حقيقة قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها

عدنان الغامدي

Well-known member
إنضم
10/05/2012
المشاركات
1,376
مستوى التفاعل
49
النقاط
48
الإقامة
جدة
الموقع الالكتروني
tafaser.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين القائل ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ واصلي واسلم على اشرف الأنبياء والمرسلين

إن من أعظم النعم على أهل الإسلام أنه أنزل إليهم كتاباً مربياً غير ذي عوج ، ما شادَّه مشاقق إلا غلبه، ولا ألحد في آياته ملحد إلا خاب وخسر.

واستعين بالله لتدبر قوله تعالى:

﴿ ۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾[ البقرة: 106]

لدينا مفردتين مبنيتين على سبيل العطف بـ (أو) ننسخ أو ننسي.

فأولى الاستنتاجات بأن المفردتين متغايرتين فلا يعقل التخيير بين مفردتين مترادفتين.

لنأتي على مفاهيم (النسخ) هنا فنقول وبالله التوفيق:

إن النسخ يحتمل معنيين ، إما التكرار ، كنسخ الكتاب أي تكرار كتابة ما فيه الى نسخة أخرى ومصداقه قوله تعالى:

﴿ هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [ الجاثية: 29]

أي ندون نسخة من أعمالكم في الكتاب الذي تأخذونه بأيمانكم وشمائلكم فلا نزيد عما فعلتم ولا ننقص.

وقوله تعالى:

﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [ الأعراف: 154]

والألواح منسوخة من اللوح المحفوظ فهي نسخة مكررة من الأصل لذلك سميت نسخة.

أما المعنى الآخر فيعني الإزالة وذكر في آية واحدة، حيث قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [ الحج: 52]

ولكن في الآية موضع البحث هل أريد بالنسخ الإزالة أم التكرار ؟؟؟

لو تتبعنا سياق الآية لوجدناها أتت بهذه الصيغة:

مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا : فدل حرف العطف (أو) على أن النسخ غير الإنساء فإن كان الإنساء يعني الإزالة والترك فلا يمكن أن يكون النسخ يأتي بالمعنى ذاته ، فيراد به التكرار لتحقيق المغايرة وليتسق باقي النص القرآني كما سنرى:

فيقول تعالى:

مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا : أي ما نكرر من حكم من الشريعة السابقة إلى الشريعة الماثلة (ننسخ) أو نترك الحكم وننساه ونوقف العمل به (ننسها)

نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ : نأت بخير مما أنسينا ، أو مثل التي نسخناها وكررناها ، فكان هذا المقطع متصلا اتصالاً معنويا بائنا يربط النسخ بالتماثل والانساء بالاستبدال .

وهذا بالفعل ما حدث ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم متبعاً محققاً الشريعة الماثلة وهي شريعة موسى عليه السلام في كل أعماله حتى ينزل من القرآن ما يفصل في امر تلك الأحكام إما بالنسخ (أي يتكرر العمل بها في شريعة الله النازلة لمحمد صلى الله عليه وسلم أو ينسيها ويأت بخير منها)

ومن ذلك إنساء القبلة: فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي باتجاه بيت المقدس حتى أنسى الله نبيه هذه القبلة وأتى بخير منها وهي الكعبة المشرفة.

ومن ذلك القصاص: فقد نسخ الله حكم القصاص من شريعة موسى إلى شريعة محمد صلى الله عليهما وسلم فأتى بمثلها.

ومن ذلك أحكام الأطعمة : فقد حرم على بني إسرائيل الكثير من الأطعمة فأنسى هذا الحكم وابدله بحكم خير منه وخفف على المسلمين.

ومن ذلك حرمة إتيان الزوجة ليلة الصيام: إذ كان المسلمين يصومون ويمتنعون عن إتيان نسائهم في ليلة الصيام حتى أنسى الله هذا الحكم بآية أحل لهم فيها الرفث على نسائهم.

فكل الأحكام التي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وتغاير النص القرآني إنما كانت قبل نزول الإنساء ، وكل الاحكام التي نسخت (كررت ) من شريعة موسى إلى شريعة محمد صلى الله عليهما وسلم فقد شرعت نسخة مطابقة منها بنص قرآني مبين.

ومن ذلك الرجم ، فقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الإنساء ، وكلنا يعلم الرواية التي دعى اليهود فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم فحكم بحكم التوراة التي كانت مهيمنة إذ ذاك (وهو الرجم) حتى نزل القرآن متتابعا ليهيمن على التوراة باكتمال نزوله ، فلا ننكر وقوع الرجم ولكن نقول بأن الله أنساه وأبدله بخير منه.

وهكذا فإن هذه الآية التي عسفت عسفاً لتوفق مفهوم باطل عطلت بسببه أحكام الشريعة وغُيَّر كتاب الله بمفهوم سمي (النسخ) والنسخ في أصله هو التكرار وليس الإنساء ، فإن بطل قولهم في هذه الآية انهدمت فرية النسخ من اصلها ، ولم يتبق إلا أقوال متأخرة روايات مريبة لا يؤيدها صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم فتشتت الأقوال فتارة قول ينسخ حكما وقول يثبته ، ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً وكذلك فرية النسخ.

والله تعالى أعلم والحمدلله رب العالمين

 
عودة
أعلى