشرب الخمر فى إحدى الحفلات. إذن فلم قال لى ما قاله عن صديقه الذى يعمل بسفارتنا فى سويسرا؟ وقد تذكرت صَلاَتى فى بيته، فعزوت إليها السبب فى نفوره من قيام معرفة بيننا، وعرفت أنه كان يكذب علىَّ حين صور نفسه فى صورة الكاره للمشروبات الكحولية.
وفى أول حفل جامعى أشارك فيه، وهو الحفل الذى يستقبلون فيه الطلبة الجدد فى بداية العام، كان هناك عشاء قُدِّم لنا فيه أرز ولحم، وكان قبالتى قسيس الكلية يأكل فى طبقه مشغولا بطعامه دون أن ينظر إلينا. وكانت قطعة اللحم التى فى طبقى كبيرة، وكنت شديد الجوع، إذ كنت أعيش عيشة العَزَب، فلم تكن زوجتى قد لحقت بى بعد، إلا أننى أردت أن أستوثق من أن اللحم ليس خنزيرا، وتصادف أن جلس بجوارى شاب أصغر منى من لبنان اسمه محمد، فسألته: كيف لى أن أعرف أن اللحم ليس لحم خنزير؟ فاستمهلنى حتى يشم الطبق، ثم قربه إلى أنفه دون أن يبدو عليه التحرج، ثم أعلن بكل ثقة أنه خنزير. كل ذلك، وعمنا القسيس ولا هو هنا، وإن كنت متيقنا أنه معنا بكل خلجة فى أعصابه. وإنى لأسأل: ألا تعرف الجامعة أننا مسلمون؟ فلم قدموا لنا لحم خنزير إذن؟ لقد كان البريطانيون يحتلون بلادا إسلامية كثيرة، وعندهم مستشرقون ومبشرون يعرفون كل شىء عن الإسلام وأتباعه، فأين غاب هذا كله عنهم؟
وقد تكرر هذا الأمر مع زوجتى حين كانت فى المستشفى بعد ذلك بشهور أثناء الحمل، إذ وجدتْ قطعة اللحم التى قدمت لها فى الغداء أكبر حجما مما يقدم لها من اللحم كل يوم. ثم اكتشفت أنه لحم خنزير رغم أنها كانت قد أخبرتهم بأنها مسلمة لا تأكل هذا النوع من الطعام ردا على سؤالهم لها لدن دخولها المستشفى. ولما راجعتْهم يومها بخصوص الخنزير اعتذروا، واستبدلوا به قطعة لحم حلال، لكنها كانت أقل حجما بكثير. وإنى لأتصور أنهم يفكرون على النحو التالى: فلنقدم لهم الخنزير، وحينئذ إما أن يأكلوه خجلا من الرفض، أو يأكلوه جهلا ثم يكتشفوا حرمته فيما بعد. وفى الحالتين سيكون الجدار العالى والسميك الذى بين المسلم والخنزير قد انهدم، وهو مكسب ليس بالقليل. أما إن أصر المسلم على عدم أكل الخنزير فما أسهل أن نقول له بكل أدب واحترام: آسفون! لقد فاتتنا هذه المرة، ولن نكررها بعد ذلك، فتقبل عذرنا عن تلك الغلطة. ويا دار، ما دخلك شر!

تقدير ممتاز في الإنجليزية
....وفى الفصل الدراسى التالى التحقت بمدرسة "فرذر إيديوكيشن كولدج" بغية مزيد من تعلم اللغة الإنجليزية، ودخلت مباشرة مستوى "الفرست سرتفيكيت"، وهو المستوى الذى لا يصل إليه المتعلم إلا بعد ثلاث سنوات. وحصلت فى الامتحان على تقدير "A"، أى "ممتاز"، لأنتقل بعد ذلك إلى مستوى "البروفشيانسى"، الذى لم أقض فيه سوى فصل دراسى واحد من ثلاثة فصول، وحصلت فى امتحانه أيضا على تقدير "ممتاز". وكان معى طلاب عرب يدرسون الإنجليزية طول عمرهم، وبعضهم كان يدرس بالجامعة الأمريكية فى بلده، وحصلوا على تقدير "C"، أى "جيد". وكانت زوجتى تتعلم على حسابى فى ذات المدرسة التى أتعلم بها. كما كان هناك مدرس يأتى لتعليمها فى البيت بعد توقفها عن الذهاب إلى المدرسة المذكورة عقب إنجانبا يمنى، وكان يسهر معنا ونقدم له العشاء تعبيرا عن شعورنا بجميله، إذ كان يتقاضى شوية بنسات فى الحصة التى كانت تمتد لساعتين. وكان مستر نايجل نايت رجلا لطيفا لطيف الحضور. وكان يتمتع بصبر أيوب، ويصحح لى كذلك ما أكتبه من فصول الرسالة، فكان ينبهنى عادة إلى غلطة أو اثنتين فقط فى الصفحة الفولسكاب. وأحسب أن الأمر على هذا النحو معقول جدا.
وقد ساعدنى على التفوق فى امتحانات اللغة الإنجليزية كثرة ما قرأته من كتب فى تعليم اللغة الإنجليزية حتى إننى أحصيتها فوجدتها تبلغ الخمسة والثلاثين. وكنت كلما انتهيت من كتاب انتقلت إلى كتاب أعلى... وهكذا. وبطبيعة الحال كانت هناك صعوبات ناشئة من اختلاف اللغتين ونظاميهما. فمثلا كنت إذا أردت أن أقول إننى كنت ألعب الكرة فى صغرى كل يوم عصرا أستخدم الماضى المستمر، فأقول: "I was playing"، فتصحح لى المدرسة الكلام إلى "I played". فأستغرب ولا أفهم السبب فى تصحيحها لما كتبتُه. ذلك أننا فى اللغة العربية نستخدم الماضى المستمر للتعبير عن هذا المعنى أيضا إلى جانب التعبير عن وقوع حدث فى الماضى فى الوقت الذى يقع فيه حادث آخر. وهو نفسه ما يفعله الفرنسيون فى لغتهم. وظللت فى حيرة من الأمر إلى أن تنبهت فى نوبة من نوبات الإلهام التى تحدث عادة على حين بغتة إلى أن اللغة الإنجليزية لا تستعمل الماضى المستمر إلا فى الحالة الثانية، كما أنها لا تستعمل الماضى البسيط للتعبير فقط عن وقوع حدث فى الماضى مرة واحدة، بل عن وقوعه باطراد بوصفه عادة من العادات أيضا، وهو ما يستعملون له كذلك التركيب التالى: "I used to play…".
ومن الأخطاء التى نبهنى فى البداية إليها الأستاذ المشرف علىَّ، وهو د. مصطفى بدوى أستاذ الأدب الإنجليزى فى جامعة الإسكندرية سابقا، عدم تفرقتى بين "foreword" و"forward"، وتصورى أنهما كلمة واحدة هى الأخيرة، وبخاصة أن نطقهما نفس النطق. ومع هذا فلو سئلت عن مدى رضاى عن المستوى الذى أحرزته فى تلك اللغة بعد كل هذا التعب فى تعلمها أقول بملء فمى: لست راضيا عن نفسى. ولكن لا بد أن أضيف أيضا أننى لو كُتِبَ لى أن أبقى فى بريطانيا واشتغلت فى إحدى جامعاتها مثلا لوصلت فيها، فيما أتصور، إلى نفس مستواى فى اللغة العربية بغض النظر عن أن مستواى فى لغتى مرتفع أو لا.​
 
ماذا كان موضوع اطروحتك في جامعة أكسفورد، والملابسات المتعلقة بها ، وهل كان أحد من العرب أو العلمانيين يشرف عليها كما رأيت أنا إشراف نصر حامد ابو زيد في جامعة ليدن على رسائل بعض الطلبة المصريين المبتعثين إلى هولندا، وقد حضرت مناقشة أطروحة أحدهم، وكان صديقا لي، وكان نصر أبو زيد من المشرفين الحاضرين في المناقشة؟
 
إحباط لكن الثقة تتجاوز!
اخترت فى البداية أن يكون موضوع أطروحتى هو القصاص عبد الحميد جودة السحار، ومضيت فيه نحو سنتين، إلا أن كليتى فى مصر اعترضت على هذا الموضوع قائلة إنها لا تريد أن أمارس بل أدرس النقد القصصى، فأخبرت المشرف بأننى أريد تغيير الموضوع وصارحته بوجهة نظر الكلية، فكان رأيه أنى إذا ما أردت الاستمرار فى موضوعى الأصلى فسوف يقف إلى جانبى، إلا أننى رددت بأن كليتى هى التى تنفق على بعثتى، ومن ثم ينبغى تنفيذ ما تريد، وأن الأفضل المسارعة إلى تغيير الموضوع خشية من إصرارها على موقفها وتضييع الوقت من ثم سدى. وغيرت الموضوع بعد أن كان قد مر عامان ونصف من مدة بعثتى، لأكتشف أن الموضوع الذى اخترته قد حصل فيه قبل قليل باحث من مصر على درجة الدكتورية، فأرسلت أطلب دراسته، التى كان قد أصدرها كتابا.
والحق أننى ما إن انتهيت من قراءتها حتى شعرت بما يشبه الإحباط، إذ أحسست أنه قد سد علىَّ الطريق والباب والشباك، ومواسير الصرف الصحى أيضا. وكانت ليلة ليلاء، لكن ما إن بزغ نور الصباح حتى قالت ثقتى بنفسى كلمتها، وشعرتُ أننى "قادر ونصف" على أن أتعامل مع الموضوع وكأن أحدا لم يكتب فيه من قبل. وبالفعل وضعت خطة، واعتمدت منهجا، واخترت نقاط ارتكاز كانت ثمرتها دراسة مختلفة إلى حد بعيد عن دراسة زميلى، وكأننا نكتب فى موضوعين مختلفين. فالحمد لله. وقد استغرقت رسالتى حوالى ثلاثمائة وستين صفحة. وفى الشهرين اللذين بقيتهما فى بريطانيا عقب نجاحى فى مناقشة الرسالة فى أواخر يوليه 1982م قمت بترجمتها إلى العربية، وأعطيتها عنوان "نقد القصة فى مصر من بداياته حتى 1980م".

الدكتور المشرف مصطفى بدوي
وكنت قد قرأت للدكتور مصطفى بدوى كتابا عن الشاعر والناقد الإنجليزى كوليردج قبل أن اسافر إلى أكسفورد، وإن لم أكن أعرف وقتئذ أنه يشتغل فى جامعتها، بل كنت أحسب أنه يعمل فى مصر. فلما علمت أنه مشرفى سررت. ولا شك أننى قد أفدت منه كثيرا: الانضباط فى العمل، فهو يطلب منى مقابلته كل اسبوعين تقريبا ليتابع نشاطى ويرى مدى تقدمى فى عملى ويراجع معى ما كتبته من رسالتى وما إلى ذلك. وهو يكتب ملاحظاته بدقة واهتمام، ويقف معى عند الدقائق يناقشنى فيها ويبدى رأيه بخصوصها. ومن ذلك مثلا أننى، قبل أن أغير موضوع الرسالة كما سبق أن شرحت آنفا، كنت أتناول ما قاله السحار فى بعض قصصه من أن بطلها قد انفصل عن زوجته، فترجمت العبارة إلى "He divorced her". إلا أن الأستاذ المشرف اعترض على ذلك قائلا إنه لم يطلقها بل انفصل عنها. فقلت له: وما الفرق؟ قال إن من الممكن انفصال الرجل عن زوجته دون أن يطلقها. قلت له: لكن هذا إنما يقع فى أوربا، أما عندنا فالانفصال يعنى الطلاق، وهو ما يرشحه السياق ويقصده السحار فيما هو واضح بين. لكنه أصر على تفسيره. ومع أننى لم أقتنع وقتها بما قال فلا شك أن الدقة تقتضى أن يلتزم المترجم بما جاء فى النص.

الإستشراق غير عقول ونفوس
وبالرغم مما كان يبرز على السطح من اختلاف بيننا فى وجهات النظر تجاه الإسلام والحضارة الغربية لم تصل الأمور إلى درجة الصدام، بل كان كل منا يكتفى بإبداء رأيه فقط دون المسارعة إلى التصعيد. فمن ذلك مثلا أننا كنا يوما فى بدايات التحاقى بجامعة أكسفورد فى وسط المدينة ليلا ذاهبَيْن فيما أظن إلى أحد اللقاءات الجامعية، ولا أدرى السبب فى أن اتجه الحديث إلى ما يتهم المستشرقون به الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الجهاد، فقلت ما معناه: أوكان الغربيون يريدون للرسول أن يقتله المشركون كما يعتقدون أنه قد حدث مع السيد المسيح كى يفركوا أيديهم عندئذ حبورا وسرورا؟ فكان رده: إن الأمر متوقف على ما نريده من النبوة: هل نريد صاحبها رجل حرب؟ أم هل نريده رجل سلام؟ ولا أظن إلا أن مقصده من الرد جَلِىٌّ تماما. ثم وجدته يشرب الخمر ويأكل الخنزير، ويباهى بالحضارة الغربية مباهاة شديدة، وألحظ عليه ضيقا خفيا إذا لم أرافئه على ما يقول مع أننى، علم الله، لا أنكر ما تتفوق فيه تلك الحضارة على الأوضاع البائسة فى بلادنا. لكنى إنما كنت أعارض ما أشعر به من أن الأمر ليس أمر مقارنة بين البلاد العربية حاليا وبين الدول الأوربية، بل بين الحضارة الغربية والإسلام نفسه، وبخاصة أن موقفه النافر من الإسلام واضح كما كنت ألاحظ دوما.
كما كان من رأيه أن اللغة العربية يناسبها الصوت العالى على عكس الإنجليزية، وأنه قد تنبه إلى هذا حين كان مبتعثا إلى بريطانيا ورأى زملاءه المصريين هناك يرفعون أصواتهم كلما تحدثوا بلغتهم، على عكس ما لو كانوا يتكلمون الإنجليزية، إذ تنخفض أصواتهم تلقائيا. وقد استغربت هذا التفسير العجيب الذى لا يدخل العقل. ورأيى أنا العبد الغلبان أن الطلاب المصريين، حين يتكلمون العربية فى بريطانيا، يعرفون أن أحدا ممن حولهم من الإنجليز لا يعرف تلك اللغة، فكانوا دون أن يشعروا يرفعون أصواتهم على طريقة المصريين عموما، اطمئنانا إلى أن أحدا لن يفهم ما يقولون، بخلاف ما لو كانوا يستعملون الإنجليزية، التى يعرفها الناس جميعا من حولهم. ثم إن أهل الخليج، فيما لاحظت، أخفض صوتا منا نحن المصريين....
زد على ذلك أن إحدى بناته كانت تلبس فى عنقها الصليب. وذات مرة كان هو وأسرته ضيوفا عندنا، وكنا نتناول الطعام، فجاءت سيرة رمضان فأشرتُ إلى أن الصيام يدور مع دروان الفصول الأربعة: فمرة يأتى فى الصيف، ومرة يأتى فى الخريف، ومرة يأتى فى الشتاء، ومرة يأتى فى الربيع، فما كان من بنته ذات الصليب إلا أن علقت قائلة: "This is awful". وهو رد غبى لا معنى له، إذ لا أستطيع ولا يستطيع أى عاقل أن يعرف لماذا ينبغى أن يكون هذا التنوع الزمنى فى الصوم "awful"، فعقبت قائلا إن المقصود بهذا هو أن يَخْبُر المسلمون الصيام فى كل الظروف والأحوال. وأمن أبوها على كلامى، من باب المجاملة على ما لاحظت. وهنا أود أن أوضح أن ذلك النوع من الزيارات كان يتم بطريقة شبه دورية، فكان هو يستضيف طلابه مرة فى العام، فتقدم زوجته لنا طعاما لطيفا وترحب بنا ترحيبا دافئا، ونعزمه نحن بدورنا فى بيوتنا هو وأسرته. وكان هو يقيم فى قرية قريبة من أكسفورد فى بيت يعود تاريخ بنائه إلى فترة زمنية بعيدة نسبيا، وكان منخفض السقف، وفى السقف مسمار حدادى يعتز به لأنه من الأدلة على عراقته. وقد شرح لنا مرة أن أحد ضيوفه قد انتقد وجود هذا المسمار غير واع بأهميته التاريخية، وهو ما ضايقه مضايقة شديدة. فضحكت فى سرى من ضيقه ومسماره وقلت فى نفسى: مسمار ولا مسمار جحا. ولم أقل له بطبيعة الحال شيئا من هذا كيلا أزيده ضيقا.
وقد لاحظت أن بعض طلابه من العرب كانوا ينادونه فى الحفلات بـ"مصطفى" حافيا، لكنى كنت حريصا على استعمال لقب "الدكتور" معه وعنه دائما حتى لو كان ذلك فى حديثى مع زوجتى. يمكنكم أن تقولوا إن البعيد "قُفْل"، لكن هذا لا يحرك فىَّ شعرة من الضيق، فهو فى أى الأحوال د. مصطفى بدوى، وليس مصطفى. هكذا تعلمنا الاحترام من أهلنا ومن ديننا مهما كان الاختلاف بيننا وبين الآخرين. وإذا كنت الآن لا أذكر فى العادة اسم أى من المعيدين الصغار إلا مشفوعا بلقب الأستاذ أو الآنسة أو الأستاذة، فمابا لكم إذا ذكرت أستاذى الذى أشرف علىَّ وأرشدنى طوال ست سنوات وتعلمت منه الكثير؟ ومن أقوال الحكماء: "عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به". بل إننى قد دافعت عنه مرة ضد ما عابه به أحد تلاميذه البريطانيين الصغار من أن إنجليزيته ليست كاملة، بل تظهر فيها آثار اللغة العربية، وعددت هذا لونا من العنصرية الإنجليزية. ولو كنت أُخَلِّى لمشاعرى الشخصية العنان لتركت الشاب البريطانى يقول فيه ما يريد دون أن أتدخل، بل لساعدته ضده. وعلى المستوى الشخصى كنت ألاحظ أنه دائما ما كانت رائحته حلوة، ولم أشم ما ينفّرنى منه قط، كما كان بوجه عام أنيقا، وهى حسنة لا بد من ذكرها هنا.
وبالمثل كنت ألاحظ بوجه عام أنه لا يحاول التدخل فى آرائى العلمية البتة. كما كان يكرر أننى أَفْضَل منه درايةً بالموضوع الذى أدرسه، لأن هذا هو تخصصى، أما هو فوظيفته توجيهى منهجيا وعلميا ليس غير. وهذا أيضا معنى جميل وقيمة عظيمة لا يمنعنى ما كان ينشأ بيننا من اختلافات من ذكرها والإشادة بها. إلا أننى لا ينبغى أن أغفل ما وقع منه تجاهى من تقصير بل من إساءة حين لم يسند إلىَّ إلقاء محاضرة علمية فى إحدى ندوات الجامعة على نحو ما فعل مع بعض زملائى رغم أن لغتى كانت أفضل من لغتهم، على الأقل: بمقياس امتحانَىِ "الفرست سرتفيكيت" و"البروفشيانسى" كما سبقت الإشارة. ولا شك أن هذا مما يُؤْخَذ عليه دون مراء، وإن لم يخلف الأمر فى نفسى أثرا كبيرا، وكل ما أردته من ذكره هنا هو تكملة الصورة ليس إلا. ولتكميل الصورة أكثر قد ينبغى أن أقول إن أحد طلابى ممن صاروا زملاء لى فيما بعد قد حكى لى أنه لما ذهب يزور أكسفورد أيام كان فى مهمة علمية فى تسعينات القرن الماضى قابل د. بدوى وجاء ذكرى على لسانه، فلاحظ على وجه مشرفى القديم عدم ارتياح وأنه لا يحب أن يمضى فى الكلام معه عنى. هذا ما قاله التلميذ الزميل، والعهدة عليه.

معركة مع مشرفي
كما وقعت بينى وبين مشرفى موقعة عنيفة ذات ضحى فى مكتبه بعد أن انصرم من زمن البعثة أكثر من نصفها، إذ كنت فى إحدى مقابلاتى الدورية معه، ونشأ بيننا نقاش فى موضوع من الموضوعات اختلفنا فيه، فظن هو أننى على غير الحق، وثار ما كان مستكنا وراسبا فى نفسه منذ وقت طويل، فقال ما معناه أننى بما أفعل إنما أضع نفسى فى وجه المدفع. يقصد أننى بهذا أضيع على نفسى الفرصة فى العودة بالدرجة العلمية التى ابْتُعِثْتُ من أجلها. فقلت له: لا مدفع ولا حاجة. واحد فقط هو الذى سيقرر هل سآخذ الدكتوراه أو لا، هو هذا الذى فوق. وأشرت إلى الأعلى ناحية سقف المكتب، قاصدا الله سبحانه وتعالى. فقال: هذا مجرد كلام تقوله. يقصد أننى أهوِّش أو لا أدرى أبعاد ما أتلفظ به. فعدت أؤكد كلامى قائلا: إننى لا أبالى حصلت على الدكتوراه أو لا، وأنا على استعداد لأن أشتغل تاجرا فى قريتى فى الدكان الذى تركه أبى، والذى ينتظر أن نفتحه منذ عقود. فبدا عليه الاستغراب الشديد من الجنون الذى اعترانى طبقا لما يراه منى. ثم عاد يقول: يمكنك أن تكمل دراستك فى جامعة إكستر مع شعبان (يقصد د. محمد عبد الحى شعبان، الذى سوف أقول كلمة عنه بعد قليل) بدلا منى. فقلت له ما معناه: لا شعبان ولا رمضان. دولتى أرسلتنى إلى أكسفورد، فإما أن أحصل منها على الدكتورية وإما أن أرجع إلى بلادى بدون شهادة. فقال: خلاص. تسمع الكلام. قلت له: أنت أول من يعرف أننى أشتغل بكل جدية. فبدا عليه الارتياح لجنوح الكلام إلى المسالمة بعد العاصفة التى لم يكن يتوقعها منى فيما هو واضح. واعتدل ميزان الأمر بيننا واستقام منذ ذلك اللقاء البركانى، فلم تحدث خلافات أو مشاكل حتى انتهيت أول واحد بين طلابه من الدكتوراه. وكان هو أول المهنئين لى حين نزلت من الطابق الثانى حيث الغرفة الصغيرة التى قضينا فيها أنا والمناقشان نحو ساعتين انتهتا بأنْ بشرانى أنهما سوف يوصيان بمنحى درجة الدكتورية، وقدم لى عصير برتقال مرتين، أما هو فصب لنفسه بعض الخمر من زجاجة جميلة.
وأحب أن أوضح أن د.بدوى قد أحضرنى قبل اختيار المناقِشَيْن سائلا إياى هل هناك اعتراض لى على أى منهما، موضحا أن لوائح الجامعة تقتضيه أن يسألنى هذا السؤال حتى إذا كان هناك من أعترض عليه منهما اسْتُبْعِد من المشاركة فى المناقشة، وإن لم يكن لى الحق مع هذا فى اختيار أى من المناقشين. فأجبته بأنه لا فرق لدىَّ بين مناقش وآخر، وليس لى أى اعتراض على أحد. ولا ريب أن هذا تقليد عظيم، على أقل تقدير: من حيث المبدأ، وإن كان البشر قادرين على تفريغ أى مبدإ جليل من مضمونه لو شاؤوا. إلا أننى فى ذات الوقت أرى أن الإنجليز بوجه عام أذكى من أن ينزلوا إلى هذا المستوى الخائب رغم أنهم بشر كبقية البشر فى الخطوط العامة. لكنهم يتسمون بالنزعة العملية، وهذه النزعة توجب عليهم ألا يفسدوا على أنفسهم ما تتمتع به جامعاتهم من سمعة طيبة بما يعنيه هذا من انصراف الطلاب الأجانب مع الأيام عنها إلى جامعات الدول الأخرى.

د. محمد عبد الحى شعبان
أما شعبان فهو د. محمد عبد الحى شعبان، ولم أكن سمعت به من قبل. وحين رفضت أن أحول الإشراف إليه طبقا لعرض د. بدوى إنما كنت أبين له أننى لا أبالى ولا أقبل أى حل والسلام، بل أحرص على حقى كاملا مهما كانت النتائج. ثم مرت الأيام، وانتهيت من كتابة رسالتى، فقابلت فى لندن زميلى عبد الحميد شيحة، الذى تطرق الحديث بينى وبينه إلى د. شعبان، لا أدرى كيف ولا لماذا، فألفيته يقول إنه يزعم فى كتبه أن النبى عليه السلام كان قاطع طريق... أو شيئا بهذا المعنى. ثم مرت الأيام مرة أخرى وعدت إلى أرض الوطن حيث قضيت نحو خمسة أعوام وزيادة لأسافر فى إعارة إلى كلية التربية بالطائف. وذات ضحى كنت أبحث فى مكتبة الكلية عن رواية والتر سكوت: "The Talisman"، التى يتحدث فيها عن صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، فلم أجدها، ولكن وجدت اسم د. شعبان أمامى باعتبار أول حرف فى لقبه هو "S" مثلما يبدأ لقب سكوت بنفس الحرف، فهما متتابعان فى بطاقات المكتبة. وهنا نظرت فوجدت كتابا له بعنوان "Islamic History"، فقام فى نفسى أننى سوف أعثر فيه على ما قاله فى حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالفعل وجدت ذلك فى أول فصل من فصول الكتاب حيث قرأت أن النبى لم يكن فى نظر د. شعبان إلا تاجرا يسير على خطا جده قُصَىّ وأنه إذا كان الأمر قد انتهى بإعلان النبوة وانتشار الإسلام فهذا مما لم يكن يدور له فى بال... إلى آخر هذه الأنغام الشاذة التى يبرع فى عزفها عتاة المستشرقين والمبشرين. وأنكى من ذلك أن الرجل لم يكلف نفسه الرجوع إلى أى مرجع عربى تقريبا. بل إن مراجعه الإنجليزية ذاتها كانت قليلة جدا، وتنحصر فى بعض المسائل الفرعية المكتوبة من وجهة نظر يسارية. زد على ذلك إهداءه الكتاب إلى وزير البترول السعودى، والمعنى فى بطن المؤلف. وقد أثارت هذه الأمور كلها استيائى ودفعتنى إلى ترجمة الفصل المذكور متبعا إياه بدراسته تبلغ ستة أضعافه حجما نعيتُ فيها انهيار المنهج العلمى على يدى المؤلف الشارد المسكين، ثم أخرجت ذلك بعد عودتى من السعودية إلى مصر فى كتاب بعنوان "ثورة الإسلام- أستاذ جامعى يزعم أن محمدا لم يكن إلا تاجرا: ترجمة وتفنيد".

عاد فى أخريات حياته إلى مصر ورجع يصلى
ثم علمت بالمصادفة من المرحوم د. مصطفى الشكعة أن د. شعبان كان يَدْرُس فى أمريكا أيام كان هو مستشارا ثقافيا لمصر هناك، وأنه كان يشرب الخمر وما إلى هذا، وإن كان قد أضاف أنه قد عاد فى أخريات حياته إلى مصر ورجع يصلى. وقد فهم د. الشكعة هذا المعنى الأخير من إشارة إلى صلاة الجمعة وردت على لسان الرجل فى اتصال هاتفى بينهما، مما استنتج منه أن الرجل صار يصلى. وكان د.شعبان قد مات قبل حديثى عنه مع الأستاذ الدكتور. وما دمنا قد بدأنا بولتر سكوت أحب أن أقول للقارئ إننى قد عثرت فى الدوحة على روايته التى كنت أبحث عنها فى الطائف، وقرأتها فألفيتها مملة ثقيلة الأسلوب طويلة الجمل على نحو مرهق. كما وجدت فيها سذاجةً ذكرتنى بسذاجة الروايات التاريخية التى ألفها جرجى زيدان وجرى فيها على طريقة سكوت.
 
كطالب يشتغل على أطروحته في جامعة غربية، هل كنتم تكتفون بموضوعكم المقدم للجامعة أم كان عندكم شغف للعلم والكتاب والإشتراك في الحراك العلمي الموار في العالم العربي لتطويره وتثويره؟
حكيتم لنا ، من قبل، شغفكم بالكتاب والمعلومة، وميلكم للقراءة والتعمق فيها، فهل استمر معكم هذا الحس في الغربة.. مع الإلتزامات الأسرية ،خصوصا أن زوجتكم لحقتكم بعد شهرين من السفر إلى الجامعة؟
مع علمنا أنكم ألفتكم كثير من الكتب المهمات بعد ذلك؟
ولذلك يمكن توجيه السؤال التالي لحضرتكم : هل كانت نوعية إهتمامكم بالكتاب والمكتوب أثناء الدراسة في الغرب هو مجال إهتمامكم فيما بعد، وأي قضية كانت تأخذ إهتمامكم وتثير فيكم الشعور بالتحدي ومن ثم النقد العلمي البناء، وهل بحثتم عن الكتاب ام اكتفيتم بوجوده جاهزا في مكتبة جامعة أكسفورد؟
 
قرأت واقتنيت آلاف الكتب

قرأت فى أكسفورد ولندن كثيرا جدا من الكتب العربية والإنجليزية والفرنسية فى تخصصى وفى السياسة والتاريخ والإسلام واليهودية والنصرانية، وكذلك فى الأدب والنقد الإنجليزى والأوربى. وكانت مكتبة مركز دراسات الشرق الأوسط ومكتبة معهد الدراسات الشرقية والإفريقية ومكتبة بريزنوز كولدج بأكسفورد، ومكتبة مدرسة السِّيوَاس بجامعة لندن ومكتبة أحد المساجد التى كنت أصلى فيها الجمعة بشرق العاصمة البريطانية حيث كنت أسكن فى السنة الأخيرة لى فى بريطانيا، إلى جانب مكتبتى الخاصة، هى المصادر التى أحصل منها على ما أقرؤه من كتب. وقد اشتريت آلافا من الكتب ملأت أكثر من عشرين صندقا من صناديق الشاى الأبلكاش شحنتها إلى الإسكندرية معظمها تسلمها أخى، والباقى أحضرته معى. وقد تعلمت أن أحصل على الكتاب بأرخص الأسعار، فكنت أشترى الكتب المستعملة عادة. وكنت أبحث على الرفوف على أرخص نسخة من الكتاب المستعمل المراد شراؤه، إذ كان هناك تفاوت هائل أحيانا بين نسخة وأخرى. كما حصلت على كثير من الكتب الجديدة فى التخفيضات السنوية التى تطرحها مكتبة بلاك وِلْ فى أكسفورد. وبعض الكتب اشتريتها من لندن وغيرها من المدن البريطانية. وبعضها اشتريته من بروكسل أو من باريس. وكثير من الكتب ابتعتها وأنا مارٌّ بإحدى المكتبات عَرَضًا فى هذه المدينة أو تلك كما هو الحال مثلا حين كنت أسير خارج سور حديقة هايد بارك، ففوجئت بمكتبة تعرض كالعادة بعض ما لديها من كتب على الرصيف، فنظرت فيها، فإذا بى أمام كتاب برتراند راسل: "تاريخ الفلسفة الغربية"، فاشتريته بحالة شبه جديدة بثلاثة جنيهات إسترلينية. يا بلاش!

الموسوعة البريطانية وكتابي "مصدر القرآن"
ومرة أخرى كنت مع زميل مصرى لى فى لندن، حين كنت لا أزال أسكن أكسفورد، فاشتريت طبعة 1939م من الموسوعة البريطانية بعشرين جنيها. يا بلاشين! وهى الطبعة التى قرأت فيها مادة "Pearls" حين أفزعنى ما فهمته خطأً من الآية الثانية عشرة من سورة "فاطر" التى تذكر أن الحلى موجودة فى البحار والأنهار كلتيهما، إذ ظننت كما يظن كثير جدا من الناس أنها لا تتوافر إلا فى المياه الملحة... إلى أن وقع نظرى وأنا ضائق الصدر أشد الضيق فى غرفة مكتبى بالقاهرة على الموسوعة المذكورة فألفيتها تذكر أن اللؤلؤ يتوافر فى الأنهار كما يتوافر فى البحار. ومن ثم فلو لم يكن لتلك الطبعة من فائدة سوى إمدادها لى بهذه المعلومة لكان هذا كفاء ما دفعته من ثمن فيها وزيادة. وقد وجدت نفس الليلة فى ترجمة القرآن للعالم الهندى الكبير عبد الله يوسف على ما يعزز ما تقوله الموسوعة البريطانية، فزادنى هذا ارتياحا على ارتياح. ثم وقع بعد ذلك فى يدى بطريق المصادفة المحضة كتاب "المنتخب فى تفسير القرآن الكريم"، وهو تفسير بسيط جدا يناسب القارئ المبتدئ فى ذلك المجال أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لأجد فيه بهامش الآية المذكورة أن هناك أنهارا فى روسيا والأورال ووسط أوربا وإسكتلندا والبرازيل يوجد فيها اللؤلؤ والألماس والسيليكون والزيركون والياقوت والذهب، فأثبتُّ ذلك كله فى كتابى عن "مصدر القرآن". وهذا الهامش وأمثاله من صنع كبار المتخصصين فى العلوم الطبيعية فى مصر. وهو شىء يتميز به هذا التفسير الشديد البساطة، ولولاه ما كنت أقبلت عليه.

مع د.زغلول النجار والإعجاز العلمي في القرآن
ولكى أزيدك من الشعر بيتا يا عزيزى القارئ أقول لك إننى اشتركت فى حلقة تلفازية على هامش أحد معارض الكتاب بأواسط تسعينات القرن الماضى مع د. زغلول النجار ود. مستجير عن الإعجازالعلمى فى القرآن الكريم، وكان من رأى الدكتور مستجير أن الكلام فى هذا الموضوع تعسف وتكلف، وأنه يكفينا فى تفسير الكتاب الكريم علوم اللغة والقرآن وما يجرى مجراها، فانبريت ألفت النظر إلى أن علماء التفسير الفطاحل المتبحرين فى اللغة والنحو وعلوم القرآن قد يخطئون فهم النص القرآنى، كما هو الحال مع الطبرى، الذى يعد بحقٍّ أبا المفسرين جميعا وعمهم وخالهم، فقد فسر قوله تعالى فى الآية المذكورة: "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغ شرابه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومن كلٍّ تأكلون لحما طريا وتسخرجون حِلْيَةً تلبسونها..." بما يفيد أن الحلى إنما تستخرج من البحر الملح فقط، وأن الكلام فى الآية يقوم على التعميم، أى يذكر البحرين: الملح والعذب مع إرادة البحر الملح فقط، ناسيا بل متناسيا أن عبارة "من كلٍّ" لا يمكن أن تفيد التعميم بل لا بد أن يكون معناها هو أن الحلى تستخرج من كل من البحار الملحة ومن الأنهار العذبة. أما السبب الذى أوقعه فى تلك الغلطة البلقاء فهو أن معارف عصره لم تكن تعرف سوى ما قال، فكرره بقضه وقضيضه رغم أنف النحو واللغة. ولكننى استطعت أن أنجو من ذلك الخطإ الذى كنت أعتقد أنا أيضا صحته بالرجوع للكتب الحديثة التى لم تكن متوافرة له كالموسوعة البريطانية مثلا، التى لم أعد بحاجة إليها لاعتمادى على طبعة 2012م.

حتى أنت ياهندي!
ومرة أخرى كنت أسير ضحى فى شارع لندنى ووجدت فى الكتب الموضوعة على رف أمام إحدى المكتبات بالشارع كتابا هنديا بالإنجليزية ينتصر لبوذا فى مواجهة الرسول الكريم، فأخذت أقلب صفحاته التى لم تكن تتجاوز الخمسين وألممت بزبدته ثم تركته ومضيت فى طريقى وأنا أقول: حتى أنت يا هندى؟ لم يبق إلا بوذا تقارنه بالنبى وتنصره عليه؟ والحق أننى كلما تذكرت تلك الواقعة تندمت على أننى لم أشتر الكتاب. ومما ندمت كذلك على أننى لم أحاول أن أقتنى نسخة أو صورة منه كتاب "Muhammad and Learning"، وهو من تأليف المستشرق البريطانى ن. ستيفن. وكنت قد استعرته من مكتبة الحى بشرق لندن، وقرأته أو قرأت بعض فصوله، فلفت انتباهى تحمس كاتبه لما يحتوى عليه القرآن والحديث من نصوص تتعلق بالعلم والتعلم يراها عجيبة غاية العجب، إذ تفوَّق فيها الرسول على آخر ما توصلت إليه الحضارة الحديثة من مبادئ ومفاهيم: فمثلا يقول إن أقصى ما بلغته المجتمعات الغربية فى عصرنا بعد كل ذلك التقدم الحضارى المذهل هو أن العلم قد صار حقا من حقوق الإنسان، فماذا قال محمد فى هذا الموضوع، محمد الأمى ابن المجتمع البدوى فى القرن السابع الميلادى أيام كانت الكنيسة تحرّم على أتباعها مجرد قراءة الكتاب المقدس؟ لقد قال إن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. فانظر إلى الفرق بين ما توصلت إليه البشرية بعده بأربعة عشر قرنا قطعت فيها ما قطعته من مراحل حضارية تدير الرؤوس كجعل العلم حقا للبشر بما يفيد أن من حق الإنسان الاهتمام بالتعلم أو إهمال هذا الحق تبعا لرغبته، وبين ما يقوله الإسلام من أن التعلم فريضة، وهو ما يعنى أنه لا بد لكل إنسان من طلب العلم، وإلا حوسب حسابا عسيرا على إهماله تلك الفريضة، فضلا عن أن الإسلام لا يميز بين الرجل والمرأة فى هذا المضمار. وقد قرأت زوجتى هى أيضا بعضا من فصول ذلك الكتاب وترجمتْ، بإيعازٍ منى، فصلين ضاعا فى زحمة الاستعداد للعودة إلى مصر، وكانت قد اقتربت، فكان أن أرجعنا الكتاب إلى مكتبة الحى دون أن نفكر للأسف فى تصويره. يا مائة خسارة!

نص من كتابي"الحضارة الإسلامية"
وكنت كتبت عن ذلك الموضوع فى كتابى: "الحضارة الإسلامية" السطور التالية: "ولقد قرأت فى لندن عام 1982م كتابا بعنوان "Muhammad and Learning" للبروفسير ن. ستيفن (Prof. N. Stephen) تحدث فيه بأسلوب مشدوه عن دور الرسول الكريم فى مجال التعليم، مستغربا أن يتنبه رجل مثله يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيّةٍ تعيش فى القرن السابع الميلادى إلى هذا الجانب من جوانب الحياة وأن يكون له تلك الآراء التقدمية والمواقف المذهلة التى تعكسها آيات القرآن والأحاديث الشريفة، وبخاصة أن الأديان الأخرى كانت تضع التعلم تحت الرقابة وتجعله حكرا على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلا، إن لم تعاقب على إفشاء العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكتب، الذى يؤكد أنه سيظل إلى الأبد وصمة عار فى جبين من اجترحوه، وكذلك فى جبين الكنيسة لارتضائها ومباركتها هذا العمل المخزى، على عكس محمد، الذى دعا البشر جميعا على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظروفهم إلى السعى حثيثا فى طلب العلم رجالا ونساء من المهد إلى اللحد، بل أوجبه عليهم غير مكتفٍ بجعله حقا من حقوقهم يمكنهم أن يأخذوه أو يهملوه، وجَعَله بابا إلى الجنة، وساواه فى الفضل بالاستشهاد فى سبيل الله، بل فضّل العلماء على العبّاد المنعزلين عن تيار الحياة وميادين الجهاد بمثل ما يَفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب. وفى ضوء هذا يمكننا أن نقدر صنيع العقاد حق قدره حين أكد أن "التفكير فريضة إسلامية"، بل جعل هذه العبارة عنوانا لواحد من أهم كتبه فى مجال الدراسات الإسلامية.

ضاع ما كانت الزوجة قد ترجمتْه
وإذا كنت نادما الآن على شىء فعلى أنى لم أصور الكتاب وأترجمه. لقد عَهِدْتُ إلى زوجتى أن تقوم بترجمته، ولم تكذّب خبرا فترجمتْ فصلين أو ثلاثة، لكنها توقفت، إذ كنا نستعد للعودة إلى مصر بعد حصولى على الدكتورية من جامعة أكسفورد أوانذاك، ثم ضاع ما كانت قد ترجمتْه لا أدرى أين، ولا كيف! إلا أن الله سبحانه قد وضع يدى، وأنا أكتب هذه السطور، على صفحاتٍ من ذلك الكتاب متاحةٍ فى كتاب آخر وجدته على المشباك عنوانه: "Glimpses from the Life of the Prophet Muhammad" لبعض العلماء البارزين (Eminent Scholars, Glimpses from the Life of the Prophet Muhammad, England, PP. 102- 112). فله سبحانه وتعالى الحمدُ والمنَّةُ كفاءَ هذه النعمة الجليلة".

رسالة زكي مبارك
وبالمثل لا ينبغى أن أتجاهل رسالة د. زكى مبارك التى حصل بها على درجة الدكتورية من السوربون، والتى طبعتها ونشرتها له إحدى المكتبات فى باريس، ووقع الكتاب فى يدى فى أكسفورد. لقد اكتفيت بفَرِّه آنئذ، لكنّ ما لاحظته من أنه أصغر حجما من الطبعة العربية لم يفارق بالى... إلى أن خطر لى سنة 1996م أن أقارن بين الطبعتين لأعرف سبب التفاوت الكبير فى الحجم بينهما. وكان علىَّ أولا تأمين نسخة من الأصل الفرنسى، فحللت تلك المشكلة بطريقة أرسين لوبين وحصلت على نسخة مصورة من الكتاب الموجود عند ابنته السيدة كريمة دون أن تعرف أنها لى، ولا أدرى الآن السبب فى أننى لم أشأ أن أطلعها على شىء من الموضوع أصلا رغم ما كان بيننا من معرفة سابقة. وقمت بالمقارنة المطلوبة فوجدت أن الطبعة العربية ليست ترجمة للأصل الفرنسى بل إعادة صياغة له فيها حذف، وتصحيح، وإعادة ترتيب، وإضافة فصول وفقرات جديدة.
وكان هذا كشفا جديدا على الساحة الأدبية، وإن لم يأخذ الأمر حظه من الذيوع والنقاش كما هو المعتاد فى مثل تلك الظروف، إذ كنت وما زلت لا أجيد تسويق نفسى. وقد ألقيت ما كتبته حول ذلك الموضوع فى مؤتمر عن زكى مبارك منذ سنين فى المجلس الأعلى للثقافة. كما نشر لى المجلس الأعلى للثقافة أيضا فى ذلك الوقت ترجمتى للرسالة الصغيرة التى كتبها زكى مبارك فى السوربون تمهيدا لرسالته المذكورة، وهى عن النثر فى القرن الثالث الهجرى. بقى أن أقول إن السيدة كريمة زكى مبارك بعد ذلك حين علمت بالأمر أعطتنى نسخة أصلية من الكتاب، فصار عندى نسختان منه: هذه النسخة الأصلية، ونسخة أخرى مصورة هى التى اعتمدت عليها أثناء المقارنة. وبالمناسبة فقد كان رأى د. مصطفى بدوى فى رسالة زكى مبارك أنها سيئة ولا يتوفر لها المنهج العلمى. وقد رددت بأنها رسالة رائعة أسلوبا وأفكارا وعرضا. صحيح أن زكى مبارك، فى الطبعة العربية، ينحو أحيانا نحو العنصر الشخصى، لكن لماذا ينبغى أن ندين أية رسالة فيها الطعم الشخصى ما دامت تجرى، فيما عدا هذا، على قواعد البحث العلمى وتقدم الجديد؟ ثم كم من الكتاب يتمتع بما يتمتع به الدكاترة زكى مبارك من أسلوب قوى حار عجيب يغزو عقول القراء وقلوبهم غزوا لا طاقة لأحد بإيقافه؟ ولا شك أن هذا الاختلاف بينى وبين مشرفى فى الرأى كان هو وأمثاله وراء انفجار العاصفة التى مر الحديث عنها.

ترجمة بلاشير للقرآن وأمر حدث لي ليس فيه صدفة!
من الكتب التى اشتريتها أيضا فى بلاد الإنجليز ولا يصح أن أمر عليها مرور الكرام ترجمة المستشرق الفرنسى المعروف ريجى بلاشير للقرآن الكريم إلى لغة بلاده. لقد كنت أرجع، وأنا هناك، إلى النسخة الموجودة بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بأكسفورد حين كنت أكتب الفصل الخاص بتلك الترجمة من كتابى: "المستشرقون والقرآن" إلى أن انتهيت من ذلك الفصل ومن غيره من الفصول التى جمعتها بعد عودتى إلى الوطن وأصدرتها فى كتاب بالعنوان السابق. إلا أننى فى آخر زورة لى إلى أكسفورد، وكان ذلك فى اليوم التالى لمناقشة رسالتى، وكنت ذاهبا لتصحيح بعض الكلمات التى طلبت منى لجنة المناقشة تصحيحها فى نسخ الرسالة الموجودة بالجامعة، وبعد انتهائى من تصحيح الكلمات القليلة، مررت بمكتبة ثورنتون أند صن، وهى مكتبة تبيع الكتب القديمة والجديدة، وفيها قاعة خاصة بالكتب العربية والإسلامية والتى ألفها مستشرقون عن العرب والإسلام، فأعطونى مفتاح القاعة وطلبوا منى كالعادة أن أغلقها علىَّ من الداخل لأنهم لا يسمحون بدخولها لأى إنسان وحده، بل يقصرونه على من يثقون بهم فقط. الحمد لله على تلك الثقة الغالية!
وبينما أنا أنظر لأرى هل هناك من جديد فى الكتب الموجودة بالقاعة شد نظرى كتاب غريب أمسكت به، فإذا هو ترجمة بلاشير للقرآن الكريم فى طبعة صغيرة نسبيا ومغلفة بغلاف بلاستيكى زيتى غليظ، وشبه جديدة، بل تكاد أن تكون جديدة، إن لم تكن فعلا جديدة. ونظرت فى سعرها فوجدته ثلاثة جنيهات ونصفا. يا3 بلاليش فى بعض! ثم نظرت ثانية إلى الكتاب اللقطة فإذا به ملصق عليه تذكرة صغيرة بالصفحة الأخيرة الخالية مطبوع عليها اسم المستشرق البريطانى هاملتون جب وعنوانه فى كمبريدج. الله أكبر! فلم أُكَذِّب خبرا، وأخذتها فى الحال ودفعت ثمنها وعدت إلى لندن وأنا أطير من الفرح بسبب الكنز البديع الذى عثرت عليه ذلك اليوم. وكنت قد اشتريت عددا من ترجمات القرآن إلى الإنجليزية والفرنسية سواء من بريطانيا نفسها أو من خارج بريطانيا: مباشرة أو بالبريد، وكذلك من السعودية بعد ذلك ومن قطر. ثم لما تعلمت التعامل مع الكاتوب والمشباك (الكمبيوتر والنت) صار عندى ترجمات أخرى غير الترجمات التى كانت لدىَّ قبلا والتى تجاوزت الثلاثين، دون أن أدفع مليما واحدا فى تلك الترجمات الجديدة.

ترجمت في أكسفورد بعض الكتب
وقد قمت بترجمة بعض الكتب والفصول فى بريطانيا، وإن لم أنشرها إلا بعد عودتى إلى مصر: ترجمت رواية "آخر اليهود فى مصر" من الفرنسية، ومؤلفها هو إجار سيد، ومن منشورات إحدى الدور اللبنانية. ولم تنشر حتى الآن، وإن كانت صحيفة "آفاق عربية" قد نشرت منها فصلا واحدا فى تسعينات القرن الماضى ثم توقفت عن النشر. كما أخذها ابن أحد المشايخ المعروفين لينشرها عن دار نشرهم، إلا أنه عاد فأرجعها لى دون نشر لأكتشف بعد فترة أن ورقة ضاعت من المخطوط مكتوب عليها من الوجهين. وترجمت أيضا كتاب سراج على العالم القرآنى الهندى المعروف عن "الجهاد فى الإسلام" من الإنجليزية، ونشرته أكثر من مرة، ودرسه الطلاب معى. كما ترجمت فصولا عن القرآن المجيد من كتاب بلاشير عن تاريخ الأدب العربى ومن مقدمات بعض الترجمات القرآنية الفرنسية، وضمنتها كتابى: "المستشرقون والقرآن"، الآنف الذكر.
 
سامحونى

سامحونى

دائما ما أجد تحت أى شىء منشور فى الموقع الحالى أن فلانا وفلانا وفلانا شكروا الكاتب على ما كتب، ولا أدرى كيف يتم ذلك. ومن ثم أشعر بالتقصير تجاه من يقولون كلمة شكر لى أو للأستاذ طارق منينة صاحب الفضل فى كتابتى هذه الصفحات التى لم يدر بخلدى يوما أنها يمكن أن تتم بهذه السلاسة أو تلك السرعة. وعلى هذا فإنى أنتهز هذه الفرصة لأشكر من شكرونى أنا أو الأستاذ منينة، لكن بالطريقة التقليدية التى ترونها هنا، أى الشكر المباشر بكلام منى مباشر. شكرا مرة أخرى، ولعل القراء يجدون فى هذه الصفحات بعض الجدوى. وكل عام وأنتم بخير
 
نستأنف الحوار غدا إن شاء الله مع الدكتور إبراهيم عوض حفظه الله.
 
قلتم فيما سبق في الحوار أن سبب تأليفكم كتاب (مصدر القرآن) هو ماورد في الموسوعة البريطانية من بعض المفاهيم الخاطئة عن القرآن وهو مادفعكم للرد عليها ،"حين أفزعنى ما فهمته خطأً من الآية الثانية عشرة من سورة "فاطر"... فأثبتُّ ذلك كله فى كتابى عن "مصدر القرآن".
فهل لكتابكم عن (مصدر القرآن) قصة ما ذات دلالة، أثيرت حوله أو حول موضوعه أو حدث أي لغو حوله ، بعد صدوره ، خصوصا أن الشياطين لاتصبر على أدبيات الإنتصار للقرآن الكريم ، وأن الغيرة والحسد والغل (كل مترابط) ، أمر يحوم حول العلماء كما حدث حول شيخ الإسلام بن تيمية فأورده السجن وأدخله الحبس ومات فيه رحمه الله.
 
حين كنت فى السعودية معارا إلى جامعة أم القرى بفرع الطائف، فوجئت بزميلنا رئيس القسم، وكان مصريا، يخبرنى ذات يوم بأن "فلانا الفلانى"، قبل أن يغادر المملكة عائدا إلى مصر بعد انتهاء مدة إعارته، قد كتب فىَّ إلى إدارة جامعة أم القرى شكوى يتهمنى فيها بالكفر مرفقا بها نسخة من كتابى: "مصدر القرآن" كدليل على هذا الكفر بعدما سرقها من مكتبة زميل مصرى آخر يشتغل معنا فى ذات الجامعة كنت أهديتها إليه. فاستغربت الخبر لأكثر من سبب: أن كتابى هو دفاع علمى شرس عن صدق نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ودعنا من الكتب الأخرى التى نذرت نفسى فيها للتصدى للمستشرقين والمبشرين وكارهى الإسلام عموما. فكيف بلغت بفلان الفلانى الجرأة والوقاحة مبلغ قلب الحقائق وجعل الدفاع عن الإسلام ونبيه كفرا وضلالا؟ ثم إن هذا الفلان الفلانى كان معروفا بأنه شَخَّارٌ نَخَّارٌ سبَّابٌ للدين، ولا يذكر أمه إلا بسوأتها، ولا يجد حرجا فى أن يتحدث عما يجرى بينه وبين زوجته فى الفراش، فضلا عن أننى قد ساعدت هذا الفلان الفلانى مساعدة فعالة وحاسمة على تأليف معجم نشره وأخذ منه مالا غير قليل، وهو الذى لم يكن قد كتب فى ذلك الموضوع سوى صفحات لا تصلح أن تكون معجما ولا نصف معجم ولا حتى عشره، بل لم يفكر مجرد تفكير فى أن يجعل منه معجما، لكنْ مجرد بحث صغير فى ورقات معدودات، فظللت معه، مخالفا مشورة زوجتى، التى كانت ترى فيه شخصا لا يُؤْمَن جانبه، أوجّهه وأدله على المصادر والمراجع وأخطط له المنهج الذى ينبغى أن يكون عليه الكتاب، وأمده بالمعاجم الأجنبية التى لا يفقه من لغاتها ولا من أية لغة أجنبية أخرى شيئا بالمرة، وغير ذلك من ألوان المساعدة حتى انتهى من المعجم، فأخبرنى أن اسمى سوف "يلعلع" فى المقدمة باعتبارى صاحب الجميل الأوفى عليه. وفوق ذلك كنت أحيانا ما أدخل الأستوديو الذى يحاضر منه للطالبات عن طريق الدائرة التلفازية المغلقة، ويتصادف أن تكون الطالبات قد سألنه سؤالا محرجا فيغلق الميكروفون ويسألنى عن الجواب فأمده به، كما هو الحال حين سالنى مرة عن الفرق بين الوزن الصرفى للفعل المضارع: "يَرْجُون" حين يكون للرجال وبينه هو نفسه حين يكون للنساء، فقلت له: إنه "يَفْعُون" و"يَفْعُلْنَ" على التوالى، ثم شفعت ذلك بشرح السبب الذى وراء هذا الفرق بين الوزنين، كل ذلك اعتمادا على ما كنت درسته فى المرحلة الإعدادية بالأزهر. وفوق هذا كانت الكتب التى ألفها فى النحو تتميز بالسذاجة والاضطراب والغموض فى الشرح والاهتزاز فى تعريف المصطلحات التى يعرفها كل من له أى تماس بذلك العلم. ومع هذا كله فإن المعجم المذكور، عندما خرج إلى النور، كان يحمل أسماء عدد ممن كانوا يعملون معنا فى القسم رغم أنهم لم يساعدوه عشر معشار ما ساعدته، ما عدا اسمى أنا. ولم أقف كثيرا عند هذا، وإن كنت لم أعرفه إلا بعد عودتى أنا أيضا من الإعارة بزمن غير قصير.
كذلك استغربت الأمر لأن ما أخبرنيه الزميل المذكور لم يكن له من معنى إلا أن القسم كان يعلم بالشكوى الكاذبة ولم يتحرك ويتصل بالجامعة يُفْهِمهما أن الأمر كيدى لا أساس له من الصحة مع أنهم جميعا كانوا يكرهون فلانا الفلانى هذا ويَرَوْنَه شرا محضا، لكنهم كانوا جميعا يخشون أذاه. ثم لماذا يقول لى الزميل هذا الكلام الآن بعدما صار فى ذمة التاريخ؟ والعجيب أنه قد تبين لى أن لِحْيَةً تولت بعد ذلك رئاسة إحدى الجمعيات الإسلامية فى القاهرة كانت مشتركة فى الأمر ولو بالصمت وانتظار الأذى، إن لم يكن اشتراكا إيجابيا. ومن أطرف الأمور أنه، بعد مرور سنوات غير قليلة أعيد طبع "مصدر القرآن"، الذى كان فى الطبعة الأولى مكتوبا باليد بخط النسخ، وأخذه الناشر وعرضه فى معرضٍ كتابىٍّ كانت جامعة أم القرى قد أقامته فى رحابها، فكان أحد الكتب التى حظيت فى هذا المعرض بالثناء وعُلِّق اسمه فى لوحة الشرف..
 
وماهي قصة كتابكم "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية"
 
كتاب "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية" تتلخص قصته فى أن المستشار رابح لطفى جمعة ابن الأستاذ محمد لطفى جمعة كان يحدثنى فى تسعينات القرن الماضى عن صديق له يعمل فى الجامعات السويسرية منذ فترة طويلة ويخدم الإسلام هناك اسمه د. محمود على مراد، وأنه قد حصل من باريس على درجة الدكتورية بأطروحة أعدها عن سيرة ابن إسحاق، فأبديت تشوقى إلى الاطلاع عليها لعلى أكتب عنها كلمة أو أترجمها مثلا، فلم يكذب المرحوم جمعة خبرا، وأرسل إلى د. مراد، الذى سارع فبعث نسخة من رسالته. وما إن وصلت الرسالة حتى شرعت أنظر فيها، فإذا بها هجوم ساحق ماحق على ابن إسحاق وسيرته يرمى عالِمَنا القديمَ بأنه اخترع سيرة نبوية من عندياته تقربا لخلفاء بنى العباس وتملقا لهم، وأن قريشا لم تضطهد الرسول قط، وأنه لم تكن هناك هجرة إلى الجبشة، بل معسكرات اعتقال فى بعض المدن الحبشية المطلة على البحر الأحمر بضغط من القرشيين، وأن الأخدود الوارد ذكره فى سورة "البروج" هو أخدود حفره أبو لهب لتعذيب مسلمى مكة بالنار المتأججة فيه، ولا علاقة له بالموحدين المؤمنين بالمسيح الذين عذبهم اليهود، وأن هذه النار الملتهبة هى السبب فى تلقيب عم الرسول باسم "أبى لهب"، وأن أبا طالب عم الرسول لم يقم بحمايته، بل الله هو الذى حماه... إلى آخر مثل هذا الكلام الذى يقوم على التشكيك فى كل وقائع السيرة المحمدية وتقديم سيرة أخرى من بُنَيَّات الوهم بحجة تطبيق المناهج المعاصرة فى البحث على ذلك الموضوع.
فكان أن شمرت عن ساعد الجِدّ وساقه وابتدأت أكتب ردا علميا منهجيا دقيقا عن تلك الأطروحة الغريبة الشاذة، ثم سرعان ما أصدرت الكتاب، وأرسلت منه عدة نسخ إلى د. مراد فى سويسرا، الذى بادر عقب ذلك إلى الاتصال بى، فظننت أنه يريد أن ينبئنى بوصول نسخ كتابى إليه، لأفاجأ بأنه إنما اتصل ليستفسر عن وصول رسالته إلىَّ أو لا، فحكيت له الأمر، وهو ما دهش له أشد الدهش لسرعة قراءتى رسالته وكتابتى كتابا عنها، وإن كان حتى ذلك الحين لم يكن يعلم بفحوى ما سطره قلمى. فلما وصلته النسخ الهدايا فوجئت بأنه ينشر فى مجلة "المصور" مقالا يتهمنى فيه بأننى أُرْهِبه وأكفّره، وهو بطبيعة الحال ما لا صحة له البتة. فكتبت بدورى فى نفس المجلة ردا على الرد بَسَطْتُ فيه حقيقة المسألة أمام أعين القراء وقلت لهم: إذا استطاع أى إنسان أن يجد فى كتابى المذكور أى تهديد أو تكفير فأنا جاهز لأى قرار يتخذه القراء بشأن ما كتبت أيا كانت طبيعة ذلك القرار. ولم يعلق الدكتور مراد بكلمة على مقالى ذاك، ولم يكن باستطاعته أن يعلق لأنه لم يحدث أن كفَّرته أو هدَّدته قط.
ثم مرت الأيام، وإذا بى، وأنا خارج ذات عصرية من مبنى ماسبيرو بعد الانتهاء من تسجيل أحد البرامج الإذاعية، أجد فى كشك الصحف والمجلات الموجود على يسار الخارج من ماسبيرو العدد الجديد من مجلة "الهلال"، فأمسكت به أتعرف إلى موضوعاته، لأجد مقالا طويلا نسبيا عن كتابى المذكور مع صورة للكتاب أعلى كل صفحة من صفحات المقال، وإذا المقال للدكتور محمد سليم العوا فى فض الاشتباك الحاصل بينى وبين د. مراد، وهو مقال لم أحتفظ به فى مكان أمين فضاع منى ضمن أشياء كثيرة جدا مثله ضاعت هى أيضا. ثم إن د. مراد قد مات بعد ذلك بوقت غير طويل دون أن أراه أو أرى حتى صورته. يا خسارة!
 
وماذا عن كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"؟
 
أما كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" فكنت ألفته فى أواخر ثمانينات القرن المنصرم، ثم أخذته معى إلى السعودية وهو مسودة أملا فى أن أراجعه وأنشره هناك، بيد أنه لم يتح لى ذلك، فعدت به إلى مصر مرة أخرى بعدما اختلطت أوراقه وصار من الصعب علىَّ أن أعيد ترتيبه كما كان. ثم بدا لى أن أنشره على حسابى، فطبعت منه خمسمائة نسخة اشترى الطلبة منها ما اشتروه، وأخذت أهدى الباقى كعادتى لمن يطلبه. وإنى لأستغرب كيف أن الناشرين لم يترامَوْا على نشره فى الوقت الذى ينشرون بتحمس بالغ كثيرا من الكتب التافهة. صحيح أننى لست ممن يسوقون أنفسهم جيدا، لكن أين ذُهِب بعقول الناشرين؟ هذا أمر محير!
ثم مرت الأيام، وبدا للأستاذ عادل النادى مقدم برنامج "مع النقاد" سابقا أن يعرضه مشكورا فى حلقة من برنامجه، فاستضفت د. عبد العزيز نبوى وأستاذا آخر كبيرا مشهورا بكتابته فى الأدبيات والإسلاميات. وذهبت فأحضرته معى بالسيارة من بيته، وكانت معه حقيبة سوداء لاحظت أنه كان حريصا عليها طوال الطريق. ولما بلغنا مركن السيارات فى ميدان عبد المنعم رياض تركت سيارتى فيه، وأخذت الحقيبة من الأستاذ لأضعها فى شنطة السيارة إلى أن نعود، فأصر على أن يحملها معه إلى الإذاعة، فظننت أنه يخاف عليها من السرقة، فحملتها عنه، وكانت أول مرة أحمل حقيبة لأحد، وبررته لنفسى بأننى كبير فى السن، ولم تعد تلك المسائل ذات حساسية عندى البتة، فضلا عن أن الرجل ضيفى، كما أن احترامى له إنما هو احترام للعلم والعلماء. وفى أثناء تسجيل البرنامح، وبينما نحن منهمكون فى المناقشة والأخذ والرد، طلب الأستاذ الدكتور الكلمة وشرع يعاتبنى لأنى أهملت الإشارة إلى كتابه الذى سبق أن تناول فيه ذات الموضوع. قال هذا وهو يخرج كتابه عن البيان النبوى من الحقيبة، فكدت أضحك: إذن فهذا هو السبب فى حرصه على اصطحابها معه!
والحق أن ما قاله الأستاذ الدكتور خطأ صراح لأن الكتابين مختلفان تماما فى الموضوع وفى منهج التناول وفى النتائج، ولم يسبق لأحد طوال الأربعة عشر قرنا الماضية أن حاول الكتابة فى المقارنة العلمية الإحصائية بين كتاب الله وحديث الرسول من حيث المفردة والصيغة والتركيب والعبارة والمتصاحبات والمتضادات والأبنية الفنية قط. ومن هنا كتبت، ولأول مرة فى حياتى، فى رأس غلاف الكتاب إنه أول دراسة من نوعها فى تاريخ الفكر الإسلامى. لكن لما كان الأستاذ الدكتور ضيفا علىَّ فى البرنامج، ولما كنت أنا الذى دعوته لمناقشة الكتاب، فقد آثرت ألا يكون الرد مباشرا حتى لا أولم ضيفى، فاكتفيت بالقول بأن كتابى تم تأليفه قبل كتابه، وهذه حقيقة تاريخية لا مراء فيها. لكنه عاد يقول إن تاريخ صدوره المذكور على الغلاف متأخر عن تاريخ صدور كتابه. فوضحت له أننى كنت قد انتهيت من تأليفه أواخر الثمانينات، إلا أنه لم يقدر له الصدور إلا بآخرة. وبهذا عبرت المأزق الذى أراد ضيفى الجليل أن يضعنى فيه دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، وسكتُّ فلم أقل إن موضوع الكتابين مختلف تماما كما سبق أن شرحت آنفا.
 
وكتاب "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"؟
 
كتاب "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"، ألفته فى الطائف حين كنت أعمل فى كلية التربية بها فى السنوات الخمس الأولى من تسعينات القرن البائد. وقد استعرت له عشرات الكتب دفعة واحدة من مكتبة صديقى السورى د. عثمان جمعة ضميرية، إذ ذهبت إليه يوم خميس، وهو يوم إجازة فى السعودية، وحملت فى عربتى من مكتبته نحو ستين كتابا مرة واحدة، وعدت إلى بيتى بعد أن قضيت وقتا ممتعا مع الشيخ عثمان. وهذا غير ما أخذته من مكتبة تربية الطائف، وكانت مفتوحة لى آخذ منها بغير حساب. والبركة فى الأستاذين خالد الأمين وإبراهيم بخارى، أمينى المكتبة، الذين لاحظا شغفى بالكتب وترددى الغزير عليها فى الوقت الذى لم يكن أحد من الأساتذة تقريبا يزورها، فاقترحا مشكورين أن آخذ ما أشاء من الكتب دون أن أسجله فى ورق استعارة، وأكتفى بتقييده فى نوتة خاصة. وكان من نتيجة ذلك أننى أحصيت ذات مرة ما كان عندى من كتب أخذتها من المكتبة فوجدتها مائة وعشرين كتابا. يا ساتر استر! والحمد لله لم يضع منى كتاب واحد رغم ذلك.
وقد ركزت فى هذا الكتاب على المواد الدينية وحدها فى الموسوعة المذكورة وتركت بقية المواد المتعلقة بالجوانب الأخرى من الحضارة الإسلامية. وكان المستشرقون قد مخضوا دائرتهم الكبيرة واستخلصوا منها المواد الدينية فقط، وأصدروها فى مجلد خاص بإشراف هاملتون جب وآخرين بعنوان "Shorter Encyclopaedia of Islam". فعكفت على ذلك المجلد وتتبعت مواده مادة مادة، وكلما وجدت شيئا يحتاج إلى الرد قمت بمناقشته وتمحيصه وتقديم وجهة النظر الإسلامية وفندت ما قاله المستشرق كاتب المادة، ثم نَظَََّمْتُ فصول الكتاب ما بين فصل يتناول ترجمة الآيات القرآنية فى الكتاب، وآخر يتناول القرآن الكريم، وثالث يتناول الرسول عليه السلام، ورابع يتناول القضايا الفقهية التى تعرضت لها الموسوعة... وهكذا. ولم أقتصر على هذا فحسب، بل أحضرت ترجمة هذا المجلد التى قام بها د. راشد البراوى، ونظرت فيها وسجلت مآخذى عليها أيضا.
 
اترك لكم حرية الإسترسال في الحديث عن بعض كتبكم الأخرى، فحديثكم شيق وممتع، وفيه فوائد لي خاصة وللقراء عامة.
 
أما كتابا "النزعة النصرانية فى قاموس المنجد" و"نظرات فى الموسوعة العربية الميسرة" فكانا استجابة لما لاحظته فى الموسوعة والقاموس المذكورين من انحراف عن الإسلام إلى وجهة النظر الكتابية: فأما "المنجد" فمن المفهوم أن يتبنى أصحابه وجهة النظر الكتابية، وبالذات النصرانية، إذ هم جماعة من رجال الدين النصارى. لكن الطامّة الكبرى فى "الموسوعة العربية الميسرة"، التى صدرت عن مؤسسة حكومية مصرية أيام الرئيس جمال عبد الناصر، فكيف تعكس وجهة النظر الكتابية فى معظم مواددها، وكأنها صادرة فى بلد يهودى أو نصرانى؟ لقد كان مشرفا عليها د. زكى نجيب محمود ود. إبراهيم بيومى مدكور ود, سهير القلماوى، فكيف خرجت الموسوعة على النحو الغريب الذى خرجت عليه؟ لقد شعرت أن علىَّ فريضة محتومة لا مفر من تأديتها، فأديتها، وكتبت أنبه إلى هذا العُوَار الفادح الذى تعانى منه الموسوعة المذكورة، ونجحت فى إصدار الكتاب، وإن لم أحصل من ورائه على مليم أحمر أو أصفر، بل أخذت 400 نسخة منه سُلِّمَتْ لأهلى فى القاهرة حين كنت فى السعودية حيث ألفت الكتابين المذكورين. أما فى مقابل "النزعة النصرانية فى قاموس المنجد"، الذى لم يزد عن خمسين صفحة، فقد حصلت على مائتى نسخة منه وألفى ريال. فحمدا لله. ويبدو أن الكتاب الذى ألفته عن الموسوعة المشار إليها قد آتى ثمرته مع مرور الوقت، إذ كنت ذات ظهرية فى دار الكتب القطرية منذ أكثر من عشرة أعوام، فوجدت على الأرض كتابا كبيرا من عدة مجلدات نظرت فيه من باب الفضول فألفيته الطبعة الجديدة من الموسوعة المذكورة، وألقيت نظرة على بعض المواد التى كنت انتقدت ما جاء فيها، فوجدت كلاما مختلفا ومعقولا. فقلت: أرجو أن يكون ذلك من جراء ما كتبه العبد الفقير إلى ربه تعالى. وفى كل الأحوال أدعو الله أن يجزينى على ما قدمت فى الكتاب الآنف الذكر، الذى لم تزد صفحاته على مائة صفحة.
ولى عدة كتب فى دراسة بعض السور القرآنية: بعضها لم أضف فيه شيئا جديدا بالمرة تقريبا، وهو سورة "التوبة"، الذى جريب فيه على الأسلوب التقليدى فى تناول الآيات، إذ كنت أتناولها آية آية أو آيتين آيتين شارحا ما تقولانه، ودمتم! لكن لا بد من إضافة القول أيضا إننى حرصت على أن يكون أسلوبى فى الشرح سلسا بسيطا ما أمكن، مع البعد التام عن الخلافات المعهودة فى كتب التفسير والعنعنات وما إلى ذلك. وبعضها، وتمثله سورة "الرعد"، التى كانت أول سورة أعرض لها بالتأليف فى السعودية حين أعطونى فى الجامعة مادة "دراسات أدبية من القرآن الكريم"، قد تناولته بالطريقة التقليدية أيضا، لكننى أضفت إلى ذلك وقوفى عند بعض الأساليب اللغوية كأسلوب "قل" فى السورة وفى القرآن عموما، وبعض القضايا الدينية كقضية "المشيئة البشرية وحدودها فى الدنيا والآخرة وعلاقتها بالمشيئة الإلهية". وأتصور أننى قد جئت بشىء جديد هنا، مثلما جئت بشىء جديد حين وقفت عند المسألة الخاصة بمرحلة نزول تلك السورة المختلَف حولها بين أهل التفسير: أهى يا ترى المرحلة المكية أم المدنية؟ وهنا عكفتُ على أسلوب السورة مفردات وتراكيب وعبارات وصورا وما إلى هذا فألفيت أن فيها أكثر من ثلاثين ملمحا أسلوبيا تختص بالوحى المكى أو تغلب على الوحى المكى، فأعلنت، وأنا مطمئن الضمير، أنها من الوحى المكى. على أن الجديد فى ذلك الكتاب لم يقف عند هذا الحد، فقد رجعت، ضمن ما رجعت إليه من مراجع، بعض الترجمات القرآنية كترجمة محمد أسد: "The Message of the Qur’an" حين وجدت أن بعض كتب التفسير القديمة تصل بفترة الحمل إلى عدة سنوات، فوجدته يؤكد أنها لا يمكن أن تتجاوز تسعة شهور إلا باللتيا والتى مثلا. وقد كان رجوعى فى هذا الكتاب إلى أسد هو البذرة التى أثمرت كتابا كاملا عنه رصدت فيه أشياء فى ترجمته التفسيرية للقرآن المجيد ولجزء من أحاديث البخارى تبعث على الدهشة، ولا أزيد. وهذا وغيره من القضايا موجود فى كتابى: "محمد أسد (ليوبولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون".
أما فى كتبى عن سورة "طه" وسورة "النجم" وسورة "الرحمن" وسورة "المائدة"، والثلاثة الأولى تم تأليفها فى السعودية لطلبة كلية التربية بالطائف لذات الغرض الذى ألف له كتابى عن سورة "الرعد"، على حين ألفت الرابع بعد عودتى مباشرة من هناك، فقد مضيت فيها شوطا آخر، إذ رجعت فيها إلى ترجمات المستشرقين والمسلمين غير العرب للقرآن الكريم إلى الإنجليزية والفرنسية، والألمانية أيضا فى سورة "طه" قبل أن أنسى تلك اللغة مع مضى الأعوام وعدم توافر كتب بها بين يدىَّ فى السعودية فى تلك الفترة. كما اعتمدت منهجا جديدا فى تناولها، إذ لم أتتبع الآيات آية آية لحين الانتهاء من السورة كما فعلت مع "التوبة" و"الرعد"، بل قسمت الدراسة إلى فصول: كل فصل يعالج شيئا فى السورة. فمثلا هناك فصل عن السمات الأسلوبية التى تنفرد بها سورة "طه"، فقد لاحظت أن فى كل سورة بعض الأشياء اللغوية التى تميزها عن غيرها، وفصل عما فيها من ملامح أسلوبية مكية أو مدنية، وفصل عن القضايا الهامة التى تشتمل عليها، وفصل عن المقارنة بين السورة وبين ما يناظرها فى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى... وهكذا.
ومما ألفته من كتب تستحق إلقاء الضوء عليها هنا كتاباى عن خليل عبد الكريم: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" و"لكن محمدا لا بواكى له": فأما "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" فقد بينت فيه بالأدلة الموثقة تهافت الكلام المنسوب لعبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه وسخفه وزيفه وبطلانه. ثم شفعت كتابى هذا بكتاب آخر عنوانه: "لكن محمدا لا بواكى له" خصَّصْتُه للرد على قلة الأدب والعربجة التى يعج بها كتاب "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين"، الذى يحمل اسم عبد الكريم أيضا، وأكدت فيه أننى لا تصور أبدا أن يكون عبد الكريم هو مؤلفه. وإذا بى أتسلم، وأنا أعمل فى جامعة قطر منذ نحو عشر سنوات، رسالة من أحد معارفى تتضمن صورة لمقال كتبه خليل عبد الكريم عنى وعن كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" ونشره فى مجلة "أدب ونقد" فى عدد أكتوبر2001م.
وفى هذا المقال لم يحاول عبد الكريم أن الرد على أى شىء مما بينتُ سخف منطقه وتدليسه فيه (أو بالأحرى: منطق الذين كتبوا له الكلام وتدليسهم)، وهو كثير كثرة فادحة، بل اكتفى بالثناء علىّ والقول بأنى... وأنى... مما سيطالعه القارئ الآن. وقد تعمدت أن أضع المقال كاملا بين يدى القارئ كى يعرف أن أمثال عبد الكريم لا يملكون شيئا من الحجة، وإلا لردّ على انتقاداتى له وتفنيداتى العنيفة لما جاء فى الكتب التى تحمل اسمه. بل بالعكس أَقَرَّ بأننى قد نجحت فى فهم مرامى كلامه ووضعت يدى على ما يريد أن يقوله مما لم يحن الوقت بعد للتصريح به، وهو إقرار غريب لأن أمثال عبد الكريم دائما ما يدّعون أنهم أفهم للإسلام ممن يغارون على الدين وأحرص على الدعوة إليه وانتشاره. كما أود أن ألفت القارئ إلى التدليس الذى لجأ إليه هنا أيضا والمتمثل فى تلاعبه بعنوان كتابى، إذ سماه: "اليسار الإسلامى وتطوراته.." (هكذا بالحرف والنقطة)، بدلا من "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" كى يضلل القارئ عن العنوان الحقيقى الذى يفضحه ويفضح مراميه ومرامى من يشجعونه على هلاكه.
وهذا هو نص المقال، وعنوانه: "فى كتاب إبراهيم عوض: اليسار الإسلامى وتطوراته..": "سلك أ. د. إبراهيم عوض سلوكًا حضاريًّا بالغ الروعة والسموّ يليق به كأكاديمى وأستاذ جامعى بخلاف من عداه من "الإسلامويين". أصدر، مشكورًا، كتابًا يقرب من ثلاثمائة صفحة قدَّم فيه عرضًا نقديًّا لمؤلفاتى: "لتطبيق الشريعة لا للحكم"، "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، "قبيلة قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية"، "الأسس الفكرية لليسار الإسلامى"، "مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى"، "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة". ويتضاعف امتنانى له لو تفضل بآخر يتناول باقيها: "الإسلام والدولة الدينية والدولة المدنية" و"العرب والمرأة" و"بصائر فى عام الوفود وفى أخباره" و"فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين".
ووجه الرقىّ فى منحى الأستاذ الفاضل والذى فهمتُه بعد قراءة كتابه يتمثل فى عدة أمور أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- أنه لم يجنح إلى التكفير كبعضهم، ولم يعمد إلى الرمى بالردة، ولم يسارع إلى الاتهام بالخروج عن الملة، ولم يُفْتِ باستحلال الدم، ولم يحرّش على القتل، بل على العكس يدين هذه الاتجاهات. 2- وبالتالى فهو يؤكد أن الإيمان علاقة شديدة الخصوصية بين العبد والرب، وأن الله جل شأنه هو وحده الذى يحاسب عليه. 3- لم يستنفر فخامة رئيس الجمهورية (كما فعل أحدهم، ومن أعجب الأمور أن البعض حتى هذه اللحظة يعدّه مفكرا مستنيرا) ولا غيره من المسؤولين ولا حرّض أحدا منهم ضدى. 4- لا يقر اللجوء إلى القضاء، إذ يرى أن السلوك الأمثل هو الرد والتفنيد والتعقيب، ومبدؤه: "كتاب مقابل كتاب"، وهو ما حدث إبان الحضارة الإسلامية الزاهرة. وهو ذاته حقق ذلك فى هذا الكتاب الذى نقد فيه طائفة من كتبى، وأنتظر منه الآخر لتغطيةِ (أو بمعنى أدق: لنَقْدِ) باقيها، وله المنة. كما أصدر تعقيبا على كتاب د. محمود على مراد عن السيرة النبوية عنوانه: "إبطال القنبلة النووية" وغيره. 5- لم يقرأ قراءة سطحية كما يفعل البعض (هذا إذا قرأ ولم يسمع كلمة من هنا وجملة من هناك ثم يدبج مقالة)، بل تعمق فى المطالعة، ومن ثم فطن إلى ما هو مخبوء بين السطور وما جاء، تحت ضغط الظروف، تلميحا لأن الوقت لم يحن بعد، وربما لعقود قادمة، للتصريح به، وما ألغزتُ فيه ففَقِهَ ما رميتُ إليه. 6- امتلك قدرًا مُفَرْسَخًا من الفراسة جعله يدرك أن المستجِدّات المتلاحقة والمستحدثات المتوالية والتغييرات المتعاقبة قضت باستحالة استمرارية الأسلوب التفخيمى التبجيلى عند الكتابة عن الصحابة مثلما فعل العقاد وهيكل وخالد محمد خالد...إلخ أو عن غيره من المواضيع، وأنه من الحتم اللازم ظهور الأسلوب الموضوعى النقدى المتوازن مثل الذى ألزمْنا أنفسنا به، وأن من الخطإ المنهجى الفادح قَمْعَ هذا المنزع لأن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبث وتضييع وقت. 7- دَلَّ كتابُه الناقد أو نقدُه المكتوب على صبره وتأنِّيه، فهو لم يتسرع أو يهرول بل نقَّب وحَفَر ونقَّر، وبذا قدّم دليل الثبوت على أن مؤلفاتنا (وهذا من فضل الله علينا) شديدة التوثيق. بل إن هناك من وصفها بالمبالغة فى هذا المضمار. ولعل هذا يفسر إحجام كل من كتب عنها حتى من الهيئات العلمية عن التصدى لنقدها نقدا موضوعيا كما فعل الدكتور إبراهيم عوض. أكتفى بهذه النقاط حتى لا يطول المقال.
أما تعدِّيه على شخصى الضعيف فى كل صفحة تقريبا فلم يؤذنى لأننى أتأسَّى بالحبيب المصطفى عليه وآله أزكى السلام، فقد خرجتُ من طول معايشتى لسيرته العطرة أنه ما غضب لنفسه قط. إنما آلمنى أنه جرَّح بسببى أخى وصديقى د. سيد محمود القمنى، ونال من الزميلتين الفاضلتين الأستاذتين فريدة وأمينة النقاش، وكنتُ آمل ألا أغدو طريقا لإيلامهم. مسألتان أَسْتَمِيحه عذرا كيما أعلِّق عليهما: الأولى- سألت الله تبارك وتعالى له أن يريح صدره مما حاك فيه بأن يوفق أحد الدارسين فى حياته لا من بعده ويثبت له أن مؤلفاتى ليست من عملى، ولكنها من تصنيف طائفة من المستشرقين (ص260)، لأنه يؤذينى كثيرا أن يظلّ هذا الخاطر يَسُوط فى صدره (فى "أساس البلاغة" للزمخشرى: سَاطَ الهريسة، وساط الأَقِط: خَلَطَه). الأخرى- أفزعنى عندما شكك فى مصريتى ونسبنى إلى الجزيرة إياها البالغة القداسة الشديدة البركة، فأنا لا يسرنى يا دكتور أن يكون عندى "حُمْر النَّعَم" كما يقول أصحابك الميامين فى أمثالهم البليغة ولغتهم الفصيحة وأن تُنْزَع عنى مصريتى! أتعرف لماذا؟ لأن مصر وحدها دون غيرها هى التى علَّمت الدنيا بأسرها أمرين: الضمير والحضارة. ختاما أ. د. إبراهيم عوض، شكرا".
هذا ما كتبه خليل عبد الكريم. وكنت قد اتهمته بالتسرع والالتواء فى قراءة النصوص والجهل بنصوص أخرى على قدر كبير من الأهمية أو التجاهل لها، فضلا عن العجز عن استخلاص النتائج الصحيحة مما يقرأ، إلى جانب تدليسه فى الاستشهاد بالنصوص هو وسيد القمنى، الذى نقل عن د. جواد على من كتابه "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" نصًّا طويلاً فأسقط بضعة عشر سطرا منه عامدا متعمدا دون أن يترك مكانها نقاطا كى يعرف القارئ أن هاهنا كلاما محذوفا لا يصح حذفه البتة لأنه يفسد المعنى ويقلبه رأسا على عقب، ثم زاد على ذلك فلَحَمَ الكلامين بطريقة خبيثة لا يتنبه معها القارئ إلى عملية التلاعب الدنيئة التى تمت بلَيْل! والنص المذكور خاص بالكلام عن أمية بن أبى الصلت، وهل استعان بالقرآن فى نظم الأشعار المنسوبة إليه والتى تشبه آى الذكر الحكيم؟ أم هل النبى هو الذى استعان بشعر الرجل؟ أم ترى الأمر كله لا يخرج عن استقاء الاثنين من مصدر مشترك؟ وقد انتهى جواد على إلى أن أشعار أمية ذات الصبغة القرآنية الواضحة منحولة عليه بعد الإسلام، ومن ثم فلا تشابه بين شعره وبين كتاب الله على الإطلاق مما لا يعود معه مجال للحديث عن أثر شعره فى القرآن المجيد.
لكن تدليس سيد القمنى يقلب القضية رأسا على عقب، إذ يُظْهِر جواد على فى صورة المشايع لما يردده ملاحدة عصرنا من أن الرسول قد استعان بشعر أمية، وهو عكس ما انتهى إليه الرجل فى كتابه. ويمكن القارئ الرجوع إلى دراسة مطولة لى فى هذا الموضوع منشورة فى بعض المواقع المشباكية، ضمَّنتها بعد ذلك كتابى: "أفكار مارقة"، عنوانها: "القرآن وأُمَيّة بن أبى الصلت: أيهما أخذ من الآخر؟"، بيَّنْتُ فيها بالدليل الصارم القائم على وقائع التاريخ وتحليل النصوص واستشفاف الجو النفسى والاجتماعى فى ذلك العصر أن من المستحيل القول باقتباس القرآن من شعر أمية، وإلا لكان قد فضح النبىَّ عليه السلام هو ومن يشايعه على موقفه من مشركين ويهود، وبخاصة قومُه بنو ثقيف الذين دخلوا جميعا الإسلام ولم نسمع من أى منهم ولا حتى من أقرب المقربين إليه كأخته أو أبنائه أن هناك تشابها (مجرد تشابه!) بين شعره وبين القرآن الكريم، وأنه إذا كان لا بد أن نقول بالتشابه بين شعره وبين كتاب الله فلا بد أن يكون هو المقتبس من القرآن لا العكس. لكن القمنى قد تلاعب بالنص الذى نقله من كتاب "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" بحيث يبدو وكأن جواد على يقول بتأثر القرآن بشعر الشاعر الثقفى كما ذكرنا، وهو ما يجده القارئ مفصَّلاً فى كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة".
 
وأما كتاب "الفرقان الحق: فضيحة العصر" فقد سطرته فى الدوحة وأنا أدمدم بسبب ما قرأته فيما يسمى بـ"الفرقان الحق" من سباب سافل للمسلمين وربهم ونبيهم ودينهم وأمهاتهم وكل شىء يتعلق بهم والزعم أنهم زُنَاةٌ أبناءُ زَوَانٍ بما فيهم رسولهم الكريم، فامتشقت قلمى وهويت به على الجلود الحميرية الثخينة التى كتبتْه زاعمة أنه من عند الله، مبرهنة بذلك على نحو لا يقبل الجدال أنها إنما تجرى على تراث فى التزييف والتحريف عريق، وأن ما زَنَّها به القرآن الكريم من أنهم يحرفون الكَلِم عن مواضعه هو حقائق تاريخية لا سبيل إلى نكرانها، بل لا تزال ماضية فى طريقها حتى الآن. وقد لاحظت أن كلام أولئك الحمير عن فرقانهم الملفق قد انكتم بعد ظهور كتابى على الإنترنت. لقد نزل عليهم كالصاعقة أو كالزلزال، فطير عقولهم، وأفقدهم صوابهم، فلم أرهم بعدها يتحدثون عنه كأنه لم يكن ولم يدر لهم ببال.
وفى قطر قدر لى أن أشارك فى مؤتمرين أدبيين فى سورية والأردن على التوالى فى عامين متتاليين فى أوائل النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. وفى رحلة سورية ذهبت برفقة د. حسام الدين الخطيب، وهو سورى، إلى دمشق، وتوجهت معه إلى منزله هناك حيث تخلف وتركنى أكمل رحلتى إلى حمص، التى كان قسم اللغة العربية فى آداب البعث بها هو الذى ينظم مؤتمر الأدب المقارن حيث أشارك ببحث عن الاستعراب والأدب المقارن. وأخذت الحافلة إلى حلب من دمشق حيث كان علىَّ أن أسجل بياناتى فى المحطة هناك كأنى سأنتقل من دولة إلى دولة أخرى، وهو ما أشعرنى بالوحشة والتوجس. ولكن ما إن بدأت الرحلة حتى داخلنى إحساس بالحنان نحو البلاد، التى تذكرت فجأة أننا كنا نشكل معها بلدا واحدا فى بعض عهد عبد الناصر. وكان الأصيل جميلا، والحافلة منطلقة على الطريق المختلف عن طرقنا فى الدلتا حيث التلال والغابات حولنا مما لا نشاهده فى طرق مصر. وكانت الحافلة هادئة فلا ضجة ولا ثرثرة ولا مذياع يغنى كما هو الحال فى مصر. وكانت تجلس إلى جوارى فتاة فى العشرينات من عمرها ألفيت نفسى بحاجة إلى أن أتحدث إليها لأعرف كيف أتصرف حين أنزل فى حماة حيث يعيش د. راتب سكر، رئيس قسم اللغة العربية منظم مؤتمر الأدب المقارن الذى كنت ساشارك فيه ببحث، بينما د. حسام الدين الخطيب قد أتى بوصفه مستمعا ومناقشا فحسب.
وقد ساعدتنى الفتاة أيما مساعدة هى وأبوها، الذى كان ينتظرها فى محطة الحافلات فى حلب بسيارته نصف النقلية، إذ كانت بنته تشتغل فى دمشق، ويأتيها كل يوم ليحملها من المحطة إلى المنزل. وقد ظلا معى إلى أن أتى د. راتب سكر بعد أن اتصل الأب به مشكورا بالهاتف وأعطيت الآنسة كتابين من كتبى التى أحضرتها معى من قطر لأهديها إلى أصحاب النصيب من المكتبات العامة والزملاء المشاركين فى المؤتمر من أهل البلد أو الضيوف. وقد أسعدتنى صحبة د. سكر أيما إسعاد، إذ طاف بى فى وسط حماة وأخذ يقص علىَّ تاريخ كل أثر أو بناية عامة نمر بها، بالإضافة إلى نواعير حماة الشهيرة، التى اصطحبنى إلى الحمامات المتصلة بها وشرح لى كل ما يتعلق بها على الطبيعة. ومما قاله لى فى تلك الليلة أن أباه شارك فى ترميم قبلة الجامع الكائن على نهر العاصى، ولم أكن قد علمت بعد أنه نصرانى. كما حدثنى عن أبى الفدا المؤرخ الشهير وملك حماة (ت732هـ)، وكذلك عن أحمد الفيومى صاحب معجم "المصباح المنير" (ت770هـ)، إذ كان من سكان المدينة زمنا. ثم عرض علىّ أن يعشِّيَنى فى مطعم كباب وكفتة، فآثرت أن آكل طعاما أبسط، وهو ما فعله بعد أخذ ورد، فأطعمنى الفتوش (طبق سلطة سورى معروف غاية فى اللذة والطعامة!) وبعض الأطباق الأخرى. وكانت ليلة من ليالى العمر المعدودة، لا على طريقة شادية وفاتن حمامة الملتاعة، بل على طريقة د.راتب سكر اللطيفة الظريفة الممتلئة حيوية وحبورا رغم أننى كنت متهالكا ومرهقا غاية الإرهاق، والفضل كله لظرافة د. سكر وحيوية شخصيته وروعة حديثه وسحر نبرة صوته وطريقة شرحه للأشياء وتدفق حديثه بالحيوية.
وانفصلنا على أن يأتينى فجرا إلى الفندق الذى أنزلنى فيه ليصطحبنى إلى حمص حيث يعمل وحيث ينعقد المؤتمر. وفعلا جاءنى فى ميعاد الفجر، وأخبرنى أنه سوف يثرثر قليلا مع صاحب الفندق ريثما أفرغ من الصلاة فى غرفتى فألحق به. وما إن انتهيت من الصلاة وارتداء ملابسى ولحقت به حتى تبين لى أنه دفع عنى إيجار الغرفة، وعبثا حاولت أن أرد له ما دفعه من مال، إذ لم يرض ذلك أبدا. ولو كنت قد ذهبت مباشرة إلى حمص ونزلت فى الفندق الذى حجزت لنا الجامعة فيه غرفة لكل مشارك منا لما كان هناك حرج من جانبى. ولا ريب أن ما صنعه د. سكر معى فى تلك الليلة من طعام وفندق هو مما لا يمكننى نسيانه أبدا مهما طال الزمن، إن طال الزمن بى أكثر من ذلك. وإنى لا أزال أذكره بكل تفاصيله وقوة خطوطه ونصاعة ألوانه، وبخاصة أن من كنت أتوقع منه معاملة أفضل لم يصنع عشر معشار ما فعله راتب سكر، الذى لم يكن يعرفنى من قبل ولم يسمع حتى باسمى. وزادنى تقديرا لما فعله ما عرفته عرضا بعد عودتى إلى الدوحة بوقت طويل أثناء حديث لى مع د.صلاح كزارة السورى من أن د. راتب نصرانى. ثم سارع قائلا إنه، رغم نصرانيته، قوى النزعة العروبية، مثنيا عليه وعلى دماثته، ومؤكدا لى أنه لا وجه لاستغراب ما صنعه معى، إذ هو أهل للكرم والدماثة.
وقد أثار انتباهى فى حمص الحديقة العامة الهائلة المساحة الكثيرة الأشجار بالقرب من الجامعة، والنظافة النسبية غير المتاحة فى مصر، وتوافر الرصيف فى كل مكان حتى فى الحوارى الضيقة وصلاحيته للسير عليه دون أية مشاكل، على العكس تماما مما فى بلادنا. كما أخذ بصرى تمثال شديد الضخامة بعيد العلوّ لحافظ الأسد يقوم فى الميدان القريب من جامعة البعث. وكان الاحتلال الأمريكى للعراق أيامها فى بدايته، وإسقاط تمثال صدام حسين لا يزال حيا فى الذاكرة. وكنت أشعر كأن الأسد يطأ بقدمه الهائلة فوق رؤوس المارة. وخامرنى إحساس أن يوما سوف يأتى يحدث فيه لهذا التمثال وأشباهه ما حدث لتمثال صدام، على رغم ما ساورنى ساعتذاك من خوف على سورية. ولم أكن أعلم أنه بعد نحو عشرة أعوام سوف تهب فى سورية ثورة شعبية تهدفُ إلى تحطيم الاستبداد والترويع والاستعباد والتعذيب، والتخلص من حكم النصيريين وقهرهم وبطشهم، وتمزِّقُ صورحافظ وبشار الأسد، وإن كانت الثورة لم تنجح بعد رغم التضحيات الجسورة والغالية التى قدمها الشعب السورى من ماله وبيوته وأرواحه. وأملنا فى نجاحها رغم هذا عظيم بفضل الله.
ولفت نظرى أن المشتركين السوريين فى المؤتمر يتنادون رسميا فى الجلسات بعبارة "الرفيق الفلانى" على عادة الماركسيين، فازداد توجسى، كما لاحظت أن أحدا منهم ولا من غيرهم لا يبدأ إلقاء بحثه أو تعليقه على بحوث الآخرين باسم الله الرحمن الرحيم. وحين أتى دورى لإلقاء بحثى قلت: "بسم الله"، وبد الأمر لى على قصر العبارة وكأننى أتيت أمرًا إدًّا. ومن بين من استرعى انتباهى من الأساتذة السوريين د. غسان مرتضى لما كان يتمتع به من خفة ظل. ولعله أشار ضاحكا أو جادا إلى شربه الفودكا فى روسيا، إذ أذكر أنه حصل على الدكتورية من الاتحاد السوفييتى، ولعلى لا أكون مخطئا. وقد قرأت منذ عدة سنوات، عندما كنت أعد بحثا لى فى الأدب المقارن بين "حى بن يقظان" و"روبنسون كروزو"، عن ذات الموضوع، فتذكرت الأيام الجميلة التى قضيتها فى حمص بحديقتها العامة الممتدة لمسافة طويلة. كما رأيت بعض الأساتذة السوريين يحتسون الخمر دون حرج فى المآدب العامة التى كانوا يضيفوننا فيها هنا وهناك. وحين عدت إلى الدوحة كان من بين ما فعلت الاتصال بالدكتور راتب سكر لشكره على ذوقه وكرمه وصحبته الممتعة، وبالدكتورأحمد دهمان عميد آداب البعث آنذاك، الذى أبدى دهشته لاهتمامى بالاتصال به من العاصمة القطرية وشكره على حفاوتهم بنا فى المؤتمر.
وقد التقيت بالدكتورحسام الخطيب فى المطار ونحن عائدان إلى قطر بعدما افترقنا فى حمص، وفتحت معه حساب سيارة الأجرة التى أقلتنا من المطار فى دمشق إلى بيته قبل أن ننفصل لأذهب وحدى إلى حماة كما شرحت آنفا، وكنت فهمت أنه لا يقبل أن أشاركه الدفع، بيد أنه خطر لى أنْ ربما كان الأليق عرض الدفع مرة أخرى، فكان نصيبى ما يساوى عشرة جنيهات مصرية أو نحو ذلك، وقال لى بعد أن حسبها وارتبك بعض الشىء: أرجو مسامحة كل منا للآخر إن كان أحدنا قد دفع أكثر من نصيبه قليلا. وقد ارتحت كثيرا حين أخذ منى الأجرة حتى لا يكون فى نفسه شىء. وفى مطار دبى كنا جالسين ننتظر الطائرة التى ستقلنا إلى الدوحة، إذ كنا نزلنا ترانزيت هناك، فألفيته يقوم من مجلسه بغتة وينادى قائلا باهتمام شديد: يوسف! يوسف! ثم مال علىَّ قائلا: يوسف القعيد. فبقيت فى مكانى حتى سلم وعاد، ولم أسأله عن شىء، ولم يحدثنى هو عن شىء. وتذكرت أول يوم مر علىّ فى جامعة قطر فى رمضان، حين كان بعضنا نحن الأساتذة يصلون، فوجدته يقول ما معناه أنه سوف يصلى معنا، بيد أنه لم يتبع القول بالعمل، ولم يكررها من بعد مثلما لم يفعلها من قبل: لا فى رمضان ولا فى غير رمضان. ولا أدرى لماذا قال ما قال بالذات فى أول أيام رمضان ما دام لا يشارك فى الصلاة أصلا.
ومن بين ما لفت نظرى فى ذلك المؤتمر أن منظميه قد جعلوا د. حسام الخطيب ضيف شرف رغم أنه لم يشترك بشىء ولا حتى بتعليق، فقام هذا عندى دليلا على المكانة العالية التى يحتلها من نفوس القوم فى سورية، بيد أن د. صلاح كزارة بدد هذا الاستنتاج حين قال لى إن فلانا (أحد كبار منظمى المؤتمر) قد فعل هذا عمدا وأرسل يدعو د. الخطيب من قطر نفسها طمعا فى أن يساعده د. الخطيب على العمل أستاذا معارا إلى جامعة قطر، لكنه خيب ظنه، ولم يصنع له شيئا. وقد أضحكنى هذا الأمر كثيرا. كما ضحكت حين أخبرنى زملائى المصريون فى قطر، ولم يكونوا يعرفون عنى شيئا حين قدمت أوراقى إلى الجامعة هناك، أنه لم يبق فى المنافسة بين المتقدمين فى ذلك العام لوظيفة أستاذ بالجامعة سوى العبد لله وأستاذ سورى أو أردنى (لا أذكر الآن)، وأنه قامت معركة بينهم وبين د. حسام بسبب ذلك: هو يريد أن يأتى يصديق له سورى (أو أردنى)، وهم يتعصبون لى، لا لأنهم يروننى أفضل الاثنين، فقد قلت إنهم لم يكونوا يعرفوننى قبلا، ولكن لأننى مصرى مثلما يتعصب هو للأستاذ الآخر لأنه صديقه. وقالوا لى إن العميد قد سأل عنى د. إبراهيم الجندى، الأستاذ معنا بآداب عين شمس، ولكن فى قسم التاريخ، فقال كلمة طيبة فى حقى ساعدت، فيما يبدو، على ترجيح كفتى.
وأجد لزاما علىَّ هنا أن أشكره وأشكر كل زملائى المصريين عليها نظرا إلى أن السنوات الأربع التى قضيتها فى قطر كانت، رغم صغر قطر ووجودى وحدى هناك دون زوجتى وأولادى، اللهم إلا زورة من فاطمة وسلوى الصغيرة مرتين كل عام: مرة فى رمضان والعيد الصغير، ومرة فى آخر السنة قبيل العودة الصيفية إلى أرض الوطن، كانت أجمل سنوات عمرى دون أدنى مبالغة، وكأننى كنت أعيش فى الجنة. وأرجو من الله أن يكافئ كل من كان سببا فى فوزى بتلك الإعارة التى أعدها خارج إطار الزمن لما حوته من بهجات وسعادات من بينها تعرفى هناك إلى رجل لطيف أنيق كريم النفس مهذب حلو الروح منفتح على الناس، وكان يحبنى وأحبه كثيرا هو المرحوم الأستاذ هانى الطايع، وهو من إخوان سورية، ولكنه كان شيئا آخر غير الإخوان الذين خبرتهم أو تناولتهم بالحديث هنا. وكنا كثيرا ما نلتقى فى مكتبة الثقافة بالمرقاب بالدوحة أو فى بيته أو فى بيت د. حجر البنعلى وزير الصحة فى ذلك الوقت. وقد هيأ لى بكياسته وحسن تصرفه طباعة كتابين لى فى الدوحة. وجاء عند مغادرتى البلد إلى المطار يودعنى هو ود. خالد ، وهو سورى أيضا، وكانت لى به علاقة طيبة، إلا أن علاقتى بالأستاذ الطايع كانت شيئا مختلفا. رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. كما عرفت هناك د. حسن على، وهو خريج آداب عين شمس. وقد أتى يزورنى حين علم أننى فى الدوحة، وذكرنى بالمحاضرات التى كنت أدخل لهم فيها وأنا مدرس مساعد أعلمهم النحو بطريقتى الخاصة.
وكان الزملاء المصريون بجامعة قطر يظنون أننى سوف أحمل فى قلبى حنقا على د. الخطيب، لكننى قلت لهم إن ما صنعه أمر طبيعى جدا مثلما عضدونى هم بدورهم رغم أنهم لا يعرفوننى. ولم أكن أشعر تجاه الرجل بأى شىء، ولا أظننى قد أَوْلَيْتُ أو بدا علىَّ أننى أُولِى الأمر أى اهتمام. وبمناسبة ما نحن فيه من حديث عن الأستاذ الدكتور لا بد من القول بأنه كان طوال الوقت دمثا رغم ما يحيك فى النفس من إحساس بأنه بارد المشاعر لا يهتم بمن حوله ولا يفكر فى إشراك أحد منهم فى خير مما يعرف هو دهاليزه ويستأثر به لنفسه فحسب. كذلك لم يَحِكْ فى صدرى شىء حين علمت أنه، رغم تقدمى بطلب إلى جامعة قطر بالمشاركة فى مؤتمر الأدب المقارن بحمص، قد طلب هو أيضا أن يشارك فيه، مما أحنق د. سلامة السويدى رئيسة القسم قائلة إنه كان ينبغى ألا يفعل هذا لمشاركته من قبل فى عدد من المؤتمرات على العكس منك أنت الذى تشارك فى مؤتمر على حساب الجامعة لأول مرة. ثم أردفت: ومع هذا فسوف أفعل كل ما بوسعى كى تسافر إلى سورية. وقد قام الأستاذ الدكتور مشكورا بقطع تذكرتينا بعد أن أخذ الورق فى غيابى من الجامعة، وأراحنى من عبء الجرى على مكاتب الطيران وما يتصل بذلك من وجع دماغ، وإن كان بعض "الناصحين" قد همس فى أذنى، ولا أدرى مدى صحة ما همس به، بأنه لم يفعل ذلك حسبة لوجه الله، بل ليفوز بأى تخفيض يمكن الحصول عليه على التذكرتين الحكوميتين فى مثل تلك الحالة. وقد تكون تلك الوسوسة بخة من الشيطان. ما علينا، فالمهم أننى استمتعت استمتاعا عظيما بالأيام الرائعة التى قضيتها فى سورية. وشكرا لجامعة قطر، وشكرا للدكتورة سلامة السويدى، التى كنت أطلق عليها: "نسمة القِسْم".
أما رحلة الأردن، التى قمت بها العالم التالى، فقد كنت فيها وحدى، وكانت أيضا على حساب جامعة قطر. وقد عشنا أياما بهيجة هناك فى صحبة الزملاء العرب وغير العرب. ومن بينهم دكتور مصرى أتى على حسابه للاشتراك فى مؤتمر النقد الأدبى بجرش، وفهمت منه أنه يفعل ذلك كلما أتيحت له فرصة حتى يحرز بعض النقاط تفيده عند التقدم إلى درجة جامعية أعلى. وكان من جامعة قناة السويس فيما أذكر، لطيف المعشر ضحوكا طيب القلب ولا يعرف الخبث. ومن بينهم مستشرقة صغيرة من بولندا بصحبة دكتور فلسطينى يشتغل معها فى نفس الجامعة التى تشتغل فيها هناك. وكانت مصرية الروح تحب الضحك والاندماج مع الآخرين. وكنا نبقى فى صالة الطعام بعد العشاء وانتهاء النشاطات العلمية النهارية، فنضحك من أعماق قلوبنا. ولكن لم يعجبنى فى الفلسطينى ما علق به على شعر المستشار حسين نجم، الذى كان ينشره فى جريدة "الراية" القطرية دفاعا عن القضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين وقضية العراق، من أنه شعر مباشر لا يتمشى مع الاتجاه الجديد فى الشعر. يقصد الغموض والبرود ونشارة الخشب، التى يزعم الفشلة أنها هى الشعر، ولا شعر غيرها. وسبب ضيقى بملاحظته، التى علق بها على بحثى فى مؤتمر جرش للنقد الأدبى، أن القضية الفلسطينية سوف تفقد، بهذه الطريقة، أكبر نصير لها، إذ لا شىء يُبْقِى التحمس لتلك القضية على المستوى الإبداعى الأدبى مشتعلا متلظيا سوى ذلك الشعر الذى لا يعجب سيادته. وهو ما يذكرنى بطنطنة د. محمد مندور، فى كتابه: "فى الميزان الجديد"، بما سماه: "الشعر المهموس"، الذى لا يصلح فى مواقف الحرب والقتال والتهديد والفخر والهجاء، بل لا يصلح أيضا فى بعض مواقف الحب حين يزداد بالمحب أوجاعه فيصرخ ويجأر شاكيا النار المتلهبة بين جنبيه... إلخ.
وفى تلك الرحلة أعدوا لنا غداء شهيا ذات يوم فى أحد المعسكرات الحربية فوق جبل على الحدود مع إسرائيل. ووقفنا قريبا من حافة المرتفع، فشاهدنا هناك بعيدا فى قاع الوادى رجلا إسرائيليا يعمل وهو جالس القرفصاء فى قطعة أرض هناك. وتساءلت: إلى متى يدوم الاحتلال الإسرائيلى لأرض فلسطين العربية المسلمة؟ وحتام سيظل العرب والمسلمون فى وضعهم هذا المخزى الجبان المتهافت الجعجاع رغم هذا عاجزين عن استرداد الحقوق المغتصبة من أيدى الإسرائيليين؟ ثم جاء الطعام الشهى اللذيذ الذى أعده الجنود والضباط لنا. وعندئذ، لا أقول إننى قد نسيت كل شىء، لكن سأكون كاذبا لو قلت إننى ظللت بنفس تحمسى للأمر كما كنت وأنا أشاهد الرجل الإسرائيلى فى الحقل فى قاع الوادى قبل قليل.
وقد تعرضت، بعد عودتى من إعارتى إلى جامعة قطر بقليل، لهجوم شديد فى إحدى الصحف زعم صاحبه أن بعض طلابى قد أبلغوه بأننى شتمت فى إحدى محاضراتى المرحوم نجيب محفوظ وقلت عنه إنه كافر ابن كلب. أستغفر الله! إننى أحب الروائى الكبير رغم اختلافى مع بعض اتجاهاته الفكرية والسياسية، وكنت ولا أزال أقول إنه أفضل من كثير ممن حصلوا على جائزة نوبل، كما قلت عن "الثلاثية" من قبل حصوله على نوبل إنها قلما نجد لها نظيرا فى الأدب العالمى، وشعرت بالفخر العظيم به وببلدى وبدينى حين أُعْطِيَتْ له نوبل، فكيف أقول عنه إنه كافر ابن كلب؟ بل إننى، حين سئلت من اللجنة التى عملت معى المقابلة الشخصية عام 1989م قبل ذهابى إلى الطائف فى إعارة إلى فرع جامعة أم القرى هناك، عن وقع فوز محفوظ بالجائزة النوبلية على نفسى، أجبت بأن فوزه بتلك الجائزة مبعث فخار لنا جميعا عربا ومصريين ومسلمين لأن محفوظ مصرى عربى مسلم. ولو كان غيرى مكانى لحاول التنصل من محفوظ خوفا من ضياع التعاقد معه. والطريف أن الدكتور السعودى الذى كان يحادثنى أثناء المقابلة الشخصية قد بدا عليه الارتياح كثيرا من تلك الإجابة، التى من الواضح أنه لم يكن يتوقعها ولا كان يتصور أنها ستكون إجابة أى مصرى فى تلك الظروف.
وقد استضافتنى بعض الفضائيات أيام الهجوم الآنف الذكر، فقلت إن شتمى للرجل لا يمكن أن يكون قد وقع إلا فى حالة واحدة ليس إلا، وهى أن أكون فقدت وعيى للحظات تلفظت فيها بما قلته ثم ارتد لى وعيى دون أن أعرف أننى شتمت الرجل. وكان مهاجمى معى على الهواء هاتفيا، فتراجع فى الحال عما قاله، وهو ما أثار استغرابى، إذ لو صدقنا أنه برىء فى اتهامه لى وأن بعضهم قد ضلله فعلا فاتهمنى دون نية سيئة أفما كان ينبغى أن يعود إلىَّ أولا فيسألنى ويتحقق من الأمر من خلالى بدلا من الإثارة السخيفة التى أحدثها مقالاه فى الموضوع؟ وكان د. محمد عباس قد كتب مقالا اتهم فيه ذلك المهاجم بأنه، فيما كتبه عنى، كان مدفوعا من جهات نصرانية محلية انتقاما منى لما رددت به عليها من مقالات وكتب فضحتُها وعريتُها ونسفتُها فيها.
وهناك كذلك كتابا "الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ" و"فى التصوف وأدب المتصوفة"، وقد ألفت كلا منهما فى أسابيع معدودات نزولا على اقتراح من الزميل رئيس القسم، الذى ألفى نفسه فى مأزق حين بدأ العام الدراسى وفرضت عليه الظروف فرضا توفير أستاذ يدرّس هاتين المادتين، فعرض علىَّ الأمر لأجد نفسى أوافق فى الحال اعتمادا على توفيق الله، الذى لم يخذلنى، وكان الكتابان فى أيدى الطلاب منذ وقت مبكر: فأما كتاب "الحضارة الإسلامية" فصدر مع بداية الفصل الدراسى، ثم عقبه الكتاب الثانى بعد عدة أسابيع لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. فحمدا لله، الذى لم يخذلنى والذى ابتهلت إليه أن يساعدنى على تقديم شىء نافع وجديد فى ذلك الكتاب. وقد اجتهدت فى كتاب "الحضارة الإسلامية" فى أن أقدم للطلاب صورة صحيحة للإسلام فى شموليته، فركزت فيه على أن الإسلام هو أنقى وأنصع وأعظم صورة للحضارة الإنسانية، وأنه لا يتوقف عند الصلاة والصيام والحجاب وما إلى ذلك مما تظن جماهير المسلمين أنه هو وحده الإسلام، بل يمتد إلى العمل والإتقان والنظافة والنظام والجمال والذوق الراقى والإبداع والعلم والثقافة الرفيعة، وأننا لا نُعَدّ مسلمين بحق إذا أهملنا هذه الجوانب وظننا أن العبادات التقليدية وحدها تكفى فى دين محمد، وأنه ليس أمامنا من سبيل للخروج من مأزق التخلف الذى يحاصرنا من كل جانب إلا بإعمال هذه المبادئ الإسلامية، وإلا استمر ضياعنا وخضوعنا لأعدائنا وذلتنا أمامهم وخنوعنا لأوامرهم كأننا عبيد عندهم. وقد ذكرت لى طالبة ممن درسوا الكتاب معى أن أفراد أسرتها عندما قرأوا الكتاب أجمعوا على أن أحدا لم يبصرهم من قبل بأن هذا هو الإسلام.
ومن الكتب التى ألفتها لمواجهة حاجة الدراسة إليها كتاب "التذوق الأدبى"، وكتاب: "دراسات فى النثر العربى الحديث"، فقد وضعتهما فى الدوحة حين أُْسِند إلىَّ تدريس هاتين المادتين "للطالبات" هناك، إذ لم يكن ينتمى إلى قسم اللغة العربية أى من الطلاب الذكور، بل كن كلهن بنات. وهذا من أعجب العجب. وقد شمرت عن ساعد الاهتمام والقراءة للكتاب الأول، فكنت أؤلفه فصلا فصلا قبل دخول المحاضرة الخاصة بذلك الفصل. ثم نشرته، وصار مقررا على الطالبات هناك لسنتين أو ثلاث. أما الكتاب الآخر فاقتصر أمره هناك على كتابة معظم فصوله بخط اليد، إلى أن عدت إلى جامعة عين شمس بعد أسعد أربعة أعوام قضيتها فى الدوحة تلتها عدة سنين عمدت بعدها إلى الكتاب فأتممت بعض ما كان ينقصه، ثم أصدرته لطلاب قسم اللغة العربية وبعض الأقسام الأخرى التى تدرس الأدب العربى كقسم اللغة الإنجليزية مثلا. وإنى لأعتز بـ"التذوق الأدبى" أيما اعتزاز، وأرى، حقا أو وهما، أنه يصمد بقوةٍ للمقارنة مع أمثاله من الكتب الغربية التى تتناول فلسفة الآداب والفنون.
وفى "دراسات فى النثر العربى الحديث" يجد القارئ فصولا هامة فى بعض إبداعات ذلك الأدب فى العصر الحالى كأسلوب طه حسين مثلا، الذى أتصور أن ما كتبته عنه فى ذلك الكتاب هو تفصيل غير مسبوق فى تحليل أسلوب الرجل، وإنْ تناولتُه من خلال دراستى لمجموعة "المعذبون فى الأرض" وحدها، وكتحليلى لرواية "فتاة مصر" ليعقوب صروف، التى سبقت "زينب" بسنوات، ولم تكن روايةً ساذجة كما يقال عادة عن كل عمل روائى سبق رواية هيكل، بل اشتملت على بعض القضايا السياسية والاجتماعية والدينية ذات الخطر، فضلا عن ارتفاع مستواها الفنى، وكرصدى لما اعترى الأسلوب النثرى فى العصر الحديث من تطورات: معجما وصيغا وتراكيب وصورا وأجناسا أدبية، إلى جانب مشاركة المرأة العربية أديبةً ناثرةً، وكذلك ظهور أدب الأطفال، لأول مرة تقريبا فى تاريخ الأدب العربى.
ولكتاب "لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه" قصة طريفة، إذ كنت فى بيتى الجديد بالقرية أنا وزوجتى وابنتى الصغرى نتناول غداءنا بعيد رجوعى من قطر، وفجأة ضرب هاتف المنزل، فأخبرنى المتصل بأنه المذيع فتحى الملا، وأنه بسبيل أن يقدم مساء ذلك اليوم حلقة عن كتاب أ. شريف الشوباشى: "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، ورجانى رجاء حارا أن أترك الغَدَاء الآن وآتى إلى القاهرة للتو حتى أكون أحد ضيوف البرنامج. وكانت هذه أول مرة أعرف فيها الأستاذ الملا، فلم أستطع الاعتذار عن عدم تلبية ملتمسه، وقطعت الإجازة على الفور، وأخذتُ نفسى وزوجتى وابنتى ووصلنا القاهرة بعيد الغروب حيث صليت المغرب وغيرت ملابسى وذهبت للجزيرة القريبة من ميدان التحرير من ناحية جسر قصر النيل، للمشاركة فى الحلقة المذكورة التى ضمتنى أنا والدكتور عبد الله التطاوى بوصفنا معارضين لما قاله الأستاذ الشوباشى بحق اللغة العربية وسيبويه من كلام رأيناه ظلما مبينا، ود. عبد المنعم تليمة وأ. الشوباشى نفسه باعتبارهما الطرف المقابل. وقد سجلت كل ما دار بينى أنا ود. التطاوى وبين خصمينا فى تلك الحلقة مع التوسع الشديد لما طُرِح فيها من قضايا وخلافات ووجهات نظر، وأصدرته فى كتيب أتصور أنه من أهم ما ألفتُ فى حياتى مع التصوير الفكاهى والكاريكاتورى فى بعض الأحيان مما أضفى على الموضوع الجاد قسطا غير قليل من الحيوية والابتسام.
 
عودة
أعلى