حذف حرف العطف

إنضم
29/10/2023
المشاركات
52
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
الإقامة
ليبيا
في اللغة الإنجليزية يمكنك أن تقول:
I ate a lot of food: meat, rice, salad, fish, appetizers, and sweets.
لكن هذا الأسلوب في اللغة العربية غير معروف، وكثير من الناس يتخذونه عادة في لغتهم العربية؛ متأثرين باللغات الأجنبية؛ فيقول أحدهم مثلا: حضر الطلاب: زيدٌ، عمرٌو، خالدٌ، محمدٌ، وعليٌّ.
وقد اختلف النحاةُ في مسألةِ حذف العاطف دون المعطوف؛ فمَنَعَ ذلك ابنُ جني، وقال: «واعلم أن حرف العطف هذا قد حذف في بعض الكلام، إلا أنه من الشاذ لا ينبغي لأحد أن يقيس عليه غيره، حدَّثَنَا أبو علي، قال: حكى أبو عثمان: أكلت لحمًا، سمكًا، تمرًا، يريد: لحمًا، وسمكًا، وتمرًا... فحذف حرف العطف. وهذا عندنا ضعيف في القياس، معدوم في الاستعمال، ووجْهُ ضعفِه أن حرف العطف فيه ضربٌ من الاختصار؛ وذلك أنه قد أقيم مقام العامل، ألا ترى أن قولك: (قام زيد وعمرو) أصله: قام زيد وقام عمرو، فحذفت "قام" الثانية، وبقيت الواو كأنها عوض منها؟ فإذا ذهبت تحذف الواو النائبة عن الفعل تجاوزت حد الاختصار إلى مذهب الانتهاك والإجحاف؛ فلذلك رُفِض ذلك، وقد تقدم من القول في هذا المعنى ما هو مُغْنٍٍ بإذن الله تعالى.
وشيء آخر، وهو أنك لو حذفت حرف العطف لتجاوزت قبح الإجحاف إلى كلفة الإشكال؛ وذلك أنك لو حذفت الواو في نحو قولك: (ضربت زيدًا وأبا عمرو)، فقلت: (ضربتُ زيدًا أبا عمرو)، لأوهمتَ أن زيدًا هو أبو عمرو، ولم يعلم من هذا أن (زيدا) غير (أبي عمرو) فلما اجتمع إلى الإجحاف الإشكال قبح الحذف جدًّا».
كما منع ذلك أيضًا السهيلي، وابن الضائع، وجعلوا ما سُمع من ذلك من الشاذ الذي لا يقاس عليه. ونَسَبَ العلائيُّ والعينيُّ هذا المنعَ إلى الجمهور، وذكر العينيُّ أن بعضهم أجازه في الضرورة.
والذي يُفهَمُ من كلامِ بعضِهم أن هذا قليل، وبعضهم ذَكَرَ أنه شائعٌ. وقد قيَّدَ المحققون منهم الجوازَ بفهم المعنى وأمنِ اللبس.
وهذا الحذف يكون في الواو والفاء و(أوْ)، على تفاوُتٍ بينها في القلة، وزاد بعضهم (أَمْ)، لكنه لم يستشهد عليه إلا بالشعر؛ فيحتمل أن يكون هذا خاصًّا بالضرورة.
وقد احتج ناظر الجيش لجواز حذف الواو بحديث: «تَصَدَّقَ رجلٌ مِن دينارِه، مِن دِرْهَمِه، مِن صاعِ بُرِّه، مِن صاعِ تَمْرِه»، فقال: «ومِن حذف الواو وبقاء ما عطفت: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع برّه، من صاع تمره» أي: من ديناره إن كان ذا دنانير، ومن درهمه إن كان ذا دراهم، ومن صاع بره إن كان ذا بر، ومن صاع تمره إن كان ذا تمر. ... وليُعْلَمْ أن مَنْعَ ابن جني والسهيلي وابن الضائع حَذْفَ حرف العطف فيه نظرٌ؛ لأن هذه الشواهد المذكورة تدفعه».
كما احتج بالحديث أيضًا عددٌ من النحاة، منهم: ابن عقيل، والبقاعي، والشاطبي -على الأظهر-، والسيوطي، والأشموني، ومجمع اللغة العربية المصري. وساقه ابنُ مالكٍ وآخرون، لكنهم ذكروا أنه مثالٌ، أو يُفهَمُ مِن صنيعهم ذلك، فهُم ساقوه مساق التمثيل لا مساق الاحتجاج.
والحديث المذكور صحيح رواه مسلم، وقد وقع اختلافٌ في لفظه، لكن أكثر الروايات التي وَرَدَ فيها موضعُ الشاهد - على عدمِ ذكر العاطف، وقد ورد من طريقين:
- فرواه الفضل بن دُكَيْن عن أبي إسرائيل عن الحكم عن أبي جحيفة  مرفوعًا.
- ورواه أكثر أصحاب شعبة عنه، وهو رواه عن عون بن أبي جحيفة، عن المنذر بن جرير بن عبد الله عن أبيه ، وتابعَ شعبةَ خالدُ بن الحارث، وتابعَ عونًا عبدُ الملك بن عمير. فلم أجد خلافًا من هذا الطريق إلا من بعض أصحاب شعبة.
ثم إن أكثرَ الروايات التي جاء فيها ذكر العاطف وردت في الكتب المتأخرة. فالأقرب أن المحفوظَ عدمُ ذِكْر العاطف. وعليه فالاحتجاج بالحديث مستقيم من حيث الرواية.
لكن من حيث الدراية قد يُقال: إنه لا دليل فيه على جواز الحذف؛ لأنه يمكن أن يُخرَّج على أنه على سبيل التعداد فلا حاجة إلى ذكر حرف العطف، أو على أنه من باب الإبدال -كما قرر الشاطبيُّ.. والأقرب هو توجيه الحديث بأنه على سبيل التعداد والتنويع، فهو ممكن فيه، وهو أحسن من القول بأنه على حذف الواو.
وللحديث نظائر يمكن أن تشهد له، منها:
- حديث: «التحيّات المباركات الصّلوات الطّيّبات لله».
وهو حديث صحيح رواه مسلم، وقد جاء عن ابن عباس من ثلاث طرق أو أكثر، وليس بينها خلاف في لفظ الشاهد، وهو من أحاديث الأذكار، وهي مما يُحرَص على أدائه بلفظه . وعليه فالاحتجاج بالحديث مستقيم من حيث الرواية.
وقد جاء حذف الواو في هذا الموضع من التشهد في روايات أخرى عن بعض الصحابة. فكلها تَشْهَدُ لبعضها.
وأما من حيث الدراية فقد حكى ابن الأثير، وكذا أبو القاسم اللورقي أن الشافعي حمله على حذف الواو، وكذلك حَمَلَه النووي على ذلك.
وقال ابن حجر: «قال البيضاوي: «يحتمل أن يكون (والصلوات والطيبات) عطفًا على (التحيات)، ويحتمل أن تكون (الصلوات) مبتدأً وخبره محذوف، و(الطيبات) معطوفةً عليها، والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثانية لعطف المفرد على الجملة».
وقال ابن مالك: «إن جعلت (التحيات) مبتدأ، ولم تكن صفة لموصوف محذوف؛ كان قولك: (والصلوات) مبتدأ؛ لئلا يُعطف نعت على منعوته، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكل جملة مستقلة بفائدتها. وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو»».
وقال العيني: «كل واحدة من (الصلوات) و(الطيبات) مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: والصلوات لله والطيبات لله، فتكون هاتان الجملتان معطوفتين على الجملة الأولى وهي «التحيات لله».
والذي يترجح هو أن في الحديثِ حذفًا لواو العطف، بدليلِ تَشَهُّدِ ابن مسعودٍ وغيرِه، وأن هذا العطف دائر بين أن يكون عطفَ جُمَلٍ أو عطفَ مفرداتٍ.
- حديث: «فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وهذا الحديث صحيح رواه مسلم، وقد اختلفت الروايات في إثبات (أو) وعدمِه، لكن أكثرها على إثباتها.
وأكثر الروايات التي بغيرِ إثباتٍ جاءت من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، ويبدو أنه هو المحفوظ عنه، لكن يُشكل على ذلك أمران:
أولهما- أن ابن لهيعة شارك أبا الزناد في رواية الحديث عن الأعرج، ورواه بالإثبات، وكذلك شاركَ الأعرجَ في روايته عن أبي هريرة همامُ بنُ منبه وأبو صالح وغيرهما، ورووا الحديث بالإثبات كذلك.
ثانيهما- أن بعض الرواة عن أبي الزناد رووا الحديث بالإثبات.
فالأقرب أن التصرف وقع من أبي الزناد فرواه تارة بالإثبات وتارة بدونه، أو رواه بدون إثبات وتَصَرَّفَ بعضُ الرواة فرووه بالإثبات.
لكن يمكن الاحتجاج بالحديث على أنه مِن كلامِ أبي الزناد؛ فإنه محفوظٌ عنه برواية الأكثرِ، وأبو الزناد ممن يُحتج بكلامه في العربية؛ فهو مدني، ومن كبار التابعين، توفي سنة 130، ووُصِفَ بأنه كان «فصيحًا، بصيرًا بالعربية»، وهذا يجعلُ كونَ أبيه من الموالي أمرًا غيرَ مؤثر.
فهذا ما يتعلق بجانب الرواية.
وأما من جهة الدراية فقد حَمَلَه البقاعي على حذف (أو)، ووافقه المناوي. ووجَّهَه علي القاري بقوله: «(آذيته): أي بأي نوع من أنواع الأذى. (شتمته): بيان لقوله: (آذيته)، ولذا لم يعطف. (لعنته): أي: سببته. (جلدته) : أي: ضربتُه. قال الطيبي: «ذكر هذه الأمور على سبيل التعداد بلا تنسيق، وقابلها بأنواع الألطاف متناسقة؛ ليجمعها كل واحد من تلك الأمور، وليس من باب اللف»».
لكن يُشكل على هذا أن عددًا من روايات الإثبات جاء فيها الإثبات في الموضع الأول.
وقال بعضهم: «قابَلَ أنواع الفظاظة والإيماء بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف، وعد الأقسام الأُوَلَ متناسبة بغير عطف، وذكر ما يقابلها بالواو لما كان المطلوب معارضة كل واحدة من تلك بهذه».
وأما بقية الأدلة التي احتُج بها في المسألةِ فيُنظَر في مناقشتِها مظانُّها؛ لأن المقام لا يحتمل ذلك.
- حديث: «إن الرجل ليصلي الصلاةَ وما يُكتَبُ له منها إلا عُشرُها، تُسُعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها، سُدسُها، خمسُها، ربعها، ثلثها، نصفها».
وجَّهَ قومٌ هذا الحديثَ على أن فيه حذفَ حرف العطف.
وأنكرَ ذلك آخرون، ووجَّهوه على أنه من بابِ بدل الإضراب أو البداء، منهم ابن عصفور، وناظر الجيش، والشاطبي، وغيرهم.
قال ابن عصفور: «والذي يُستدل به على بدل البداء قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليصلي الصلاة وما كُتِبَ له نصفُها ربعها ... إلى العشر»؛ إذ معلومٌ أنه ليس المعنى: وما كُتب له النصف مع الثلث وكذلك مع سائر الأجزاء؛ لأن ذلك لا يوجد لشيء من الأجزاء واحد، وأيضًا فإنه مناقض لمقصود الحديث من أن الرجل قد يصلي الصلاة وما كُتب له نصفها، أضرَبَ عن ذلك وأخبر أنه قد يصلي وما كُتب له ثلثُها، وهذا الحديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه، وقد اختُلِفَ في لفظِه بين مَن يثبت العاطف ومن لا يثبته، ويحتمل أن تكون الرواية المحتج بها مختصرةً لا مِن قَبِيل البدَل، بدليل روايةِ مَن رواه بالعطف، وروايةِ مَن رواه تامًّا، وقولِ بعضِ رواتِه: «حتى بلغ العُشر» ونحوِها من العبارات؛ وبناء على هذا فالاحتجاج بالحديث غير مستقيم من حيث الرواية؛ لقوة احتمال وقوع التصرف في لفظه من قبل الرواة. وعلى فرض صحة الاحتجاج به من حيث الرواية فهو من حيث الدراية مختلف في توجيهه، ويحتمل أكثر من وجه، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال.
 
عودة
أعلى