حكـم تـقبـيل المصـحف*
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن تقبيل المصحف مستحب.
(1)
قال الزركشي: "ويستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية لعباده فيشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير..."
(2)
وأدلتهم كما ذكرها الزركشي وغيره، ما يلي:
1- ما رُوي عن عكرمة بن أبي جهل
t أنه كان يضع المصحف على وجهه ويقول: "كتاب ربي، كتاب ربي"
(3).
ونوقش: بأنه ضعيف، وليس فيه ذكر للتقبيل.
2- القياس على استحباب تقبيل الحجر الأسود
([4]).
ونوقش: بأن تقبيل المصحف عبادة، والعبادات توقيفية لا يدخل فيها القياس.
([5])
3- ولأنه هدية من الله لعباده فيشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير.
ونوقش: بأن هذه دعوى لا دليل عليها فلا تقبل
([6])
القول الثاني: أن تقبيل المصحف مباح.
([7])
واستدلوا على ذلك بالأثر السابق عن عكرمة بن أبي جهل
t، فظاهر الأثر: أن عكرمة
tكان يضع المصحف على وجهه، ويقبِّله، مما يدل على إباحته.
ونوقش: بأنه غير ظاهر الدلالة، فكل ما فيه أنه كان يضع المصحف على وجهه، وهذا لا يلزم منه تقبيله له.
([8])
وقد سئل الشيخ ابن باز عن ذلك، فأجاب: "لا نعلم دليلا على شرعية تقبيله، ولكن لو قبله الإنسان فلا بأس؛ لأنه يروى عن عكرمة بن أبي جهل الصحابي الجليل -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يقبل المصحف ويقول هذا كلام ربي ، وبكل حال التقبيل لا حرج فيه ولكن ليس بمشروع وليس هناك دليل على شرعيته ، ولكن لو قبله الإنسان تعظيما واحتراما عند سقوطه من يده أو من مكان مرتفع فلا حرج في ذلك ولا بأس إن شاء الله"
([9]) .
القول الثالث: أن تقبيل المصحف بدعة مكروهة.
وتقدم في المسألة السابقة قول ابن الحاج: "
فتعظيم المصحف قراءته والعمل بما فيه، لا تقبيله ... ".
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- أنه لم يرد عن النبي
r ولا عن صحابته
y ، إلا ما روي عن عكرمة بن أبي جهل
t، وهو ضعيف، وليس في التصريح بأنه كان يقبله
([10]).
2- ما ورد عن عمر بن الخطاب
t حينما قبل الحجر الأسود أنه قال:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع , فلولا أني رأيت رسول الله
r يُقبلك ما قبلتُك
([11])، حيث لم يقدم
t على تقبيل الحجر مع فضله وشرفه وكونه من شعائر الله إلا بسنة ثابتة
([12])
القول الرابع: التوقف في تقبيل المصحف.
([13])
واستدلوا على ذلك بأن تقبيل المصحف وإن كان فيه رفعة وإكرام له إلا أنه لم يدل دليل على مشروعيته، وما طريقه القُرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله -وإن كان فيه تعظيم – إلا بدليل
([14]).
وتقدم قول ابن تيمية في المسألة السابقة: " القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئاً مأثوراً عن السلف
... "
قال ابن مفلح : " ويجوز تقبيل المصحف ، قدمه في الرعاية وغيرها ، وعنه – أي عن الإمام أحمد - يستحب؛لأن عكرمة بن أبي جهل كان يفعل ذلك ، رواه جماعة منهم الدارمي وأبو بكر بن عبد العزيز ، وعنه التوقف فيه، وفي جعله على عينيه، قال القاضي في الجامع الكبير : إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعة وإكرام ، لأن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ، ألا ترى أن عمر لما رأى الحجر قال : لا تضر ولا تنفع ، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك ، وكذلك معاوية لما طاف فقبل الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس ، فقال : ليس في البيت شيءٌ مهجور ، فقال : إنما هي السنة
([15])، فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم."
([16]).
والراجح – والله أعلم – القول الثاني ، وهو أن تقبيل المصحف مباح؛ لعدم وجود دليل صحيح صريح في الندب إليه أو المنع منه، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، والقول بأنه بدعة غير وجيه في رأيي؛ لأن هذا العمل نوعُ تقدير واحترام للمصحف وهو مأمور به في الجملة، ما لم يقيد بوقت أو هيئة معينة أو يرتب عليه أجر معين، ولا يقاس على الأحجار والآثار الأخرى وإن كانت كريمةً كالحجر الأسود؛ لأنه يجب للمصحف من الاحترام والتعظيم ما لا يجب لها.
* انظر كتابي (جمال القراء) ص 197.
([1]) وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر الآداب الشرعية 2/173.
([2]) البرهان 1/561، وانظر الإتقان 2/ 446، المقدمات الأساسية في علوم القرآن لعبد الله الجديع ص 565.
([3]) أخرجه الدارمي 2/532 ح 3350 ، والحاكم 3/243، والبيهقي في شعب الإيمان 3/512، وقال النووي في التبيان ص 174: "بإسناد صحيح". وضعفه بعضهم لانقطاعه، قال ابن حجر: "فيه انقطاع شديد فإن عكرمة لما قتل ما كان ابن أبي مليكة ولد" اتحاف المهرة 1/283.
([4]) انظر البرهان (1/478)، والإتقان (2/220).
([5]) انظر البرهان 1/561، و الإتقان ص2/ 446،و الآداب الشرعية 2/173
([6]) الأحكام الخاصة بالقرآن ص 559.
([7]) وهو رواية عن الإمام أحمد انظر الآداب الشرعية 2/173،
([8]) الأحكام الخاصة بالقرآن ص 58.
([9]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 9/289.
([10]) الأحكام الخاصة بالقرآن ص 557
([11]) أخرجه البخاري 3/583 ح 1597 ومسلم 2/925 ح 1270
([12]) انظر كلام ابن الحاج في المسألة السابقة،و انظر الآداب الشرعية 2/173 ، و كيف يجب علينا أن نفسر القرآن للألباني ص 28.
([13]) وهو رواية عن الإمام أحمد انظر الآداب الشرعية 2/173،
([14]) انظر البرهان 1/561، و الإتقان 2/ 446،و الآداب الشرعية 2/173.
([15]) أثر معاوية أخرجه البخاري3/597 ح 1608.
([16]) الآداب الشرعية 2/173.