أخي أبو فهر أعذرني لتأخري في الرد , وكي لا ندخل في دوامة لا يستفيد منها أحد أرغب أن أستفيد معك بترتيب الموضوع .
أتفق معك أن من يخالف القطعي يجزم بخطئه , وأن الحكم عليه تابع لحاله .
واختلافي معك في مخالف الظني هل يجزم بخطئه أم لا فأنت تجزم بعدم الجزم بتخطئته بقولك :
وفي الظنيات تجوز ويُمنع الجزم بها جزماً قطعياً..وهذا معنى كونها ظنية..
ومنه وفيها قولهم : ((مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب)).
ويحرم معاملة المجتهد المخطيء المعذور في القطعيات أو الظنيات = نفس معاملة من فاته الحق من غير اجتهاد بل بجنس من أجناس المعصية...
أختلفت معك فيها بأمرين : الأول هل يجزم بذلك ؟
الثاني :حكم المخالف ؟فأنت أعطيته العذر وكل من أعطاه العذر يرفع عنه الحرج ,ولكن هنا لا يعطى كل مخالف العذر .
أما الأول :فإنه يجزم بخطأ من ترك خبر الآحاد الصحيح لهوى أو رأي , والجزم هنا متعلق بأن خبر الآحاد أصله تساوي القول بصدقه وكذبه فلا يغلب شيء من ذلك على الآخر , فإن علم وضع الحديث أو علم كذبه أصبح القطع بخلافه مثل أي حديث موضوع مخالف لآية أو حديث صحيح ,وإن علم صدق ناقليه وخلوه مما يرده من علل ,كان العقل يقول بصحته ويقبله . ففي ذلك يرد خلاف الحديث من أقوال للرجال .
ولذلك قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى :"باب ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها ، والقطع عليها ، والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول للرسول صلى الله عليه وسلم ، كان أبعد من العلم بمضمونه ، فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قررها ، وأخبر عن الله تعالى بها ، فإن خبر الواحد فيها مقبول ،
والعمل به واجب ، ويكون ما ورد فيه شرعا لسائر المكلفين أن يعمل به ، وذلك نحو ما ورد في الحدود والكفارات وهلال رمضان وشوال وأحكام الطلاق والعتاق والحج والزكوات والمواريث والبياعات والطهارة والصلوات وتحريم المحظورات ، ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم ، والسنة المعلومة ، والفعل الجاري مجرى السنة ، وكل دليل مقطوع به ، وإنما يقبل به فيما لا يقطع به ، مما يجوز ورود التعبد به كالأحكام التي تقدم ذكرنا لها ، وما أشبهها مما لم نذكره" الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي - (ج 3 / ص 479)
ولذلك كان قول أهل العلم بإتباع الخبر الصحيح*
قال ابو حنيفة : ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي ) . ( الفلاني في الإيقاظ ص 50 )
وقال مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 32 )
الشافعي رحمه الله :
( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) . ( الفلاني ص 68 )
( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في الحلية 9 / 107 )
أحمد بن حنبل ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 149 )
( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) . ( ابن الجوزي في المناقب ( ص 182 )
*ملحوظة جميعها مع عزوها منقولة من كتاب صفة الصلاة للألباني - (ج 1 / ص 47-53)
وقال الخطيب في الكفاية عن ذلك:"فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه ، وأوجب وقوع العلم ضرورة . وأما خبر الآحاد فهو ما قصر عن صفة التواتر ، ولم يقع به العلم وإن روته الجماعة . والأخبار كلها على ثلاثة أضرب ؛ فضرب منها يعلم صحته ، وضرب منها يعلم فساده ، وضرب منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر . أما الضرب الأول ، وهو ما يعلم صحته ، فالطريق إلى معرفته إن لم يتواتر حتى يقع العلم الضروري به أن يكون مما تدل العقول على موجبه ، كالإخبار عن حدوث الأجسام ، وإثبات الصانع ، وصحة الأعلام التي أظهرها الله عز وجل على أيدي الرسل ، ونظائر ذلك ، مما أدلة العقول تقتضي صحته ، وقد يستدل أيضا على صحته بأن يكون خبرا عن أمر اقتضاه نص القرآن أو السنة المتواترة ، أو اجتمعت الأمة على تصديقه ، أو تلقته الكافة بالقبول ، وعملت بموجبه لأجله . وأما الضرب الثاني ، وهو ما يعلم فساده فالطريق إلى معرفته أن يكون مما تدفع العقول صحته بموضوعها ، والأدلة المنصوصة فيها نحو الإخبار عن قدم الأجسام ونفي الصانع ، وما أشبه ذلك ، أو يكون مما يدفعه نص القرآن ، أو السنة المتواترة ، أو أجمعت الأمة على رده ، أو يكون خبرا عن أمر من أمور الدين يلزم المكلفين علمه وقطع العذر فيه ، فإذا ورد ورودا لا يوجب العلم من حيث الضرورة أو الدليل علم بطلانه ، لأن الله تعالى لا يلزم المكلفين علما بأمر لا يعلم إلا بخبر ينقطع ويبلغ في الضعف إلى حد لا يعلم صحته اضطرارا ولا استدلالا ، ولو علم الله تعالى أن بعض الأخبار الواردة بالعبادات التي يجب علمها يبلغ إلى هذا الحد لأسقط فرض العلم به عند انقطاع الخبر وبلوغه في الوهي والضعف إلى حال لا يمكن العلم بصحته . أو يكون خبرا عن أمر جسيم ونبأ عظيم ، مثل خروج أهل إقليم بأسرهم على الإمام أو حصر العدو لأهل الموسم عن البيت الحرام فلا ينقل نقل مثله بل يرد ورودا خاصا لا يوجب العلم ، فيدل ذلك على فساده ، لأن العادة جارية بتظاهر الأخبار عما هذه سبيله . وأما الضرب الثالث الذي لا يعلم صحته من فساده فإنه يجب الوقف عن القطع بكونه صدقا أو كذبا ، وهذا الضرب لا يدخل إلا فيما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون ، مثل الأخبار التي ينقلها أصحاب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع المختلف فيها ، وإنما وجب الوقف فيما هذه حاله من الأخبار لعدم الطريق إلى العلم بكونها صدقا أو كذبا ، فلم يكن القضاء بأحد الأمرين فيها أولى من الآخر إلا أنه
يجب العمل بما تضمنت من الأحكام إذا وجد فيها الشرائط التي نذكرها بعد إن شاء الله تعالى"الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي - (ج 1 / ص 31)
والوجوب مقروون بصحة الخبر كما في الكتاب والنقل الأول من آخر كتابه .قال ابن تيمية رحمه الله :
" وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عُمْدَةُ كُلِّ زِنْدِيقٍ وَمُنَافِقٍ يَبْطُلُ الْعِلْمُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . تَارَةً يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَتَارَةً يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ . وَمَتَى انْتَفَى الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ أَوْ بِمَعْنَاهُ : لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمٌ فَيَتَمَكَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا يَقُولُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَقَدْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَارَضَ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ ثَغْرَهَا بِذَيْنِك الدامحين الدَّافِعَيْنِ لِجُنُودِ الرَّسُولِ عَنْهُ الطَّاعِنَيْنِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَا . وَهَذَا الْقَدْرُ بِعَيْنِهِ هُوَ عَيْنُ الطَّعْنِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ ؛ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَعْظِيمِهِمْ وَكَمَالِهِمْ : إقْرَارَ مَنْ لَا يَتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمًا فَيَكُونُ الرَّسُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ خَلِيفَةٍ : يُعْطِي السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ رَسْمًا وَلَفْظًا كِتَابَةً وَقَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مُطَاعٌ . فَلَهُ صُورَةُ الْإِمَامَةِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَتُهَا . "مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 308)
أكتفي بهذا القدر