حكم دعاء: اللهم بارك لنا في الموت وفيما بعد الموت؟

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24 ديسمبر 2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
حكم دعاء (اللهم بارك لنا في الموت، وفيما بعد الموت)

كنتُ أصلي مَأمُوماً خلف تلميذي الْماليزي، وبعد الصلاة أخذ الإمام يدعو كعادة الماليزيين ويُؤَمِّنُ بعده الْمَأمُومُون [آمين]، وأثناء الدعاء دعا الإمام: (اللهم بارك لنا في الموت، وفيما بعد الموت) وأخذ يكرره مرات.

فتوقفتُ، ولم يَطْمَئِن قلبي للدعاء، وَوَجَدْتُ بعضَ طلابي خَلْفَه قد انتبهوا لدعائه، وأخذ بعضهم ينظر إلى بعض في عَجَبٍ، وقد تَوَقَّفُوا عن التأمين خلفه.

ولم أكُ قد سمعتُ بهذا الدعاء مِن قبل، ولم أقرأه، وبعد انتهاء الإمام تَقَدَّمْتُ، وسلمتُ وأخذتُ الْمَايك فتكلمتُ عن فضل الدعاء وأفضله، وبعض آدابه وأهمية أن يفهموا الأدعية التي يحفظونها كي يعلموا ماذا يطلبون من ربهم، وحتى يمكنهم الخشوع أثناء الدعاء لأن الفهم سيكون سببا في خشوعهم.

ثم علقتُ على هذا الدعاء قائلا: (اللهم بارك لنا في الموت وفيما بعد الموت) هذا الدعاء لا يطمئن إليه قلبي، وقد رأيت بعضكم قد تَوَجَّسَ منه، وتَوَقَّفَ عن التأمين خلف الإمام، وقلتُ: إن هذا الدعاء بتلك الصيغة لم أسمع به من قبل ولم أقرأه، ولعله يَصِحُّ لكنَّ الأَوْلَى أنْ ندعو بالأدعية الواردة في السُّنَّة، والأدعية الواضحة المعنى التي لا لَبْسَ في معناها، مثل: اللهم شهادة صادقة في سبيلك، اللهم خفف عنا سكرات الموت، اللهم ارزقنا توبة قبل الموت، ورحمة بعد الموت، وشهادة عند الموت، وهكذا من الأدعية الواضحة، ثم قلت لهم: لنا لقاء آخر قريب حول هذا الدعاء مرة أخرى إن شاء الله.

وعزمتُ على البحث والنظر.

والتقيتُ بعض أصدقائي الماليزيين وهو أستاذ وداعية أزهري سائلا إياه: ما تقول في دعاء: (اللهم بارك لنا في الموت وفيما بعد الموت)؟
فَوَجِمَ وتَعَجَّبَ قائلا: هذا دعاء لا أظن أنه يَصِح بتلك الصيغة، ولا أرتاح إليه.

ثم سَمِعَتْ إحدى زميلاتي الْماليزيات الْفَضْلَيَات وهي أزهرية، ونحسَبُها على علم، سَمِعَتْ بما كان من هذا الدعاء في المصلى، وتعليقي عليه، فقابلتني بَاشَّةً سَائِلَة: ما المشكلة في هذا الدعاء؟! نحن ندعو به، والدعاء على حسب النية.

قلت أختي الكريمة: كما تعلمين إن العبادة لها شرطان أساسيان لكي تصح، الأول: إخلاص النية لله، والثاني: صحة العمل بمتابعة الهدي النبوي، والدعاء على تلك الصيغة لم يطمئن له قلبي، وهذا لا يعني أنه باطل، ولكن الأوْلَى عندي أن نترك ما فيه لَبْسٌ وغُمُوض إلى الواضح اليسير.

قالت: المقصود بالبركة في الموت الرحمة فيه، والشهادة، وتخفيف السكرات.

قلت: لا بأس بسلامة النية أستاذة، إن الموت كما تعلمين فيه أشياء وأحوال قد يكون بعضها حَسَناً ورحمة، وقد يكون بعضها الآخر سوءا وعذابا، والأولى عندي والذي يطمئن إليه قلبي في ذلك أن أسأل الله البركة فيما هو حسن خالص ورحمة، وهناك شيء آخر أستاذة في دعاء: (وبارك لنا فيما بعد الموت)، إن ما بعد الموت إما رحمة وجنة ونعيم، وإما عذاب ونار وجحيم، فهل علمتِ أنك من أهل الجنة حتى تسألي الله البركة فيما بعد الموت؟!

فقالت: أنا أقصد بالبركة هنا الرحمة والجنة، فإن كان العذاب والنار فإني أقصد أن يرحمنا الله ويعفينا منها.

قلت: لا بأس أستاذة، نعم، لعل تلك النية تجعل هذا الدعاء صحيحا مقبولا، لكن مازال قلبي لا يطمئن إليه، والأفضل عندي أن أدعو فأقول: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل)، أو أدعو فأقول: ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ))، هذا أَحَبُّ إليَّ من دعاء: (اللهم بارك لي في الموت وبارك لي فيما بعد الموت).

وأَمْهِلِيني أستاذة حتى أبحث.

وقد بحثتُ طويلا، ثم ألقيتُ في برنامج البحث في الموسوعة الشاملة [وفيما بعد الموت] فوجدتُ مايلي:
  • حديث محكوم عليه بالضعف الشديد ورد فيه: "مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْمَوْتِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ".
  • سمع بعضهم سفيان الثوري يدعو: (اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، رَبِّ بَارِكْ لِي فِي الْمَوْتِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ).
  • وفي إحياء الغزالي رحمه الله، ذكره على لسان بعض الصوفية دون أن يُسَمِّيَ قائله، قال: "وقال بعض الصالحين بينما أنا أسير في مَسِيرٍ لى إذ مِلْتُ إلى شجرة لأستريح تحتها، فإذا أنا بشيخ قد أَشْرَفَ عليَّ فقال لى: يا هذا قُمْ فإن الموت لم يمت، ثم هام على وجهه، فاتبعته، فسمعته وهو يقول: كل نفس ذائقة الموت، اللهم بارك لى في الموت. فقلت: وفيما بعد الموت. فقال: مَنْ أَيْقَنَ بما بعد الموت شَمَّرَ مِئْزَرَ الحذر، ولم يكن له في الدنيا مُسْتَقَر".
  • ووجدتُ أثرا على لسان جُحَا في نَوادِرِه، جاء فيه: "ومَرَّت به -جحا- جنازة، فقال: بارك اللهُ لنا في الموت وفيما بعدَ الموتِ. فقيل: إنها جنازةُ نَصْراني. فقال: إذنْ لا بارك اللهُ لنا في الموتِ، ولا فيما بعد الموت".
وأقول: أما الحديث، فلم يَثْبُت عن النبي r ، ولم يَصِحّ عنه، ولو صَحَّ عنه لَسَلَّمْنا له واسْتَسْلَمْنَا، وأما قول سفيان الثوري رحمه الله فإن صَحَّتْ نِسْبَتُه إليه، فلعله دعا به قاصدا بركة ما في الموت من الرحمة والشهادة، وما بعد الموت من الجنة ونعيمها، ولا يَلْزَمُنا أنْ نَرَى ما رأى سفيان رحمه الله، خاصة أننا لم نجد هذا الدعاء على لسان أحد من العلماء قبله أو بعده.

وأخيرا: لعل الدعاء بـ: (اللهم بارك لنا في الموت وفيما بعد الموت) جائز بما يُقْصَدُ في الموت مِن خير، وبما يُرْجَى بعد الموت من الرحمة والجنة، لكن قلبي مازال لا يطمئن له، ولا يركن إليه، ولا يطيب به، وهذا لا يعني أني أرفضه بل أتركه لِمَا هو خير منه، مما يخلو مِنَ اللَّبْس، مِن الدعاء الواضح القريب الْمَعْنَى، الذي يسكن إليه القلب، ويطمئن له، ويطيب به.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
 
عودة
أعلى