حديث الجمعة ( صلاة الفجر في مساجد المغرب )

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29 مارس 2003
المشاركات
19,306
مستوى التفاعل
124
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
01.png


عرفت أخي الدكتور أحمد بزوي الضاوي من خلال صفحات هذا الملتقى ، فلمستُ علماً وأدباً وأخلاقا عالية ، فلما وردني خطاب تكليف من وزارة الشؤون الإسلامية لرئاسة وفد المملكة العربية السعودية المشارك في معرض الكتاب الدولي للكتاب في الدار البيضاء ذلك العام عام 1428هـ رأيتها فرصة للقاء بأخي الدكتور أحمد والمشاركة في تلك التظاهرة الثقافية التي لم أزرها من قبل. وأرسلت للدكتور أحمد رسالة بذلك فرحب بي واستقبلني استقبالا كريما ككرم أخلاقه ، وذهبت معه لمدينة الجديدة التي يسكنها وأسرته الكريمة ، وأصر على أن أمكث معه في المنزل ولا أذهب للفندق المعد لي مسبقا في الدار البيضاء قريبا من فعاليات المعرض الدولي للكتاب .
كانت تلك أول زيارة لي للمغرب ، حيث لم أزره قبلها إلا من خلال القراءة والاطلاع فحسب . وقد استغرقت الرحلة من الرياض إلى الدار البيضاء ما يقارب السبع ساعات ، وقد كنت دونت ذكريات تلك الرحلة بتفاصيلها في أحد دفاتري رغبة في نشرها بعد عودتي ، ثم تتابعت الأيام ونسيت الأمر ، وزرت المغرب بعدها عدة مرات للمشاركة في بعض المؤتمرات العلمية في الجديدة وفي فاس ، ولم تزدني هذه الزيارات إلا محبة للمغرب وأهله ورجالات العلم والبحث فيه، وإجلالا لدور العلم وتاريخه في المغرب، وقرأت بعد ذلك في (سوسة العالمة) و (المعسول) لمختار السوسي فعرفت طرفا من تاريخ تلك المنطقة من مناطق المغرب .
من المواقف التي بقيت في ذاكرتي من الزيارة الأولى عندما أيقظني الدكتور أحمد الضاوي لصلاة الفجر فتوضأت ، ثم أعطاني ثوباً مغربياً صوفياً فضفاضا كأنه فصله الخياط لي خاصة ، وأعطاني عباءة واسعة خوفاً من البرد وكان الجو بارداً ذلك الوقت ، وأخبرني أن هذه العباءة يقال لها (البُرنُس) فتلفعت بها كما يفعل المغاربة بها.
وخرجت أنا وهو في الظلام نتلمس مواطئ أقدامنا متجهين إلى مسجد قريب نمشي بين البيوت في هدأة الفجر، وشعرتُ وأنا أتجه إلى المسجد في تلك اللحظات أنني أمشي في أزقة ومسارب قريتي (الجهوة) التي تركت الإقامة فيها منذ ثلاث وعشرين سنة ، وهي قرية من قرى (النماص) الهادئة فوق جبال السروات ، فقد رأيت شبهاً كبيرا بينهما في برودة الجو ، وفي الطريق المؤدي إلى المسجد ، وفي أصوات صياح الديكة مع الفجر ، وفي التفاصيل التي مررت بها إلى المسجد حتى النباتات التي تنبت على جنبات طريق الأقدام المؤدية للمسجد. وقد كان البرد قارساً أجبرني على المبالغة في التلفف بذلك البرنس الصوفي الواسع ، وقد أضمرتُ في نفسي بعد ذلك الدفء الذي شعرت به ضرورة شراء ثياب مغربية شتوية وبرنساً قبل عودتي للرياض ، وهكذا كان عندما رجعت للدار البيضاء من سوق باب مراكش ، فقد اشتريت عددا من الثياب المغربية الشتوية واشتريت برانس لي ولزوجتي وأولادي ، ولا زالت من أجمل الملابس التي نرتديها في المنزل أيام البرد وهذه من بركات صلاة الفجر تلك .
وعندما وصلنا للمسجد ، طلب مني الدكتور أحمد خلع الحذاء ووضعه في كيس وحفظه في مكان مناسب داخل المسجد في صنادق معدة لذلك . ولم يستنكرني أحد من أهل المسجد حيث لم يظهر على ملامحي اختلاف عن الآخرين .
وصلينا سنة الفجر في انتظار الإقامة، وتأملت في وجوه الحضور فإذا فيهم الكبير في السن والشباب والأطفال فعلمت أن الخير باق في أمة محمد حتى قيام الساعة وحمدت الله في نفسي على ذلك . وبقينا نقرأ القرآن دقائق حتى أقيمت الصلاة ، وتقدم الإمام للصلاة ، فقرأ الفاتحة بقراءة نافع، ثم قرأ من سورة الشعراء بلكنة مغربية لا تخفى، فأدركت أنه يقرأ برواية ورش عن نافع ، وكنتُ أعلم أن أهل المغرب يقرأون بهذه الرواية ، ولكن سماعها مباشرة من أئمة المساجد له طعم آخر ، فكنتُ أتأمل في كل كلمة يقرؤها ، وأعادني لذكريات قراءتي برواية ورش عن نافع على شيخي الجليل حضرت نور محمد دين حفظه الله عام 1413هـ في مدينة أبها ، ولم تكن أجواء قراءتي عليه في أبها تختلف عن أجواء صلاتي خلف هذا الإمام في الجديدة، فالأجواء متقاربة إلى حد بعيد برغم بعد الزمان والمكان .
وبعد الصلاة تعالت الأصوات بالذكر ، ثم رأيتُ الجميع يتناولون المصاحف ويتحلقون قريبا من الإمام في دائرة متكاملة تقريباً ، وبدأوا في القراءة بصوت واحد ! وكانت هذه أول مرة أرى فيها هذا المنظر . وإذا بهم يقرؤون حينها من سورة يوسف عليه الصلاة والسلام ، فاقتربت من الدكتور أحمد الضاوي وسألته عن هذا الأمر ، فقال : هذه تسمى قراءة الحزب ، وهم يقرأون بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب يومياً بهذه الطريقة الجماعية ، ويمكنك معرفة أين وصلوا في القراءة من خلال النظر في جدول معلق قريبا من المحراب يبين فيه جدول القراءة ، وحدثني بعد ذلك عن تاريخ قراءة الحزب في مساجد المغرب . ورأيتُ ذلك في مساجد أخرى في المغرب بعد ذلك . وقرأت في كتاب الدكتور عبدالهادي حميتو (حياة الكتاب وأدبيات المحضرة) تفصيلا لتاريخ هذه الطريقة في مساجد المغرب بعد ذلك ، وأن ثمة أوقافا خاصة بقارئ الحزب ، تخصص لاستمرار هذه الحلقات القرآنية .
إن هذا الارتباط القوي بالقرآن الكريم في هذه المساجد ومشاهدة حلقات القراءة باستمرار ربط المسلمين بالقرآن الكريم مع الزمن ، ولا سيما عامة الناس الذين لا يجدون معينا على قراءة القرآن مع صخب الحياة اللاهث ، كما أثمر تعوُّد الصغار والشباب على مشاهدة هذه العناية بقراءة القرآن فتركت آثار حميدة في نفوسهم وإلفاً للقرآن وتلاوته، وزادت من تعلقهم بكتاب الله تعالى ، بغض النظر عن ملحوظات بعض المخالفين لهذه الطريقة ، ومدى مشروعيتها ، وعدم العناية بالتجويد في تلك القراءة السريعة الجماعية . وقد أخبرني بعض شباب المغرب أنهم انتفعوا بهذه الطريقة في القراءة عندما ذهبوا للغرب وعاشوا هناك ، فكانت تلك الحلقات زادا لهم في مصاحبة القرآن بعد ذلك في غربتهم ، ولو تتبع باحث آثار هذه القراءة في نفوس عامة من يواظب عليها من عامة الناس والمثقفين لوجد قصصاً طريفة جديرة بالتسجيل والإذاعة ،وليت أصحابنا المغاربة يحكون لنا طرفا من نبأ هذه القراءة وتجاربهم معها ، فليس من رأى من سمع .
شكر الله لأخي الدكتور أحمد الضاوي حسن استقباله ، وشكر الله لأسرته الكريمة حفاوتها وحسن ضيافتها ، التي جعلتني أنسى المهمة التي جئت من أجلها في معرض الدار البيضاء حينها ، وشعرتُ أنني بين أهلي وأبنائي ، ولا أنسى الإفطار الرائع ذلك اليوم الذي يمكن أن أفرد له مقالة قادمة فلا تكفيه الإشارة العابرة هنا إلا للشكر والدعاء بأطيب الدعوات، واستذكار عبق وجمال تلك الذكريات الرائعة .
 
ربما لم تكن صلاة الفجر في المغرب إلا حينما ذكرت قراءة الحزب ردف الصلاة ؛ وإلا فالدار دارك والأبناء أبناءك و القريةُ قريتك والإمام كشيخك .
فأيُّ وفاءٍ أعظم من ذلك!
وأيُّ قولٍ أبلغُ ثناءً منه !
باركَ الله فيكَ شيخنا الجليل على هذا البيان الرائع , ودمتم مسددين بعون الله ...​
 
لا أُخفيك سراً أخي الكريم أنَّـك مصورٌ ماهرٌ جداً , فقد أدخلتنا معك هذه المدينة وطرقاتها ومسجدَها وكدت تُسمعنا نغمة المتحلقين لقراءة الحزب , فلا حرمك الله أجر إمتاعنا بهذه الرحلة المصورة الأخَّـاذة.
 
سددك الباري ،، لقد أمتعتنا بسردك للقصة والله لكأني أقرأ لشيخنا الطنطاوي رحمة الله تعالى عليه
 
شكرا للأخ العزيز عبد الرحمن على إثارته لهذا الموضوع الذي يبرز بعض جواب الخصوصية المغربية في شقها الخاص بالتعامل مع القرآن.
وهنا أود الإشارة إلى بعض الإشراقات التي أرى أنها ذات فائدة تضيء هذا الموضوع الذي يجلي التميز المغربي في حفظ القرآن ودراستة.
فقد رأيت قبل أن أدخل المدرسة خالي (وهو إمام لمسجد ومدرس للقرآن به) رأيته يصحح الأخطاء للقراء عند الانتهاء من قراءة الحزب بعد صلاة الصبح وأحيانا بعد المغرب وينبه على بعض الأحكام الفقهية التي يرى أنها ضرورية للطلاب. فكانت قراءة الحزب تجمع بين التلاوة والتدارس، أما اليوم فلم تبق إلا التلاوة في المساجد التي يقرأ فيها الحزب، وبعضها لا يُقرأ فيها الحزب، لأنها في الأصل مخصصة لأداء الصلوات الخمس أو لأداء بعض منها، وهذا شأن صنف من المساجد بفاس. وعن مشروعية الطريقة الجماعية في تلاوة القرآن عند المغاربة، فقد كان يجول في ذهني أنها غير مشروعة وأنها من " تخلف الفقه" عندنا في التعامل مع القرآن، إلا أن هذا الفهم بدأ يتلاشي منذ مدة وخاصة عندما وقفت على بعض الأحاديث التي يمكن أن تشكل دليلا لما أرى ونرى جميعا.
فمما يستند إليه المغاربة (في حدود علمي) على جواز القراءة الجماعية للقرآن عدد من الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله عليه الصلاة والسلام: "... ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طرقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" [ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم:2699]. قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث:"... وفى هذا: دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء الله تعالى..." [ينظر: شرح صحيح مسلم للإمام النووي: 9/21].
وعن الصفة الجماعية، لهذه التلاوة يقول النووي أيضا:" اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهرة" [ينظر: التبيان في آداب حملة القرآن: 1/15]. وقال في المجموع:" فرع : لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين بل هي مستحبة، وكذا الإدارة وهي أن يقرأ بعضهم جزءا أو سورة مثلا ويسكت بعضهم، ثم يقرأ الساكتون ويسكت القارئون"[ ينظر: المجموع للنووي، 2/189].
وقد قرأت للنووي في " شرح صحيح مسلم" أو لابن حجر في "فتح الباري" "أن المغاربة يقرؤون القرآن جماعة منذ القدم" أو كلاما كهذا، لم أستطع الرجوع إليه لتوثيقه.
أما عن الأوقاف المحبسة لقراء الحزب، ففي بعض البوادي عندنا بالمغرب الحبيب تُستغل هذه الأوقاف من قِبَل القراء أو القاريء للحزب فقط، فإذا تخلى عن القراءة فإنها تأخذ منه وتعطى لمن له الرغبة في ذلك. وهذا الأمر جلي في بعض القرى المغربية التي تعرفت عليها زمان الطفولة، فقد سمعت من الكبار ومن بعض أقراني أن الفدان الفلاني هو "للحزابة: الذين يقرؤون الحزب بعد صلاة الصبح وبعد المغرب بالمسجد" أو هو "للحزاب الفلاني" وأن النخلة الفلانية هي أيضا للحزابة يتناوبون على تذكيرها وجني تمرها؛ وكان بعض الناس يعطي "للحزاب" إن كان لا يَمْلك عارية (دون طلب منه) يجني تمرها.
ومن فوائد هذه القراءة الجماعية تَذَكر المحفوظ بالنسبة لمن يحفظ القرآن أو بعضه والقراءة من المصحف بالنسبة لمن لا يحفظ وإسماع العامة من الناس....إلخ.
 
بارك الله فيك أبا عبد الله وأكرمنا الله بزيارة هذا البلد الكريم
 
أخي العزيز عبدالقادر محجوبي : أشكرك على هذه الفوائد التي أعدتُ قراءتها الآن بتأمل فاستفدت منها جزاك الله كل خير ونفعنا وإياك بعلم كتابه .
 
يذكَّر في هذا السياق بكتاب (حياة الكُتَّاب وأدبيات المحضرة) وهو من أوسع وأشمل ما كتب حول المحاضر أو الكتاتيب المغربية وطرقها.
وقد سبق التعريف بالكتاب هنا .

وهاهو الكتاب قد صوره الأخ: حكيم جوهراتي.. وقد راجعت الدكتور عبدالهادي حميتو فأذن وسمح بتصويره ونشره مطلقا:

لأول مرة مصورا كتاب: حياة الكتَّاب وأدبيات المحضرة - د. عبدالهادي حميتو
http://vb.tafsir.net/tafsir42542/#.VQAEUXysXFw

.
 
عودة
أعلى