حلقات برنامج بينات - سورة آل عمران - المكتوبة والمرئية

جزاك الله خيراً أخي الفاضل عبد الملك على تعقيبك الطيب ودعائك وهذا ما أحتاجه وما يشجعني على المضي قدماً في تفريغ هذه الحلقات القرآنية النافعة لكم.
بارك الله فيك.
 
لا أملك لك وأنا أرى هذا البذل والعطاء لأجل القرآن وأهله إلا أن أدعو الله لك بالتوفيق والتسديد والمزيد حتى تلقي ربك الحميد .
 
[align=center]جهد مبارك ، أشكرك أختي الفاضلة سمر وأسال الله ان يفتح عليك ويرزقك العلم بكتابه والعمل به. [/align]
 
جزاكم الله خيراً شيخي الفاضل د. محمد الخضيري على تعقيبك الطيب وكما أقول دائماً هذا أقل ما يمكنني تقديمه لكم أهل القرآن في سبيل نشر هذا العلم الذي فتح الله تعالى به عليكم على المسلمين في أنحاء الأرض الذين هم بأمس الحاجة لفهم القرآن على النحو الذي تقدموه لنا وفقكم الله تعالى لكل خير ولخدمة كتاب الله تعالى. أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم لا سمعة فيه ولا رياء
وجزاك الله خيراً أختي الكريمة زمرد على تعقيبك ودعئاك ولك مثله إن شاء الله وأكثر.
 
الحلقة 15
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
الحديث عن غزوة أحد في سورة آل عمران. في المجلس السابق تحدثنا عن الآيات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} هذه مسائل قلبية لا يطلع عليها أحد. الآن أحدث وسائل التجسس لا يمكن أن تطلعك على إن كان يحبك أو لا يحبك .هل يمكن أن يكتشف شئ يكشف هل فلان يحبك أو لا يحبك؟ الله أعلم. فهذه أعمال القلوب لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى. أقول بالرغم من هذا التحذير والتنبيه من الله سبحانه وتعالى للمسلمين أن يكونوا حذرين جدا في هذه المسائل الحساسة مسألة البطانة وأن الأسرار لا ينبغي أن يطلع عليها إلامؤمن يكون معك في الصف.
تلاحظون أن هذه كلها تمهيد ومقدمة للحديث عن المعارك، معركةأحد الآن، وأنه ينبغي على كل قائد أو كل صاحب قرار أن يكون حذرا جدا في مسائل المعارك والحروب وأنه ينبغي في غاية السرية وغاية الحذر. وهذه الآيات من سورة آل عمران {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} أربع آيات فيها تحذير وتنبيه لما ينبغي أن يحتاط ويحذر من إفشاءه , من تسرب معلومات, إعداد وانتباه من الأعداء.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121). ويؤكد هذا المعنى في سورة التوبة لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة غزوة حنين وتبوك بعدها قدمها بمثل هذه المقدمة تماما. قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} وهذا يدلنا على أن موضوع القتال ينطلق أول ما ينطلق من القلوب. ماذا في قلبك من الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين؟. إن كنت ستقاتل الكفار وأنت معجب بهم وتحبهم وتقربهم وتداهنهم وتجعلهم بطانة , كيف ستنتصر؟! لا يمكن. لكن يجب أن يكون التجرد والولاية والنصرة أولا في هذه الأنفس. إذا فزنا على أنفسنا وعلى شهواتنا في دواخلنا إستطعنا أن نصرع أعداءنا في الخارج. وتأكيد لمعنى عمل القلوب في المعارك والحروب قول الله سبحانه وتعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} (الفتح) علم ما في قلوبهم من الصدق ومن الإيمان فأنزل السكينة عليهم وكذلك هنا.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قوله (وإذ غدوت) يعني خرجت غدوة في أول النهار وتبوئ أي تجعل كل إنسان في مكانه أي تنزلهم منازلهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وفي قوله"إذ غدوت من أهلك" قال أهلك ولم يقل من بيتك أو من المدينة ولو قال إذ غدوت تبوئ للمؤمنين مقاعد تكون مفهومة. ولكن (من أهلك) إشارة للمكان الذي خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من الفوائد الشيء الكثير منها التنبيه على أن المسلم يخرج مجاهدا من بيته وأهله الذين يحبهم ويحبونه وقد باع نفسه لله فهذا ملحظ في قوله (من أهلك) تركتهم وهم أهل لك. وفي ذلك تأكيد على العمل القلبي. الآن يتجرد الإنسان من محبته للكافرين وحتى من أهله أيضا فلا يؤثر محبتهم على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .وهذا المعنى أيضا مذكور في سورة التوبة {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} ولذلك أقول أن المؤمنين يؤتون من هذا الجانب أولا وإذا نجحوا فيه نجحوا فيما بعده. والمشكلة أن هذا هو الذي يشغلنا كثيراً عن الجهاد. حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}(الفتح) هم ليسوا منافقين ولكن اشتغلوا بالدنيا.
وفي قوله (إذ غدوت من أهلك) قضية الغدوّ أي الإتيان بالأعمال في أول النهار وأن هذا مبارك ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الخروج في الصباح ويحرص على أن يبدأ المعركة في الصباح وفي هذا دلالة على أن يختار الإنسان الوقت للبدء. فكما أن الأشخاص والأماكن يختلفون كذلك الأوقات ففيها ما هو مبارك وما هو أقل بركة . ولذلك إذا بدأ الإنسان معركة يبدأها في الوقت الذي يكون مباركا. وفي الآية { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}. ولمحة أخرى أيضاً في قوله (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الإنسان الآن سيودع أهله ويذهب للقتال وقد لا يعود إليهم مرة أخرى ففيها العناية بهم وإعطاؤهم هذه العواطف الجميلة قبل أن يخرج للقتال وأن يجعلهم آخر شئ يخرج منهم وهذا آخر عهده بهم فهو يسلّم عليهم ويودعهم ويوصيهم ويدعو لهم "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وهم يقولون له " نستودع الله دينك وأماناتك وخواتيم أعمالك" حتى أن الرجل إذا أراد أن يخرج للقتال سمع كلمة من زوجته تثبته " إتقِ الله ولا يضرك هذا وأن الله عز وجل سيحفظنا" فهو يستبشر ويستنصر ويرتاح ويطمئن فيخرج وقد شعر أن هذه المعنويات الجميلة قد خلّفها في بيته
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
بسبب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول وقد تكون مثالا للذين "لا يألونكم خبالا". الطائفتان يقصد بهم قبيلة بنو سلمة وبنو حارثة كادوا أن ينسحبوا من معركة أحد ويتركوها بسبب رئيسهم عبد الله بن أبيّ ولكن الله ثبتهم فبقوا وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فثبتوا. ولذلك يقول جابر {نزلت هذه الآية فينا: { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } . بني سلمة وبني الحارثة ، وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول: { والله وليهما } . الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4051خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
فرب ضارة نافعة. (الله وليهما) في حق من ثبت إبتداء أشد. ولكن ثبتت له الولاية وهذا ما يريده جابر رضي الله عنه. وهذا مثال لقوله تعالى { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} فكون عبد الله بن سلول ينسحب بالجيش يدل على أنك إذا اتخذت بطانة فسيكون الأمر مثل ذلك، تخُذَل في أحرج المواقف . ولذلك فإن طالوت عليه السلام لما أراد أن يغزو عدوه جعل الله له شيئا يبتلي به الناس قال { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} (البقرة) تصفية حتى إذا دخل المعركة دخل فيها بأناس يثبتون ويصبرون فعرف بذلك الصادق من الكاذب من المنافق. أي أن سُنة الابتلاء هذه لا بد منها ولا يسلم منها أحد. ويقول البعض لماذا لا نلغي الاختبارات في المدارس والجامعات؟ نقول يا أخي كيف نعرف من يستحق هذه المكانة. الإبتلاء سنة في الدنيا والآخرة وفي الجنة والنار { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} (البقرة).
{ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} قوله سبحانه وتعالى "على الله" اسلوب من أساليب التوحيد أو الحصر. أي عليه وحده وليس على أحد سواه . والتوكل لا يجوز أن يكون على أحد من الناس. إنك تُوكل أحدا ولكن لا تتوكل عليه بمعنى أفوض الأمور ولهذا من الخطأ أن يقول الناس توكلت على الله ثم عليك. توكلت على الله يعني فوضت أمري على الله وحده ولكن وكلتك أن تقوم بالأمر الفلاني فلا بأس في ذلك. وهنا أمر مهم جدا في قضايا جهاد الكفار فمن أعظم الأشياء التى يجب أن يتربى عليها المؤمنون إذا أرادوا النصر على أعدائهم التوكل على الله . المعارك لها أسباب وعُدة ولكن كل هذه الأسباب والعدة ليست بشئ أمام تفويض العباد أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك على العباد ألا ينظروا إلى الأسباب. نعم يعدوا ويتخذوا الأسباب ويقوموا بما أوجب الله عليهم ولكن لا ينظروا إليها ولا يجعلوها ميزان بينهم وبين عدوهم . كم دخل المؤمنون معارك وعدوهم يزيد عليهم عدة وعتاداً وكل معارك المسلمين تكاد تكون كذلك. ومع ذلك ينصر الله أهل الإسلام بصدقهم وحبهم لله ولرسوله وولايتهم لله ورسوله وتوكلهم عليه وتفويضهم أمورهم إليه. الله عز وجل أصلا ينصر عباده وينصر دينه ولكن يأمرهم أن يتخذوا الأسباب . في معارك المسلمين الأولى أيام أبي بكر وعمر الجيوش التي أرسلت للشام لملاقاة الروم كان جيش شرحبيل بن حسنة وجيش عكرمة بن أبي جهل وجيش عمرو بن العاص وجيش أبو عبيدة كانت جيوش متفرقة تنازع الروم فلما أرسل عمر إلى خالد بن الوليد في فلسطين أمره بالإتجاه إلى اليرموك. خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو في هذا الإتجاه وقطع مسافة في البادية لقيه بعض الروم يخوفه قال ما أكثر جيوش الروم!. فقال أتخوفني بكثرة الروم والله لوددت أن الأشقر برئ من علته (الحصان) وأن الروم أضعفت في العدد. وفعلا لما اجتمعت جيوش المسلمين كانت خمسة أو ستة وثلاثين ألف مقاتل مقابل مائة وعشرون ألف ونصرهم الله سبحانه وتعالى . ونلاحظ في كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه التوكل الصادق على الله مع التنظيم والترتيب . ولكن هناك توكل صادق وحقيقي على الله .وكانت في الجيوش بركة يثبتون الناس. كم من الصحابة رضي الله عنهم كان يحفر مكان قدمه حتى لا يتراجع ويحمل الراية . وسقطوا رضوان الله عليهم شهداء ولكن وقفوا وثبتوا وصدقوا ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
الذلّة هنا بمعنى القلة وليس الذُل أي عددهم قليل لأن الآن ومثل ما ذكرنا قضية القلة والكثرة في المعارك خاصة معارك المسلمين ليست هي الأصل ولكن الأصل هو ثبات هؤلاء المؤمنين بما عندهم من إيمان. عشرة آلاف مقابل مائة ألف المنطق والعقل يقول أن هؤلاء سيهُزَمون ولكن أنظر إلى { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} و { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} ولاحظ أنه جاء بالتقوى في قوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} إشارة إلى أن سيقع شئ في هذه الغزوة يخالف التقوى فوقعت الهزيمة ولذلك فإن هذه المقدمة { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} في البداية فيها مخالفة من المخالفات التي وقعت في هذه الغزوة. والإشارة الأخرى يذكّرهم ببدر. لقد نصركم في بدر وعددكم قليل فاتقوا الله إن أردتم النصر لعلكم تشكرون. والشكر يكون بالعمل. وما هو العمل؟.هو عمل الطاعة { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (سبأ) .ليس الشكر مثل ما نجده الآن من ينتصرون يقيمون الحفلات والمهرجانات . هذا مخالف لما يحبه الله ورسوله. لم نجد أن الرسول أقام احتفالا أو مهرجانا عندما انتصر في بدر. الرسول هو قدوة لنا لم يفعل مثل هذا. فعندما نجد مثل هذا فنعتبر هذا نوع من المخالفة يحتاج الإنسان أن يعيد حساباته في هذا الأمر. إذا أردت أن تشكر الله فاشكره بالطاعة ولهذا من لطائف سورة سبأ أنها ذكرت آل داوود وكان آل داوود أهل شكر وهو مثال عملي للشكر. وبعدها مباشرة { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)} (سبأ) وبعدها { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) } (سبأ) مثال آخر ضد الشكر وهو كفر النعمة.
وفي قوله (أذلة) لمحة أخرى أيضا بالإضافة إلى قلة العدد وهو أن هذا الذل الظاهر بقلة العدد أورثكم تعلقا بالله وتوكلا عليه . كان عددهم 314 في بدر وكان عدوهم الألف أو فوق الألف. هذه الذلة جعلت المؤمنون لا يتكلون على شئ من أسبابهم وإتكلوا وإعتمدوا على الله ودخلوا المعركة ومعهم سلاح الإيمان ولذلك جاءت ضد هذه القضية في حنين { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} (التوبة) ماذا أإنت الكثرة؟! أنتم الآن اعتمدتم على الكثرة وتوكلتم عليها ورأيتم أن العدو سيكون لقمة سائغة وسهلة جدا بالنسبة لكم. لا، فالأمر هو الذي يحسبه ويقول به هو الله سبحانه وتعالى فلا تنظروا إلى هذا العدد. ولذلك فإن (أذلة) فيها هذا المعنى وهو أن ذل القلب بين يدي الله عندما يكون في هذه المواطن بل في كل المواطن . فأنت ما دمت ذليلاً لله خاضعاً لله تعلم أن النصر لا ينزل إلا من عنده أبشِر بالنصر. أما إذا دخلت وأنت فيك من العنجهية والكبر والإعجاب بالعدد والخطط وغير ذلك فاعلم أن الله يكلك إليها ويريك ضعفك وضعفها. ولذلك ذكر الله أن هذا من أسباب هزيمة المشركين { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} (الأنفال) . معروفة قصة أبو جهل عندما قال لن نرجع حتى تنحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف القيان وتسمع بنا العرب. وفعلا سمعت بهم العرب ولكن بخلاف ما كان يخطط له، قتلى أسرى. وبالإضافة إلى ما ذكر في (أذلة) فإن من يصف المؤمنين بهذا الوصف هو الله سبحانه وتعالى ولذلك جاء الوصف منه مقبول سبحانه وتعالى يصف المؤمنين أنهم أذلة بين يديه ولذلك نصرهم بخلاف لو جاء وصف المؤمنين أنهم أذلة من أعدائهم لما كان هذا مقبولا. فعماد النصر هو التقوى. الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم كانوا كلهم ينطلقون من هذه المعاني. في كل المعارك يوصون ويقولون أنكم لن تنتصروا بالعُدّة ولا بالعدد وانما تنتصرون بأعمالكم . ويقال كتب عمر رضي الله عنه لجيش سعد وقال إنكم لا تنتصرون بعددكم ولا بعدتكم ولكن اللهَ اللهَ في الذنوب والمعاصي أن تؤتَوْا من قبلها. أحيانا بعضنا يقرأ هذه الكلمات في التاريخ ويقول أن هذه الوصايا فيها نوع من النرجسية، أين الدعم؟ أين السلاح؟ أين المال؟ أين الرجال؟ لكنك لما تتأمل القرآن الكريم تجد أن هذه القواعد ثابتة { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } ولكن بدون أن نهمل الأسباب نتخذ كل ما بوسعنا من الأسباب التي يستجلب بها النصر وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .حتى التخطيط الحربي الدقيق كل ذلك نفعله ثم نعلم أن هذا لن يغنينا من الله شيئا ونعلم أنما النصر هو من عند الله وأننا ما فعلنا الذي فعلنا إلا طاعة لله .وأن الله قادر على أن ينصرنا وينصر أهل الإسلام في كل زمان ومكان بدون أن يتخذوا شيئا من الأسباب. ولكن الله تعبّدنا بإتخاذ هذه الأسباب وهذا أمر قد يغفل عنه بعض الناس . يقولون أن عمرو بن العاص في معركة أجنادين أرسل من يجس نبض الروم من باب اتخاذ الأسباب. فجاء الرسول فما شفى غليله. فأرسل رسولاً آخر فقال اسأل عن كذا وكذا ولكن ما شفى غليله. فذهب عمرو بنفسه إلى القائد ولو عرف القائد أن هذا عمرو بن العاص لقتله. فذهب عمرو بن العاص فتحدث مع القائد وكأنه أحس أنه قائدهم وقد سمع عن ذكائه ومواصفاته وكأنه أشار إلى من يقتله. فهم عمرو بن العاص إشارة الرجل فقال أنا من أحد عشر أرسلنا أمير المؤمنين لنكون مع عمرو بن العاص وأنا قد أعجبني كلامك وسأذهب أحضر لك العشرة حتى يسمعوا ما سمعت منك. فرأى القائد في ذلك فرصة وأفلت عمرو منه. الشاهد أنهم لم يغفلوا اتخاذ العدة ولكن لم يعتمدوا عليها وهذا هو الفرق.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
أي في بدر إذ يقول لهم كانوا أذلة. ومحتمل أن تكون في بدر أو في أحد {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} وفي سورة الأنفال قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} (الأنفال) فقوله (مردفين) أي يردف بعضهم بعضا ولم يحدد كم يكون الرديف . فبينت هذه الآية أن الأرداف كان باثنين أي كل واحد أردف باثنين ويكون هذا تفسير لما أجمل في (مردفين) إذا قلنا أن هذه كانت في بدر {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} ثم قال بلى أي يكفيكم ثم شرح أن { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} أي ان صبروا واتقوا فيمدهم الله بمدد آخر من الملائكة وهذا سبحانه وتعالى ما يثبت المؤمنين في المعارك. نحن نقول ثلاثمائة مقابل ألف ولكن ثلاثة آلاف ملك الواحد منهم يساوي أهل الأرض جميعا ولكن تكرر المعنى مرة أخرى (إن تصبروا وتتقوا). وهذا شرط فعلا مذكور ومكرر . لو أردنا أن نتقصاه نجده في مواطن الجد والاجتهاد.
(يأتوكم من فورهم) أي يأتوكم مباغتين مسرعين فإن الله سبحانه وتعالى يعجل لكم بمن ينصركم من هؤلاء الملآئكة. قوله (يأتوكم من فورهم) يقصد أهل مكة يظنون أن من قلة عددكم أنهم قادرون على استئصالكم فيسرعون بالمجئ وهم يسرعون إلى حتفهم. ولذلك قال { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} و(مسومين) أن كل من يقتلونه يتركون عليه وسما وعلامة تبين أنه قتيل الملائكة. وهذا ما ذكره الصحابة رضوان الله عليهم الذين شهدوا هذه المعركة أنهم كانوا يعرفون المقتول الذي قتل من الملآئكة. لاحظ أنه يمكن أن تحضر بذهن كل من يقرأ الآيات أن الله سبحانه وتعالى مادام أمدكم بألف أو بثلاثة آلاف أو خمسة آلاف من الملائكة فإن النصر متحقق مائة في المائة فقال الله سبحانه وتعالى لا، لا تظنوا هذا الظن قال سبحانه وتعالى { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } يعني الآن عندما يعلم المسلمون أن الملآئكة يقاتلون معهم ليس أنه لن تنتصروا إلا بالملائكة، لا، ممكن أن ينصرك الله بغير الملآئكة بأن يلقي الرعب في قلوبهم ولكن هذا من باب تطمين قلوبكم فقط وإلا فإن النصر من عند الله وليس بسبب الملآئكة . فقد يقول قائل مادام الملآئكة موجودة لماذا لم يفنى المشركون؟ فنقول أن هذا أمر مرتبط بالحكمة الإلهية ولهذا كثير من الناس يغفل عن باب القدر إذا جاء مثل هذه الأشياء مادام معهم الملآئكة هو يتصور بعقله البشري بأن المفترض أن المشركين يفنوا عن بكرة أبيهم ولكن سبحانه وتعالى يبين أن وجود الملآئكة الأصل فيه للتطمين والبشرى والسكينة ولا يدخلون القتال إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى فالأمر كله لله فإذن لم يؤمروا بأن يقاتلوا وأن يبيدوا إنما أمروا بضربات معينة محددة وهذا يتضح من خلال الآثار التي وقعت. فمعنى ذلك أن هؤلاء الملآئكة لم يباشروا كلهم القتال وإنما باشر من أذن له الله في مواطن محددة فقط وإلا فهم موجودون للتطمين والبشرى. ولذلك قال مجاهد أنهم لم يقاتلوا مع المؤمنين إلا في يوم بدر ولكن جاؤوا يوم أحد ويوم الخندق أيضا جاؤوا للتطمين والسكينة. وعليها حمل هذه الآية { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أنهم لم يقاتلوا معكم في يوم أحد، أي من أجل الطمأنينة. ولكنها وردت في الأنفال في نص واضح. وفي رواية أن النبي يقول للصحابة رضي الله عنهم في المعركة هذا جبريل قد ركب ولبس لأمته للقتال معكم. وهذا في غزوة الخندق لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وخلع رداءه قال ما تصنع يا محمد قال جبريل إني أمرت أن أغزو هؤلاء (بني قريظة) {لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ، ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، فاخرج إليهم . قال : ( فإلى أين ) . قال : ها هنا ، وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم . الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4117
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]} فلبس صلى الله عليه وسلم لأمته وأمر أصحابه { قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة . الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 946
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]} احتذاء بالملائكة الذين خرجوا الآن مباشرة للقتال وهذا الشرف العظيم من لك بجيش مثل هذا يقوده الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل ولذلك يفخر حسان بن ثابت ويقول : جبريل تحت لوائنا ومحمد .
) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
هذا المدد بشرى لكم. هذا للتبشير فقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم بوجود الملآئكة بينهم . أنا أتصور أن إذا قال صلى الله عليه وسلم للصحابة خبرا فكما يقول أبو بكر إن كان قال فقد صدق. هذه النفسية كيف ستقاتل؟ لا شك أنها تقاتل وهي مطمئنة ومرتاحة. وهذا التطمين الإلهي لهم بأن جعل الملائكة تقاتل معهم جعلهم يستقرون ويقاتلون وهم يشعرون بأنهم قد أمدوا بهؤلاء الملآئكة. ثم قال بعد ذلك { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} واطمئنان القلب هو الأصل لأنه إذا فزع القلب لإضطربت الجوارح ولذلك قالوا { قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}(البقرة) تثبيت القدم تربيط للقلوب { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} (الأنفال) هذا من المستحسن أن نلاحظ ترابط بين بداية سورة الأنفال وبين هذه الآيات بل هناك بعض اختلاف { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} (الأنفال) وهنا قال {(وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}. ومن حكمة إنزال الملآئكة أيضا { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} أي من حكمة ترك جزء من المشركين أسرى ومشردين رجعوا قال الله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قد يتوب عليهم وقد يسلموا. كما نتأمل عكرمة بن أبي جهل كان على رأس جيش من جيوش المشركين في فتح مكة يحاول أن يصد محمد صلى الله عليه وسلم ولكن أصبح من قواد المسلمين الكبار في اليرموك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} حتى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} مرتبط بالملائكة { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } أي يقطع طرفا بهذا الإمداد أي فريق من الذين كفروا . لماذا لم يبد المشركين عن بكرة أبيهم ما دام الملائكة موجودين؟ الله قال لا (طرفا). وقد لفت نظري في أدب الجاهلية لم أجد أحد منهم يعيّر المسلمين بقوله أنتم لم تنتصروا علينا بقوتكم بينما انتصرتم علينا بالملائكة لم أجد هذا. ولعل هذا من حكمة أنه لم يكون دور الملائكة دور ظاهر أي أن المسلمين لم يمارسوا القتال وناب عنهم الملائكة. لا، قتل من المسلمين كثير واستشهد منهم كثير. وهذا لو ظهر لآمن الناس كلهم مثل أيضا لو انتصر المسلمون في كل موقعة لآمن الناس كلهم. لأن من طبيعة النفس البشرية أن تميل مع القوي الذي لا يُهزَم ولكن الله يجعل ذلك ابتلاء { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران 140) . الأخبار التي وردت أن الصحابي إذا أهوى بالسيف يريد أن يقتله فإذا به ينشق لأنه للملك ولكن هو يقاتل ولذلك قال { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وهذه من الاستدراك أو الجمل المعترضة اللطيفة جدا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . لأن أصل الخطاب بدون الإستدراك" ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فجاءت "ليس لك من الأمر شيء" في موطن فيه من البراعة ما يجعلك تتأمل وتقف.
وقد يستدرك البعض في قول "فيه براعة" حيث هل يجوز أن يوصف كلام الله بأن به براعة استهلال؟ ولكن يمكن أن يقال أن هذا أسلوب عند العرب يسمى اصطلاحا "براعة استهلال". والقائل بهذا يرى أنه من باب الأدب مع الله ونحن نحمد له هذا ولكن هل كجانب علمي فيها انتقاص أو محذور؟ أو خطأ محض؟ ولكن نحن ننبه السامع إلى استخدام كلمات مثل "حسن التخلص" و" براعة الاستهلال". كلها نفس المعنى.
ومثل هذا أمر آخر ننتبه إليه في باب ما ينسب إلى الله سبحانه وتعالى أن أسماء الله توقيفية بألفاظها ومعانيها فما نزيد في أسماء الله شيئا لم يرد في الكتاب ولا في السنة .والصفات يتوسع العلماء فيها لأنها مستنبطة من الأسماء ولذلك يرون أيضا أن يضاف في الصفات ما لا يضاف في الأسماء فمثلا صفة المكر والخديعة تضاف بضوابط معينة ومعروفة{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} (النساء) و {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال) . الأمر الثالث وهو أوسع منهما وهو أفعال الله والباب فيها واسع جدا وهي واردة في السنة النبوية وواردة على ألسنة العلماء رحمهم الله تعالى فيقولون مثلا اللهم هازم الأحزاب مجري السحاب فهي ليست من باب أسماء الله ولا من باب الصفات لأن الصفات فيها نوع من الثبوت وهذه من باب الأفعال مثل اللهم العن الكفار واهزمهم يا هازم الأحزاب ويا مجري السحاب فلا يسمى الله المجري ولا يقال في صفاته المجري ولكنها الأفعال. والأفعال بابها واسع. والله أعلم. إذن القاعدة في ذلك أن في باب الإخبار أوسع بشرط أن لا يكون ما يُخبَر به عن الله فيه تنقّص. ونذكر أبيات جميلة للسيوطي في ألفيته عن البلاغة عندما تكلم عن سور القرآن الكريم وما فيها من حسن التخلص وحسن الاستهلال والبداءة فقال:
وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها بالغة أبلغ وجه وأجلّ
وكيف لا وهو كلام الله جلّ ومن لا أمعن في التأمل بان له كل ما هو خفيّ وجلي
 
الحلقة 16
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
تحدثنا في المجلس السابق حول بعض معاني (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)) ونتحدث اليوم عن بعض ما تفيدنا هذه الآية. قوله سبحانه وتعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ونلفت النظر إلى قضية مهمة جدا في القرآن وهي تأديب الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتحليته له بالفضائل. وسيأتينا في السورة مجموعة من الأوامر مقصود بها النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وإن كان الخطاب العام ممكن أن يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الذي يقصد به النبي مباشرة أن يوجه له الخطاب كقوله سبحانه وتعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) هي مرتبطة بقوله {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}. لو لاحظنا هذا مرتبط بجانب "الرد" لما جاء عند الآخر بعد أن قال (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) هذا احتمال أنه بعد أن يقطع طرفا منهم أي فريقا منهم أو يكبتهم فينقلبوا خائبين قال بعد ذلك (أو يتوب عليهم) على هؤلاء المشركين فإن تاب عليهم يسلمون وهذا من رحمة الله بعباده. فإن لم توقع لهم التوبة في قدر الله فإنه يبقى لهم العذاب. والعذاب هنا يشمل العذاب الدنيوي والأخروي وان كان قطع الطرف والكبت هو جزء من العذاب ولكن هذا يكون عذاب مخصوص غير العذاب الأول. فإذن الآيات إذا تأملنا في قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} كأن فيها نوع من التربية للنبي صلى الله عليه وسلم على الصبر وعدم العجلة في أمر هؤلاء مع أنه صلى الله عليه وسلم تمثل هذا الأمر لكن في بعض الحوادث المعينة وقد يكون صلى الله عليه وسلم قد دعا على قوم أو حصل منه شيء من هذا فينبهه الله سبحانه وتعالى على أن الأمر كله لله .ولذلك لما كان في يده أن يطبق على الكفار الأخشبين قال لا. روت عائشة رضي الله عنها {أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، فقال : ذلك فيما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا .الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3231خلاصة حكم المحدث: [صحيح]}. فهذا الموقف الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة يدل على أنه كان موقف عصيب وشديد وسبب النزول يدل على ذلك وقد ورد فيه حديثان. الأول { أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل؟ .الراوي: أنس بن مالك المحدث: ابن عساكر - المصدر: معجم الشيوخ - الصفحة أو الرقم: 1/42خلاصة حكم المحدث: صحيح}. فأنزل الله هذه الآية { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. والثاني { أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول : ( اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا ) . بعد ما يقول : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) . فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء - إلى قوله - فإنهم ظالمون } . الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4559خلاصة حكم المحدث: [صحيح]} . وهذا يؤكد أن صلى الله عليه وسلم في موقف احتمل عليهم أو دعا عليهم أو استعجل عليهم فالله سبحانه وتعالى قال إن الأمر بيده {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }. ولعل هذا السر في أن جاء بعدها { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)} وقدم المغفرة. وقد تدعو على رجل مشرك وقد كُتب في اللوح المحفوظ أنه يُسلم ويرفعه الله عز وجل ويتوب الله عليه ويغفر له كما قال سبحانه وتعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.
وهذا أيضا ورد في سورة الممتحنة {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} تصور هذا بعد أن اشتدت الإحن والقتال والخصومة بين المسلمين والكفار . وأعجب من ذلك أنه ختم الآية بطريقة غير معهودة في ختم الآيات { وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فجاء بالقدرة أولا ولم يكتفي بها فالله قادر على أن يفعل ذلك له الملك قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كما شاء. قال{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر لمن يشاء ويرحمه فيجعله من أهل الإسلام. لا يفهم من هذا عدم جواز الدعاء على الكافر ولكن من النبي صلى الله عليه وسلم لا شك إذا وقع منه فقبوله ليس كقبوله من غيره. وأيضا المقصود أن لا تستعجل في دعوة الناس أو تستعجل في حصول مردود هذه الدعوة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)). قد يأتي سؤال ما مناسبة الحديث عن الربا في وسط الحديث عن آيات الجهاد وغزوة بدر وأحد تأتي آية عن المعاملات المالية وما يتصل بها؟ ما هي المناسبة؟. المفسرون يذكرون مناسبة ورود هذه الآية وسط الحديث عن الغزوة وهي مناسبة لطيفة ولها نظائر في القرآن الكريم. وينبغي على الذي يقرأ القرآن الكريم أن يلتفت إلى هذه المسألة وهي كيفية نظم القرآن الكريم ولماذا ترد الآيات في هذا الموضغ بالذات؟ لأن الله سبحانه وتعالى قال عن هذا الكتاب {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (فصلت). وقال {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} (هود). حتى تقرأ في بعض الكتب أن الله لم يقل كتاب أحكمت أجزاؤه أو أحكمت سوره إنما قال أحكمت آياته والآية هي أصغر وحدة في القرآن الكريم فمن باب أولى إحكام الكل. فإيراد الحديث عن أكل الربا والنهي عنه وسط الحديث عن آيات الجهاد والغزوة إشارة إلى أنه ينبغي على من يقاتل في سبيل الله أن يطهر ماله وأن يطهر عمله حتى جاء الحديث عن الصلاة أيضا في وسط آيات القتال وجاء الحديث عن الصلاة في وسط آيات الطلاق { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} (البقرة) . ينبغي على المسلم دائما أن يتفقد علاقته بالله سبحانه وتعالى يعني المقاتل في سبيل الله وهو يأكل الربا كيف والله سبحانه وتعالى يقول لمن لم ينتهي عن الربا { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } (البقرة) كيف أنت تقاتل في سبيل الله وأنت تأكل الربا؟! لا يُقبل هذا. هذه مسألة ترابط أجزاء الشريعة بعضها ببعض. قد يسأل ما علاقة الربا وهذا سؤال جميل ولكن أيضا تأمل أنك أمام شريعة متكاملة والنظر إلى هذا أنه شريعة متكاملة يجعلك تنتبه إلى أنه تدخل هذه الشريعة وهي كالوشيجة الواحدة مرتبطة بعضها ببعض لا يمكن أن ينفك كالشبك خيط بخيط. فإذا جعلتها هي الأصل الجامع ثم انطلقت بعد ذلك تبحث لماذا خص الربا فهذه قضية أخرى. فالقضية العامة أننا حينما نسأل عن علاقة الآية بما حولها نحن نقول لا عندما تدخل القرآن اعرف أنه وشيجة واحدة متكاملة ولكن سؤالك هنا ليس عن الوشيجة العامة وإنما عن قضية خاصة. هل اختيار الربا هنا دون غيره من الذنوب قصد واحد؟ نقول نعم. هل اختيار الصلاة دون غيرها من الطاعات فيما يتعلق بالطلاق ؟ نقول نعم. إذن السؤال هنا دقيق ومحدد. المتعلق بالربا هذا الربا يأسر قلبه أسرا ويكون قد بلغ الغاية من حب الدنيا. والذي أحب الدنيا بهذه الدرجة حتى صار يظلم عباد الله عبر ما يسمى الربا المضاعف لا يمكن أن يفلح في ساحة المعركة ولا يمكن أن يقدم النفس وهو لم يقدم المال ويرحم الضعفاء, فإذا كنتم صادقين فتطهروا من الربا الذي هو عنوان حب المال حتى تفوزوا بالتضحية بنفوسكم في سبيل الله عز وجل هذا وجه حسن. ووجه آخر أن الله سمى آكل الربا والمرابي بأنه محارب الله ورسوله وأنت الآن تأتي في المعركة وتظهر نفسك أنك تحارب لله وهذه لا تتوافق لذلك جاء النهي عنها. هذه الفوائد لما تجمعها كلها تجد أن هذه القضية مهمة جدا {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} (هود).
وهذا من معاني الإعجاز في القرآن الكريم وهو الإعجاز التشريعي. يتكلم العلماء أن من أظهر معالمه هذا التكامل لا يمكن أن تجد بين شرائع الإسلام تعارض أبدا مع كثرتها {أن رجلا قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله الراوي: عبدالله بن بسر المحدث: المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 2/ 326خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]}. نقول نعم أن شرائع الإسلام كثيرة جدا. ولكنها لا تتعارض ولا تتناقض وبينها من الانسجام ومن التكامل ما يدل على أنها من لدن عزيز حكيم. وإذا رأيت عدم انسجام فأعلم أنه من فعل المكلف وفقهه ولا من حقيقة الشريعة. في قضية الإعجاز التشريعي ننادي إلى أن الناس أكثروا في قضية الإعجاز العلمي على اعتبار أنه هو المناسب لهذا العصر وأهملوا في الوقت نفسه الإعجاز التشريعي وهو إعجاز يحتاج إلى إظهار. لأن كثير من الخطاب العلماني والليبرالي إنما يضرب على هذا الوتر ويتكلم عن تنقيص الشريعة وأنها ليست متكاملة وغير صالحة لكل زمان ومكان. والمفترض أن ينبري علماء الشريعة وعلماء الإسلام والمفكرون المسلمون إلى أن يظهروا إعجاز الشريعة في هذا الباب وخصوصا من خلال آيات القرآن. فلماذا مراكز الإعجاز مثل الهيئة العالمية للإعجاز العلمي أن يكون أحد أولوياتها إظهار الإعجاز التشريعي. ما هو الإعجاز العلمي بمعنى المكتشفات وما يتصل بها بل أن هذا أولى وأحرص وأجدى لأنه صالح في كل وقت ويبرز محاسن هذا الدين ويقنع أهل الدين بدينهم. لو لاحظتم الآن القوانين الوضعية كثيرة. القانون اليوناني والفرنسي والبريطاني والشريعة الإسلامية والشريعة مكتوب فيها دراسات كثيرة. لاحظوا الآن القوانين الوضعية فيها دائما تطوير وتصحيح وهناك لجان كثيرة تشرف على هذه القوانين الوضعية وتطورها. تطور مثلا قانون الطلاق والأحوال الشخصية والميراث إلى آخره وتضع شروحا لها. لو تتبعون شروح هذه القوانين الوضعية تجدون أنها تطور بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية كلما ترقوا هم مثلا عندهم الطلاق ممنوع في بعض القوانين الوضعية ثم لما رأوا الفساد الذي استشرى بسبب هذا القانون طوروه إلى إباحة الطلاق وهذا يتوافق مع الشريعة الإسلامية. نأتي إلى تعدد الزوجات مثلا يمنع منعا مطلقا حسب بعض القوانين الوضعية ويعتبر جريمة ثم بعد ما رأوا ما ترتب عليه من مفاسد رأوا أن يطور ويباح التعدد بواحدة. تلاحظ كلما زادت خبرتهم ومعرفتهم بالقوانين يطورون بما يقترب من الشريعة الإسلامية. الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو المشرِّع . وهذه الحقيقة لو تبرز بشكل يبسط للناس نرى أن القانون الفرنسي الذي تتعامل به معظم الدول الإسلامية انظروا لما فيه من نواقص بعد التطور لماذا وصلوا؟ وانظروا إلى الشريعة الإسلامية. الآن لدينا مسألة حية مثل الأزمة المالية العالمية وهي متصلة بآيتنا هذه. الأزمة سرها الانحراف التام عن منهج الله سبحانه وتعالى في إدارة المال. الغرب اكتشف أن البنوك الإسلامية عن بكرة أبيها لم تدخل في هذه الورطة لا في قليل ولا في كثير. ولذلك جاء وفد من أمريكا وأوربا لدراسة ما هي حقيقة الاقتصاد الإسلامي الذي ما عرفناه وكنا نستهين به. وذهبوا إلى تقليل الفائدة.
مسألة أخرى وهي أن الإعجاز العلمي والإعجاز التشريعي والإعجاز العقدي يظن بعض الناس ويتصور أن هذه الأنواع من الإعجاز أنها بمنأى عن الإعجاز المتعلق بنظم القرآن وعربيته. يقول أن هذا العصر هو عصر العلم ويجب أن نبين الجانب العلمي وأن عصر الذين يفهمون في الإعجاز النظمي واللغة العربية قد انتهى وهذا يوجد خلل في هذا التفكير لأن المفترض أن أُوظف الإعجاز العلمي والتشريعي أو أي إعجاز أوظفه من خلال النظم. إذا لم يتوافق مع النظم أنا أعلم أن كلامك خطأ ولذلك ندعو الذين يشتغلون بهذه الأنواع من الإعجازات أن ينتبهوا إلى هذه المسألة قبل أن يأخذوا هذه الجملة أو الآية ويخرجونها عن مسارها ويعملون عليها الدراسات. ومن اللطائف مثال قوله تعالى {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}(الرجمن) رأيت أحدهم عرض صورة لنجم يتفجر فإذا به في شكل مثل شكل الوردة. أخذ الرسم من وكالة ناسا وكتب تحته (وردة كالدهان). الله يقول انشقت السماء ولم يقل انشق النجم وأنت تقول نجم. النجم شيء والسماء شيء إلا أن يكون عند هذا القائل أن السماء والنجم شيء واحد. إذاً أنت تخالف أشياء كثيرة لا تتناسب مع النظم ولو قال أن هذا تقريب لما استطعت أن ترده. المقصود أن يجب أن يعتني من له عناية بالإعجاز العلمي أو التشريعي أو التاريخي أن يعتني بالنظم. المشكلة تأتي من بلاغة القرآن حتى المتخصصون في التفسير ليسوا كلهم على قدم واحدة في فهمهم للنظم العالي للقرآن. بعض الزملاء تخصصه فيزياء او كيمياء "فيطب" مباشرة في الآية ويتجاوز التفسير وخلافه ويدخل مباشرة إلى فهم للآية. نظم القرآن يحتاج إلى دراسة مستقلة وملكة علمية. كان الأولى بك قبل أن تنطلق إلى الإعجاز العلمي أن تمر بالإعجاز البلاغي والبياني وتتقنه وهذا من أسباب الخلل. وإلا الإعجاز العلمي هو في حقيقته إعجاز بلاغي (نظم). هؤلاء دعه يفكر كيف يشاء إذا أراد ليس هناك مشكلة في أن يتفكر ويتدبر ولكن أن يعلن هذا للناس ويقول: يا أيها الناس هذا هو فهم الآية , نقول لا, ليس هذا مكانك . هذا يجب أن يتولاه من هو أقدر وأدرى بهذه اللغة وأعرف للنظم ونقول لك هذا الفهم الذي فهمته لو صحيح يصح أن ينشر ويعلن أو غير صحيح فاجعله طيّ صدرك. ولا نمنع الناس أن يفكروا. بعضهم يقول إذن نحن ما ممكن أن نتفكر ونتدبر حتى نكون علماء؟. وهذا غير مقصود ولكن أن تشيع وتكتب وتقول أن هذا فهم الآية , نقول لا, دونك, لا تقول هذا حتى ترجع إلى أهل العلم كما قال الله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}(النحل). وهذا احترام للتخصص. بعضهم يتجاوز هذا ونحن لا نشك في نياتهم ولكن بعضهم يبالغ ويتجاوز ويقول أن فهم المفسرين كله خاطئ والصواب هو الذي جئت به أنا وهذا غير صحيح. وسبق أن ذكرنا أنه لا يمكن أن يأتي المتأخرون بفهم للقرآن لم يكن أصله عند الأولين فهم بنوا أصل الفهم. كونك تزيد أو تستنبط وتفهم فهوما جديدة مبنية على ذلك الأصل هذا لا مانع منه ولكن أصل الفهم وأصل المعنى الذي يعرف به مراد الله عز وجل لا يمكن أن يخلو العصر الأول من فهم لمراد الله ويأتي في العصر الأخير من فهم مراد الله وجهل أولئك مراد الله سبحانه وتعالى وهذه قاعدة مهمة جداً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) هناك شبهة تثار من بعض المفكرين ووسائل الإعلام يقولون أنتم بالغتم في تحريم الربا.والمحرم من الربا هو الربا المضاعف الذي كان في الجاهلية. هذا الكلام سمعته من رجل إعلامي كبير وأستاذ فاضل قال أنا لم آكل أضعافا مضاعفة بل ضعف واحد فقط وتمر المسألة. توجد مسألة في القرآن تسمى التدرج في التشريع والنسخ. ومسألة الربا هي من المسائل التي تدرج فيها الله سبحانه وتعالى في تشريعها للناس ما حرمه دفعة واحدة. جاء إلى مجتمع كلهم يأكلون الربا ويعيش معظم التجار عليه ثم يقول ممنوع وخصوصا أهل مكة وهم أهل تجارة. الله سبحانه وتعالى حرم الربا بالتدرج فبدأ بقوله في سورة الروم {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) }(الروم). أنتم تُرابون في أموال الناس ولكن لا يربو عند الله فيها ذم للربا, ولكن ليس فيها تحريم. فبعض الذين يتحسسون قالوا هذا فيه ذم للربا فتوقفوا عنه ولكن الذين يتعاملون به بقوا في تعاملهم به وهم معظم الناس حتى جاءت سورة آل عمران. سورة الروم سورة مكية قديمة كانت والله أعلم في السنة الخامسة من البعثة في أول العهد النبوي أما سورة آل عمران فقد نزلت في معركة أحد أي في السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة أي بعد سورة الروم بتسع سنوات تقريبا. الله سبحانه وتعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} . المفسرون يقولون أن هذا المفهوم لا معنى له يعني إنه تحريم للربا ولكن "أضعافا مضاعفة" تصف الواقع لأنهم كانوا يبالغون. ولكن ليس معناها أنه يجوز أن تأكلوا الربا ضعفا واحدا. ولكن إذا فرضنا أن هذه الآية تحرم أكل الربا مضاعفا وتسمح بأكله ضعفا واحدا فقط, لكن جاءت آيات أخرى متأخرة في سورة البقرة وبإجماع العلماء أنها من أواخر ما نزل وفيها ميزة أنه فيها تصريح في قوله سبحانه وتعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}(البقرة). ولكن إذا قلت أنا آخذ أي سورة في القرآن ألتزم بها. أن القرآن الكريم كله حق فيقال أنا ممكن أفتح المصحف وأي آية أقع عليها آخذها. نقول لا , القرآن الكريم ليس بهذه الطريقة يفهم القرآن ولا أي كتاب آخر نأخذ منه كلمة ونبني عليها. أي أن الله في آخر الأمر حرم الربا وأنه لا يجوز أن يستدل إلا بالآية في سورة البقرة على تحريم الربا. هي الآية الصريحة في تحريم الربا { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}(البقرة). وهذه فكرة النسخ .والسؤال هو لماذا تبقى الآية المنسوخة؟ لكي نعرف رحمة الله وتيسيره. ولو تأملنا في ترتيب آيات الربا نجد أنه معكوس, الروم ثم آل عمران ثم البقرة. وهذا يرجع أيضا إلى قصة نظم القرآن سواء في آياته أو سوره. لا يؤخذ الحكم من آية واحدة مستقلة. ونقول لمن يأتي لهذا الكتاب يريد أن يتعلم نقول أنتبه هناك شيء اسمه علوم القرآن , أدرس علوم القرآن لكي تتضح عندك مسائل كثيرة جداً قد تغفل عنها بل قد تقع في مشكلات وأنت لا تعرف مثل هذه القضية كما الآن إذا أخذ واحد سورة آل عمران فقط سيكون فهمه فيه شيء من السلامة من جهة النص كفهم مستقل. وهذه تذكرني بقصة علي بن أبي طالب وجد قاصاً يقصّ فقال ياهذا هل تعرف ناسخ القرآن من منسوخه ؟ قال لا. قال إنما أنت ابن اعرفوني. أنت تريد الشهرة, هلكتَ وأهلكتْ. يعني ما أردت بالذي فعلت إلا أن تقول للناس اعرفوني عندما جلست وتصدرت وأنت لا تعرف هذه البديهية من بديهيات العلم.
قضية في فهم النص {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} جاءت لبيان الواقع وأن الربا حرام كله مضاعف أو غير مضاعف ولكن الآية جاءت للتنصيص على حالة كانت موجودة. لو رأيت شخصاً يريد أن يعتدي على مال إنسان نائم فقلت يا أخي حرام عليك تأخذ مال أخوك النائم؟!. هل معنى ذلك أنه لو كان غير نائم يحل لك أن تأخذ ماله؟ إنما تحدثت عن حالة واقعة ومشاهدة. المقصود من الحديث أن الآن أتحدث عن حالة معينة وهو الذي نزلت فيه الآية. كان أهل الجاهلية يأكلون الربا أضعافا مضاعفة. وهذا قيد غير مراد أو مفهوم غير مقصود. هل يستطيع الواحد أن يفهمه من النص؟ ولكن بالظروف والأحوال التي نزل فيها النص. والأحوال هذه لا يعرفها إلا من نزلت فيهم وهذا يؤكد على أهمية معرفة تفسير السلف.
وصورة الربا المضاعف أن يعطي الإنسان أخاه قرضا فيقول في رأس الحول تكون المائة مائة وعشرون, وإذا جاء نهاية العام ولم يستطع أن يسدد يقول له نعم تبقى المائة عليك ونزيد بدل مائة وعشرون تصير مائة وأربعون, وهكذا المضاعف. ويبقى هذا المسكين باستمرار يتضاعف عليه الربا وهذا يأكل جهد ذلك الفقير.
وهذا الأسلوب موجود في القرآن ويسمى القيد غير اللازم مثل قوله سبحانه وتعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}(النساء). أي أن إبنة زوجتي من غيري تحرم علي سواء كانت معي في البيت أو تعيش مع أبيها ولكنه قال (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) إشارة أنه غالبا تكون البنت مع أمها. وأيضا {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} من الآية (33)}(النور) فيها قيد غير لازم وهذا كثير في القرآن. ونشير إلى أهمية أننا نحتاج إلى معرفة هذه الأحوال والعادات التي كانت عندما نزلت الآيات. مثلا أحوال اليهود والنصارى الذين نزلت بشأنهم الآيات وهذا لا يمكن أن يعرف إلا من خلال الآثار، ولا تعرف إلا بمعرفة أحوال الناس. وقد بحث هذا الموضوع "القيد غير اللازم" الدكتور فهد الرومي في "الصفة الكاشفة".
(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131))كرر الحديث عن التقوى فقال بعدها { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وقال { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} يعني في هذا المقطع ذكرت التقوى قرابة أربع أو خمس مرات وهذه تدل على أن سر الأمر وسر النصر وحقيقة التكليف أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة يمتلئ قلبه من خوف الله عز وجل وخوف عذابه حتى يرتدع عن كل ما حرمه الله فإذا جاءه أمر من الله عز وجل صار عنده من القوة النفسية على الزهد في ذلك المحرم وتركه اتقاء لوجه الله . يخاف من الله ويخاف من عذابه ولذلك لا تحدثه نفسه بالرجوع إلى هذا الأمر أو المناقشة فيه. الآن ما هي المشكلة نجد ناس مسلمين التقوى عندهم تصل درجة صفر أو واحد بالمائة أو اثنين بالمائة فلما تقول له {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}يقول ما هذا؟ وكذلك {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}. تجده دائما يناقش لأن القلب خالي من الخوف وخالي أيضا من الطمع في فضل الله سبحانه وتعالى يتعامل مع هذه القضايا على أنها قوانين ولذلك يناقش فيها كأنها يناقش كلام بشر. لا يا أخي، يجب أن يمتلئ قلبك بالخوف من الله سبحانه وتعالى وهيبة له وإجلالا له وتعظيما لحرماته. إذا امتلأ القلب بذلك لما تصل الآية إلى سمع الإنسان تجده مباشرة يستجيب ولذلك نساء المؤمنين لما نزلت آية الحجاب في الليل ما صلّين الفجر إلا وهن متلفعات بمروطهنّ من سرعة الاستجابة. وذهبن يشققن ملاءاتهن حتى يحتجبن ولم يقلن في الصباح إن شاء الله نسال النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أين نأتي بالثياب؟ ولا تكفينا الثياب!. لا، جاؤوا لصلاة الفجر وعليهن مثل الغربان. {عن أم سلمة قال : لما نزلت { يدنين عليهن من جلابيبهن } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية الراوي: أم سلمة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4101 خلاصة حكم المحدث: صحيح}. هذه هي الاستجابة. ولو تأخروا ما عوتبوا. قالت عائشة رضي الله عنها (رحم الله نساء الأنصار) وهذه من التقوى. نحن نحتاج قبل أن نشحن أولادنا بالتعليمات الإسلامية أن نخوفهم بالله ونزودهم بالتقوى ونذكرهم بالآخرة كما كان لقمان لما يعظ ابنه قال { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} (لقمان) يربي فيه مراقبة الله واطّلاعه على عبده وبعدها يقول { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}(لقمان). إذا وجد هذا في القلب فإن القلب يستقبل أي أوامر من دون أيّ إشكالات.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} وهذه مرتبطة بقوله {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} أي اتقوا الله واتقوا النار. وأهل السنة في مثل هذه المواطن ينبهون على أن النار مخلوقة خلافا لبعض الطوائف التي أنكرت أن تكون الجنة والنار مخلوقة.
ثم قال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} وكأن الأول التخلية وهي التقوى والثاني التحلية وهي الطاعة. فهذه مهم أن ننتبه لها أنه لما جعل القلب يوجل ويخاف وهذا نوع من التصفية والتخلية وجد حلاوة بالطاعة لله ورسوله وقال لعلكم ترحمون أي أن طاعة الله ورسوله توصل إلى رحمة الله سبحانه وتعالى.
 
الحلقة 17
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
هذه الآيات كانت استطرادا في ثنايا الحديث عن غزوة أحد وفي مقدمة الحديث عنها. وقد بينا في الحلقة الماضية أن الحديث عن غزوة أحد استغرق قرابة ستين آية من سورة آل عمران بدأ من {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} ثم جاءت آيات الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) }إلى أن قال { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وقد لفت انتباهنا إلى أن بعد ما جاء بالتخويف بعد آيات الربا { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} جاء الإطماع في هذه الآية بشكل واضح في قوله سبحانه وتعالى{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133). إن لفظ "المسارعة" جاء في المسارعة في الخيرات كما في قوله {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} وكذلك "المسابقة" في قوله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} (الحديد) . المسارعة هنا في قوله "سارعوا" جاء من المفاعلة للدلالة على التتابع في المسارعة لأن مادة فاعل أحيانا تدل على التتابع وأحيانا على التقارب. تقول سافر الرجل لا يلزم المقابلة وإنما التتابع في العمل نفسه. فقوله سارعوا كأنه إشارة التتابع في الأعمال التي توصل إلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وأيضا سارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. هذه الجنة عندما تكلم عن النار أعدت للكافرين {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} جاء بالمقابل وهو الجنة التي أعدت للمتقين وكرر كما ذكرنا لفظ "التقوى" فجعلها هنا لأهل التقوى الذين من صفتهم أنهم يتقون الله سبحانه وتعالى ويتقون النار أيضا.
"جنة عرضها السماوات والأرض" تكلم عنها المفسرون وأطنبوا الحديث عنها. بعضهم يقول إذا كان هذا عرضها فما هو طولها؟! لأن المعروف أن الطول أطول من العرض. وبعضهم يقول أن هذه الجنة إذا كان عرضها السماوات والأرض فأين هي أولاً؟ ثم أين النار؟ عندنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، ومن فوقها يكون العرش ، فإذا سألتم الله فأسالوه الفردوس . الراوي: عبادة بن الصامت المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2531. خلاصة حكم المحدث: صحيح}. مما يدل على أن إذا كان عرش الرحمن وهو أوسع المخلوقات دونه الجنة فهي أوسع من السماوات والأرض قطعا. وذلك الجواب على من قال إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ نقول وهل ليس لله إلا السماوات والأرض؟!. الله عز وجل ملكوته عظيم جدا إنما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا أو يقرب لنا هذه الحقيقة وهي اتساع الجنة ولكن لا يعني ذلك أنه ليس لله إلا السماوات والأرض كما يتوهم البعض. وبعض المفسرين أشار إلى أن العرب يضرب بالسماوات والأرض مثلٌ للسعة.
في (وسارعوا) المتابعة وأيضا فيها المنافسة من المفاعلة {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} (المطففين) وأن المسارع كلما رأى أحدا قد سلك هذا الطريق يبذل جهده حتى يسبقه. فهي تتضمن هذا المعنى وهو المتابعة وتتضمن أيضا ألا يسبقك أحد إلى الله سبحانه وتعالى وجنته. وهذا هو المعنى الظاهر. { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} كأن الناس كلهم يتسابقون إليها ويتنافسون عليها فينبغي عليك إن كنت حريصا أن تسارع وتبادر والنبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يقول بادروا بالأعمال كأنك إنتهز الفرصة. وهذه الحقيقة كثيرا ما تفتح أبواب الخير للإنسان فيتباطأ في أول الأمر ثم يندم وأيضا تفوته الفرصة ولذلك فحين يُفتح لك باب من الخير اغتنم الفرصة وابدأ يأتيك العون من الله سبحانه وتعالى . أحيانا مثلا يقال هذا يا إخواني مشروع خيري من يريد أن يساهم فيه؟ يقول أحدهم أفكر فيه. متى قال أفكر فيه انتهى الموضوع. سبحان الله ما يدري لو قد ذهب هذا الأمر عليه ونسيه ولكن لو قال في تلك اللحظة هذه خمسة أو عشرة ريالات ما يدري لو يفتح له باب آخر من الخير وتكون هذه بوابة الخير له. وهذا هو التمثيل الحقيقي والتطبيق الواقعي لقوله "سارعوا" كل ما فتح باب من الخير ضع فيه شيئاً ولو قليل. يا أخي استغفر الله تقول استغفر الله . اذكر الله , تقول لا إله إلا الله . صلي على النبي تقول اللهم صلي عليه. هذه المسارعة. أي قدموا, قربوا, افعلوا, ابدأ ولا تتوانى إلا إذا كان الأمر يحتاج إلى خيره ولا تدري هل هو من الخير أو ليس من الخير وهنا يكون التريث محمودا أما إذا ثبت لديك أنه شيء من الخير وانه مقطوع به فلا تتردد في العمل. العبد المؤمن يخاف من عدم مسارعته أن يكون فيه شئ من المنافقين عندما قال سبحانه وتعالى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}(التوبة). تثبيط الخيرات نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يجعل فينا هذه الصفة فنحن نخشى ذلك. إذا فتح لك خير ثم سُد عنك إعرف أن عندك معصية. ولكن لاحظوا في نظم الآية أنه قال { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} ولم يقل وسارعوا إلى الأعمال الصالحة وإنما قال سارعوا إلى ما أنتم متحققون من أن ثمرته هي المغفرة ومن أن ثمرته هي الجنة. وأنت في الإسلام عندك وضوح تام لما هي الأعمال الصالحة التي ينبغي عليك أن تسارع إليها، مثلاً المسارعة إلى الصلاة عند النداء أو قبل النداء هذه من المسارعة إلى المغفرة فهذه لا تحتاج إلى أن تستخير أو تشاور نفسك. الله سبحانه وتعالى قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}(التوبة). هذا لم يسارع لأن القتال والجهاد في سبيل الله لا يحتاج إلى خيرة هذا من الأمور التي كان يتسابق فيها الصحابة. بل بعض الصحابة كان يقترع هو وابنه فمن اللازم أن يجلس أحدهما لرعاية الأهل. الأب يريد أن يخرج ويصر الابن على الخروج وأن الأب يبقى بين أهله فأقرعا بينهما مما يدل على إنهم يعرفون معنى المسارعة بمعنى بادر أنت في هذه الفرصة. بل أن بعض الصحابة خرج وهو يعرج لما سمع منادي الجهاد ومنهم من خرج وهو في عرسه مما يدل على أن الصحابة فهموا هذا الأمر فهما واضحا في حياتهم ولذلك كانوا يبادرون. انظر مثلا ما كان يحصل بين قبائل الأنصار الأوس والخزرج من المسابقة إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث إذا فاز هؤلاء بشيء يغارون منهم, ليس لأنهم يرون أن هؤلاء فازوا بشيء من جاه أو سمعة أو دنيا أو أن صلى الله عليه وسلم سيعطيهم أعطيات ولكن كيف ينالون هذا الخير ونحن قاعدون! فكانوا يسارعون إلى هذا الأمر. ونحن أحيانا يكون عندنا اجتماعات أو درس علمي فيؤذن للصلاة سبحان الله لا ادري ما الذي أصابنا فتجد أننا نكمل الصلاة وقد فات ركعة وأحيانا تفوتك إذا كنت محتاجاً لوضوء. مفترض أننا يكون عندنا شيء من الجد بأن قبل عشر دقائق من الصلاة ننتهي ويستعد الناس للصلاة. أما إذا استمرينا على هذا الحال فهو نوع من التقصير وعدم معرفة الأولويات. وفي الحديث { لو يعلم الناس ما في النداء و الصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، و لو يعلمون ما في العتمة و الصبح لأتوهما و لو حبوا الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 5339خلاصة حكم المحدث: صحيح}. وهذا فضل المسارعة. ولكن الواقع الآن يؤذن ويقيم الصلاة وليس وراء الإمام إلا اثنين أو ثلاثة ثم يأتي الناس. فإذا بدأنا في الصلاة وأقيمت الصلاة نجد الصفوف على الأقل ثلاثة صفوف. للأسف تكتشف أن عندنا خطأ وخلل في هذا الجانب، فنحن نتوانى وهذا ليس مقصورا على العامة بل كثير من طلاب العلم نسأل الله أن يعافينا. سعد بن المسيب كان يفتخر ويقول أن ما فاتني تكبيرة الإحرام منذ أربعين سنة وفي قصة أخرى يقولون عنه أو غيره لما أخذه الشرطة ثم أطلقوه فجاء على خروج الناس من المسجد قالوا فبكى وقال والله ما رأيت هذه الوجوه منذ أربعين سنة. أي ما رأيت الناس يخرجون من المسجد منذ أربعين سنة لأنه كان دائماً في المسجد.
في الآية أيضا لفتة جميلة جدا أن بدأ بالمغفرة قبل الجنة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) كأن الجنة لا تدخل إلا بالمغفرة ولذلك نلاحظ أن في كثير من آيات القرآن يبدأ بالغفور قبل الرحيم والمغفرة قبل الرحمة لأنك لا تستحق الرحمة إلا بعد أن يغفر لك وتمحص. حتى أهل الإيمان عندما يتجاوزون القنطرة أو الصراط توجد قنطرة يجلسون عليها ليتقاصوا فيما بينهم لأن الجنة لا يستحق دخولها إلا من صُفي تماما أبيض من كل سوء { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}(الأعراف). وهذه تدخل في باب التحلية بعد التخلية. وفي الآية تشويق { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } ومن ذا الذي لا يحب الجنة؟ ومن ذا الذي لا يحب المغفرة؟! الله ما قال سارعوا إلى الأعمال الصالحة لأن الأعمال الصالحة فبها تكليف. كما تقول الآن سارعوا إلى الجائزة الكبرى وبالتأكيد الجائزة الكبرى لا تنال إلا بوجود أسئلة أو عمل ولكن لا تقول سارع إلى الأسئلة بل يضع الجائزة أمامك وهذا الذي يشوق الناس. يقول { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } كأنها مضمونة لكن أنت أقبِل فقط وسبحان الله قال في الحديث القدسي { عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يرويه عن ربه ، قال : ( إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة ) . الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7536خلاصة حكم المحدث:[صحيح]}. الله سبحانه وتعالى كريم ويقابل فعل العبد وشكره وعبادته بالكرم. لما قال { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} قد يُسأل من هم المتقون؟ في تفسير القرآن بالقرآن جاء وصفهم هنا في هذا الموطن. { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) }. ونرجع إلى فكرة النظم والعناية بالنظم. لما جاء عند الإنفاق بدأ بالتصريح بقول "الذين" طبعا قوله "الكاظمين" فيها (الـ) تعني الذين. ولكن لا شك أن التصريح بـ"الذين" أقوى من (الـ) فلما بدأ بالإنفاق قال "الذين" ولم يقل "المنفقين" مع أن لو قال "المنفقين والكاظمين " لكانت متناسقة. قوله "الذين ينفقون" كأنه قصد على أن ينبه على أن هذا الإنفاق متجدد وليس ذلك صفة لازمة مع أنه ورد {وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }(آل عمران) ولكن في هذا الموطن يشار إلى أن الإنفاق تكون هذه الصفة متجددة والإنفاق خصوصا. ولما جاء للكاظمين وهو خلق مرتبط بالنفس قال (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) لأنه خُلُق أي ما يتحلى به ويجب أن يكون وصفاً لازماً . و"العافين" أيضا وصف لازم وكذلك لما قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} هذا إشارة إلى لازم الخبر في قوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وكيف أنه ما قال (والمحسنين) كأن الآية الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمحسنين لكنه قال (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). فلو تأملنا الآية , نجدهم ينفقون في وقت الغنى والسعة والضراء غير ذلك أن يكون فقيرا لا يستطيع أن ينفق فينفق مثل ما ذكر عن عبد الله بن جعفر عندما كان ذاهبا للشام فمر بعجوز قدمت لهم ما تستطيع فقال لغلامه ما معك؟ قال معي عشرة ألف درهم, قال أعطيها إياها قال يكفيها كذا درهم فهي لا تعرف قال ولكني أعرف نفسي ولما ذهب إلى معاوية قال له ما وجد في الطريق فكافأه. المقصد من ذلك أن بعض الناس عندهم طبع الكرم في النفس والكرم في المال وقلّ أن يأتي كرم المال بدون أن يكون هناك كرم في النفس في الغالب لا يأتي كرم المال إلا مع كرم النفس. وأحيانا يكون العكس وهو قليل جداً أن الإنسان يعطي ويكون هناك بعض الانزعاج ولكن الغالب يتوافقان: كرم النفس وكرم المال. والأصل أن الكرم هو النفاسة والعلو فتسمية الإنسان الذي يعطي كريما ليس لأن معنى العطاء هو الكرم ولكن لأن هذا من أظهر الصفات التي يمتدح بها الإنسان وتكون ظاهرة عليه سميت هذه بهذه . فالكريم هو النفيس في الأشياء فيقال كريمة فلان لأنها نفيسة عنده والأحجار الكريمة لأنها عالية القدر ونفيسة.
لما بدأ بالإنفاق كان في ذلك إشارة إلى الجهاد بالمال وارتباطه بآيات الجهاد وآيات الربا . كلما جاء الربا في القرآن جاء معه آيات الإنفاق كما في سورة البقرة {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}وسورة الروم {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) }. الربا هو أخذ أموال الناس بغير حق. قيل إذا أردتم أن تربوا ربا حقيقيا ينفعكم عند الله سبحانه وتعالى فأنفقوا فإن الله يعطيكم بالدرهم الواحد عشرة أمثال إلى سبعين ضعف إلى سبعمائة ضعف أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وهي نسبة غير معلومة وهذا هو الربا الحقيقي. الناس يتفانون الآن ليكون عندهم نسبة 2% والله يعطيك نسبة لا تحلم بها!.
في قوله تعالى { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } لاحظوا كيف جاء بهذه الأشياء متدرجة وهذا يذكرنا بالحديث حول سر ترتيب الأشياء في كتاب الله عز وجل. فأقول كيف جاء بالكظم ثم العفو ثم الإحسان تذكرنا بالقصة المشهورة لغلام للمأمون إذ أنكفأ الإناء الذي يحمله الغلام وكان حارا فانسكب عليه. شعر الغلام بالخوف فهو الآن في قبضة الأمير وسينتقم منه فقال يا أمير المؤمنين والكاظمين الغيظ، قال قد كظمت غيظي. قال والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك، قال والله يحب المحسنين قال اذهب فأنت حرٌ لوجه الله . وهذا غلام فقيه إستغل الفرصة. كظم الغيظ هو مثل كظم القربة إذا امتلأت بالماء أمسك بطرفيها لكي لا يخرج منها الماء. هذا هو الكظم فكأنه قد امتلأت نفسه بحب الانتقام ولكنه أمسكها. لكن إذا كظم غيظه فلا يعني هذا أن ما بنفسه قد ذهب ولذلك جاء بعدها العفو وهو الإزالة. عفا الأثر أي ذهب أثره. وبعض الناس عنده القدرة على كظم الغيظ وليس لديه القدرة على العفو أي تبقى في نفسه وبعض الناس عندهم العفو وليس عندهم الصفح {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}( النور). الصفح مرتبة أعلى من العفو وهو من أخلاق النفس العالية أي كأن الأمر ليس له ذكر البتة مثل ما قال يوسف عليه السلام { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) }(يوسف). والتزم {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}(يوسف) وما قال أخرجني من البئر لأنه التزم. لو قال وقد أحسن بي إذ أخرجني من البئر وهذه كان فيها ظلم فادح بالنسبة له ومع ذلك إلتزم وكأن الموضوع لم يكن. وقال { نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} كأنه هو المخطئ. ثم { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وبعد أن قال تعالى "العافين" جاءت على اسم فاعل (ينفقون, الكاظمين, العافين) وفيه ارتباط بالفعل من جهة وليست فعلا خالص وليست في الاسم الخالص. اسم الفاعل مرتبط بالدلالة وكذلك بالإعراب. ولكن لما جاء عند الإحسان قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذه الفاصلة فيها تنبيه على العموم أن الله يحب أي محسن في أي أمر كان. حتى في الحديث {ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته ) . الراوي: شداد بن أوس المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1955خلاصة حكم المحدث: صحيح}. علما بأن القتيل أو الذبيح لا يستفيد من القتل شيئا . و لما قال {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هذا خبر وهذا من أساليب ذكر الأعمال التي يحبها الله ويحث عليها. {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }(البقرة) وأنت لا شك تحب أن تتبع ماضي الله وأن تعمل ما يحبه الله ولهذا لما قال يصفهم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) وصف واضح و (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) وصف واضح و(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) وصف واضح فإن الله يحبهم ولكن لم يقل يحبهم بل قال (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) بمعنى أن هذه الصفات لا تكون إلا في المحسن. لماذا يحبهم؟ لأن هؤلاء قد بلغوا درجة الإحسان. وبالفعل لا يمكن أن الإنسان ينفق في السراء والضراء ويكظم الغيظ وكظم الغيظ ليس سهلا سهل أن يعبر عنه الإنسان بلسانه فهو من أيسر ما يكون ولكن والله في الواقع هو من أشد الأشياء . قال صلى الله عليه وسلم {ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6114خلاصة حكم المحدث: [صحيح]}. ويزيد على ذلك بأن يعفو عن من أغاظه وأساء إليه. بعض الناس لا يفهم المقصود بهذا الحديث عندما ينطقه (ليس الشديد بالصُرعة). يعني هو الذي يصرع صاحبه ولكن الحديث ليس الشديدُ بالصُرَعة. قال الرجل الصُرَعة هو الرجل المصارع القوي الذي يصرع غيره كأن تقول هذا الرجل طُلَعة أي واسع الاطلاع وهذا رجل رُحَلة أي كثير الترحال وهذا رجل صُرَعة أي يصارع.
(وسارعوا) في قراءة (سارعوا) وفي قراءة (وسارعوا)، سارعوا سقطت منها الواو فهل يجوز للإنسان أن يسقط حرفا من كتاب الله عز وجل؟ لا يجوز له ذلك. نقول أن هذان وجهان مقروءان من كتاب الله قرأ بهما النبي صلى الله عليه وسلم . في أحد المصاحف "سارعوا" وفي أحدها "وسارعوا" لأن الأصل هو ثبوت القراءة وصار الرسم تبعا لذلك فبدلا أن يكتبوا "سارعوا" في جميع المصاحف ولا يستدل على القراءة الأخرى فكتبوا في بعض المصاحف "سارعوا" وفي بعضها "وسارعوا" هم لما كتبوا المصحف أرادوا عند الكتابة أن تكون محتملة لجميع أوجه القراءات فإذا كانت الكتابة لا تسعف بأن يجمع فيها بين قراءتين جعلوا كل قراءة في مصحف فهذا يتلى في المصحف الكوفي وهذا في المصحف الشامي وبقيت هذه القراءات وهذا يدل على حرص الصحابة على نقل جميع ما جاء إليهم من كلام الله عز وجل دون أن يغيروا فيه. هذه طبعة نادرة ما جاء على وجهين كتب على أحدهما هذه من ظواهر ست تسمى ظواهر الرسم العثماني (سارعوا ووسارعوا) وأيضا (لا يخاف عقباها و ولا يخاف عقباها). الزيادة والحذف من هذه ثابتة لكن عادة في الكلمة مثل "الصراط" قد ترسم بوجه واحد ولكن هذه لا. (تجري من تحتها الأنهار و تجري تحتها الأنهار) (وصى , أوصى). أما النوع الآخر فهم كتبوه برسم والأمر موكول إلى القراءة ومهم أن ينتبه له من يعالج ما تعلق بالرسم حيث أن بعض الأوجه القرائية لا يمكن كتابته. مثل (اهدنا الصراط المستقيم) إشمام الصراط بالصاد أو السراط. فلا يمكن كتابتها فتكتب بوجه واحد لتدل على هذه وعلى تلك.
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) وهذا من بلاغة النظم القرآني . لما قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قد يقول قائل هؤلاء المحسنون طبقة عالية لا يخطؤون ولا يمر بهم شئ مما يمر ببني آدم من الذنب والمعصية والتجاوز فالله سبحانه وتعالى يقول { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}هم أيضا يذنبون. ما هو بذنب عادي بل فاحشة { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. هذه الآية غاية في فتح باب الرجاء لكل مذنب فقال (والذين) لهم هذه الصفات الرائعة للمتقين الذين أعدت لهم جنة عرضها السماوات والأرض والتي أمرك الله أن تسارع إليها مفتوحة للجميع ومع ذلك وصف هؤلاء المتقين الذين يستحقون هذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض فقال {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} والفاحشة هي الذنب الفاحش القبيح العظيم ولذلك ذكر الله في سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } والإسراف على النفس في المعاصي كأنك مشيت فيها شوطا بعيدا، { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وهنا أيضا قال {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي لا تيأس من رحمة الله مهما ارتكبت من الفواحش ومن الذنوب ومن المعاصي. وسبحان الله العظيم في ديننا ليس بينك وبين الله أحد، اتصالك بالرب مباشرة. فأنت مهما أسرفت على نفسك من المعاصي لا تحتاج أن تذهب عند شيخ أو مفتي ولا تتصل بأحد ولا تطلب إذن من أحد وإنما تطلب من الله سبحانه وتعالى. قال { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ثم جملة اعتراضية جميلة {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} لكي تذهب وتسأله؟ وذلك في بعض الآثار { عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يحكي عن ربه عز وجل قال " أذنب عبد ذنبا . فقال : اللهم ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب . فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . اعمل ما شئت فقد غفرت لك " . قال عبد الأعلى : لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة " اعمل ما شئت " . الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2758خلاصة حكم المحدث: صحيح}. أي أن الله سبحانه وتعالى عندما يرى العبد يقول استغفر الله قال {أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . اعمل ما شئت فقد غفرت لك}. ولكن عند الأديان المحرفة حتى يتوب معاملة طويلة متعبة كأنها تقف بينك وبين أن تتوب. لو كان الآن من شروط أن أتوب أن أذهب إلى المفتي قد أتكاسل وأقول فيها فضيحة ولكن هنا فلا. {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فتح لباب التوبة على مصراعيه بينك وبين الله سبحانه وتعالىـ تُب إلى الله وكرر التوبة ما شئت أن تذنب ثم تذكر الله واستغفرت كأنه ما حصل شيء. وهذا الاستغفار لا يحتاج إلى موقع كأن تذهب إلى مسجد أو غيره. في الليل أو في النهار نفس اللحظة التي أذنبت فيها. وكأن هذا من معاني النظم عندما قال سبحانه وتعالى {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا} قال ذكروا الله فاستغفروا مباشرة ولم يقل ذكروا الله ثم استغفروا. يبادر إلى التوبة وهذا من معاني "سارعوا" عندما تذكر الذنب لا تقول إن شاء الله إلى الغد أتوب أو في رمضان أو بعد أن أحج أو بعد الأربعين . لا يا أخي إذا فعلت ذلك فقد يطبع على قلبك فلا توفق إلى التوبة مدى الحياة. ولذلك لما ذكرت ذنوب الأنبياء في القرآن كان من أعظم الحكم في ذكرها أن يذكر أنهم يبادرون إلى التوبة بعد الذنب مباشرة، وهذه من المزايا. انظر في قصة نوح عليه السلام قال {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}(هود) قال نوح {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}(هود) مباشرة. لم يقل يا ربي سأستغفرك في وقت لاحق بل قال {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ذنوب الأنبياء يذكر بعدها مباشرة في كل المواطن في القرآن كيف أنهم عادوا إلى الله في وقت الذنب. ولذلك في قصة داود لما حكم بين الخصمين فاستمع إلى أحد الخصمين وترك الآخر { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) }(ص). وهذه دروس رائعة . الحسن البصري قال أن الله لم يذكر ذنوب الأنبياء ليعيبهم بها بل ذكرها لتهتدوا بهم في التوبة وهذا هو مقصد ذكرها. ولذلك أنت تطمئن كعبد مسكين تقول من أنا؟ النبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي داوود عليه السلام ومن أنا؟ وهؤلاء لما وقع منهم ما وقع استغفروا الله فغفر لهم فأنت إذن بادر. جعلها الله نور في حياتهم يقتدى بهم فيها. انظر {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}(الأنبياء) فنادى مباشرة جاءت "الفاء" في جميع هذه المواضع دليل على أنهم يسارعون إلى هذا الأمر. في هذه الآية نقطة الإصرار على الذنب عندما يذكر الله تعالى أن من صفات المتقين أنهم ما يصرون على الذنب وأنه إذا ذكر الله سبحانه وتعالى يتذكر مباشرة بعض الناس يجادل وقد قال سبحانه وتعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}(الحج) يجادل في الربا أو يجادل في شرب الخمر ويجادل في تأخير الصلاة أو في وجوب أو فرضية الصلاة ,يجادل في الله . الله ذكر هنا أن صفات المتقين أنهم لا يصرون على الذنب لم يذكر أن من صفاتهم أنهم لا يذنبون بل يذنبون وقد يقعون في فاحشة ولكنهم يتوبون. وقال {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولذلك الإصرار والعياذ بالله قد يقع الإنسان في معصية قد تكون من الصغائر ولكن يصر عليها فتتحول بالإصرار من صغيرة إلى كبيرة. الإصرار هنا هو عدم طلب المغفرة من الله ولكن من أذنب واستغفر الله مرة بعد مرة هذا غير مُصِرّ. بعض الناس لا يفهم معنى الإصرار وقد يبتلى بعض العباد بذنب ما ولكنه كاره لهذا الذنب ويستغفر الله منه هذا لا يعتبر مُصرا. كما ذكرنا في الحديث , العبد يذنب فيستغفر فيقول سبحانه وتعالى "علم أن له ربا يغفر الذنوب".
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136). هذا إطناب. لاحظ الآيات افتتحت بذكر التقوى والجنة وختمت بمثل ذلك كأنه إذا فعلتم ما فعلتم وحصل ما حصل فتأكدوا أن ذلك الوعد من الله سبحانه وتعالى سيتحقق. ولاحظ انها افتتحت بقول (أولئك) ما قال جزاؤهم إشارة إلى علو مكانتهم وأخلاقهم، جزاؤهم مغفرة وجنات بدأت بالمغفرة قبل الجنات.
 
الإخوة الأفاضل تمكنت بفضل الله تعالى من تسجيل قسم كبير من حلقة برنامج بينات التي عرضت يوم الأربعاء الماضي ولكن ضاع عليّ بداية الحلقة وهذا تفريغ ما تمكنت من تسجيله فرجاء لمن لديه هذه الحلقة ولو كانت ملفاً صوتياً أن يرفعها هنا لأستكمل الباقي إن شاء الله تعالى.
كما أرجو من مشايخنا الفضلاء الاطلاع على نص الحلقة للتعليق والتصحيح في حال وجود خطأ غير مقصود
**************************************************
[FONT=&quot]تأملات في سورة آل عمران من الآية 190 - 192[/FONT]
[FONT=&quot]وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) [/FONT]
[FONT=&quot]يشير إلى الفرق بين تعامل العبد المؤمن مع هذه الكائنات وتعامل الكافر، هناك مسألة مهمة جداً أن الإيمان من آثاره التفكر في هذه الكائنات وأقول انظروا لعبارات الكفار من الشرق والغرب وخاصة من الغرب الذين يتكلمون عن الحضارة اليوم وهم يتكلمون عن الفضاء يستخدمون عبارات تدل على محاربة ومعاداة مثل "حرب النجوم، غزو الفضاء" عبارات فيها تحدي كأن ليس بينهم وبين هذه المخلوقات أي صلة بخلاف المسلم الذي يرى أن هذه المخلوقات مثله في الإيمان فيتمتع فيها. فائدة أخرى أن المسلم إذا كانت الحضارة منطلقة منه فإنه يعرف الحدود التي يجب أن يصل إليها ولا يتجاوز هذه الحدود في أمور لا تنفع البشرية. ولهذا يقول تعالى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) طه) أية فكرة تقوم الآن على أن هناك كوكب آخر يمكن أن يسكن فيه الإنسان المسلم عنده قاعدة واضحة جداً من ربه في هذا المجال فلا يصرف الأموال في هذا المجال وإنما يصرفها في مجال آخر. ولهذا نحن ندعو من منّ الله تعالى بهذه التخصصات من علم الفلك وغيره أن يدعوا الناس بهذه العبادة، هناك كتاب لطيف إسمه "الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان" ذكر بداية تكوين الإنسان وحاول أن يأتي به بصورة إيمانية مشرقة وكيف يمكن أن نوظف هذه المعارف لتقوية الإيمان وهذا للأسف غير موجود فتجد بعض المنتسبين للإسلام والباحثين إذا أراد أن يبين هذه يذهب إلى القرآن يحاول أن يستنبط منه ويفسر القرآن بما يسمى بالإعجاز العلمي مع أن عنده في مجاله ما هو أوسع من ذلك، أنت عندك آية عامة انطلق منها واشرح لنا بديع صنع الله سبحانه وتعالى في هذا المخلوق الذي هو الإنسان (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) الذاريات) فاشرح لنا لماذا خلق الله فينا من العجائب والقدرات وهذا الدم الذي يجري وقد ذكر أحد الإخو ة أن أحد الدكاترة درّسهم فكان أحياناً يلمح إلى بعض هذه الأشياء ومرة ذكر لهم عن عرق في الدماغ فقال لهم الدم يسري الآن في هذا العِرق بقدرة الله ولو أصيب الإنسان بجلطة فيه فإنه سيموت وهذا العرق صغير جداً يقاس بأقل من المليمترات فلما تشرح للناس مثل هذا وتربطه بقدرة الله تعالى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) الأعلى) فانظروا بديع صنع الله وهذا مجال رحب، ومع الأسف هذا الموضوع لم يطرح كثيراً وقد كان د. مصطفى محمود يُعنى بهذا في برنامج العلم والإيمان ومثل هذا مفيد جداً في عبادة التفكر التي أمرنا الله تعالى بها.[/FONT]
[FONT=&quot]سجل القرآن الفرق بين أهل الإيمان وأهل الكفران فقال في سورة يوسف (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)) بينما أهل الإيمان قال فيهم (إن في خلق السموات سبحانك) هذا التفكر يفيدهم ويزيدهم إيماناً ولهذا قالوا بعدها (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران) فانظر المقارنة بين هذين الصنفين فأقول تجلّت آيات للكفار في هذا الزمان ما تجلّت لأحد قبلهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومع ذلك كلما جاءتهم آية ازدادوا طغياناً وكفراً والسبب هو عدم وجود الأصل الذي هو الإيمان بالله عز وجل. وهذه دعوة للباحثين الذي يبحثون في علوم الحياة أن يستثمروا هذه العلوم التي يعلمونها في نفع الناس وهذه المسائل تدور في المجالس المتخصصة ولكن نقلها لعامة الناس ولجمهور المسلمين لكي يعرف كل واحد قدر نعمة الله عليه وفضل الله سبحانه وتعالى عليه في تسخير السموات والأرض وما فيها من قدرة الله ودلائل قدرة الله التي تدعونا لاستقرار اليقين في قلوبنا وهذه عبادة من أجلّ العبادات ولذلك ختمها (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وهنا يأتي سؤال لماذا هذه الدعوة بالذات بعد أن يتفكر الإنسان بهذه المخلوقات وهذه القدرة الهائلة؟ يظهر لي والله أعلم أنه عندما يجد المسلم ويتفكر في هذه النعم الجليلة كأنه يقول يا رب أنا لا أطمح في الدرجات العالية من الجنة لأنني مقارنة بهذه النعم العظيمة في غاية التقصير فغاية ما أريده يا رب أن تقيني من عذاب النار وهذا يذكرنا بالآية السابقة (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ (185) آل عمران) فكيف بنا ونحن أمرنا أن ندعو الله بالفرودس الأعلى![/FONT]
[FONT=&quot]هذا الدعاء موجود أيضاً في أول السورة (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)) وهذا ثاني دعاء في السورة (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وهو تأكيد لهذا المعنى. وهذا يدخل في باب المتشابه أيضاً.[/FONT]
[FONT=&quot]نختم قضية التفكر لو أن في أيام الربيع جلس أحدنا تحت ظل شجرة خمس دقائق يجعلها في عبادة التفكر فيما تستطيع عينه أن تقع عليه فهذه ورقة تسقط من الشجرة وهذا هواء يحرك الشجرة أمامه وهذه عشبة تميل على أختها، لاحظ وتأمل كل حركة تعلم يقيناً أن الله سبحانه وتعالى قد قدّره وعلمه بتفاصيله فانظر هل تستطيع أنت بعقلك الصغير أن تحوي هذا العالم الكبير؟! بالطبع لا، أنت لم تستطع وأنت تتأمل بأعلى ما يمكن من التركيز في محيط صغير لا يكاد يُذكر في هذا العالم الكبير فانظر قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته سبحانه وتعالى الذي يطّلع على جميه هذه الأمور ويعلمها بتفاصيلها وليس اليوم ولا الأمس ولكن علمه أزلي لا يمكن أن يخطئه شيء من هذا، هذه بحد ذاتها تعطيك قدرة هذا الرب ةعظمة هذا الرب سبحانه وتعالى.[/FONT]
[FONT=&quot]ومن الأذكار التي ينبغي أن يرددها الإنسان دائماً ونستنبطها من هذه الآية أنه كلما رأى شيئاً يلفت نظره من آيات الله عز وجل أو تجلى له شيئ لم يفطن له من قبل يقول هذه الكلمات (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) لأن هذا مقتضى ما ورد في القرآن وأعلى الأذكار ما ورد في القرآن.[/FONT]
[FONT=&quot]العلم الذي مصدره الوحي، المؤمن المصدق الذي يعرف أن الله سبحانه وتعالى قدّر كل شيء وأن علمه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء (255) البقرة) و(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) الأنعام) هذا أتانا عن طريق الوحي والآن ننظر إلى حالات الكفار والمكذبين إذا قرأنا في كتبهم التي تتحدث عن الاكتشافات في فترات مختلفة لا يؤمنون بالخالق فينسبون كل شيء إلى الطبيعة ولذلك هذه الكتب منزوعة الإيمان (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) يونس) مهما كثرت الآيات فهي لا تزيد الكفار إلا طغياناً وكفراً.[/FONT]
[FONT=&quot]في قوله (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192)) هذا من باب الإطناب يدل على أن الإنسان يتعوذ من شيء يعلمه ويعلم أنه هو الخزي التام ، هو لا يتعوذ من شيء بسيط أو سهل وإنما من شيء عظيم في نفسه ولذلك هو يرجو الله سبحانه وتعالى ولذلك الإطناب في هذا المقام مستحب مثل الإطناب في الدعاء لله عز وجل بالمغفرة "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر" كان يمكن أن يقول اللهم اغفر لي ذنبي كله ولكن هذا الإطناب مراد منه الإلحاح والله تعالى يحب من العبد ذلك أن يتذلل له وأن يسأله بصدق ويمعن في السؤال. وهذا يسوقنا إلى فائدة في قوله تعالى (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193)) قال بعض العلماء في الفرق بين المغفرة وتكفير السيئات أن هذا من الإطناب في الدعاء إحداهما تغني عن الأخرى ولكن المؤمن يلح في سؤال الله عز وجل وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الرازي في تفسير هذه الآية وإن كان يبدو أن الفرق بين اغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا والله أعلم أن مغفرة الذنوب فضل من الله وتكفير السيئات مقابلة الأعمال السيئة بالأعمال الصالحة "الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينها إذا اجتنبت الكبائر" فالله عز وجل يقابل سيئاتك بحسناتك فتكفرها وتسترها. فإذا بقي شيء يحتاج إلى عفو الله عز وجل وتفضله عليك فذلك من الله. وهذا ملحظ له وجاهة في القرآن فمن تتبع لفظ المغفرة في القرآن يجد أن المغفرة تكون للشيء العظيم وأن فيها تفضل من باب المنّة وليست من باب المقابل وإن كانت مقابل عمل التوبة تقول اللهم اغفر لي ذنوبي هي دعاء عام لكن إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما يقال في المغفرة والتكفير (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31) النساء) أي نجعل طاعتكم مكفرة لسيئاتكم إن اجتنبتم الكبائر أما إذا جاءت الكبائر فيبقى فضل الله تعالى وعفوه.[/FONT]
[FONT=&quot]لما قال (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (192)) تأملت في الخزي جاءت أن العبارات تقصر عن بيان معناه، لو ذهبت إلى علماء اللغة ومن تكلم في الخزي يقرب المعنى لكن لما تقع في عمل مخزي ترى نفسك في هذا العمل المخزي وتحاول أن تعبر عنه لا تستطيع أن تعبر، في بعض القضايا والأحوال النفسية التي يدعو المسلم ربه أن لا يقع فيها مهما حاولت أن تعبر عنها في الألفاظ لن تستطيع أن تقرب هذا المعنى فالخزي هو انكسار في النفس بسبب معصية أو خطأ وقعت فيه فقد تخطيء على شخص ما فيصيبك خزي وقد يحدث منك شيء عفوي جداً يحصل لسائر الخلق مثل خروج الريح تشعر بالخزي مع أنك تعلم أن هذا الأمر يحدث من غيرك أيضاً لكنك تشعر بالإحراج والإنكسار ولو حاول شخص أن يعبر عن هذا الشعور تجد العبارات تقصر عن ذلك. فإذا تأملنا لفظ الخزي في القرآن تجده يوحي بالمعنى وإن لم تستطع أنت أن تصفه بعبارات تبين معناه. ولا شك أن إدخال الله سبحانه وتعالى لمن شاء أن يدخله جهنم هذا أعظم الخزي (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) هذا هو الذي يستحق أن يسمى خزي وهو أعلى الخزي.[/FONT]
[FONT=&quot]أهل الإيمان استثمروا عبادة التفكر في التعبد لله عز وجل ودعائه وطلب أمور يحتاجون إليها وهذا بخلاف ما يشاع في هذا العصر أننا نتفكر من أجل أن نكون أمة رائدة وصانعة هذا كلام صحيح لكن قبل ذلك لن نصل إلى هذه المراحل حتى نعود إلى أصلنا في الإيمان، الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في جاهلية جهلاء أكثر مما نحن عليه ولكن جعل الله هذا الإيمان في قلوبهم فصار عندهم من الحياة القلبية ما جعل هناك مسؤولية جماعية عند كل شخص يحمل همّ هذه الأمة كلها ولذلك قاموا قومة رجل واحد واستطاعوا في غضون أقل من سنوات أن يحطموا امبرطوريتين عظيمتين ويهشموا عروش ملوك كسرى وقيصر، سبب ذلك هي هذه الحياة التي وقرت في قلوبهم وهذا المعنى الذي تجلى لهم، نحن الآن في بلاد الخليج الأموال موجودة والثروات موجودة، العقول موجودة والدين واحد والموقع الجغرافي موقع مؤثر، انظر إلى اليابان كيف تصدّر منتجاتها لأنحاء العالم وهي في أقصى الأرض!، نحن الآن في بؤبؤ الأرض ولكنا فقدنا هذه الروح التي يجب أن نتحلى بها. نحن لا نشعر بعظمة ما نملكه من النعمة، حدثنا أحد المشايخ أقام معرضاً للحضارة الإسلامية في جنوب افريقيا وحضره أناس وجاءت امرأة عجوز ربما في الثمانين إلى ركن من يريد أن يدخل الإسلام فسالت عن التفاصيل فأعطيناها تعريفاً عن الإسلام فقالت أنا أعرف عن الإسلام ولكن كيف أدخل فيه فأرشدها إلى المكان وأعلنت إسلامها فقالت هكذا بكل بساطة أصبحت مسلمة؟! أليس هنا بروتوكول؟ قيل لها لا، أنت أصبحت مسلمة فبكت بكاء شديداً وأبكت من حولها وقالت كنت أخاف أن يدركني الموت وأنا لم أُسلِم وأنا قرأت عن هذا الدين وأعرف عنه تفاصيل كثيرة وهذا هو الدين الحق وخرجت من المعرض وقالت أنا عندي بنت وتنتظرني للدخول في الإسلام لكني خشيت لو ذهبت لأحضرها أني لا أدرككم. وشخص آخر أعطوه ترجمة لمعاني القرآن وهو قسيس فغاب يومين حتى قرأ الكتاب ثم عاد فقال هذا كتاب ليس كتاب عبادة أو دين بالمعنى الخاص وإنما منهج حياة متكامل وأنا قارئ ومطلع لكني ما كنت أتوقع أن القرآن هذا فقال له الشيخ هذا وأنت قرأته بلغة مترجمة ومهما حاولنا في الترجمات أن نوصل المعنى الذي في اللغة العربية لا يمكننا. فأقول نحن لا تشعر بقيمة هذا الإيمان. (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا (193)) هذه الآية فيها إشارة إلى أنه ينبغي علينا أن ندعو للإيمان بصوت عالٍ وأن ننشره في كل مكان وأن يكون هو رسالة المسلم التي تظهر من لسانه ومن حاله، لا ينادي المسلم لنفسه ولا لدولته وإنما ينادي للإيمان وانظر قوله تعالى (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) ذكر الإيمان مطلقاً والإيمان إذا أُطلق فيكون لمن يستحق أن يؤمن به وهو الله سبحانه وتعالى. قال تعالى (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) نقول لكل من دخل هذا الدين إياك أن يكون نداؤك لفلان أو للحزب الفلاني وإنما يكون تحزبك للإيمان وأهل الإيمان ونحن ما ذقنا من هذه التحزبات إلا الخلافات والصراعات التي ملأت العالم الإسلام مع الأسف علماً أننا نصلي لقبلة واحد ونحج في مكان واحد، فلماذا لا نهتدي بهذه الآية البينة الواضحة (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ)؟! أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ينادون للإيمان وأن يجعلنا ممن يؤمنون به سبحانه وتعالى إيماناً كاملاً نحن وإخواننا.[/FONT]
[FONT=&quot]سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.[/FONT]
[FONT=&quot]محاور الحلقة:[/FONT]
[FONT=&quot]لفظ المغفرة في القرآن الغالب يَرِِد على وجه التفضّل والمنّة[/FONT]
[FONT=&quot]المراد بالخزي[/FONT]
 
جزاك الله خيرا ، أختي الفاضلة

جزاك الله خيرا ، أختي الفاضلة

جهد مبارك ، أختي الكريمة سمر
كتب لك الأجر مع المشايخ، وزادك من فضله
وأبشرك: فإننا نقوم بتحميل ماتقومي بتفريغه من برنامج بينات ،وبدأنا من حلقات 1428 الذي كان شرح المشايخ الفضلاء بكل حلقة كان جزء من القر آن، وتوزع وتنشر بالبريد الالكتروني للأخوات
والآن ننتظر انتهاء من تفريغ سورة البقرة وآل عمران، ويكون بملف واحد لكل سورة إن أمكن،
رفع الله قدرك في الآخرة،
 
بارك الله فيك أختي الكريمة على كل ما تقومين به أيضاً.
ملف سورة آل عمران مجموع عندي تنقصه الحلقة رقع 4 وهي عندي لكن لم أفرغها بعد للأسف نظراً لبعض الظروف الخاصة. إذا شئت أرسله لك بعد أن ينتهي المشايخ من الحلقات الختامية للسورة.
 
تأملات في سورة آل عمران من الآية 195 إلى آخر السورة
هذا نص الحلقة الأخيرة من سورة آل عمران ويبدو أن الحلقة التي تحدث فيها علماؤنا الأفاضل عن الآيات 193 إلى الآية 195 لم تعرض فنرجو إعادة عرضها لاستكمال حلقات السورة إن شاء الله تعالى.
-----------------
[FONT=&quot]تأملات في سورة آل عمران من الآية 195 [/FONT][FONT=&quot] آخر السورة[/FONT]
[FONT=&quot]فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿١٩٥﴾[/FONT][FONT=&quot] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴿١٩٦﴾ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿١٩٧﴾ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿١٩٨﴾ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٩٩﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٢٠٠﴾[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]توقفنا في اللقاء الماضي عند قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) ولعلنا في هذا اللقاء نواصل الحديث عن هذه السورة العظيمة. وقد سبق أن تحدثنا عما في هذه السورة من أعمال القلوب ومن الفضائل ومن الفوائد البلاغية ونحن لم نتحدث عن سورة آل عمران لما فيها من الفوائد وما فيها من العِبَر وإنما نحن نحاول أن نحبب المشاهد الكريم في مراجعة هذه السورة والتفكر فيها وإلا هي تحتاج لسنوات طويلة لتدبر هذه السورة -كما فعل ابن عمر مع سورة البقرة- لأن التفكر بالقرآن الكريم والعمل به وتكراره يحتاج إلى وقت وهو عمر المؤمن الحقيقي. وعمر المؤمن الحقيقي هو الوقت الذي قضاه مع القرآن، والوقت الذي استثمر هو الوقت الذي قضاه المؤمن مع كتاب الله يتأمله وينظر في معانيه.[/FONT]
[FONT=&quot]بعد أن تحدثنا في اللقاءات الماضية عن دعاء المؤمنين (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾) وتحدثنا عن عبادة التفكر وعن أعمال القلوب والغفلة التي يعيشها المسلمون، ثم بعد هذا الدعاء كله قال الله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴿١٩٥﴾) ثم ذكر نماذج لهذه الأعمال (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)، هذه الآية أطال الله فيه التفصيل في الاستجابة لهذا الدعاء العظيم وقلنا سابقاً أن الله سبحانه وتعالى علّمنا في هذه السورة كيف ندعوه وأن على المؤمن أن يكثر من الدعاء بهذا الدعاء وأفضل دعاء دعاء القرآن وأفضل ما يدعو المؤمن به هو هذا الدعاء الذي علّمنا إياه الله سبحانه وتعالى في كتابه لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بخلقه. [/FONT]
[FONT=&quot]نقف وقفتين مع هذه الآية: أولاً سرعة استجابة الله لدعاء المؤمنين. كثيراً ما نسمع الناس تقول إننا ندعو ولا يُستجاب لنا في حين أن الله سبحانه وتعالى أشار في كتابه أنه سريع الاستجابة فقال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186) البقرة) بمجرد الدعاء فإنه يستجيب لك لكن ليس بالضرورة أن تكون الاستجابة هي تحقيق ما تدعوه به وإنما ذكر العلماء أن الداعي لا يخلو من حالات إما أن يستجيب الله دعاءه فينفذ له ما طلب وإما أن يصرف عنه من الشرّ بقدر ما دعا به من الخير وإما أن يُرجئها الله سبحانه وتعالى له إلى الآخرة وهي أعظمها ولذلك قال الشافعي رحمه الله لرجل يقول أنه يدعو الله ولكنه لا يستجيب:[/FONT]
[FONT=&quot]أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولم تعلم بما صنع الدعاء[/FONT]
[FONT=&quot]سهام الليل لا تُخطئ ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء[/FONT]
[FONT=&quot]النقطة الثانية في قوله سبحانه وتعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى وهو السيد وهو المالك وهو المتصرف أنه لن يضيع عمل عامل وأنك مهما عملت من عمل صَغُر أو كبُر فأنك سوف تجزى به ولذلك قال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الزلزلة) وذكر في مواضع كثيرة في كتابه دقة الميزان (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء) (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف) هذا فيه طمأنينة للمؤمن وهو يدعو الله سبحانه وتعالى وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى تكفّل أن لا يضيع عمل عامل منكم، وهذا فيه تطمين للعبد لأنه من أشد ما يؤثر على العامل أنه لا يطمئن إلى الجزاء، العامل الذي يعمل في أحد المؤسسات ولم يستلم راتبه كيف تكون حالته وكيف تكون نفسيته؟! يقول حقوقي مضيّعة؟! ولكن عندما يأتيه ضمان بأن حقوقه محفوظة، وهنا الضمان من الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) آل عمران). [/FONT]
[FONT=&quot]لعل هذا تكملة لقوله تعالى (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ (195)) هذا تأكيد وأن وعدي لكم بأن أجزيكم خير الجزاء وأنصركم على أعدائكم وأورثكم الجنة يوم القيامة أن ذلك لن يضيع عند الله سبحانه وتعالى وكل عمل قدمتموه لن يضيع عند الله سبحانه وتعالى (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) محمد) بمعنى لن يضيع أعمالكم. ولو تأملنا هذا التطمين الرباني لهم يجعلهم بالفعل يعملون حتى لو العمل الصغير والله سبحانه وتعالى لا يحقر العمل الصغير وقال صلى الله عليه وسلم (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً) أي شيء يعمله العبد فيه خير فإنه سيعود عليه بالنفع والخير ولذلك الذي قطع غضن شجرة كانت تؤذي الناس أدخله الله سبحانه وتعالى به الجنة وهو عمل يسير لا يؤبه له.[/FONT]
[FONT=&quot]في التفصيل لما قال تعالى (لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) وهذا واضح أنه للجميع لكنه قال (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) وبتقليب النظر في ذكر الذكر والأنثى أو المؤمن والمؤمنة قصداً في بعض الأمور قطعاً يكون لحكمة (ذكر وأنثى) (مؤمن ومؤمنة) (والمؤمنون والمؤمنات) تحتاج لوقفة وتأمل ولعل أحداً يصل فيها إلى الحكم في هذا الموضوع.[/FONT]
[FONT=&quot]لما سألت أم سلمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا نجد للنساء ذكراً (وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ (32) النساء) وقيل أنها نزلت فيها كل الآيات التي ذكرت النساء والرجال، قالت ما لي أرى الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فأنزل الله تلك الآية والآية في سورة الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (35) الأحزاب) فذكر هؤلاء جميعاً مع الرجال. وهذا يدل على أن التساؤلات مشروعة وهذه المرأة النبيهة سألت هذه التساؤلات المشروعة وجاء بعدها استجابة. ونرى فائدة في قوله تعالى (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) هذه شاملة ثم جاء (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) تنبيه على أن الجزاء سواسية ليس فيه تفاضل، أنتم سواء في الجزاء لا تؤثر الذكورية في زيادة أجر الذكر على المرأة ولا تؤثر أنوثة المرأة بنقص في الأجر ولهذا نقول أن هذا من الجوانب التي يجب أن ننتبه لها أن الرجل والمرأة يكونون في أمور على حد سواء وأحياناً يكون للرجل حال وللمرأة حال ولكن الغالب أن حال الرجل أفضل من حال المرأة هذا بتفضيل الله سبحانه وتعالى وليس تشفّياً وهذه القاعدة العامة والغالبة عند جميع الناس فالاستثناءات التي تحصل أحياناً في العالم، إمرأة تملك بلاد أو امرأة تملك وزارة أو امرأة مسؤولة عن رجال فهذه تعتبر شواذ لأن الأصل الغالب أن يكون الرجل هو المقدم. فلعل المقصود أنه لا يؤثر الجنس ذكر أو أنثى في قضية الجزاء عند الله سبحانه وتعالى.[/FONT]
[FONT=&quot]في حديث أم سلمة يقول القرطبي في تفسيره "وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أُم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالىٰ: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } الآية. وأخرجه الترمذي".[/FONT]
[FONT=&quot]من فوائد هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى خصّ العمل وذكر مثالاً ل‘مال الصالحة التي تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، فعممّ في الأول (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) فدخل فيه كل عمل صالح يعمله إنسان من ذكر أو أنثى فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيعه، لكنه ذكر مثالاً على هذه الأعمال الصالحة وكأنها من أعلى الأعمال الصالحة فقال (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) ذكر الهجرة، (وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) وليس سهلاً على الإنسان أن يخرج من دياره بطواعية، ولذلك نقول لإخواننا الذين شُرّدوا من ديارهم في كل مكان: هل تتوقعون أن أجركم كأجر غيركم؟ أنتم على أجر عظيم إن صبرتم واحتسبتم. ولذلك انظروا إلى إخواننا في فلسطين وأفغانستان والعراق وفي كل مكان كيف شُرِّدوا من ديارهم فلا يعرف الهمّ إلا من يكابده ولا المرارة إلا من يعانيها، فليس سهلاً أن تسمى لاجئاً لكن الله سبحانه وتعالى قد خصّك بأجر فقال (وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) ليس سهلاً أن يخرج الإنسان من دياره بطواعية، وقال (وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي) لذلك نحن نذكر الإخوة الذين أخرجوا من ديارهم أن يحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى أن لا يتسخطوا على قضاء الله وقدره فأن الله تعالى بقدر ما ابتلاهم بهذا البلاء في الدنيا فإنه قد أعد الله لهم من الأجر ما لم يعده لمن بقي آمناً في وطنه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر النِعَم قال: " من أصبح معافى في بدنه ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " والشاهد قوله " آمناً في سِربه". وهؤلاء الذين ذكرناهم في هذا الزمن زمن الذل والهوان على المسلمين قد كثروا بالفعل وواجب عليهم أن يحتسبوا هذا الأمر عند الله سبحانه وتعالى فإن الله سيجزيهم عليه جزاءاً عظيماً. ثم جاء بالقسم في (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) هذه اللام موطّئة للقسم، فالله سبحانه وتعالى يُقسم وكأنه يضمن لهؤلاء الذين قاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله يقسم الله عز وجل أن يكفّر عنهم سيئاتهم وجاء بالتكفير مقابل هذه الأعمال.[/FONT]
[FONT=&quot](لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) هذا باب التخلية و(وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وهذا باب التحلية، هذه القاعدة الغالبة كما يقول تعالى في كثير من الآيات (غفور رحيم)، غفور هذه تخلية ورحيم تحلية، فهنا قال (وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) وهذا الإدخال ليس لجنة واحدة وإنما جنات (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الرحمن) (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) الرحمن) لا يُعطى الإنسان في الآخرة جنة واحدة وإنما هي جنات يتنقل بين هذه الروضات والمنازل المتعددة والقصور الفارهة العظيمة والخيام التي من لؤلؤ، هي جنات لمن يصبر على هذا الأذى والإخراج والهجرة وينال هذا الأجر العظيم ولهذا قال في آخر السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فالمسألة تحتاج إلى صبر ومصابرة. وقد ذكر الصبر في أول السورة (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)) بدأ السورة بالصبر وختمها بالصبر ولذلك لم يُعطَ الإنسان عطاء أوسع من الصبر. ولذلك نلاحظ الآن نحن لا نعظّم خُلُق الصبر كما عظّمه الله عز وجل، نحن للأسف لم نتخلق بخلق الصبر وكل شيء عندنا في عجلة وقلة صبر، ابن القيم قال "إن الصبر هو سيد الأخلاق"، فالشجاعة صبر ساعة، الكرم صبر على بذل المال، الحلم على عدم الاستثارة، كل الأخلاق تجدها تحتاج إلى صبر. ولذلك لما ذكر تعالى في سورة البلد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿١٧﴾ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿١٨﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿١٩﴾ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ﴿٢٠﴾ البلد) تواصوا بالصبر لأن فك الرقبة وإطعام المسكين في يوم المسغبة هذه الأعمال العظيمة التي ذكرها تحتاج إلى صبر. ونحن للأسف لا نتدرب عليه ولا نُربى عليه بشكل يليق به، لا نربي أنفسنا ولا نربي أبناءنا ولا طلابنا ولا مجتمعاتنا على الصبر. وليس الصبر المذموم وإنما ضبط النفس وضبط الأخلاق والمفترض في إدارة المرور مثلاً أن يطرحوا دورات في الصبر، والغربيون نجحوا في هذا أكثر منا فتعودوا على الصبر والانتظار حتى في الصناعة والتعلم أما نحن بحكم المَدَنية المعاصرة التي تسهِّل على الناس أصبحنا نستبطئ الساعة فإذا أُعلن في مطار عن تأخير رحلة ترى الناس ينزعجون انزعاجاً هائلاً وما يدرون ما الحكمة من هذا التأخير. [/FONT]
[FONT=&quot]في قوله سبحانه وتعالى (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) والثواب مأخوذ من مادة تاب وتاب إذا رجع، غذا تأملنا تسمية هذا بالثواب كأنه لك ثم تبت إليه لكن لا تتوب إليه إلا بالأعمال الصالحة وقريب منها المآب ولذلك قال (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) النبأ) مآب يعني مرجع، والمرجع بالأعمال الصالحة. وقالوا هذا الذي أعطاك الله هو ثواب، توبته عليك فكأنك رجعت إلى حال مقدرة. وكأنه تذكير بالحالة التي كنا عليها، فآدم عليه السلام كان في الجنة ثم أُهبِط منها بسبب الذنب والآن رجعنا إلى المكان الذي خرجنا منه وكأننا تبنا وأبنا إلى المكان الذي كنا فيه. لكن نلاحظ أن المكان كان في الجنة فأهبط منها والآن ينبغي منا أن نصعد إليها والصعود ينبغي له جهد وشغل وليس كالهبوط فيمكن بسيئة واحدة تهبط لكن الصعود يحتاج لبذل جهد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾). كل واحد منا يتصور أنه يصعد في سلم إلى السماء إلى الجنة معناه كلما أصلي أو أصوم أو أزكي أصعد إلى السماء درجة وكلما كان العمل فيه مشقة وجهد كلما كان الصعود أعلى. ولذلك هؤلاء أخرجوا من ديارهم وهاجروا وأوذوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا كل هذه مصاعد.[/FONT]
[FONT=&quot]وكأن القائل يقول انظر إلى هؤلاء الكفار يتمتعون ويتنعمون ونحن في هجرة وإخراج فقال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) هذه الحقيقة نحتاج إلى التذكير بها وهي تقال كثيراً، كلما أراد أحدهم أن يمثل بالحضارة يقول انظروا إلى الغرب ماذا فعلوا وهذه مِنيّة صادقة وهذا حقّ لا نرده ولا نُنكره لكن لا نريد كثرة الطَرْق على هذا الجانب كأننا نحن متخلفين لأننا نحن أصحاب الحضارة والحضارة الحقيقية هي التي نبعت من الوحي ونحن أصحاب الحضارة الحقيقية وأصحاب الوحي والله سبحانه وتعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) هم لا شك يتقلبون في النعم وشوارعهم أفضل من شوارعنا وحضارتهم المادية قد بلغوا فيها شأواً والذي نتمتع نحن به الآن هو من حضارتهم لا شك عندنا بذلك لكن الواقع الذي نعيشه اليوم محزن بالنسبة للمسلمين.[/FONT]
[FONT=&quot]فائدة هنا الملاحظ أن الثواب هنا نُسب إلى الألوهية وليس إلى الربوبية وأن بداية الخبر كانت ربوبية (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لكن لما ذكرت بعض الأعمال المرتبطة بالعبودية جاء ذكر الألوهية لأن الألوهية من عند الله. والتوجيه أن مقام الألوهية مقام عبادة يعني ألِهَ أي عَبَد ولما ذكر جملة العبادات نسبها إلى الألوهية لأنها أنسب لها مع أن الثواب أحياناً قد يأتي من الرب لكن المقام الآن حسُن أن يذكر فيه لفظ الجلالة لارتباطه بالعبادات التي ذركت من قبل، هذا أمر والأمر الثاني أن الألوهية فيها عظمة وتمكن فكأنه أراد أن يبين أن هذا الثواب عنده وله ومُلكه فهو الذي يهب لمن يشاء ويمنعه من يشاء فهو أعطاهم الثواب من عنده تفضلاً فتستشعر هذا المعنى. وهناك معنى أن هذه الأعمال التي ذكر الله ثوابها أعمال فيها مشقة وكأنها ليس فيها معنى اللطف والربوبية، فيها قتل وفيها إخراج من الديار فعبر الله سبحانه وتعالى بالألوهية ليدل على أنه يستحق سبحانه وتعالى أن كل هذه التضحيات من أجل الله سبحانه وتعالى ولهذا قال بعدها (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). إن كان هناك ثواب فهو عنده، قُدّمت العندية على الثواب كما قالت امرأة فرعون (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (11) التحريم) الجار قبل الدار. [/FONT]
[FONT=&quot]قال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196)) لا شك أن كثيراً من المسلمين وقعوا في مخالفة صريحة لهذه الآية وهو اغترارهم بالكافرين حتى قالوا وجدنا في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، هذا غير صحيح مع أن هؤلاء يتقلبون في نعم عندهم حضارة ولا ننكر شيئاً من ذلك ونرى أنهم قد حازوا شيئاً ينبغي لنا نحن أن نحوزه ولكن علينا أن لا نغترّ به فما دام الإنسان قد فقد الإيمان وفقد الصلة بالله عز وجل فهو في الحقيقة فقد البوصلة في هذه الدنيا فلا يعلم أين يتجه؟ ولذلك انظر إليه يعيش الإنسان وهو يكدح في الدنيا ما عنده هدف آخر، ما الفائدة؟! ولأن أعيش في بيت شعر في صحراء قاحلة وأعرف من أنا ولماذا خُلِقت أحب إلي من أعيش في ناطحة سحاب وعندي ملذات الدنيا كلها ولا أدري لماذا خُلِقت .[/FONT]
[FONT=&quot]حدثني أحدهم في قوله سبحانه وتعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ (26) المائدة) فقلت بنو إسرائيل ما كان تيههم أربعين سنة وإنما هم تائهون إلى اليوم لأن التيه الحقيقي هو الضلال عن الهداية وليس التيه أنهم ضلوا الطريق إلى فلسطين. هذه الهداية التي أنعم الله بها عليهم ينبغي أن نستحضرها دائماً ونعلم كيف يمكن أن تتجاوز العقبات وكيف تغفر خطاياك هذا الهم الأكبر عند المؤمن وهو ينرظر إلى ما عند الله وإلى ثواب الله.[/FONT]
[FONT=&quot](لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) فيها إشارة إلى أن الكفار لديهم من بهرج الحياة ما قد يغرّ المؤمن، وهذا واضح لمن يتأمل في حياتهم وما عندهم من حضارة وتكنولوجيا ولديهم أشياء متقدمة وهذا قد يغرّ، وهم يقولون هذا الكلام ونحن لا نشكك في النيات، هو يقولونه من باب حثّ المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة وهذا لا شيء فيه، لكنه قال تعالى (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) لا يساوي أن يُغترّ به، بالرغم من كل هذا إلا أنه قال (مَتَاعٌ قَلِيلٌ). (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) معناه أن العبرة بالنهاية والمؤمن العاقل ينظر إلى النهاية لا تغرّه الحياة الدنيا، ينبغي أن ترضى أن تكون مشرداً بإيمانك ولا تكن عاقبتك إلا هذه العاقبة الحميدة ولا تستعجل كما يستعجل وبعضهم يرتد عن دينه والعياذ بالله. ولذلك يذكرون قصة جَبَلة ابن الأيهم عندما كان أميراً في النصارى من الغساسنة ثم أسلم في عهد عمر وكان يطوف حول الكعبة فوطئ أحد المسلمين على ردائه فأنف منه ولطمه فاشتكاه إلى عمر فقال لطمة بلطمة فكبرت في نفسه كيف يُلطم وهو أمير فاستمهل رسول عمر إلى اليوم الثاني فلما كان اليوم الثاني هرب وارتد ثم كبر وندم ندامة شديدة على ردّته وكتب قصيدة من ضمنها:[/FONT]
[FONT=&quot]تنصّرت الأملاك من أجل لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر[/FONT]
[FONT=&quot]لو كان صبرت وتحملت على أمل النجاة في الآخرة وعدم الاغترار بالدنيا والاستعجال بنعيمها.[/FONT]
[FONT=&quot](لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) هذا الذي ينبغي أن يسعى إليه الناس وينافسوا فيه، هذا هو السعي. وهنا يذكر بقضية التقوى التي ذكرت في هذه السورة كثيراً (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) النُزُل هو المكان الذي يُعَدُّ للضيف ولذلك في بعض البلاد يسمون الفنادق نُزل. (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) وفيه إشارة إلى الاحتفاء الشديد بالمؤمن والمتقي وأنه يجد في الآخرة من الحفاوة، وسبحان الله المؤمن في الدنيا يُبتلى ثم منذ أن يموت يبدأ النعيم، منذ وفاته وفي قبره وفي الحشر وفي الجنة، يقول تعالى (أعد الله لهم) (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران) (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) فيها إشارة إلى حفاوة ولذلك لو كنا فعلاً نعي هذه المعاني لعملنا لما بعد الموت ولذلك قيل" والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت".[/FONT]
[FONT=&quot]تكلم القرطبي عن الاستدراك في (لكن) (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) لأن هذا من غرائب الاستدراك، الاستدراك على ماذا؟ الاستدراك هنا حالي، لو تأملنا أنه كان يتكلم عن المؤمنين أولاً ثم ثنّى بالكلام عن الكفار، عندما قال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) لكن المتقين حالهم مختلف تماماً. قال القرطبي في تفسيره: "في قوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) استدارك بعد كلام تقدّم فيه معنى النفي؛ لأن معنى ما تقدّم ليس لهم في تقلُّبِهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخُلْد الدائِم". [/FONT]
[FONT=&quot](وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ) كأنه عود إلى ما حدث في أول السورة دعوة أهل الكتاب وأهل الإيمان فتختم السورة بما بدأت به. قال في أول السورة (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ (4)) بدأت بذكر الكتب السابقة ثم عُرّج على حال أهل الكتاب ثم ذكر (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ) منهم مؤمنون صادقون خاشعون لله يخشون الله (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ (83) المائدة) يستجيبون الله يثني عليهم وكأنها تعريض وإلماحة إلى الذين نكثوا واستكبروا واستنكفوا أن يؤمنوا :إتقوا الله في أنفسكم" وهذا أيضاً إنصاف لهؤلاء الذين استجابوا وقد سبق الحديث عنها في السورة (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) آل عمران). وأيضاً فيها فائدة (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) ذكر في الآية الأبرار الذين سبقت صفاتهم في هذه السورة. [/FONT]
[FONT=&quot]قال (خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) وصفهم أنهم خاشعين وأنهم لا يشترون، خاشعين الخشوع يدل على صدق القلب وخوف من الرب ولا يشترون أن هذا الخشوع حملهم على أن لا يبيعوا شيئاً أو يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً كما فعل أهل الكتاب الذين منعهم من الإيمان أنهم ىثروا حظوظهم الدنيوية لأنهم كانت تأتيهم أموال بسبب كونهم قسيسين ورهبان وباباوات، (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً). ثم ذكر أن هؤلاءلهم الأجر (أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وهذه الآية فيها فائدة وهي الثناء على أهل الفضل لما فيهم من الفضل من باب تشجيعهم وتثبيتهم. وعندما يأتي مثل هذا الإنصاف في الشريعة، حتى الذي أسلم والذي يريد أن يُسلم ولكنه متردد فيقال له (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قيهم أناس صالحون، أناس صادقون، هذا يساعده فيقول لماذا لا أكون من هذا النوع؟ [/FONT]
[FONT=&quot]أيضاً قال (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) هل يُفهم من هذه الآية أن الذي يشتري بآيات الله ثمناً ضخماً يخرج منها؟ هذه للدلالة على ذكر الأعلى أو لذكر الواقع الذي وقع من هؤلاء أنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. ولو افترضنا أن الدنيا كلها كانت ثمناً للكفر بالله فهذا لا يكفي ولا تساوي الدنيا كلها وهذا كله ثمن قليل ولذلك قال قبلها (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) التقلب في البلاد والتمكن منها وملك الدول والحكم كله متاع قليل. [/FONT]
[FONT=&quot](أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) الملاحظ المخالفة بين الربوبية والألوهية في هذه الصفحة كثيرة، محاولة استخراج الفروق الدقيقة بينها تحتاج إلى تأمل. قال (أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) رد الأجر إلى الربوبية، وقال أجرهم كأن فيه إثبات أن هذا استحقاق لهم. وقال (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ) إشارة إلى فضله عليهم. ثم قال (إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ما قال إن ربك سريع الحساب كما ذكرنا في قضية التعظيم في جانب الألوهية. ثم جاءت بالألوهية لما ذكر (خَاشِعِينَ لِلّهِ) لما كانت عبادة ذكر خاشعين لله. وقال (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ) والإيمان مرتبط بالعبودية.[/FONT]
[FONT=&quot]في قوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا ختام السورة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) النداء بوصف الإيمان وقد تكرر كثيراً في سورة البقرة وآل عمران النداء بوصف الإيمان ومعروف ما قيل فيه قديماً وحديثاً ونلاحظ في قوله (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وهذا النداء منه النداءات الموجودة في القرآن الكريم فيه فائدة عدم الخجل من الدعوة إلى الله ونشره فهذا هو منهج الله الذي نزل به شرعه ونزلت به كتبه. نلاحظ لما جاءت هذه الأوامر قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) وهناك فرق بين الصبر والمصابرة فالصبر هو حبس النفس على طاعة الله عز وجل وعن معصية الله وعلى أقدار الله المؤلمة. المصابرة هي أن يكون أمامك خصم يصبر على ما هو فيه من المعصية فأنت تصابره وهذا يكون في القتال لما يلتقي المؤمنون والكفار، هؤلاء صابرون وهؤلاء صابرون كل واحد منهم يصبر على باطله أو على حقه لكن ينبغي للمؤمن أن يصابر، يغالب هؤلاء فيصبر أكثر من صبرهم. يقول النابغة: [/FONT]
[FONT=&quot]سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا[/FONT]
[FONT=&quot]إصبر فعل أمر وصابر فعل أمر أيضاً ولكن هذا من المفاعلة التي تدل على أن هناك من يقابلك.[/FONT]
[FONT=&quot]ثم قال (وَرَابِطُواْ) الاستقامة يمكن للإنسان أن يصبر ويمكن أن يصابر في مواقف لكن أن يرابط عليه ويدوم حتى يلقى الله ويتوفاه مع الأبرار هذا موطن الخلاف بين الناس ولذلك (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا (30) فصلت) ثبتوا على طاعة الله، وهذه الآية أصل في المرابطة على طاعة الله وفي سبيل الله والمرابطة ليست مقصودة فقط في الجهاد وإنما هي عامة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ " قالوا : بلى . يا رسول الله ! قال " إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط" . وليس في حديث شعبة ذكر الرباط . وفي حديث مالك ثنتين " فذلكم الرباط . فذلكم الرباط. الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 251، خلاصة حكم المحدث: صحيح " هذا رباطٌ صالح لكل أحد. [/FONT]
[FONT=&quot](واتقوا الله) قد يصبر الإنسان ويصابر ويرابط لكن لا يتقي بمعنى أن الإنسان قد يختل المنهج أو الميزان أو المحرك لهذه الأمور فقد يرابط لأنها حميّة لوطنه أو لأهله، لا، إتقِ الله، إجعلها لله، واجعل الحامل لها هو الله ولذلك قال في الآية التي قبلها (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120) آل عمران) وقال (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران) الصبر لا ينفع إذا كان مجرداً من التقوى ولا يجزى عليه الإنسان فلا بد من صبرٍ يكون الحامل عليه هو التقوى فقد يقع صبر بلا تقوى. وكأن هذه الآية لخصت السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) تذكير بالأوامر التي ذكرت كلها الصبر على الجهاد والصبر على الخروج من الوطن والصبر على الأذى وعلى ما يلقونه من المشركين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) فيها إشارة إلى ما تجده من العناء والمعاندة (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ (104) النساء). و(وَرَابِطُواْ) فيها معنى الملازمة والرباط والطاعة في الجهاد. [/FONT]
[FONT=&quot](وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولذلك كما بدأت سورة البقرة بالفلاح ولذلك نربط بين الزهراويين ونحن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربط بينهما، قال السيوطي: ما وجدت سورتين متتاليتين إلا وجدت مناسبة بين آول الأولى وآخر الثانية وذكر مثالاً لذلك البقرة وآل عمران وذكر عدداً من السور، خاصة التي يقرن بينها النبي صلى الله عليه وسلم.[/FONT]
[FONT=&quot]في قوله (وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفلاح مأخوذ من فلح الأرض لأن الفلاح يشق الأرض لكي يستنبتها ويخرج منها الزرع كأن فيها إشارة إلى هذا المعنى أن ما تقدموه فإنه يكون في النهاية رادّاً لك كما يفعل الفلاح فيرتد إليه خيرها.[/FONT]
[FONT=&quot]أفضل ما كُتب عن سورة آل عمران في كتب التفسير:[/FONT]
[FONT=&quot]كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب من الكتب المميزة التي تكلمت عن هذه السورة وفيما يتعلق بمعركة أُحد بالذات والحديث عنها.[/FONT]
[FONT=&quot]مراجعة كلام إبن القيم رحمه الله في زاد المعاد عندما تحدث عن الحِكَم المستنبطة من غزوة أُحد فهو ذكر حكماً عجيبة استنبطها من الآيات وغالب ما استنبطه من الآيات وأفرد لذلك فصلاً في أربعين أو ستين صفحة موجود في زاد المعاد.[/FONT]
[FONT=&quot]وحضرت لشيخنا العلامة ابن عثيمين تفسير هذه السورة ليس كلها ولكن جزء منها وقد طبع في مجلدين فمن أراد أن يقرأ ما في هذه السورة من حكم وفوائد واستنباطات فعليه أن يقرأ ما ذكره الشيخ رحمه الله في تفسير ذلك.[/FONT]
[FONT=&quot]وما كتبه ابن كثير في هذه السورة كلام رائع جداً جدير بالقرآءة.[/FONT]
[FONT=&quot]ومنهم من أفرد هذه السورة بالحديث أذكر منهم الدكتور مصطفى الشكعة له كتاب تفسير سورة آل عمران[/FONT]
[FONT=&quot]وكتب كثير من المعاصرين في تفسير السور [/FONT]
[FONT=&quot]والتفسير الموضوعي للسور وقد أُشبعت دراسة وكتب عنها الأستاذ عبد الحميد طهماز ضمن سلسلته في التفسير الموضوعي.[/FONT]
[FONT=&quot]سورة البقرة وآل عمران مع طولهما إلا أنهما يتميزان بكثرة المعاني وبسهولة الحفظ، فيهما سهولة بالغة ونوصي بحفظها.[/FONT]
[FONT=&quot]بمناسبة انتهائنا من هذه السورة نكرر أن بعض السور نبّه النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها أو نبّه عليها بفعله صلى الله عليه وسلم فتكون من باب الأحوال التي كان صلى الله عليه وسلم يقوم ببعض السور أو بعض الآيات فمن الحسن أن يتعلم المسلمون معاني هاتين السورتين لأن بهما فضل كبير جدا جداً وكثير من المعاني.[/FONT]
[FONT=&quot]محاور الحلقة:[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]ذِكْر الذكر والأنثى أو المؤمن والمؤمنة قصداً لحكمة[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]سبب نزول قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى (195))[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]عظيم أجر من أُخرِج قهراً من وطنه[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]قاعدة التخلية قبل التحلية[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]مدار الأخلاق على الصبر[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]مناسبة نسبة الثواب للألوهية[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]التيه والضياع الحقيقي هو الصلال عن الهداية[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]قوله تعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ)[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]سبب ارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]الاستدراك حاليّ في قوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]الفرق بين الصبر والمصابرة[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أصلٌ في المصابرة[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]المناسبة بين أول السورة مع آخر السورة المقارنة لها[/FONT]
-[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]أفضل ما كُتِب عن سورة آل عمران[/FONT]
[FONT=&quot]انتهت بحمد الله تأملات سورة آل عمران.[/FONT]
 
بارك الله فيك أختي الفاضلة
جزاك الله الفردوس الأعلى
 
بارك الله في أختي الكريمة سمر على هذه الجهود في المتابعة والتلخيص والترتيب، وقد استفدت من كتابتها ولا زلتُ أستفيدُ فجزاها الله خيراً وتقبل منها .
 
جزاكم الله خيراً على تعقيباتكم الطيبة وهذا فضل من الله تعالى علينا أن يسر لنا هذا العلم عبر هذا البرنامج القيم الذي أدعو الله سبحانه وتعالى أن يستمر في تقديم هذه التأملات القرآنية النافعة والقيمة لا حرمنا الله من جهودكم في خدمة القرآن وعلمكم.
 
[FONT=&quot](وَرَابِطُواْ)[/FONT]
ورد عليّ إشكال في الجمع بين : ما ذكره بعض المفسرين من أنّ صيغة المفاعلة إنما تكون في الاشتراك الفعلي من الطرفين . فالآية عندهم لا تعني إلا رباط العدو .
وبين ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أنّ انتظار الصلاة بعد الصلاة رباط .

فكيف يُجمع بينما ؟
فلعل الجواب أنّ صيغة (فاعَل) قد تصدر من طرف واحد مثل : بارَك - هاجَر - جازى . وتعني الازدياد في الفعل اتجاه الطرف الآخر .

فكذلك ناسَب أن يكون انتظارُ الصلاة بعد الصلاة رباطاً ؛ إذ أنه وقت طويل يربط فيها الإنسان نفسه - كما لو أُخِّرَت العشاء مثلاً كما هو المسنون -.
 
أسأل الله أن لايحرمك الأجر ما شاء الله هذا البرنامج غيّر أشياء كثيرة في نفسي...جزى الله من قام بالتفريغ خير الجزاء وأسأل الله أن يوفقه في الدنيا والآخرة..
 
((فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا))
يشبه أن يكون قوله سبحانه : ((فرجالاً)) أي : ماشيين .
كما فعل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه
فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة ; فصليت وأنا أومئ برأسي الركوع والسجود . فلما انتهيت إليه قال : ....
الكتب - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - كتاب المغازي والسير - باب قتل خالد بن سفيان الهذلي - باب قتل خالد بن سفيان الهذلي- الجزء رقم2
 
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} (الأنفال)
لعل كونهم مردفين ؛ لأنهم ليسوا من سماء واحدة ، بل أكثر من سماء .
 
صيغة (فاعَل) قد تصدر وتعني الازدياد في الفعل اتجاه الطرف الآخر .
ولعل من هذا الباب قول الله تعالى : ((وهو ألدُّ الخصام)) .
إذ المعروف أنّ جمع خصم : خصوم ، وفي الآية جيء بجمع خصام على وزن فعال .
 
عودة
أعلى