عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,345
- مستوى التفاعل
- 145
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
من أشيع المقولات السائدة منذ (أرسطو) أن الإنسان حيوان ناطق، متكلم.. فاللغة سمة الإنسان وحده، وظاهرة بشرية اجتماعية حضارية، وهي مواكبة لوجود الإنسان من الأزل، وعمرها مقترن بعمره. والفكر واللغة متلازمان، لا وجود لأحدهما مستقلاً عن الآخر أو منفصلاً عنه. وحقيقة الأمر أن اللغة هي التفكير جهراً، والتفكير هو التكلم سراً..
قال ابن جني(1): "حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". والصوت عنده(2): "عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده. فسمى المقطع (أي المخرج)، أينما عرض له، حرفاً. وتختف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها...: ومجمل القول "إن اللغة أصوات تفيد دلالات. وهي مجموعة من الرموز الدالة على أسماء وأفعال، وتؤلف النظام المتكامل للأصوات"(3).
آ ـ الحروف المنطوقة وقانون السهولة والصعوبة:
وقد توصل علم اللغة الحديث، ولا سيما الدراسات اللسانية Linguistiques والصوتية phonetiques إلى أن الأقوام السالفة الموغلة في القدم مرت في تطورها اللغوي خلال نشوئها السحيق بما يشابه المراحل نفسها التي يمر بها الأطفال في مجال نطق الحروف. فالبشر في عهودهم البدائية، لم يعرفوا أول الأمر سوى عدد ضئيل من الأحرف، وهي الأحرف الجوفية أو الصوتية، أي أحرف العلة. وذلك في مرحلة الصيد الغابرة التي شهدها العصر الجليدي. ثم تولدت لدى إنسان ذلك العصر بعد آماد طوال بعض الحروف التي تقع مخارجها الصوتية فيما بين الشفتين، أو ما كان قريباً منهما. وذلك لسهولة النطق بها، وهي الميم والباء والفاء والدال(4)....
والمعهود في موازاة ذلك أن الأحرف الشفهية هي الأسبق ظهوراً على لسان الطفل الرضيع، وما ذلك إلا لأنها الأسهل نطقاً لديه، إذ لا يحتاج التلفظ بها إلى أية أسنان نابتة.
وبوسعنا القول، وعلى قدر واف من اليقين تبعاً لمعطيات علوم الصوتيات واللسانيات وعلم نفس الطفل والإنتروبولوجيا، إن ما فطر عليه الطفل البشري في أي مكان من الدنيا من مناغاته لأمه بالمقطع "ما" أو "مو" أو "مام" أو "مم" أو "مامي" أو "ماما"، أو ما شابهه، على ذلك الكائن الأنثوي لدى مختلف الأقوام وعلى صعيد معظم اللغات.
وعلى ذلك يكون حرف الميم أسبق الحروف قاطبة في النطق، ويواكبه أو يعقبه حرف الباء(5)...
ولسهولة مخرج صوت الميم من الفم فإن بعض الحيوان يستطيع النطق به كما هو حال النعاج. وفي ذلك يقول الجاحظ في لفتة ذكية(6): "وأما الغنم فليس تقول إلا (ما)"، ويقول أيضاً: "والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم ماما وبابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان. وإنما يظهران بالتقاء الشفتين"(7).. وبوسعنا القول تبعاً لما تقدم(8): "إن حرف الميم أو لفظ مام إنما هو اختراع أبدعه الطفل منذ الأزل، وسوف يدأب على ترديده إلى الأبد"...
وبعدئذ تمكن الإنسان القديم عبر الحقب، وحين دخوله طور الرعي، من ابتداع سائر حروف الهجاء الأكثر تعقيداً، وفي عدادها حرف الراء... ليتمكن ذلك الإنسان خلال تطوره المستمر من التعبير عن حاجاته المستحدثة، ومواكبة تجاربه المتنامية...
وفي ضوء ما تقدم، ونظراً إلى أن الأقوام الغابرة وأن الأطفال جميعاً لم يستطيعوا عبر الأزمان التلفظ بحروف الكلام كاملة إلا تدريجياً وبعد ممارسات مديدة على الصعيد الفيزيولوجي، بوسعنا القول إن النطق بالحروف كان يتأتى في الأفواه تبعاً لمبدأ السهولة والصعوبة، حيث يتم فيها وفق مستويات متعددة يمكن اختزالها بزمرتين أو ثلاث من الحروف أولاها يسيرة على النطق، والأخرى عسيرة وثالثة بين بين... فألسنة البشر، على اختلاف لغاتها، تكاد تتشارك جميعاً في نطق حروف بعينها، مثل الميم والباء واللام والنون والسين والشين والزاي والكاف... وغيرها، باعتبارها الأسهل نطقاً، والأجرى على اللسان. على حين ثمة أحرف محددة أصعب على النطق في بعض اللغات، فتلفظها على نحو منحرف أو مغاير، وقد لا يكون لها وجود أصلاً في عداد أبجديتها، مثل: الغين والحاء والخاء والصاد والضاد والجيم والقاف والطاء والظاء...، وسواها من الحروف العربية. وفي الوقت نفسه قد يختلف نطق بعض الأحرف ضمن اللغة الواحدة على ألسنة العرب مثلاً في هذا العصر كما هو الحال بصدد حرف القاف، حيث يبلغ سبعة أوجه، تتراوح في مجال داخل الفم يمتد من الهمزة إلى الكاف، وهذا معهود في اللهجات المصرية والشامية والعراقية والخليجية والبدوية... ولعل الضاد أبرز مثال على هذه الظاهرة من حيث اختلاف نطقها، وذلك بسبب صعوبتها بالنسبة إلى كثير من الحروف. وقد أجمع علماء اللغة على ذلك، وفي عدادهم السيوطي، فقال(9): "الضاد أصعب الحروف في النطق". وهي تنطوي على إشكالية منذ القدم وحتى اليوم على هذا الصعيد، كما شغلت وما زالت تشغل حيزاً واسعاً في دائرة اهتمام الدارسين(10). واختلاط الضاد بالظاء أو تداخلهما عند النطق، بل عند الكتابة أيضاً ظاهرة ملحوظة ومزمنة تجري على أفواه كثير من الناس وعلى أقلامهم. وخبر عمر بن الخطاب في هذا الصدد معروف، حين أتاه رجل وقال له(11): "يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجل ظحى بضبي؟"، فجعل الضاد من ضحى ظاء، والظاء من ظبي ضاداً. فعجب عمر ومن حضره من ذلك".
ومن هذا القبيل أيضاً التداخل في النطق بين الزاي والسين، وبين السين والصاد، والقاف والكاف، والدال والذال، والتاء والطاء، والحاء والهاء، والزاي والظاء، والسين والشين، والجيم والياء، والميم والنون، والراء واللام...
وعلى صعيد الاختلاف بين اللغات المتعددة تغدو هذه الظواهر في مقابل ذلك أشد بروزاً، بحيث يتعذر على غير الناطقين بالعربية مثلاً التلفظ بأكثر حروف الحلق وأحرف أخرى غيرها، كالعين والحاء والغين والخاء، فضلاً عن الجيم والصاد والقاف والضاد.... ومع ذلك قد توجد أحرف مشتركة من هذه الحروف الصعبة ضمن لغتين أو أكثر، فالعربية مثلاً تشارك التركية في حرف القاف، كما تشارك الأسبانية في حرف الخاء، إلخ....
وفي الوقت نفسه ثمة أحرف في لغات عديدة ليس لها وجود في العربية مثلU, E في الفرنسية، ومثل P,V في الفرنسية والإنكليزية. والعرب أيضاً قلما ينطقون هذه الأحرف كأهلها إلا بعد دربة ومران. وهكذا الشأن في سائر اللغات. وهنا لا بد من الاحتراز والملاحظة بأن قضية الصعوبة في النطق تبقى نسبية وليست مطلقة، وهي أكثر اطراداً في بعض الحروف اللثوية وحروف الحلق...
ومن الطبيعي في هذا الصدد أن يتساءل المرء عن سبب وجود أحرف في لغة ما، وعدم وجود ما يقابلها في لغات أخرى..؟ والإجابة عن ذلك أو بعض ذلك ينطوي عليها ما سبق ذكره مجملاً، وهو أن نطق الحروف لم يتم على ألسنة البشر في سالف ا لأزمان جملة واحدة، والحال نفسه عند الأطفال أيضاً. ومرد ذلك بطبيعة الحال إلى مدى السهولة والصعوبة في نطق بعض الحروف دون بعضها الآخر، وهذا أمر معهود أيضاً داخل حروف أية لغة، حيث يكثر شعراء العربية مثلاً من النظم على روي الميم والراء واللام والنون...، على حين ينأون عن روي القوافي الأخرى، كالثاء والظاء والغين والخاء. وقد أحسن قدماء العرب ولا سيما العروضيون تصنيف هذه القوافي حين جعلوها في قسمين: القوافي الذلل، والقوافي النفر، وكأنها الخيل التي يسهل امتطاء بعضها، ويصعب امتطاء بعضها الآخر...
لقد تبدت ملامح نظرية السهولة والصعوبة في نطق الحروف لدى علماء العربية قديماً ومنهم الخليل وسيبويه والأصمعي والجاحظ وابن جني والسيوطي... ثم مضى الدارسون المعاصرون على هذا الغرار يؤكدونها ويحللونها. وممن نادوا بهذه النظرية كورتيوس ويتني Curtius Whitney إذ رأى أن المرء بطبيعته يجنح إلى السهولة وإلى الاقتصاد في الجهد، وذلك بصورة لا شعورية(12). وهذا ما حدث لعدد من الحروف العربية عبر عصور مديدة، إذ تطورت من الصعوبة إلى السهولة، وهكذا فإن جملة من الألفاظ كالكلام والكاف والباء والميم والسين حافظت على طبيعتها لأنها لا تحتاج إلى مجهود عضلي خاص كسواها داخل الفم، كالراء والظاء والغين والقاف والحاء... وغيرها من حيث صعوبة نطقها، على تفاوت فيما بينها في مدى هذه الصعوبة.
ومن أمثلة استسهال الناس نطق هذه الحروف، حتى غير الصعبة، ما نسمعه في اللهجات العربية المعاصرة لدى جماعات من أهل حلب وريفها، إذ يسقطون بعض حروف الحلق من كلمات معينة، كقولهم (أربين) بدل أربعين، و(رو) بدل روح، أو حروف أخرى كقولهم (خو) بدل خود أي خذ.. وكان سكان الحي اليهودي يقولون: يوم (الأحا) بدل الأحد. وفي كثير من البلاد العربية كمصر يسقطون الميم وهي علامة الجمع فيقولون (عندكو) بدل عندكم، على حين يسقط سائر العرب ميم الجمع في قولهم (انتو) بدل أنتم.
ومعظم العرب اليوم، ما عدا كثيرين في الأرياف ومنطقة حوض الفرات في سورية والعراق، يسقطون نون الأفعال الخمسة، فيقولون (يلعبو، يصلو) بدلاً من يلعبون ويصلون.
أما ألف الاثنين وصيغة التثنية فلم يعد لهما وجود في كلام الناس. وذلك كله من قبيل الاستسهال والاقتصاد في الجهد.
وفي صدد تمايز اللغات على هذا الصعيد الصوتي، حيث ينطوي بعضها على حروف ليس لها نظير في لغات أخرى، كما تقدم، يبدو من العسير على أي دارس تعليل هذا الاختلاف المتجذر لدى الإنسان منذ الأزل. إنه يمثل إحدى الظواهر البارزة في المجتمعات البشرية التي تتوضع على بساط البحث ليتسنى رصدها وتحليلها. بل إن هذا الاختلاف النسبي في مجال زمرة معينة من الحروف ينم على خصوصية الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كما ينم على تفرده دون سائر الحيوان، من حيث اتسامه الذاتي بملامح وجهه ونبرات صوته وبصمات أصابعه، وما ذلك في حقيقته إلا التعدد ضمن إطار الوحدة، والتنوع في رحاب الشمول.
ب ـ حرف الراء من الوجهة الصوتية:
وقد فطن اللغويون العرب قديماً إلى هذه الظاهرة الصوتية، في حدود معرفتهم ببعض لغات عصرهم ومغايرتها أحياناً للغة العربية في عدد من الحروف، ولعل أسبقهم الخليل الفراهيدي إذ قال(13): "وليس في شيء من الألسن ظاء غير العربية". ثم لاحظ الأصمعي مثل ذلك أيضاً وقال(14): "ليس للروم ضاد، ولا للفرس ثاء، ولا للسريان ذال". ولو أتيح للخليل أو للأصمعي في ذلك الزمن المبكر المزيد من المعطيات المعرفية لأضاف إلى قوله هذه العبارة مثلاً "وليس لأهل الصين راء..." وهذه حالة مستغربة في اللغة الصينية التي قد تكون الوحيدة ـ في حدود علمنا ـ على هذا الصعيد دون سائر اللغات.
أما حرف الراء من الوجهة الصوتية، وفي المنظور اللساني، فهو ذو خصوصية أخرى تميزه من سائر الحروف، وعلى صعيد كثير من لغات البشر.، إنه نادر الغياب عن بعضها، سائد الحضور في معظمها. وهو في الوقت نفسه مختلف الأداء على ألسنتها، وقلما يلفظ على نحو واحد وهذا معهود في اللغة الفرنسية وفي الإنكليزية والألمانية وغيرها. فالإنكليز، كما يصفهم العرب، يبتلعون الراء في كلامهم، على حين تبدو الراء على ألسنة الأمريكيين أجلى. وفي ذلك يذكر الدكتور كمال بشر(15): "إن الراء في الإنكليزية يختلف نطقها باختلاف موقعها. أما العرب فلا يميزون بين هذه الراء وتلك. ففي اللغة الإنكليزية النموذجية Standard British English لا تكاد الراء تلفظ إذا وقعت في آخر الكلمة مثل Singer، أو وقعت في وسط الكلمة غير متبوعة بحركة، كما في نحو Garden. وإنما تنطق الراء الإنكليزية إذا تبتعها حركة، سواء كانت في وسط الكلمة وأولها Present, Right, Red..." والراء كما يسميها علماء اللسانيات صوت مستلب أو مستل أو مفرد Flapped Consonant، ويحدث صوت الراء نتيجة طرقة واحدة من طرف اللسان على اللثة، ويصدر الوتران الصوتيان عند نطقها نغمة موسيقية فهذه الراء حرف صامت مجهور لثوي مستل(16) A Voiced alveolar Flapped consonant.
أما الراء في اللغة الفرنسية، وعلى نحو أخص في لهجة باريس الغالبة، فيلفظها الفرنسيون على نحو مغاير بحيث تكون شبيهة بصوت الغين العربية، أو الغين الخفيفة. والراء الألمانية أقرب ما تكون إلى هذه الراء الباريسية. "ويحدث صوتها حين تتذبذب اللهاة على أقصى اللسان، أي بحدوث طرقات سريعة متوالية، فتصدر عندئذ عن الوترين الصوتيين نغمة موسيقية عند تكوين الصوت، وهو صوت صامت مجهور...". فكلمة Frère الفرنسية أي الأخ تنطق "فغيغ". وليس لفظها هذا ميسراً بدقة على ألسنة العرب بوجه عام. وفي مقابل ذلك يصعب على الفرنسي بل يكاد يتعذر عليه أن ينطق الراء العربية ـ وهي صوت مكرر ـ كأهلها.
وفي هذا الصدد، من حيث اقتراب صوت الراء في لغات الغرب الأوربي من صوت الغين، يرى الدكتور محمود فهمي حجازي(17): "أن عدداً من اللغات الأوروبية لا تميز الراء عن الغين من الناحية الفونيمية... ولذا يجد أبناء اللغة الألمانية مثلاً صعوبة في التمييز بين الراء والغين عند تعلمهم اللغة العربية. ويصعب هذا الأمر لو التقى الصوتان في كلمة واحدة مثل (مغرب)، فتسمع هذه الكلمة عند كثير منهم كما لو كانت بغين مشددة"...
ويتجلى الأمر نفسه، أي تداخل صوتي الراء والغين، في كلام صغار الأطفال من أي قوم. "إذ يغلب لديهم أن تكون الراء لهوية، وهذا سبب قربها من الغين لتقارب مخرجيهما"(18).
والإسبان، خلافاً للإنكليز، يلفظون الراء شديدة النبرة والوضوح. ولا تختلف الراء الأرمنية عن الراء العربية إلا قليلاً، إذ إنها صوت مكرر أي مشدد. وهي مبثوثة في داخل الألفاظ وفي نهاياتها، لكن الألفاظ في الأرمنية التي تبدأ بحرف الراء قليلة بل نادرة لا تتجاوز عشر كلمات، وهذه في معظمها دخيلة على اللغة الأرمينية، كما أنها أخفت نطقاً من سائر الراءات(19).
وإذا كان لهذا التداخل الصوتي بين الراء والغين لدى الأطفال وفي العديد من اللغات من دلالة، فهي أيضاً صعوبة نطق الراء، ومن ثم ترجرج أصوات هذا النطق وتعدد أوجهه. وقد يؤدي ذلك إلى اللثغة في تعدد أشكالها أيضاً، على غرار ما سيتضح بعد صفحات وربما كانت هذه الصعوبة المتحكمة في النقط أشق على الطفل، بحيث تدفعه إلى إسقاط الراء جملة من كلامه عوضاً عن البحث عن حرف بديل. وقد نقل الدكتور إبراهيم أنيس(20) عن أحد الأدباء الفرنسيين أن طفله نطق كلمة Merci (Meci)، أي من دون راء، وذلك وفق قانون الاستسهال المعهود.
***
والراء من الوجهة الصوتية حرف منطوق لدى الأمم، قديمها وحديثها، وله حيز في لغات العالم القديم وكتاباتها، ومنها السومرية والأكادية والهيروغليفية والسنسكريتية والإغريقية وسائر اللهجات الكنعانية واللاتينية.... ونجد هذا الحرف مثلاً في كلمات "أرض" العربية، Erestu' الأكادية، وErd في العربية الجنوبية، وEres في العبرية(21).... وتعد الراء عند علماء العربية قديماً من أكثر الحروف دوراناً على لسان العرب"(22).
وحرف الراء هو الحرف العاشر من حروف الهجاء العربية وفق الترتيب الألفبائي، وموقعه الحرف العشرون على حسب الترتيب الأبجدي. وهو يرمز إلى العدد مئتين 200 فيما يعرف (بحساب الجمّل)(23). ومن المصادفات أن يكون موقع الراء هو العشرين أيضاً في الترتيب الحلقي للخليل الذي بنى عليه معجمه "العين"، وأن يحافظ هذا الحرف أيضاً على موقعه العشريني في تعاقب حروف معجم "البارع" لدى أبي علي القالي، وكذلك في معجم "تهذيب اللغة" لدى معاصره الأزهري...(24).
وقد حظيت الراء، ومعها أحرف أخرى قليلة وهي الضاد والجيم باهتمام اللغويين والأدباء من العرب الأقدمين، وكانت لهم فيها دراسات مسهبة ودقيقة. وحين ألّف الخليل معجمه الرائد وجعل ترتيب الحروف على حسب مخارجها في الفم بدءاً من أقصى الحلق وانتهاء بالشفتين، غدا بذلك واضع علم الصوتيات Phonlogie. ثم مضى الذين أتوا بعده في تناولهم حروف الهجاء ومحاولتهم تبيين مخارجها، والكشف عن آلية النطق بها. كما عني تلميذه سيبويه ولفيف من اللغويين، وفي طليعتهم ابن جني برصد مخارج الحروف في ألفاظ العربية على أساس صوتي من حيث الجهارة والهمس، فجعلوها في صنفين، فهي إما مجهورة، كالهمزة والضاد والراء...، وإما مهموسة كالهاء والحاء(25). وكان الخليل هو الأسبق إلى التفريق بين المجهور والمهموس.
وفي الوقت نفسه رأى سيبويه أن حروف العربية مطبقة أو غير مطبقة، فالمطبقة تضم الضاد والصاد والطاء والظاء....، تقابلها حروف غير مطبقة أي منفتحة ومنها الدال والزاي والسين... وهي تشكل غالبية حروف العربية، وفي عدادها حرف الراء. "والأصوات المطبقة عند سيبويه، أن ينطبق اللسان إلى ما يحاذي الحنك الأعلى، أي ارتفاع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك، وتقعر وسط اللسان"(26)، والإطباق في اللغة العربية كما يرى برغشتراسر(27) نوع من الاستعلاء الذي هو رفع أقصى اللسان نحو ما يليه من الحنك، ويزاد على ذلك تقلّص ما في الحلق وأقصى الفم".
وعلى صعيد ثان، من حيث شدة الحروف أو رخاوتها وجد سيبويه أن حروف الهجاء العربية تقع ضمن ثلاث مجموعات أو زمر، الأولى حروف شديدة، وهي الهمزة والقاف، والكاف والجيم...، والثانية هي الرخوة، وتضم الهاء والحاء والخاء والسين.... إلخ.. ووجد زمرة ثالثة هي بين بين، أي بين الرخاوة والشدة، وفيها الراء والنون واللام. وهذه الصفة تعرف في الدراسات اللغوية الحديثة بأنها حرف مائع Liquide(28).
ومن جهة أخرى أو على صعيد ثالث لاحظ سيبويه في حرف الراء سمة تميزه من سائر الحروف، فهو حرف منفرد لا يشاركه على صفته حرف سواه، وهي التكرير الصوتي، قال(29): "ومنها المكرر. وهي حرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام، وهو الراء". وقال في موضع آخر(30): "الراء إذا تكلمت بها أخرجت كأنها مضاعفة، والوقف يزيدها إيضاحاً"، والمقصود بذلك هو تكرار اهتزازات اللسان في أثناء النطق به. "ويصنف حرف الراء أيضاً في الدراسات المعاصرة بأنه وحده من الصوامت المكررة Rolled Consonants(31).
وفي "باب الإدغام" يصنف سيبويه في كتابه أصوات الحروف المجهورة على أساس قوامه الجهر والهمس، ويذكر إن الأصوات المجهورة تبلغ تسعة عشر حرفاً، وفي عدادها حرف الراء. أما الأصوات الأخرى أي المهموسة فعددها عشرة أحرف. ثم يقول مفصلاً(32): "فالمجهور حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه، وأما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه".
كذلك عين صاحب "الصحاح" هذا الصوت المجهور بقوله(33): "ومخرج الراء من طرف اللسان، بينه وبين ما فوق الثنايا العليا".
ويبدو لنا أن أبا الفتح بن جني كان الأقدر في هذا الصدد، إذ استطاع تعيين آلية نطق الراء على اللسان، وبيان مخرجه في الفم، وفي ذلك قال(34): "الراء هو الصوت المنحرف، لأن اللسان ينحرف فيه مع الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عند اعتراضهما فويقهما على الصوت، فيخرج الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما". وقال في موضع آخر "ومن الحروف المكررة، وهو الراء، وذلك أنك إذا وقفت عليه رأيت طرف اللسان يتعثر بما فيه من التكرير، ولذلك احتسب في الإمالة بحرفين". وذكر غير هؤلاء أيضاً سمة التكرير(35) بقوله: "الراء يقال لها الحرف المكرر لأنك إذا نطقت بها كنت كأنك ناطق براءين". ثم فصّل الدكتور كمال بشر هذه السمة بقوله(36): "يتكون هذا الصوت بأن تتكرر ضربات اللسان على اللثة تكراراً سريعاً. وهذا هو السر في تسمية الراء بالصوت المكرر، ويكون اللسان مسترخياً في طريق الهواء الخارج من الرئتين، وتتذبذب الأوتار الصوتية عند النطق به، فالراء صوت لثوي مكر مجهور".
ج ـ الإدغام وتقارب مخارج الحروف:
تشكل الحروف العربية وفق مخارج أصواتها في الفم Point d' Articulation رمزاً متقاربة فيما بينها ومتشابهة مثل زمرة حروف الحلق، فحروف الذلق، فالحروف اللثوية، فالحروف الشفوية... وعلل أبو الفتح بن جني(37): "اختلاف الأجراس في حروف المعجم باختلاف مقاطعها (أي مخارجها) التي هي أسباب تباين أصدائها". وذكر أن "بعضهم شبه الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلاً أملس ساذجاً...، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه".
وتقع الراء ضمن حروف الذلق وهي ثلاثة: "الراء، اللام، النون". وتبعاً لتقارب مخارج الأصوات ضمن كل مجموعة وضيق حيز كل منها داخل الفم، فإنه من الطبيعي أن يحدث تداخل بين هذه الأصوات، أو اختلاط بعضها ببعضها الآخر، أو حلول أحدها محل الآخر... إلخ وهذا معهود مثلاً بين الحاء والهاء، وبين القاف والكاف، وبين الضاد و الظاء، وبين السين والصاد، وبين الزاي والسين وبين التاء والطاء...، وأيضاً بين الراء واللام...
قال الخليل في كتابه العين(38): "اعلم أن الحروف الذلق والشفوية ستة، وهي ر ل ن، ف ب م. وإنما سميت هذه الحروف ذلقاً لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان والشفتين، وهما مدرجتا هذه الأصوات الستة، منها ثلاثة ذلقية ر ل ن تخرج بعد ذلق اللسان من طرف غار الفم" وقال: "ولا ينطلق طرف اللسان إلا بالراء واللام والنون". ثم قال: "ثم الراء واللام والنون في حيز واحد".
ذكر صاحب الصحاح(39) أن: "الحروف الذلق حروف طرف اللسان والشفة، ثلاثة ذولقية: اللام والراء والنون، وثلاثة شفهية: الميم والباء والفاء"، وقال: "ذولق اللسان والسنان طرفهما".
ولا ريب في أن فقهاء اللغة في الماضي أحسوا بالعلاقة الصوتية بين هذه الحروف الثلاثة، فجمعوها تحت اسم واحد هو الحروف الذلقية Apicales. وتمتاز هذه المجموعة بوضوحها الصوتي، "فهي شبيهة بأصوات اللين، ليست شديدة لا يسمع معها انفجار وليست رخوة فلا يكاد يسمع لها حفيف الأصوات الرخوة. ولذا عدها القدماء من الأصوات المتوسطة بين الشدة والرخاوة..."(40).
والتداخل بين الحروف الذلق الثلاثة كثير الوقوع في كلام العرب وأيضاً في قوافي أشعارهم، بحيث يحل حرف محل آخر. من هذا القبيل مثلاً ما يقع بين الراء والنون، وفي ذلك يقول الخليل(41): "وأما الراء فمنحرفة من مخرج النون إلى اللام لمزية دموجها في ظهر اللسان عند الكلام، ولقرب مخارجها يبدل بعضها من بعض". كذلك يكون التداخل بين اللام والنون(42)، والراء واللام... وفي ذلك يذكر سيبويه بصدد الراء، ويجاريه أيضاً ابن جني والزمخشري في أن هذا الحرف(43) من مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلاً لانحرافه إلى اللام". وهذا يوافق ما نعبر عنه اليوم بأنه صوت لثوي.
ومن خصائص العربية على الصعيد الصوتي ندرة اقتران الراء والنون بل عدمه، بسبب تجاور مخرجيهما. وإلى ذلك يذهب اللغويون العرب(44) فيرون أنه لا تكاد الراء تكون بعد النون من غير فاصل في كلام العرب" وهذا سائد في المعاجم وسائر كتب اللغة، على حيث يكثر ذلك في الكلمات الدخيلة، من الفارسية والهندية والتركية وغيرها، مثل: نرد، نرجيلة، نرمين نردين نرفانا... ويقول سيبويه في هذا الصدد تجاه هذين الحرفين الذولقيين(45): "ولا نعلم النون وقعت ساكنة في الكلام قبل راء ولا لام، لأنهم إن بيّنوا ذلك ثقل عليهم، لقرب المخرجين". وآية ذلك أن العرب كانوا يؤثرون إدغام النون باللام، بحيث يسقطون النون من كلامهم ويقلبونها لاماً، وذلك في مثل: (إن لا، أو أن لا). فيقولون: (إلا، وألا، ولئلا) كأن نقول: انتبه، وإلا أوذيت، أو: أرجو ألا تكون مخطئاً، أو ابتعد عن رفاق السوء لئلا تعد منهم.. وعلى ذلك جنح كبار القراء في الإسلام في تلاوتهم آيات القرآن الكريم إلى هذا المنحى، أي إلى الإدغام الذي غدا عنصراً مهماً في علم "التجويد".
وإذا انعطفنا من النون واللام، إلى الراء واللام، وهذه جميعاً من زمرة الحروف الذولقية، تبدت أمامنا صور مشابهة من النطق أيضاً، ولعلها أشمل في هذا الصدد، أي ضمن الظاهرة الصوتية المسماة بالإدغام. ولسيبويه أيضاً آراء سديدة ضمن "باب الإدغام" الذي يعد من أهم فصول كتابه وأدقها في مجال الصوتيات. ومن نظراته في هذا الصدد تناوله لام المعرفة، أي لام التعريف، فهي(46) "تدغم في ثلاثة عشر حرفاً، لا يجوز معهن إلا الإدغام لكثرة لام المعرفة في الكلام، وكثرة موافقتها لهذه الحروف... منها حرفان يخالطان طرف اللسان. والأحد عشر حرفاً: النون والراء، كقولك النعمان والرجل... إلخ". والأمثلة على ذلك كثيرة في كلمات لا تكاد تحصى إضافة إلى ذلك ضمن ما اصطلح عليه النحاة حول الكلمات التي تتصل بها اللام الشمسية، والكلمات المقابلة التي تتصل بها اللام القمرية... غير أن سيبويه لا يرى الإدغام بين اللام والراء مطرداً إلا مع اقتران الراء بأل التعريف أي على صعيد اللامات الشمسية، فهو يمضي في قوله: "... فإن كانت غير لام المعرفة، نحو لام (هل وبل)، فإن الإدغام في بعضها أحسن، وذلك في قولك: (هرّ أيت). وإن لم تدغم فقلت (هل رأيت) فهي لغة لأهل الحجاز، وهي عربية جائزة". ويفصل سيبويه القول في حالات الإدغام، فيأتي بأمثلة أخرى للراء مع النون في مثل: مرّ أيت، أي من رأيت، ويقول(47): "وتدغم اللام مع الراء لقرب المخرجين، لأن فيها انحرافاً نحو اللام قليلاً، فقاربتها في طرف اللسان، وهما في الشدة وجري الصوت سواء، وليس بين مخرجيهما مخرج، والإدغام أحسن". ومن أمثلة ذلك أيضاً الكلمتان الواردتان في إحدى آيات القرآن الكريم، وهي(48): (كلا بل ران على قلوبهم( فقد أثر بعض قراء المسلمين تلاوة الآية: "كلا برّان"... بإدغام اللام مع الراء.
ويعيد الزمخشري فيما بعد، تناول ظاهرة الإدغام بين بعض حروف العربية فيقول(49): "والراء لا تدغم إلا في مثلها كقوله تعالى: (واذكر ربك(، وهو يؤكد ما أورده سلفه سيبويه بقوله أيضاً: "إدغام الراء في اللام جائز في مثل لام هل وبل، ويتفاوت جوازه إلى حسن، وهو إدغامها في الراء، وإلى قبيح، وهو إدغامها في النون...".
وإذا كان هذا حال الراء واللام بصدد ما بينهما من "تداخل" فثمة جانب آخر يضارعه تجاه هذين الحرفين فيما يمكن أن نسميه في المقال "التبادل"، حيث نقع في لغة العرب على جوانب من كلامهم المسموع الذي ترد خلاله ألفاظ كثيرة رويت على وجهين، وجه بالراء ووجه باللام، من ذلك قولهم: رمقه ولمقه أي لحظه ونظر إليه، وربكه ولبكه أي خلطه.
ويقال امرأة جلبّانة وجربانة وهي الصخابة السيئة الخلق. ويقال عود متقطل ومتقطر أي مقطوع. وقال أبو عبيدة: يقال سهم أملط وأمرط إذا لم يكن عليه ريش، وقد تملّط ريشه وتمرّط. ويقال جلمه وجرمه إذا قطعه. قال أبو علي: ومنه سمي الجلم الذي يؤخذ به الشَّعر. والتلاتل والتراتر: الهزاهز...." إلخ.
كلها أصوات اتحدت في الصفة وفي الدلالة، ولكنها اختلفت في نسبة وضوحها في السمع. وهذه الأصوات يحل بعضها محل بعض، كالراء مع اللام، فإن الأولى أوضح في السمع، مع أن كلاً منهما من الأصوات المتوسطة الشبيهة بأصوات اللين"(50).
على أن هذه الظاهرة في اللغة تتطلب منا وقفة متأنية، ففي كتب اللغة والغريب ثنائيات أخرى مغايرة من الألفاظ يتضمن كل منها حرفاً مجانساً بطبيعة صوته لحرف آخر، فقد أورد صاحب الأمالي كلمات كثيرة من هذا القبيل. فبصدد ما تعاقب فيه الفاء والثاء مثلاً يورد ألفاظاً عديدة مثل(51): "الدفينة والدثينة، وفلغ رأسه وثلغ رأسه، والنكاث والنكاف، واللثام واللفام، وانفجر وانثجر، والحثالة والحفالة" إلخ. كما أورد ابن جني أمثلة أخرى في هذا الصدد، منها(52): "جدث وجدف، ورجل قح وأعرابية قحة، ورجل كح وأعرابية كحة...
إن تعاقب بعض الكلمات مثلاً، مرة بالثاء ومرة بالفاء بمعنى واحد أمر فيه نظر، فالمخرجان متقاربان في الفم واختلاط جرسهما معهود في الأذن، ومثل هذا كثير في ألفاظ أخرى مثل القحط والكحط، قهر وكهر، وردم ولدم. وقد يحق لنا بعد ذلك أن نشك أيضاً في صحة بعض هذه المرويات اللغوية، ونعزو هذه الظاهرة إلى آثار الجمع الأولي، والاعتباطي لمفردات العربية، حين كان العلماء ينسخون ما يتفوه به الأعراب سماعاً. وآية ذلك ما ذكره ابن جني(53) إذ قال: "إنهم قد اجمعوا في الجمع (جدث) على أجداث، ولم يقولوا أجداف. كذلك روي عن أبي زيد أن العرب تقول أعرابي قح وأعرابية قحة، وحكي في جمع قح أقحاح ولم نسمعهم قالوا أكحاح". وقد يدل هذا النص على أن كلمة جدف وكلمة كح ليستا راسختين في كلام العرب. وفي مثل هذه الأحوال كثيراً ما تختلط الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فلا تستطيع الأذن أحياناً أن تمايز بينهما، هذا إذا سلمنا بسلامة أسماع الرواة الجامعين، ومنهم من تقدمت بهم السن(54) غير أن هذا ليس مطرداً إلا في أحوال بعينها، فمثل هذه الازدواجية أو التعددية في اللفظ الواحد بسبب تقارب مخارج الحروف ناجم في أحيان كثيرة عن تعدد اللهجات لتعدد القبائل في مثل: قشط وكشط، فقريش تقول: "كشطت عنه جلده، وقيس وتميم وأسد تقول قشطت(55)، وفي القرآن الكريم(56): (وإذا السماء كشطت(، وفي مصحف ابن مسعود "قُشطت.." وكتب العربية حافلة بمثل هذه الثنائيات اللفظية مثل أرخ وورخ، أو أكد ووكد...".
د ـ التواشج الصوتي بين الراء واللام:
من الظواهر التي تتناولها الدراسات اللغوية في مجال اللسانيات والصوتيات في كلام البشر ظاهرة التبادل أو التناوب بين بعض الحروف بسبب تقارب مخارجها الصوتية، من مثل ما يكون بين الزاي والسين بوجه عام. ويكثر ذلك أيضاً في العربية بين الحاء والهاء، وبين القاف والكاف وبين الضاد والظاء وبين الراء واللام...، ولا سيما ضمن حروف الذلق.
ففي كلام العرب ربد ولبد أي أقام، وركد ولكد أي لزم وسكن، ورمز ولمز أي أشار، وجرف وجلف أي قذف وأبعد، والخيزري والخيزلى...(57) ومن هذا القبيل ما أورده أبو علي القالي في كتابه الأمالي في فقرة مطولة حول ما تعاقبت فيه اللام والراء.
(1) الخصائص، 1/33، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952.
(2) سر صناعة الإعراب، 1/6، تحقيق مصطفى السقا وآخرين. طبعة البابي الحلبي. مصر 1954.
(3) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، المقدمة، القاهرة 1998.
(4) انظر مقالة حسن عباس، الحرف العربي بين الأصالة والحداثة، مجلة التراث العربي، العددان 42 ـ 43، كانون الثاني ـ نيسان. دمشق 1991.
(5) انظر تفصيل ذلك في بحث عمر الدقاق "لفظ الأم وتجذر بنيته في لغات البشر" حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. جامعة قطر، العدد السابع عشر، 1415هـ ـ 1994م.
(6) البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون 1/62، القاهرة 1968.
(7) عامة الناس ولا سيما الأطفال في كثير من البلاد العربية يحاكون صوت الغنم هذا بلفظ (ماع).
(8) عمر الدقاق، لفظ الأم وتجذر بنيته في لغات البشر.... 35.
(9) همع الهوامع، 2/228، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد بدر الدين النعساني.
(10) توقف كبار اللغويين في الماضي عند هذه الظواهر الصوتية على ألسنة الناطقين بالعربية وفي هذا الصدد كتب جمّة ودراسات في القديم والحديث تكاد لا تحصى.
(11) كتاب ذيل الأمالي، أبو علي القالي، 142، دار الكتب المصرية 1953، وكتاب الفرق بين الحروف الخمسة، أبو محمد عبد الله البطليوسي، تحقيق عبد الله الناصير، 187، دار المأمون للتراث، دمشق 1984.
(12) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 235، القاهرة 1981.
(13) كتاب العين 1/53، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي. ط 2، إيران 1409هـ 1989م.
(14) البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، 1/65، القاهرة 1968.
(15) الأصوات اللغوية، 177، القاهرة 1987.
(16) انظر: علم اللغة، الدكتور محمود السعران، 187 ـ 188، دار الفكر العربي، القاهرة 1962.
(17) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجاز، 38 ـ 39. القاهرة 1998.
(18) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 218، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1981.
(19) استقيت هذه المعلومات من الباحث الأرمني الحلبي مهران ميناسيان.
(20) انظر: الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 224، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1981.
(21) علم اللغة العربية، الدكتور محمود فهمي حجازي 199، الكويت 1973.
(22) شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي، حوادث سنة 131هـ، مكتبة القدسي، مصر 1351هـ.
(23) معجم الصحاح في اللغة والعلوم، مادة "الراء" أبو نصر، إسماعيل بن حماد الجوهري 1/449، تصنيف نديم مرعشلي، دار الحضارة العربية، بيروت 1974.
(24) أذكر أنني قرأت لأحد الباحثين مقالة أحصي فيها عدد الراءات في القرآن فكانت 93711 ثلاثة وتسعين ألفاً وسبعمئة وإحدى عشرة مرة، ولكن فاتني ذكر عنوان المقالة واسم صاحبها.
(25) "الكتاب" سيبويه، أبو بشر، عمرو بن عثمان، تحقيق عبد السلام هارون، 4/435. سلسلة تراثنا، القاهرة 1975. وأيضاً سر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جني، 1/68 ـ 69، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، طبعة عيسى البابي الحلبي، مصر 1954.
(26) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، 57 ـ 58، دار قباء، القاهرة 1998.
(27) التطور النحوي للغة العربية، محاضرات برغشتراسر 26، مكتبة الخانجي، ط ثانية، القاهرة 1994.
(28) في علم الأصوات اللغوية وعيوب النطق، الدكتور البدراوي زهران 332، دار المعارف، القاهرة 1994.
(29) الكتاب، سيبويه، 4/435.
(30) الكتاب، 4/136.
(31) المدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، 56، دار قباء، القاهرة 1998.
(32) الكتاب، سيبويه، 4/435، وسر صناعة الإعراب، 68 ـ 69.
(33) الصحاح في اللغة والعلوم، الجوهري: مادة الراء. تصنيف نديم مرعشلي، 1/449، بيروت 1974.
(34) سر صناعة الإعراب، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق مصطفى الساق ورفاقه، 1/52 ـ 53، 72... القاهرة 1954.
(35) الإبانة في اللغة العربية، سلمة بن مسلما لعويتبي. تحقيق الدكتور عبد الكريم خليفة، 1/84. مسقط د.ت.
(36) الأصوات اللغوية، الدكتور كمال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة 1987.
(37) سر صناعة الإعراب، 1/9.
(38) كتاب العين، 1/51، 52، 58.
(39) الصحاح في اللغة والعلوم، مادة "ذلق" وأيضاً المفصّل في علم العربية، جار الله محمود بن عمر الزمخشري، 2/289، القاهرة، د.ت.
(40) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 63، مكتبة الأنجلو مصرة، القاهرة 1981.
(41) تذكرة النحاة، تحقيق عفيف عبد الرحمن، 25 مؤسسة الرسالة، بيروت 1986. ورد ذلك بإسناد عن طريق الليث بن المظفر عن الخليل.
(42) يكثر استعمال النون في العربية، ولا سيما التنوين في الأسماء، وهو أنواع عند النحاة. وبعض العرب كانوا يقلبون اللام نوناً فيلفظون لعلّي: لعنّي. كما ورد في أمالي القالي وسواه (2/134)، ومن هذا القبيل ما نسمعه اليوم لدى سكان حوض الفرات غربي العراق وشرقي سورية وبعض أهالي حلب وصعيد مصر من قلب اللام نوناً، أو النون لاماً في لهجاتهم المحلية كقولهم: اسماعين، منيح، نيرة، برتقان، بدل إسماعيل، مليح، ليرة، برتقال. أو كقولهم عكس ذلك: أنتيل، كمبيالة، بدل فنجان، أنتين، كمبيانة.
(43) سر صناعة الإعراب، ابن جني، تحقيق السقا، 1/52 ـ 53. مصر 1954.
(44) تاج العروس، الزبيدي، مادة (نرس): "وليس في الكلام نون فراء بلا فاضل". وفي القاموس، مادة نرش: ليس في كلامهم راء قبل نون".
(45) الكتاب، 4/456، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1975.
(46) الكتاب، 4/457.
(47) الكتاب، 4/448 ـ 452.
(48) سورة المصففين، الآية 14.
(49) المفصل، الزمخشري، جار الله محمود عمر، 2/295، شرح محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، د.ت.
(50) في اللهجات العربية، الدكتور إبراهيم أنيس، 189.
(51) كتاب الأمالي، أبو علي القالي، 2/3، دار الكتب المصرية 1926.
(52) سر صناعة الإعراب، 1/250، 251، 278، 280.
(53) سر صناعة الإعراب، 1/280 ـ 278.
(54) لمزيد من التوسع يمكن الرجوع إلى كتاب "أبو علي القالي ومنهجه في البحث واللغة". الدكتور عمر الدقاق 184، منشورات دار الشرق، حلب 1977.
(55) كتاب الأمالي، أبو علي القالي، 2/135، وسر صناعة الإعراب، 1/278.
(56) سورة التكوير، الآية 11.
(57) أورد الدكتور إبراهيم أنيس هذه الألفاظ وسواها في كتابه اللهجات العربية، 189، القاهرة 1980.
[align=center]يتبع [/align]
قال ابن جني(1): "حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". والصوت عنده(2): "عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده. فسمى المقطع (أي المخرج)، أينما عرض له، حرفاً. وتختف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها...: ومجمل القول "إن اللغة أصوات تفيد دلالات. وهي مجموعة من الرموز الدالة على أسماء وأفعال، وتؤلف النظام المتكامل للأصوات"(3).
آ ـ الحروف المنطوقة وقانون السهولة والصعوبة:
وقد توصل علم اللغة الحديث، ولا سيما الدراسات اللسانية Linguistiques والصوتية phonetiques إلى أن الأقوام السالفة الموغلة في القدم مرت في تطورها اللغوي خلال نشوئها السحيق بما يشابه المراحل نفسها التي يمر بها الأطفال في مجال نطق الحروف. فالبشر في عهودهم البدائية، لم يعرفوا أول الأمر سوى عدد ضئيل من الأحرف، وهي الأحرف الجوفية أو الصوتية، أي أحرف العلة. وذلك في مرحلة الصيد الغابرة التي شهدها العصر الجليدي. ثم تولدت لدى إنسان ذلك العصر بعد آماد طوال بعض الحروف التي تقع مخارجها الصوتية فيما بين الشفتين، أو ما كان قريباً منهما. وذلك لسهولة النطق بها، وهي الميم والباء والفاء والدال(4)....
والمعهود في موازاة ذلك أن الأحرف الشفهية هي الأسبق ظهوراً على لسان الطفل الرضيع، وما ذلك إلا لأنها الأسهل نطقاً لديه، إذ لا يحتاج التلفظ بها إلى أية أسنان نابتة.
وبوسعنا القول، وعلى قدر واف من اليقين تبعاً لمعطيات علوم الصوتيات واللسانيات وعلم نفس الطفل والإنتروبولوجيا، إن ما فطر عليه الطفل البشري في أي مكان من الدنيا من مناغاته لأمه بالمقطع "ما" أو "مو" أو "مام" أو "مم" أو "مامي" أو "ماما"، أو ما شابهه، على ذلك الكائن الأنثوي لدى مختلف الأقوام وعلى صعيد معظم اللغات.
وعلى ذلك يكون حرف الميم أسبق الحروف قاطبة في النطق، ويواكبه أو يعقبه حرف الباء(5)...
ولسهولة مخرج صوت الميم من الفم فإن بعض الحيوان يستطيع النطق به كما هو حال النعاج. وفي ذلك يقول الجاحظ في لفتة ذكية(6): "وأما الغنم فليس تقول إلا (ما)"، ويقول أيضاً: "والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم ماما وبابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان. وإنما يظهران بالتقاء الشفتين"(7).. وبوسعنا القول تبعاً لما تقدم(8): "إن حرف الميم أو لفظ مام إنما هو اختراع أبدعه الطفل منذ الأزل، وسوف يدأب على ترديده إلى الأبد"...
وبعدئذ تمكن الإنسان القديم عبر الحقب، وحين دخوله طور الرعي، من ابتداع سائر حروف الهجاء الأكثر تعقيداً، وفي عدادها حرف الراء... ليتمكن ذلك الإنسان خلال تطوره المستمر من التعبير عن حاجاته المستحدثة، ومواكبة تجاربه المتنامية...
وفي ضوء ما تقدم، ونظراً إلى أن الأقوام الغابرة وأن الأطفال جميعاً لم يستطيعوا عبر الأزمان التلفظ بحروف الكلام كاملة إلا تدريجياً وبعد ممارسات مديدة على الصعيد الفيزيولوجي، بوسعنا القول إن النطق بالحروف كان يتأتى في الأفواه تبعاً لمبدأ السهولة والصعوبة، حيث يتم فيها وفق مستويات متعددة يمكن اختزالها بزمرتين أو ثلاث من الحروف أولاها يسيرة على النطق، والأخرى عسيرة وثالثة بين بين... فألسنة البشر، على اختلاف لغاتها، تكاد تتشارك جميعاً في نطق حروف بعينها، مثل الميم والباء واللام والنون والسين والشين والزاي والكاف... وغيرها، باعتبارها الأسهل نطقاً، والأجرى على اللسان. على حين ثمة أحرف محددة أصعب على النطق في بعض اللغات، فتلفظها على نحو منحرف أو مغاير، وقد لا يكون لها وجود أصلاً في عداد أبجديتها، مثل: الغين والحاء والخاء والصاد والضاد والجيم والقاف والطاء والظاء...، وسواها من الحروف العربية. وفي الوقت نفسه قد يختلف نطق بعض الأحرف ضمن اللغة الواحدة على ألسنة العرب مثلاً في هذا العصر كما هو الحال بصدد حرف القاف، حيث يبلغ سبعة أوجه، تتراوح في مجال داخل الفم يمتد من الهمزة إلى الكاف، وهذا معهود في اللهجات المصرية والشامية والعراقية والخليجية والبدوية... ولعل الضاد أبرز مثال على هذه الظاهرة من حيث اختلاف نطقها، وذلك بسبب صعوبتها بالنسبة إلى كثير من الحروف. وقد أجمع علماء اللغة على ذلك، وفي عدادهم السيوطي، فقال(9): "الضاد أصعب الحروف في النطق". وهي تنطوي على إشكالية منذ القدم وحتى اليوم على هذا الصعيد، كما شغلت وما زالت تشغل حيزاً واسعاً في دائرة اهتمام الدارسين(10). واختلاط الضاد بالظاء أو تداخلهما عند النطق، بل عند الكتابة أيضاً ظاهرة ملحوظة ومزمنة تجري على أفواه كثير من الناس وعلى أقلامهم. وخبر عمر بن الخطاب في هذا الصدد معروف، حين أتاه رجل وقال له(11): "يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجل ظحى بضبي؟"، فجعل الضاد من ضحى ظاء، والظاء من ظبي ضاداً. فعجب عمر ومن حضره من ذلك".
ومن هذا القبيل أيضاً التداخل في النطق بين الزاي والسين، وبين السين والصاد، والقاف والكاف، والدال والذال، والتاء والطاء، والحاء والهاء، والزاي والظاء، والسين والشين، والجيم والياء، والميم والنون، والراء واللام...
وعلى صعيد الاختلاف بين اللغات المتعددة تغدو هذه الظواهر في مقابل ذلك أشد بروزاً، بحيث يتعذر على غير الناطقين بالعربية مثلاً التلفظ بأكثر حروف الحلق وأحرف أخرى غيرها، كالعين والحاء والغين والخاء، فضلاً عن الجيم والصاد والقاف والضاد.... ومع ذلك قد توجد أحرف مشتركة من هذه الحروف الصعبة ضمن لغتين أو أكثر، فالعربية مثلاً تشارك التركية في حرف القاف، كما تشارك الأسبانية في حرف الخاء، إلخ....
وفي الوقت نفسه ثمة أحرف في لغات عديدة ليس لها وجود في العربية مثلU, E في الفرنسية، ومثل P,V في الفرنسية والإنكليزية. والعرب أيضاً قلما ينطقون هذه الأحرف كأهلها إلا بعد دربة ومران. وهكذا الشأن في سائر اللغات. وهنا لا بد من الاحتراز والملاحظة بأن قضية الصعوبة في النطق تبقى نسبية وليست مطلقة، وهي أكثر اطراداً في بعض الحروف اللثوية وحروف الحلق...
ومن الطبيعي في هذا الصدد أن يتساءل المرء عن سبب وجود أحرف في لغة ما، وعدم وجود ما يقابلها في لغات أخرى..؟ والإجابة عن ذلك أو بعض ذلك ينطوي عليها ما سبق ذكره مجملاً، وهو أن نطق الحروف لم يتم على ألسنة البشر في سالف ا لأزمان جملة واحدة، والحال نفسه عند الأطفال أيضاً. ومرد ذلك بطبيعة الحال إلى مدى السهولة والصعوبة في نطق بعض الحروف دون بعضها الآخر، وهذا أمر معهود أيضاً داخل حروف أية لغة، حيث يكثر شعراء العربية مثلاً من النظم على روي الميم والراء واللام والنون...، على حين ينأون عن روي القوافي الأخرى، كالثاء والظاء والغين والخاء. وقد أحسن قدماء العرب ولا سيما العروضيون تصنيف هذه القوافي حين جعلوها في قسمين: القوافي الذلل، والقوافي النفر، وكأنها الخيل التي يسهل امتطاء بعضها، ويصعب امتطاء بعضها الآخر...
لقد تبدت ملامح نظرية السهولة والصعوبة في نطق الحروف لدى علماء العربية قديماً ومنهم الخليل وسيبويه والأصمعي والجاحظ وابن جني والسيوطي... ثم مضى الدارسون المعاصرون على هذا الغرار يؤكدونها ويحللونها. وممن نادوا بهذه النظرية كورتيوس ويتني Curtius Whitney إذ رأى أن المرء بطبيعته يجنح إلى السهولة وإلى الاقتصاد في الجهد، وذلك بصورة لا شعورية(12). وهذا ما حدث لعدد من الحروف العربية عبر عصور مديدة، إذ تطورت من الصعوبة إلى السهولة، وهكذا فإن جملة من الألفاظ كالكلام والكاف والباء والميم والسين حافظت على طبيعتها لأنها لا تحتاج إلى مجهود عضلي خاص كسواها داخل الفم، كالراء والظاء والغين والقاف والحاء... وغيرها من حيث صعوبة نطقها، على تفاوت فيما بينها في مدى هذه الصعوبة.
ومن أمثلة استسهال الناس نطق هذه الحروف، حتى غير الصعبة، ما نسمعه في اللهجات العربية المعاصرة لدى جماعات من أهل حلب وريفها، إذ يسقطون بعض حروف الحلق من كلمات معينة، كقولهم (أربين) بدل أربعين، و(رو) بدل روح، أو حروف أخرى كقولهم (خو) بدل خود أي خذ.. وكان سكان الحي اليهودي يقولون: يوم (الأحا) بدل الأحد. وفي كثير من البلاد العربية كمصر يسقطون الميم وهي علامة الجمع فيقولون (عندكو) بدل عندكم، على حين يسقط سائر العرب ميم الجمع في قولهم (انتو) بدل أنتم.
ومعظم العرب اليوم، ما عدا كثيرين في الأرياف ومنطقة حوض الفرات في سورية والعراق، يسقطون نون الأفعال الخمسة، فيقولون (يلعبو، يصلو) بدلاً من يلعبون ويصلون.
أما ألف الاثنين وصيغة التثنية فلم يعد لهما وجود في كلام الناس. وذلك كله من قبيل الاستسهال والاقتصاد في الجهد.
وفي صدد تمايز اللغات على هذا الصعيد الصوتي، حيث ينطوي بعضها على حروف ليس لها نظير في لغات أخرى، كما تقدم، يبدو من العسير على أي دارس تعليل هذا الاختلاف المتجذر لدى الإنسان منذ الأزل. إنه يمثل إحدى الظواهر البارزة في المجتمعات البشرية التي تتوضع على بساط البحث ليتسنى رصدها وتحليلها. بل إن هذا الاختلاف النسبي في مجال زمرة معينة من الحروف ينم على خصوصية الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كما ينم على تفرده دون سائر الحيوان، من حيث اتسامه الذاتي بملامح وجهه ونبرات صوته وبصمات أصابعه، وما ذلك في حقيقته إلا التعدد ضمن إطار الوحدة، والتنوع في رحاب الشمول.
ب ـ حرف الراء من الوجهة الصوتية:
وقد فطن اللغويون العرب قديماً إلى هذه الظاهرة الصوتية، في حدود معرفتهم ببعض لغات عصرهم ومغايرتها أحياناً للغة العربية في عدد من الحروف، ولعل أسبقهم الخليل الفراهيدي إذ قال(13): "وليس في شيء من الألسن ظاء غير العربية". ثم لاحظ الأصمعي مثل ذلك أيضاً وقال(14): "ليس للروم ضاد، ولا للفرس ثاء، ولا للسريان ذال". ولو أتيح للخليل أو للأصمعي في ذلك الزمن المبكر المزيد من المعطيات المعرفية لأضاف إلى قوله هذه العبارة مثلاً "وليس لأهل الصين راء..." وهذه حالة مستغربة في اللغة الصينية التي قد تكون الوحيدة ـ في حدود علمنا ـ على هذا الصعيد دون سائر اللغات.
أما حرف الراء من الوجهة الصوتية، وفي المنظور اللساني، فهو ذو خصوصية أخرى تميزه من سائر الحروف، وعلى صعيد كثير من لغات البشر.، إنه نادر الغياب عن بعضها، سائد الحضور في معظمها. وهو في الوقت نفسه مختلف الأداء على ألسنتها، وقلما يلفظ على نحو واحد وهذا معهود في اللغة الفرنسية وفي الإنكليزية والألمانية وغيرها. فالإنكليز، كما يصفهم العرب، يبتلعون الراء في كلامهم، على حين تبدو الراء على ألسنة الأمريكيين أجلى. وفي ذلك يذكر الدكتور كمال بشر(15): "إن الراء في الإنكليزية يختلف نطقها باختلاف موقعها. أما العرب فلا يميزون بين هذه الراء وتلك. ففي اللغة الإنكليزية النموذجية Standard British English لا تكاد الراء تلفظ إذا وقعت في آخر الكلمة مثل Singer، أو وقعت في وسط الكلمة غير متبوعة بحركة، كما في نحو Garden. وإنما تنطق الراء الإنكليزية إذا تبتعها حركة، سواء كانت في وسط الكلمة وأولها Present, Right, Red..." والراء كما يسميها علماء اللسانيات صوت مستلب أو مستل أو مفرد Flapped Consonant، ويحدث صوت الراء نتيجة طرقة واحدة من طرف اللسان على اللثة، ويصدر الوتران الصوتيان عند نطقها نغمة موسيقية فهذه الراء حرف صامت مجهور لثوي مستل(16) A Voiced alveolar Flapped consonant.
أما الراء في اللغة الفرنسية، وعلى نحو أخص في لهجة باريس الغالبة، فيلفظها الفرنسيون على نحو مغاير بحيث تكون شبيهة بصوت الغين العربية، أو الغين الخفيفة. والراء الألمانية أقرب ما تكون إلى هذه الراء الباريسية. "ويحدث صوتها حين تتذبذب اللهاة على أقصى اللسان، أي بحدوث طرقات سريعة متوالية، فتصدر عندئذ عن الوترين الصوتيين نغمة موسيقية عند تكوين الصوت، وهو صوت صامت مجهور...". فكلمة Frère الفرنسية أي الأخ تنطق "فغيغ". وليس لفظها هذا ميسراً بدقة على ألسنة العرب بوجه عام. وفي مقابل ذلك يصعب على الفرنسي بل يكاد يتعذر عليه أن ينطق الراء العربية ـ وهي صوت مكرر ـ كأهلها.
وفي هذا الصدد، من حيث اقتراب صوت الراء في لغات الغرب الأوربي من صوت الغين، يرى الدكتور محمود فهمي حجازي(17): "أن عدداً من اللغات الأوروبية لا تميز الراء عن الغين من الناحية الفونيمية... ولذا يجد أبناء اللغة الألمانية مثلاً صعوبة في التمييز بين الراء والغين عند تعلمهم اللغة العربية. ويصعب هذا الأمر لو التقى الصوتان في كلمة واحدة مثل (مغرب)، فتسمع هذه الكلمة عند كثير منهم كما لو كانت بغين مشددة"...
ويتجلى الأمر نفسه، أي تداخل صوتي الراء والغين، في كلام صغار الأطفال من أي قوم. "إذ يغلب لديهم أن تكون الراء لهوية، وهذا سبب قربها من الغين لتقارب مخرجيهما"(18).
والإسبان، خلافاً للإنكليز، يلفظون الراء شديدة النبرة والوضوح. ولا تختلف الراء الأرمنية عن الراء العربية إلا قليلاً، إذ إنها صوت مكرر أي مشدد. وهي مبثوثة في داخل الألفاظ وفي نهاياتها، لكن الألفاظ في الأرمنية التي تبدأ بحرف الراء قليلة بل نادرة لا تتجاوز عشر كلمات، وهذه في معظمها دخيلة على اللغة الأرمينية، كما أنها أخفت نطقاً من سائر الراءات(19).
وإذا كان لهذا التداخل الصوتي بين الراء والغين لدى الأطفال وفي العديد من اللغات من دلالة، فهي أيضاً صعوبة نطق الراء، ومن ثم ترجرج أصوات هذا النطق وتعدد أوجهه. وقد يؤدي ذلك إلى اللثغة في تعدد أشكالها أيضاً، على غرار ما سيتضح بعد صفحات وربما كانت هذه الصعوبة المتحكمة في النقط أشق على الطفل، بحيث تدفعه إلى إسقاط الراء جملة من كلامه عوضاً عن البحث عن حرف بديل. وقد نقل الدكتور إبراهيم أنيس(20) عن أحد الأدباء الفرنسيين أن طفله نطق كلمة Merci (Meci)، أي من دون راء، وذلك وفق قانون الاستسهال المعهود.
***
والراء من الوجهة الصوتية حرف منطوق لدى الأمم، قديمها وحديثها، وله حيز في لغات العالم القديم وكتاباتها، ومنها السومرية والأكادية والهيروغليفية والسنسكريتية والإغريقية وسائر اللهجات الكنعانية واللاتينية.... ونجد هذا الحرف مثلاً في كلمات "أرض" العربية، Erestu' الأكادية، وErd في العربية الجنوبية، وEres في العبرية(21).... وتعد الراء عند علماء العربية قديماً من أكثر الحروف دوراناً على لسان العرب"(22).
وحرف الراء هو الحرف العاشر من حروف الهجاء العربية وفق الترتيب الألفبائي، وموقعه الحرف العشرون على حسب الترتيب الأبجدي. وهو يرمز إلى العدد مئتين 200 فيما يعرف (بحساب الجمّل)(23). ومن المصادفات أن يكون موقع الراء هو العشرين أيضاً في الترتيب الحلقي للخليل الذي بنى عليه معجمه "العين"، وأن يحافظ هذا الحرف أيضاً على موقعه العشريني في تعاقب حروف معجم "البارع" لدى أبي علي القالي، وكذلك في معجم "تهذيب اللغة" لدى معاصره الأزهري...(24).
وقد حظيت الراء، ومعها أحرف أخرى قليلة وهي الضاد والجيم باهتمام اللغويين والأدباء من العرب الأقدمين، وكانت لهم فيها دراسات مسهبة ودقيقة. وحين ألّف الخليل معجمه الرائد وجعل ترتيب الحروف على حسب مخارجها في الفم بدءاً من أقصى الحلق وانتهاء بالشفتين، غدا بذلك واضع علم الصوتيات Phonlogie. ثم مضى الذين أتوا بعده في تناولهم حروف الهجاء ومحاولتهم تبيين مخارجها، والكشف عن آلية النطق بها. كما عني تلميذه سيبويه ولفيف من اللغويين، وفي طليعتهم ابن جني برصد مخارج الحروف في ألفاظ العربية على أساس صوتي من حيث الجهارة والهمس، فجعلوها في صنفين، فهي إما مجهورة، كالهمزة والضاد والراء...، وإما مهموسة كالهاء والحاء(25). وكان الخليل هو الأسبق إلى التفريق بين المجهور والمهموس.
وفي الوقت نفسه رأى سيبويه أن حروف العربية مطبقة أو غير مطبقة، فالمطبقة تضم الضاد والصاد والطاء والظاء....، تقابلها حروف غير مطبقة أي منفتحة ومنها الدال والزاي والسين... وهي تشكل غالبية حروف العربية، وفي عدادها حرف الراء. "والأصوات المطبقة عند سيبويه، أن ينطبق اللسان إلى ما يحاذي الحنك الأعلى، أي ارتفاع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك، وتقعر وسط اللسان"(26)، والإطباق في اللغة العربية كما يرى برغشتراسر(27) نوع من الاستعلاء الذي هو رفع أقصى اللسان نحو ما يليه من الحنك، ويزاد على ذلك تقلّص ما في الحلق وأقصى الفم".
وعلى صعيد ثان، من حيث شدة الحروف أو رخاوتها وجد سيبويه أن حروف الهجاء العربية تقع ضمن ثلاث مجموعات أو زمر، الأولى حروف شديدة، وهي الهمزة والقاف، والكاف والجيم...، والثانية هي الرخوة، وتضم الهاء والحاء والخاء والسين.... إلخ.. ووجد زمرة ثالثة هي بين بين، أي بين الرخاوة والشدة، وفيها الراء والنون واللام. وهذه الصفة تعرف في الدراسات اللغوية الحديثة بأنها حرف مائع Liquide(28).
ومن جهة أخرى أو على صعيد ثالث لاحظ سيبويه في حرف الراء سمة تميزه من سائر الحروف، فهو حرف منفرد لا يشاركه على صفته حرف سواه، وهي التكرير الصوتي، قال(29): "ومنها المكرر. وهي حرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام، وهو الراء". وقال في موضع آخر(30): "الراء إذا تكلمت بها أخرجت كأنها مضاعفة، والوقف يزيدها إيضاحاً"، والمقصود بذلك هو تكرار اهتزازات اللسان في أثناء النطق به. "ويصنف حرف الراء أيضاً في الدراسات المعاصرة بأنه وحده من الصوامت المكررة Rolled Consonants(31).
وفي "باب الإدغام" يصنف سيبويه في كتابه أصوات الحروف المجهورة على أساس قوامه الجهر والهمس، ويذكر إن الأصوات المجهورة تبلغ تسعة عشر حرفاً، وفي عدادها حرف الراء. أما الأصوات الأخرى أي المهموسة فعددها عشرة أحرف. ثم يقول مفصلاً(32): "فالمجهور حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه، وأما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه".
كذلك عين صاحب "الصحاح" هذا الصوت المجهور بقوله(33): "ومخرج الراء من طرف اللسان، بينه وبين ما فوق الثنايا العليا".
ويبدو لنا أن أبا الفتح بن جني كان الأقدر في هذا الصدد، إذ استطاع تعيين آلية نطق الراء على اللسان، وبيان مخرجه في الفم، وفي ذلك قال(34): "الراء هو الصوت المنحرف، لأن اللسان ينحرف فيه مع الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عند اعتراضهما فويقهما على الصوت، فيخرج الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما". وقال في موضع آخر "ومن الحروف المكررة، وهو الراء، وذلك أنك إذا وقفت عليه رأيت طرف اللسان يتعثر بما فيه من التكرير، ولذلك احتسب في الإمالة بحرفين". وذكر غير هؤلاء أيضاً سمة التكرير(35) بقوله: "الراء يقال لها الحرف المكرر لأنك إذا نطقت بها كنت كأنك ناطق براءين". ثم فصّل الدكتور كمال بشر هذه السمة بقوله(36): "يتكون هذا الصوت بأن تتكرر ضربات اللسان على اللثة تكراراً سريعاً. وهذا هو السر في تسمية الراء بالصوت المكرر، ويكون اللسان مسترخياً في طريق الهواء الخارج من الرئتين، وتتذبذب الأوتار الصوتية عند النطق به، فالراء صوت لثوي مكر مجهور".
ج ـ الإدغام وتقارب مخارج الحروف:
تشكل الحروف العربية وفق مخارج أصواتها في الفم Point d' Articulation رمزاً متقاربة فيما بينها ومتشابهة مثل زمرة حروف الحلق، فحروف الذلق، فالحروف اللثوية، فالحروف الشفوية... وعلل أبو الفتح بن جني(37): "اختلاف الأجراس في حروف المعجم باختلاف مقاطعها (أي مخارجها) التي هي أسباب تباين أصدائها". وذكر أن "بعضهم شبه الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلاً أملس ساذجاً...، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه".
وتقع الراء ضمن حروف الذلق وهي ثلاثة: "الراء، اللام، النون". وتبعاً لتقارب مخارج الأصوات ضمن كل مجموعة وضيق حيز كل منها داخل الفم، فإنه من الطبيعي أن يحدث تداخل بين هذه الأصوات، أو اختلاط بعضها ببعضها الآخر، أو حلول أحدها محل الآخر... إلخ وهذا معهود مثلاً بين الحاء والهاء، وبين القاف والكاف، وبين الضاد و الظاء، وبين السين والصاد، وبين الزاي والسين وبين التاء والطاء...، وأيضاً بين الراء واللام...
قال الخليل في كتابه العين(38): "اعلم أن الحروف الذلق والشفوية ستة، وهي ر ل ن، ف ب م. وإنما سميت هذه الحروف ذلقاً لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان والشفتين، وهما مدرجتا هذه الأصوات الستة، منها ثلاثة ذلقية ر ل ن تخرج بعد ذلق اللسان من طرف غار الفم" وقال: "ولا ينطلق طرف اللسان إلا بالراء واللام والنون". ثم قال: "ثم الراء واللام والنون في حيز واحد".
ذكر صاحب الصحاح(39) أن: "الحروف الذلق حروف طرف اللسان والشفة، ثلاثة ذولقية: اللام والراء والنون، وثلاثة شفهية: الميم والباء والفاء"، وقال: "ذولق اللسان والسنان طرفهما".
ولا ريب في أن فقهاء اللغة في الماضي أحسوا بالعلاقة الصوتية بين هذه الحروف الثلاثة، فجمعوها تحت اسم واحد هو الحروف الذلقية Apicales. وتمتاز هذه المجموعة بوضوحها الصوتي، "فهي شبيهة بأصوات اللين، ليست شديدة لا يسمع معها انفجار وليست رخوة فلا يكاد يسمع لها حفيف الأصوات الرخوة. ولذا عدها القدماء من الأصوات المتوسطة بين الشدة والرخاوة..."(40).
والتداخل بين الحروف الذلق الثلاثة كثير الوقوع في كلام العرب وأيضاً في قوافي أشعارهم، بحيث يحل حرف محل آخر. من هذا القبيل مثلاً ما يقع بين الراء والنون، وفي ذلك يقول الخليل(41): "وأما الراء فمنحرفة من مخرج النون إلى اللام لمزية دموجها في ظهر اللسان عند الكلام، ولقرب مخارجها يبدل بعضها من بعض". كذلك يكون التداخل بين اللام والنون(42)، والراء واللام... وفي ذلك يذكر سيبويه بصدد الراء، ويجاريه أيضاً ابن جني والزمخشري في أن هذا الحرف(43) من مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلاً لانحرافه إلى اللام". وهذا يوافق ما نعبر عنه اليوم بأنه صوت لثوي.
ومن خصائص العربية على الصعيد الصوتي ندرة اقتران الراء والنون بل عدمه، بسبب تجاور مخرجيهما. وإلى ذلك يذهب اللغويون العرب(44) فيرون أنه لا تكاد الراء تكون بعد النون من غير فاصل في كلام العرب" وهذا سائد في المعاجم وسائر كتب اللغة، على حيث يكثر ذلك في الكلمات الدخيلة، من الفارسية والهندية والتركية وغيرها، مثل: نرد، نرجيلة، نرمين نردين نرفانا... ويقول سيبويه في هذا الصدد تجاه هذين الحرفين الذولقيين(45): "ولا نعلم النون وقعت ساكنة في الكلام قبل راء ولا لام، لأنهم إن بيّنوا ذلك ثقل عليهم، لقرب المخرجين". وآية ذلك أن العرب كانوا يؤثرون إدغام النون باللام، بحيث يسقطون النون من كلامهم ويقلبونها لاماً، وذلك في مثل: (إن لا، أو أن لا). فيقولون: (إلا، وألا، ولئلا) كأن نقول: انتبه، وإلا أوذيت، أو: أرجو ألا تكون مخطئاً، أو ابتعد عن رفاق السوء لئلا تعد منهم.. وعلى ذلك جنح كبار القراء في الإسلام في تلاوتهم آيات القرآن الكريم إلى هذا المنحى، أي إلى الإدغام الذي غدا عنصراً مهماً في علم "التجويد".
وإذا انعطفنا من النون واللام، إلى الراء واللام، وهذه جميعاً من زمرة الحروف الذولقية، تبدت أمامنا صور مشابهة من النطق أيضاً، ولعلها أشمل في هذا الصدد، أي ضمن الظاهرة الصوتية المسماة بالإدغام. ولسيبويه أيضاً آراء سديدة ضمن "باب الإدغام" الذي يعد من أهم فصول كتابه وأدقها في مجال الصوتيات. ومن نظراته في هذا الصدد تناوله لام المعرفة، أي لام التعريف، فهي(46) "تدغم في ثلاثة عشر حرفاً، لا يجوز معهن إلا الإدغام لكثرة لام المعرفة في الكلام، وكثرة موافقتها لهذه الحروف... منها حرفان يخالطان طرف اللسان. والأحد عشر حرفاً: النون والراء، كقولك النعمان والرجل... إلخ". والأمثلة على ذلك كثيرة في كلمات لا تكاد تحصى إضافة إلى ذلك ضمن ما اصطلح عليه النحاة حول الكلمات التي تتصل بها اللام الشمسية، والكلمات المقابلة التي تتصل بها اللام القمرية... غير أن سيبويه لا يرى الإدغام بين اللام والراء مطرداً إلا مع اقتران الراء بأل التعريف أي على صعيد اللامات الشمسية، فهو يمضي في قوله: "... فإن كانت غير لام المعرفة، نحو لام (هل وبل)، فإن الإدغام في بعضها أحسن، وذلك في قولك: (هرّ أيت). وإن لم تدغم فقلت (هل رأيت) فهي لغة لأهل الحجاز، وهي عربية جائزة". ويفصل سيبويه القول في حالات الإدغام، فيأتي بأمثلة أخرى للراء مع النون في مثل: مرّ أيت، أي من رأيت، ويقول(47): "وتدغم اللام مع الراء لقرب المخرجين، لأن فيها انحرافاً نحو اللام قليلاً، فقاربتها في طرف اللسان، وهما في الشدة وجري الصوت سواء، وليس بين مخرجيهما مخرج، والإدغام أحسن". ومن أمثلة ذلك أيضاً الكلمتان الواردتان في إحدى آيات القرآن الكريم، وهي(48): (كلا بل ران على قلوبهم( فقد أثر بعض قراء المسلمين تلاوة الآية: "كلا برّان"... بإدغام اللام مع الراء.
ويعيد الزمخشري فيما بعد، تناول ظاهرة الإدغام بين بعض حروف العربية فيقول(49): "والراء لا تدغم إلا في مثلها كقوله تعالى: (واذكر ربك(، وهو يؤكد ما أورده سلفه سيبويه بقوله أيضاً: "إدغام الراء في اللام جائز في مثل لام هل وبل، ويتفاوت جوازه إلى حسن، وهو إدغامها في الراء، وإلى قبيح، وهو إدغامها في النون...".
وإذا كان هذا حال الراء واللام بصدد ما بينهما من "تداخل" فثمة جانب آخر يضارعه تجاه هذين الحرفين فيما يمكن أن نسميه في المقال "التبادل"، حيث نقع في لغة العرب على جوانب من كلامهم المسموع الذي ترد خلاله ألفاظ كثيرة رويت على وجهين، وجه بالراء ووجه باللام، من ذلك قولهم: رمقه ولمقه أي لحظه ونظر إليه، وربكه ولبكه أي خلطه.
ويقال امرأة جلبّانة وجربانة وهي الصخابة السيئة الخلق. ويقال عود متقطل ومتقطر أي مقطوع. وقال أبو عبيدة: يقال سهم أملط وأمرط إذا لم يكن عليه ريش، وقد تملّط ريشه وتمرّط. ويقال جلمه وجرمه إذا قطعه. قال أبو علي: ومنه سمي الجلم الذي يؤخذ به الشَّعر. والتلاتل والتراتر: الهزاهز...." إلخ.
كلها أصوات اتحدت في الصفة وفي الدلالة، ولكنها اختلفت في نسبة وضوحها في السمع. وهذه الأصوات يحل بعضها محل بعض، كالراء مع اللام، فإن الأولى أوضح في السمع، مع أن كلاً منهما من الأصوات المتوسطة الشبيهة بأصوات اللين"(50).
على أن هذه الظاهرة في اللغة تتطلب منا وقفة متأنية، ففي كتب اللغة والغريب ثنائيات أخرى مغايرة من الألفاظ يتضمن كل منها حرفاً مجانساً بطبيعة صوته لحرف آخر، فقد أورد صاحب الأمالي كلمات كثيرة من هذا القبيل. فبصدد ما تعاقب فيه الفاء والثاء مثلاً يورد ألفاظاً عديدة مثل(51): "الدفينة والدثينة، وفلغ رأسه وثلغ رأسه، والنكاث والنكاف، واللثام واللفام، وانفجر وانثجر، والحثالة والحفالة" إلخ. كما أورد ابن جني أمثلة أخرى في هذا الصدد، منها(52): "جدث وجدف، ورجل قح وأعرابية قحة، ورجل كح وأعرابية كحة...
إن تعاقب بعض الكلمات مثلاً، مرة بالثاء ومرة بالفاء بمعنى واحد أمر فيه نظر، فالمخرجان متقاربان في الفم واختلاط جرسهما معهود في الأذن، ومثل هذا كثير في ألفاظ أخرى مثل القحط والكحط، قهر وكهر، وردم ولدم. وقد يحق لنا بعد ذلك أن نشك أيضاً في صحة بعض هذه المرويات اللغوية، ونعزو هذه الظاهرة إلى آثار الجمع الأولي، والاعتباطي لمفردات العربية، حين كان العلماء ينسخون ما يتفوه به الأعراب سماعاً. وآية ذلك ما ذكره ابن جني(53) إذ قال: "إنهم قد اجمعوا في الجمع (جدث) على أجداث، ولم يقولوا أجداف. كذلك روي عن أبي زيد أن العرب تقول أعرابي قح وأعرابية قحة، وحكي في جمع قح أقحاح ولم نسمعهم قالوا أكحاح". وقد يدل هذا النص على أن كلمة جدف وكلمة كح ليستا راسختين في كلام العرب. وفي مثل هذه الأحوال كثيراً ما تختلط الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فلا تستطيع الأذن أحياناً أن تمايز بينهما، هذا إذا سلمنا بسلامة أسماع الرواة الجامعين، ومنهم من تقدمت بهم السن(54) غير أن هذا ليس مطرداً إلا في أحوال بعينها، فمثل هذه الازدواجية أو التعددية في اللفظ الواحد بسبب تقارب مخارج الحروف ناجم في أحيان كثيرة عن تعدد اللهجات لتعدد القبائل في مثل: قشط وكشط، فقريش تقول: "كشطت عنه جلده، وقيس وتميم وأسد تقول قشطت(55)، وفي القرآن الكريم(56): (وإذا السماء كشطت(، وفي مصحف ابن مسعود "قُشطت.." وكتب العربية حافلة بمثل هذه الثنائيات اللفظية مثل أرخ وورخ، أو أكد ووكد...".
د ـ التواشج الصوتي بين الراء واللام:
من الظواهر التي تتناولها الدراسات اللغوية في مجال اللسانيات والصوتيات في كلام البشر ظاهرة التبادل أو التناوب بين بعض الحروف بسبب تقارب مخارجها الصوتية، من مثل ما يكون بين الزاي والسين بوجه عام. ويكثر ذلك أيضاً في العربية بين الحاء والهاء، وبين القاف والكاف وبين الضاد والظاء وبين الراء واللام...، ولا سيما ضمن حروف الذلق.
ففي كلام العرب ربد ولبد أي أقام، وركد ولكد أي لزم وسكن، ورمز ولمز أي أشار، وجرف وجلف أي قذف وأبعد، والخيزري والخيزلى...(57) ومن هذا القبيل ما أورده أبو علي القالي في كتابه الأمالي في فقرة مطولة حول ما تعاقبت فيه اللام والراء.
(1) الخصائص، 1/33، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952.
(2) سر صناعة الإعراب، 1/6، تحقيق مصطفى السقا وآخرين. طبعة البابي الحلبي. مصر 1954.
(3) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، المقدمة، القاهرة 1998.
(4) انظر مقالة حسن عباس، الحرف العربي بين الأصالة والحداثة، مجلة التراث العربي، العددان 42 ـ 43، كانون الثاني ـ نيسان. دمشق 1991.
(5) انظر تفصيل ذلك في بحث عمر الدقاق "لفظ الأم وتجذر بنيته في لغات البشر" حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. جامعة قطر، العدد السابع عشر، 1415هـ ـ 1994م.
(6) البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون 1/62، القاهرة 1968.
(7) عامة الناس ولا سيما الأطفال في كثير من البلاد العربية يحاكون صوت الغنم هذا بلفظ (ماع).
(8) عمر الدقاق، لفظ الأم وتجذر بنيته في لغات البشر.... 35.
(9) همع الهوامع، 2/228، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد بدر الدين النعساني.
(10) توقف كبار اللغويين في الماضي عند هذه الظواهر الصوتية على ألسنة الناطقين بالعربية وفي هذا الصدد كتب جمّة ودراسات في القديم والحديث تكاد لا تحصى.
(11) كتاب ذيل الأمالي، أبو علي القالي، 142، دار الكتب المصرية 1953، وكتاب الفرق بين الحروف الخمسة، أبو محمد عبد الله البطليوسي، تحقيق عبد الله الناصير، 187، دار المأمون للتراث، دمشق 1984.
(12) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 235، القاهرة 1981.
(13) كتاب العين 1/53، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي. ط 2، إيران 1409هـ 1989م.
(14) البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، 1/65، القاهرة 1968.
(15) الأصوات اللغوية، 177، القاهرة 1987.
(16) انظر: علم اللغة، الدكتور محمود السعران، 187 ـ 188، دار الفكر العربي، القاهرة 1962.
(17) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجاز، 38 ـ 39. القاهرة 1998.
(18) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 218، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1981.
(19) استقيت هذه المعلومات من الباحث الأرمني الحلبي مهران ميناسيان.
(20) انظر: الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 224، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1981.
(21) علم اللغة العربية، الدكتور محمود فهمي حجازي 199، الكويت 1973.
(22) شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي، حوادث سنة 131هـ، مكتبة القدسي، مصر 1351هـ.
(23) معجم الصحاح في اللغة والعلوم، مادة "الراء" أبو نصر، إسماعيل بن حماد الجوهري 1/449، تصنيف نديم مرعشلي، دار الحضارة العربية، بيروت 1974.
(24) أذكر أنني قرأت لأحد الباحثين مقالة أحصي فيها عدد الراءات في القرآن فكانت 93711 ثلاثة وتسعين ألفاً وسبعمئة وإحدى عشرة مرة، ولكن فاتني ذكر عنوان المقالة واسم صاحبها.
(25) "الكتاب" سيبويه، أبو بشر، عمرو بن عثمان، تحقيق عبد السلام هارون، 4/435. سلسلة تراثنا، القاهرة 1975. وأيضاً سر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جني، 1/68 ـ 69، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، طبعة عيسى البابي الحلبي، مصر 1954.
(26) مدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، 57 ـ 58، دار قباء، القاهرة 1998.
(27) التطور النحوي للغة العربية، محاضرات برغشتراسر 26، مكتبة الخانجي، ط ثانية، القاهرة 1994.
(28) في علم الأصوات اللغوية وعيوب النطق، الدكتور البدراوي زهران 332، دار المعارف، القاهرة 1994.
(29) الكتاب، سيبويه، 4/435.
(30) الكتاب، 4/136.
(31) المدخل إلى علم اللغة، الدكتور محمود فهمي حجازي، 56، دار قباء، القاهرة 1998.
(32) الكتاب، سيبويه، 4/435، وسر صناعة الإعراب، 68 ـ 69.
(33) الصحاح في اللغة والعلوم، الجوهري: مادة الراء. تصنيف نديم مرعشلي، 1/449، بيروت 1974.
(34) سر صناعة الإعراب، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق مصطفى الساق ورفاقه، 1/52 ـ 53، 72... القاهرة 1954.
(35) الإبانة في اللغة العربية، سلمة بن مسلما لعويتبي. تحقيق الدكتور عبد الكريم خليفة، 1/84. مسقط د.ت.
(36) الأصوات اللغوية، الدكتور كمال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة 1987.
(37) سر صناعة الإعراب، 1/9.
(38) كتاب العين، 1/51، 52، 58.
(39) الصحاح في اللغة والعلوم، مادة "ذلق" وأيضاً المفصّل في علم العربية، جار الله محمود بن عمر الزمخشري، 2/289، القاهرة، د.ت.
(40) الأصوات اللغوية، الدكتور إبراهيم أنيس، 63، مكتبة الأنجلو مصرة، القاهرة 1981.
(41) تذكرة النحاة، تحقيق عفيف عبد الرحمن، 25 مؤسسة الرسالة، بيروت 1986. ورد ذلك بإسناد عن طريق الليث بن المظفر عن الخليل.
(42) يكثر استعمال النون في العربية، ولا سيما التنوين في الأسماء، وهو أنواع عند النحاة. وبعض العرب كانوا يقلبون اللام نوناً فيلفظون لعلّي: لعنّي. كما ورد في أمالي القالي وسواه (2/134)، ومن هذا القبيل ما نسمعه اليوم لدى سكان حوض الفرات غربي العراق وشرقي سورية وبعض أهالي حلب وصعيد مصر من قلب اللام نوناً، أو النون لاماً في لهجاتهم المحلية كقولهم: اسماعين، منيح، نيرة، برتقان، بدل إسماعيل، مليح، ليرة، برتقال. أو كقولهم عكس ذلك: أنتيل، كمبيالة، بدل فنجان، أنتين، كمبيانة.
(43) سر صناعة الإعراب، ابن جني، تحقيق السقا، 1/52 ـ 53. مصر 1954.
(44) تاج العروس، الزبيدي، مادة (نرس): "وليس في الكلام نون فراء بلا فاضل". وفي القاموس، مادة نرش: ليس في كلامهم راء قبل نون".
(45) الكتاب، 4/456، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1975.
(46) الكتاب، 4/457.
(47) الكتاب، 4/448 ـ 452.
(48) سورة المصففين، الآية 14.
(49) المفصل، الزمخشري، جار الله محمود عمر، 2/295، شرح محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، د.ت.
(50) في اللهجات العربية، الدكتور إبراهيم أنيس، 189.
(51) كتاب الأمالي، أبو علي القالي، 2/3، دار الكتب المصرية 1926.
(52) سر صناعة الإعراب، 1/250، 251، 278، 280.
(53) سر صناعة الإعراب، 1/280 ـ 278.
(54) لمزيد من التوسع يمكن الرجوع إلى كتاب "أبو علي القالي ومنهجه في البحث واللغة". الدكتور عمر الدقاق 184، منشورات دار الشرق، حلب 1977.
(55) كتاب الأمالي، أبو علي القالي، 2/135، وسر صناعة الإعراب، 1/278.
(56) سورة التكوير، الآية 11.
(57) أورد الدكتور إبراهيم أنيس هذه الألفاظ وسواها في كتابه اللهجات العربية، 189، القاهرة 1980.
[align=center]يتبع [/align]