حجج القرآن

إنضم
26/11/2007
المشاركات
429
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، له الحجة البالغة، والنعم السابغة، أصدق القيل قيله، وأحسن الحديث حديثه، وأنصع البيان بيانه، وأحكم القول قوله، لا ترى فيه عوجاً ولا اختلافاً، ولا إملالاً ولا إجحافا، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وإن من أشرف العلوم وأجزل الهبات ما يمن الله به على من يشاء من عباده من فقه حججه وبيناته، ما ينصرون به الحق، ويعلون رايته، ويكبتون به أهل الباطل، وينكسون غايته، كما قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)فسماها حجتَه ونسبها إليه تعالى ذكره، وتلك الإضافة الشريفة تقتضي ما تقتضيه من علو شأنها، وثبات أركانها، وإحكام بيانها، وشرفها وفضلها.
ثم ما ذكر من مَنِّه بها على خليله الكريم إبراهيم عليه السلام في موقف عظيم نصر الله فيه الحق وأعلاه، وكبت الباطل وأخزاه، ما يدل على شرفها وفضلها.
ثم ما يدل عليه عموم قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) ما يجعل المؤمن مشرئباً لنيل هذا الشرف العظيم، والرفعة عند ربنا الكريم.
ثم ختمه الآية بقوله: (إن ربك حكيم عليم) يلخص أركان الحجة البالغة، ويبين أنها متلقاة من لدن ربنا الحكيم العليم.
فذِكْرُ الربوبية الخاصة في هذه الآية يدل على أنها لا تنال إلا بتعليم الله جل وعلا وحسن توفيقه وتأييده ونصره إلى غير ذلك من معاني الربوبية الخاصة التي جعلها الله لأوليائه.
وذكر صفتي العلم والحكمة على صيغة المبالغة يفيد أن الحجة البالغة قائمة على قوة العلم وشدة الإحكام.
فحجة الله شريفة بنسبتها وإضافتها إليه، وشريفة بحسن أوصافها، وعظيم شأنها وشرف غايتها.
فغايتها إعلاء كلمة الله، ونصرة ودينه.
ومبناها على العلم والحكمة والإحكام.
واستمدادها من ربوبيته الخاصة؛ فهي من نعمه العظيمة الخاصة التي يختص بها من يشاء من أوليائه.

كل ذلك يدعو أولياء الله الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته إلى العناية بفقه حجج الله في كتابه العظيم، وأن يتعلموا منها ما يعدهم لنصرة الحق وإزهاق الباطل

ولعلنا في هذا الموضوع نتدارس بعض هذه الحجج البليغة في القرآن العظيم، فيتكلم كل بما فتح الله عليه في هذا الباب من لطائف التفسير والاستنباطات، ولطائف النقول عن العلماء
ما يثري البحث في هذا الموضوع المهم، وهو باب من أبواب العلم النفيس
 
كنت قد كتبت مبحثاً في الاستدلال بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى على بطلان أقوال الضالين، وذكرت تقرير القرآن لهذا المنهج العظيم

وقد رأيت من باب تعميم الفائدة ونشر العلم أن أذكر مثالاً منه هاهنا ليكون فاتحة المشاركات في هذا الموضوع.

*****************

ممَّا لا يكادُ ينقضي منهُ العجبُ قولُهُ تعالى:{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة: 73-76].

فانظُرْ إلى جلالةِ هذهِ الآياتِ وما تضمَّنَتْهُ من الحُجَجِ البليغةِ والآياتِ البَيِّنَاتِ، ثمَّ تأمَّلْ سَعَةَ رحمةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وعظيمَ حِلْمِهِ كيفَ دعَاهُم - وقدْ قالُوا هذهِ المقالةَ الشنيعةَ - إلى التوبةِ بأجملِ عرضٍ وألطفِهِ:{ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } ثمَّ ذكرَ ما يُرَغِّبُهُمْ في ذلكَ ويُزِيلُ اليَأْسَ والقنوطَ منْ قلُوبِهِم بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كثيرُ المغفرَةِ، واسعُ المغفرَةِ، لا يستعظِمُهُ ذنبٌ أنْ يغفرَهُ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وعَمَّتْ كلَّ حَيٍّ، وفي ضِمْنِ ذلكَ وَعْدُهُم بالمغفرةِ والرحمةِ والعفوِ عمَّا بدرَ منهم إنْ همْ تابوا إليهِ واستغفَرُوهُ.
فإذا عَلِمَ العبدُ ذلكَ تحرَّكَتْ دواعي الرجوعِ إلى اللَّهِ في قلْبِهِ , ولمْ يقْنَطْ منْ رحمةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مهما بلغت ذنوبه.

ثمَّ دَعَاهُم إلى عبادتِهِ وتوحيدِهِ، وبيَّنَ لهُم الأدلَّةَ القاطعةَ على بُطْلانِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ عِيسَى وأُمِّهِ -دُونَ أنْ يهْضِمَهُما منـزلَتَهُما أوْ يُنْقِصَ قدْرَهُما، بلْ أثبتَ لعِيسى الرسالةَ ولأُمِّهِ الصِّدِّيقِيَّةَ- وذلكَ منْ وُجُوهٍ:

أوَّلُها: قولـُهُ تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا يكونُ إلاَّ واحداً، وَ { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا }، وهذا يُبْطِلُ التثليثَ.

الثانِي: قولـُهُ تعالى:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }، فهوَ رسولٌ منْ جُمْلَةِ رُسُلٍ ماتُوا وهوَ على إثْرِهِم سيموت، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ الذي لا يموتُ.

الثالثُ: قولُهُ: { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ }، وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
أوَّلُها: أنَّهُ مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أنْ لمْ يكُنْ، فلمْ يُوجدْ إلاَّ بعدَ وِلادَةِ أُمِّهِ لهُ؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ إنَّما هوَ الأَوَّلُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ.
الثاني: أنَّهُ محتاجٌ في أصلِ حياتِهِ إلى غيرِهِ فوُجُودُهُ إنَّما كانَ بواسطةِ أُمِّهِ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ القَيُّومُ الذي قيامُ كلِّ شيءٍ بهِ، الغنيُّ الحميدُ الذي لا يحتاجُ إلى أحدٍ سواهُ طَرْفَةَ عيْنٍ.
الثالثُ: أنَّهُ مولودٌ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصَّمَدُ الذي لمْ يلِدْ ولمْ يُولَدْ.
الرابِعُ: أنَّهُ خارجٌ من المكانِ الذي قدْ علِمُوا؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ فالإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنـزهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ أُمَّهُ صِدِّيقَةٌ؛ فهيَ أَمَةٌ عابدةٌ فقيرةٌ إلى مَنْ تعبدُهُ، والفقيرُ لا يُنْتِجُ إلاَّ فقيراً.

الوجهُ الرابِعُ: قولُهُ: { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كونَهُما يأْكُلانِ الطعامَ دليلٌ على حاجَتِهما وفقْرِهما إليهِ، والفقيرُ المحتاجُ لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً.
الثانِي: أنَّ العقلاءَ قدْ علموا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لهُ جوفٌ وآلاتٌ تهضمُ الطعامَ، وقنواتٌ يسيرُ فيها الطعامُ، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصمدُ الذي لا جوفَ لهُ، ولا يحتاجُ إلى ما يحتاجُ إليهِ البشرُ.
الثالثُ: أنَّ الذي لا يستطيعُ تصريفَ الطعامِ داخلَ جسدِهِ وتسْيِيرَهُ في قنواتِهِ، وإيصالَ كلِّ موضعٍ منْ جسمِهِ ما يحتاجُ إليهِ من الغذاءِ؛ وإنَّما الذي يُسَيِّرُهُ ويُصَرِّفُهُ فيهِ غيرُهُ كيفَ يستطيعُ أنْ يُدَبِّرَ شُئُونَ الخلائقِ، ويجيبَ دعَوَاتِهِم، ويعْلَمَ سرائرَهُم وأحوالَهُم؟!!
إنَّما إلَهُهُم المَلِكُ القُدُّوسُ الذي قامَ بشُؤُونِهِم وَوَسِعَهُم عِلْمُهُ وحِفْظُهُ ورَحْمَتُهُ.
الرابعُ: أنَّ العقلاءَ قدْ علِمُوا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لا بُدَّ لهُ منْ إخراجِهِ بعدَ هضْمِهِ، والذي تخرجُ منهُ هذهِ الفضلاتُ المُسْتَقْذَرَةُ لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ بل الإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنـزهُ عنْ مثلِ هذا وسائرِ ما لا يليقُ بجلالِهِ وقُدْسِيَّتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ عُرْضَةٌ لأنْ يأكلَ ما يضُرُّهُ أوْ يُسِيءَ أكلَ ما فيه نفع فيَمْرَضُ ويَسْقَمُ؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً.

ثمَّ قالَ تعالى بعدَ هذا البيانِ: { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}

-الوَجْهُ الخامِسُ: قولُهُ تعالى: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}؛ فإنَّ العبدَ العاقلَ إنَّما يَعْبُدُ مَنْ يَجْلُبُ لهُ النفعَ ويدْفَعُ عنهُ الضرَّ، وليسَ هذا لغيرِ اللَّهِ تعالى؛ فهوَ النافعُ الضارُّ، وغيرُهُ إنَّما ضرَرُهُ ونفعُهُ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى، وهوَ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ، ناصِيَتُهُ بيدِ ربِّهِ لا يستقلُّ بنفعٍ ولا ضرٍّ؛ فَمِن الحماقةِ عِبَادَةُ مَنْ هذا شأْنُهُ!!

-الوجهُ السادسُ: قولُهُ تعالى: { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }، يسمعُ دُعاءَهُم ويعلمُ أحوالَهُم، ولا يخفى عليهِ شيءٌ منْ أمْرِهِم؛ وهذا هوَ الإلهُ الحقُّ، ليسَ الذي لا يسمعُ دُعَاءَ عابدِيهِ ولا يعْلَمُ أحوَالَهُم.

فاستبدالُ عبادةِ اللَّهِ تعالى الذي بيَدِهِ النفعُ والضرُّ وهوَ السميعُ العليمُ بعبادةِ مَنْ لا يَمْلِكُ لهُمْ ضرًّا ولا نفعاً، ولا يسمعُ دُعاءَهُم ولا يَعْلَمُ أحوالَهُم منْ أعظمِ الجهلِ والسفَهِ.

فانْظُرْ كيفَ اجتذبَ القلوبَ إلى عبادَتِهِ وتوحيدِهِ بما لَهُ من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى، وانظر إلى كمال حجة الله وإحكامها، حيث لا يبقى بعدها لذي باطل ما يستمسك به.

وفقني الله وإياكم، لحسن تدبر كتابه الكريم، وتلاوته حق تلاوته، وفقه حججه، ونصرة دينه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
 
جزاكم الله خيرا
ونفع بعلمكم

أحسن الله إليكم لو توضحون المقصود من هذه المدارسة :

ولعلنا في هذا الموضوع نتدارس بعض هذه الحجج البليغة في القرآن العظيم، فيتكلم كل بما فتح الله عليه في هذا الباب من لطائف التفسير والاستنباطات، ولطائف النقول عن العلماء

هل المقصود بها الحجج التي رد بها الأنبياء على أقوامهم ؟
كما في قصة إبراهيم والتي ذكر الله فيها قوله : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه "

أم أن الموضوع أوسع من هذا ؟
 
بارك الله فيك

المقصود من هذه المدارسة تعلم طريقة الحِجَاج القرآني وكيف يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه،
وكيف يبين الحق ناصعاً لا لبس فيه، ويكشف الشبهة كشفاً تاماً

ومن ذلك الحجج التي يؤتيها الله الأنبياء في بيان باطل أهل الباطل

وكذلك ما بين الله بطلانه من أقوال أهل الزيغ والضلال بالحجج العظيمة، كما رد الله على من أنكر البعث، وعلى من أشرك به في العبادة،،،،إلى غير ذلك



والفائدة العملية:
أن نكتسب مهارة في الحجاج مصدرها القرآن الكريم تفيدنا في نصرة الحق والذب عنه وبيان الباطل وتعريته
 
ومن بدائع حجج القرآن قوله تعالى:

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)

قالَ ابنُ القيِّمِ – رحمه الله تعالى-في مدارج السالكين:
(وقد قَطَعَ اللهُ الأسبابَ التي يَتَعلَّقُ بها المشركونَ جميعَها قَطْعًا، يَعْلَمُ مَن تَأَمَّلَهُ وعَرَفَهُ أنَّ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ وليًّا، فمَثَلُهُ كمَثَلِ العَنْكَبوتِ اتَّخذَتْ بيتًا وإنَّ أَوْهنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ، فالمشركُ إنَّما يتَّخِذُ مَعْبودَهُ لِما يَحْصُلُ لَهُ بهِ من النَّفْعِ، والنَّفْعُ لا يَكُونُ إِلاَّ ممَّن يكونُ فيه خَصْلَةٌ مِن هذه الأَرْبعِ:
- إمَّا مالكٌ لِما يُرِيدُ عَابِدُهُ منه.
- فإنْ لم يَكُنْ مَالِكًا كانَ شريكًا للمالكِ.
- فإنْ لم يكنْ شريكًا لَهُ كانَ مُعِينًا له وظَهِيرًا.
- فإن لم يكنْ مُعِينًا ولا ظَهِيرًا، كانَ شَفيعًا عندَهُ.
فنَفَى سبحانَهُ المَرَاتِبَ الأربعَ نَفْيًا مُرَتَّبًا مُنْتَقِلاً مِن الأَعْلَى إلى ما دُونَهُ، فنَفَى المُلْكَ، والشِّرْكَةَ، والمُظَاهَرَةَ، والشَّفاعةَ، التي يَطْلُبُها المُشْرِكُ، وأَثْبَتَ شفاعةً لا نَصِيبَ فيها لمُشْرِكٍ وهي الشَّفاعةُ بإذنِهِ.
فكفَى بهذِهِ الآيةِ نورًا وبرهانًا ونجاةً وتَجْريدًا للتَّوحيدِ، وقَطْعًا لأُصُولِ الشِّرْكِ ومَوَادِّهِ لمَنْ عَقَلهَا.
والقُرْآنُ مملوءٌ من أمثالِها ونظائرِهَا، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَشْعُرُونَ بدُخُولِ الواقعِ تَحْتَهُ وتَضَمُّنِهِ لَهُ، ويَظُنُّه في نوعٍ وقومٍ قَدْ خَلَوا مِن قبلُ ولم يُعَقِّبُوا وارِثًا، وهذا الَّذي يَحُولُ بينَ القَلْبِ وبينَ فَهْمِ القرآنِ، ولَعَمْرُ اللهِ إنْ كانَ أولئك قد خَلَوا، فقد وَرِثَهُم مَن هو مثلُهُم وشرٌّ منهم ودونَهُم، وتَنَاوُلُ القرآنِ لهم كتَنَاوُلِهِ لأولئك، ولكنَّ الأمرَ كمَا قالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنَّما تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوةً، إذا نَشَأَ في الإِسْلامِ مَنْ لم يَعْرِفِ الجاهليَّة).
وهذا لأنَّهُ إذا لم يَعْرِفِ الجاهليَّةَ والشِّرْكَ، وما دَعَا بهِ القرآنُ وذَمَّهُ، وَقَعَ فيه وأَقَرَّهُ، ودَعَا إليه وصَوَّبَهُ وحَسَّنَهُ، وهو لا يَعْرِفُ أنَّهُ الَّذي كانَ عليهِ الجاهليَّةُ، أو نَظِيرُهُ أو شرٌّ منه أو دونَهُ، فتُنْتَقَضُ بذلك عُرَى الإسلامِ، ويَعُودُ المَعْرُوفُ مُنْكَرًا، والمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، والبِدْعَةُ سُنَّةً، والسُّنَّةُ بدعةً، ويَكْفُرُ الرَّجُلُ بمَحْضِ الإيمانِ وتَجْريدِ التَّوحيدِ، ويُبَدَّعُ بتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومُفَارَقَةِ الأَهْواءِ والبِدَعِ. ومَنْ لَهُ بَصِيرةٌ وقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذلك عِيانًا، فاللهُ المُسْتَعَانُ.
- وَقَالَ اللهُ تَعَالى حَاكِيًا عن أَسْلاَفِ هؤلاء المُشْرِكينَ: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ} [الزُّمَر:3] فهذه حالُ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ وليًّا يَزْعُمُ أنَّهُ يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ تعالى، وما أَعَزَّ مَن يَخْلُصُ مِن هذا، بلْ ما أَعَزَّ مَن يُعَادِي مَن أَنْكَرَهُ.
والذي في قُلُوبِ هؤلاءِ المُشْرِكينَ وسَلَفِهِم أنَّ آلهتَهُم تَشْفَعُ لَهُم عندَ اللهِ، وهذا عَيْنُ الشِّرْكِ.
وقد أَنْكَرَهُ اللهُ عليهِم في كتابِهِ، وأبطَلَهُ، وأَخْبَرَ أنَّ الشَّفَاعَةَ كلَّها لَهُ، وأنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إِلاَّ لمَنْ أَذِنَ اللهُ تعالى أنْ يَشْفَعَ له فيه، ورَضِيَ قولَهُ وعَمَلَهُ. وهم أَهْلُ التَّوحيدِ الَّذينَ لم يتَّخِذُوا مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فإنَّهُ سبحانَهُ وتعالى يَأْذَنُ في الشَّفَاعةِ فيهم لمَنْ يَشَاءُ، حَيْثُ لم يتَّخِذُوهُم شُفَعاءَ مِن دونِهِ، فيكونُ أَسْعدُ النَّاسِ بشَفاعتِهِ مَن يَأْذَنُ اللهُ تعالى لَهُ، صاحبَ التَّوحيدِ الَّذي لم يتَّخِذْ شَفِيعًا مِن دونِ اللهِ.
والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللهُ تعالى ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الشَّفاعةُ الصَّادِرَةُ عن إذْنِهِ لمَنْ وَحَّدَهُ، والتي نَفَاهَا اللهُ تعالى هي الشَّفاعةُ الشِّرْكيَّةُ التي في قُلُوبِ المشركينَ المتَّخِذِينَ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فيُعَامَلُونَ بنَقِيضِ مَقْصُودِهِم مِن شَفَاعتِهِم، ويَفُوزُ بها المُوحِّدُونَ) انتهَى.

وقال في الصواعق المرسلة: (والله سبحانه حاجَّ عبادَه على ألسنِ رسلِه وأنبيائه فيما أراد تقريرَهم به وإلزامَهم إيَّاه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولاً وأقلها تكلفاً وأعظمها غَناءً ونفعاً، وأجلها ثمرة وفائدة.
فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه جمعت بين كونها:
-عقلية سمعية.
-ظاهرة واضحة.
-قليلة المقدمات.
-سهلة الفهم.
-قريبة التناول.
-قاطعة للشكوك والشُّبَه.
-ملزمة للمعاند والجاحد.
ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخُ، ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقه وأدله على المراد.
وذلك مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم مواده كلها:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)

فتأمَّلْ كيف أخذَتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك؟!!
وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؟!!
فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به.
وحينئذ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ:
-مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده.
-أو شريكاً لمالكها.
-أو ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له.
-أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده.
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض.
فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق!
فنفى شركتها له.
فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً!
فقال: (وماله منهم من ظهير)

فلم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم.
وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها.
وأما منْ كلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!!).
 
جزاكم الله خيرا
والفائدة العملية:
أن نكتسب مهارة في الحجاج مصدرها القرآن الكريم تفيدنا في نصرة الحق والذب عنه وبيان الباطل وتعريته.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا
 
جزاكم الله خيراً ونفع بعلمكم .
موضوع قيم جداً ، وليتك تكمله ، وهناك كتاب لابن الحنبلي بعنوان (استخراج الجدل من القرآن الكريم) وكتاب للدكتور زاهر الألمعي بعنوان (مناهج الجدل في القرآن) فيه فوائد قيمة حول الموضوع .
 
جزاكم الله خيراً ونفع بعلمكم .
موضوع قيم جداً ، وليتك تكمله ، وهناك كتاب لابن الحنبلي بعنوان (استخراج الجدل من القرآن الكريم) وكتاب للدكتور زاهر الألمعي بعنوان (مناهج الجدل في القرآن) فيه فوائد قيمة حول الموضوع .

سأقرأ الكتابين بإذن الله وأستفيد منهما وجزاك الله خيراً على حسن الإرشاد


وأرجو أن يكون باب الإكمال مفتوحاً لجميع الإخوة من نقل جيد مستلطف، أو تأمل حسن نافع
 
هناك كتاب اسمه حجج القرآن للرازي( أحمد بن محمد ) .
ولكنه يورد الآيات التي تستدل وتحتج بها بعض الفرق والأديان الأخرى معتمدين على إيرادها في القرآن .
فلا أظنه داخلا في منهجك أخي عبد العزيز .
 
هناك كتاب اسمه حجج القرآن للرازي( أحمد بن محمد ) .
ولكنه يورد الآيات التي تستدل وتحتج بها بعض الفرق والأديان الأخرى معتمدين على إيرادها في القرآن .
فلا أظنه داخلا في منهجك أخي عبد العزيز .

اخي المنصور نصر الله بك الملة والدين والكلام لجميع الاخوة هل من سبيل لكتاب الرازي على الشبكة
 
جزاكم الله خيراً ونفع بعلمكم .
موضوع قيم جداً ، وليتك تكمله ، وهناك كتاب لابن الحنبلي بعنوان (استخراج الجدل من القرآن الكريم) وكتاب للدكتور زاهر الألمعي بعنوان (مناهج الجدل في القرآن) فيه فوائد قيمة حول الموضوع .
سأقرأ الكتابين بإذن الله وأستفيد منهما وجزاك الله خيراً على حسن الإرشاد

قرأت كتاب (استخراج الجدال من القرآن الكريم) لابن الحنبلي (ت:634هـ)
والذي ظهر لي أن غرضه من تأليف الكتاب بناء قواعد لعلم الجدل مستخرجة من دلائل القرآن الكريم ، فإنه ذكر عناية الفقهاء بقواعد الاستدلال والجدل وأنهم ألفوا في ذلك كتباً بنوها على أمور اصطلاحية تتفاوت فيها الأفهام ، وتدخلها المعارضات والمناكفات فلا يستفيد الطالب ما قصد إليه ، وأن بناء علم الجدل على طريقة القرآن أسلم وأسمى ، وأحسن مأخذاً وأقرب تناولاً.
وقد حاول في كتابه تقويم مسار علم الجدل، وأشار إلى لطائف جميلة في الحِجَاج القرآني ولم يشرحها شرحاً يحقق ما قصد إليه في المقدمة، وقد جمع في كتابه جملة طيبة من حجج القرآن، وكتابه هذا مستفاد من كتابين كبيرين مفقودين له :
الكتاب الأول: الحجة العظمى.
الكتاب الثاني: البروق في التفسير.
وقد ذكر في أكثر من موضع أنه أشبع القول فيهما بما اكتفى به حتى عن ذكر ملخص لما بينه فيهما.

والكتاب مختصر جداً وقد بناه على ثمانية أبواب:

الباب الأول: في ذكر الجدل في الكتاب العزيز الممدوح منه والمذموم.
الباب الثاني: أول من سنَّ الجدال.
الباب الثالث: جدال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه للأمم.
الباب الرابع: ذكر الأدلة وأنواعها على وجود الصانع سبحانه.
الباب الخامس: ذكر الأدلة على أنه واحد.
الباب السادس: ذكر أدلة البعث.
الباب السابع: ذكر الأدلة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العزيز.
الباب الثامن: في السؤال والجواب ونكت من الجدل.

والباب الثامن هو أجود ما في الكتاب وقد تضمن إشارات لطيفة في علم الجدل على اقتضاب شديد.

جوانب القوة العلمية لدى الكاتب:
ناصح الدين ابن الحنبلي كان شيخ الحنابلة في زمانه وكان مقرباً من ملوك بني أيوب ، وبنيت له مدرسة يدرس فيها وهي المدرسة الصاحبية، فكانت له عناية بالتعليم، وكان حسن الأسلوب حلو الكلام، صاحب مواعظ حسنة، وقبول لدى العامة، نشأ في بيت علم وحديث فكان هو وآباؤه إلى جد جده من المحدثين، من أشهر شيوخه الحافظ أبو العلا الهمذاني، كان معاصراً للفقيه ابن قدامة المقدسي وكان يساميه في حياته ثم انتهت إليه رئاسة المذهب بعد وفاة ابن قدامة رحمه الله.
والناظر فيما ذكر من أسماء مؤلفاته يجد أن له عناية جيدة بعلم أصول الفقه والجدل والمناظرة والمواعظ.

فوائد متفرقة من الكتاب:
* ذكر لفظ الجدل وما تصرف منه في القرآن الكريم في 29 موضعاً، ولفظة الحجة وما تصرف منها في 27 موضعاً، ولفظة السلطان في 33 موضعاً الجميع المراد به الحجة سوى {هلك عني سلطانيه} ، وقد فسر به.
* الجدل في القرآن مذموم في كل موضع إلا في ثلاثة مواضع: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، و{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}، {تجادلك في زوجها}.
* أول من سن الجدال الملائكة، والفرق بين جدالهم وجدال إبليس أن جدالهم عن موافقة، وجدال إبليس عن مخالفة وكبر ومعارضة للنص.
* أشار في كتابه إلى ما يسميه بالحجة العظمى، وأنها متكررة لدى الأنبياء، دون أن يفصل القول فيها بما يبين مراده بياناً جلياً، سوى ما أحال عليه في كتابيه، ويبدو أن كتابه (الحجة العظمى) هو في هذا المعنى.
* مثل في الباب الثامن لسؤال المنع، وسؤال النقض، والقول بالموجب، وسؤال المعارضة، وتعليل الحكم بعلة واحدة، وعلل متعددة تقوم كل واحدة منها مقام علة مستقلة، وذَكر قياس الشبه، ومفهم المخالفة، ومفهوم الموافقة، والترجيح، وذم التقليد والمقلدين، والمباكتة بالتشنيع ، وغيرها.

وخلاصة القول في الكتاب أن فيه إشارات جيدة ولطائف حسنة لكنها لا تكفي لتحقيق ما قصد إليه المؤلف في مقدمة كتابه.
 
هناك كتاب اسمه حجج القرآن للرازي( أحمد بن محمد ) .
ولكنه يورد الآيات التي تستدل وتحتج بها بعض الفرق والأديان الأخرى معتمدين على إيرادها في القرآن .
فلا أظنه داخلا في منهجك أخي عبد العزيز .
نعم، صدقت، هو في غير موضوعنا.
 
قول الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} فيه بيان عجيب لآداب مجادلة أهل الباطل، وشروط تمام الغلبة، والتنبيه على العلل التي يخذل بها بعض المجادلين، والوعد بكرامة عظيمة لمن التزموا هذه الآداب وحققوا الشروط.

- أول هذه الآداب أن يستشعر المجادل أن الذي يقذف هو الله، وأنه مجرد سبب وأداة ينصر بها الحق، وغاية ما يرجو من الشرف أن يكون سبباً صالحاً.
فإن الله تعالى نسب القذف إليه، وقال في محاجة إبراهيم لقومه: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}
ومن ظنَّ أنه هو الذي يستعلي بحجته ودهائه وتفننه في أساليب البلاغة فليشفق على نفسه من الخذلان والاستدراج، وذلك لضعف توكله على الله واستعانته به، ويكثر في هذا الصنف أنهم إذا حصل لهم شيء من العلو الظاهر لضعف الخصم أصابهم من الزهو والعجب ما يذهب الأجر ويجلب المقت.
وهذا الأدب الجليل يحمل العبد على تحقيق التوكل على الله والاستعانة به، والتواضع لجلاله وعظمته، واستلهام هدايته وتوفيقه، وأن يستشعر العبد أنه جندي من جنود الحق؛ يشرف بهذه النسبة، ويطمئن لضمان الله الغلبة لجنده؛ فيعتقد أن الله حسبه وكافيه.
فيكون أكثر ما يخشاه أن يستزله الشيطان ببعض ما كسب؛ فيدفعه ذلك لتحقيق الاستقامة وإتباعها بالاستغفار وتكرار التوبة؛ فالمصاولة العلمية لا تقل عن المصاولة على أرض المعركة؛ وقد أثنى الله على المحسنين في الجهاد بقوله: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}
فهؤلاء من المحسنين في جهادهم.

وقد أذن الفجر ، ولي عودة للإكمال إن شاء الله تعالى.
 
^^ تتمة.

فتلخيص الفائدة الأولى: أن يستشعر المجادل من أهل الحق أن الذي يقذف بالحق هو الله عز وجل، وأن غاية ما يرجوه أن يكون سبباً صالحاً، وذلك يستلزم من العبادات القلبية ما يستلزم.
الفائدة الثانية: أن يتمحض المؤمن المجادل للحق ، ويكون رده على محض الباطل؛ ولذلك قد يتجادل خصمان مع أحدهما حق كثير وباطل قليل، والآخر بعكسه ؛ فلا (يدمغ) أحدهما الآخر، وإنما يدمغ حق كل منهما باطل صاحبه؛ فإن في الحق قوة لا تقبل الإزهاق وإن كان مع صاحبه باطل كثير.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الشيطان وهو رأس الباطل: (صدقك وهو كذوب)
ولذلك فإن من الإنصاف اعترافك بالحق الذي قال به خصمك في المجادلة وإن كان قليلاً، ثم ترد باطله، وأما ردك حقه بحجة كثرة باطله فهو نوع مكابره قد تخذل بسببها.
الفائدة الثالثة: أن يتوجه المجادل بالحجة على أصل الباطل (فيدمغه) ولا ينشغل بالأطراف والقضايا الجانبية التي لو بيَّن بطلانها بقي غيرها ومنبعها الذي يولّد أطرافاً أخرى.
الفائدة الرابعة: الحق فيه علوّ ملازم له، والباطل سافل بذاته، وإنما يرتفع بالإثارة؛ كالغبار والدخان إذا أثيرا آذا وأزكما وربما حجبا رؤية الحق عمن لم يعرف معالمه ؛ فإذا عُرف مصدر إثارة الباطل، ووجهت إليه قذيفة الحق عاد الباطل إلى أصله {إن الباطل كان زهوقاً} .
الفائدة الخامسة: معرفتك بعلو الحق وقوته تكسبك طمأنية وثقة وتماسكاً وثباتا يفتقده المجادل بالباطل، فإن المجادل بالباطل متحفز لنصرة باطله دائب على إثارته حتى لا يخبو فيعود لأصله، فيكون ملازماً للقلق والاضطراب والتخوف، وأما صاحب الحق فإنه ينظر إلى الباطل من علو فيعرف مصدر إثارته وأصل شبهته فيوجه إليه قذيفة الحق فيدمغه.
الفائدة السادسة: علو الحق مستلزم لعلو صاحبه ، وما الناس إلا فريقان أهل الحق وأهل الباطل، ومن كان من أهل الحق القائمين به كان موعوداً بالعزة والرفعة والعلو {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}
ولما أَذِن الله تعالى بالقتال في سبيله وحث المؤمنين عليه ووعدهم بالنصر علَّل ذلك بقوله: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}
فكونه تعالى هو الحق يقتضي أن لا يقر الباطل ؛ بل لا بد أن ينصر الحق ويعليه على الباطل.
وَخَتْم الآية باسمين جليلين هما (العلي الكبير) لهما أثرهما العظيم في بيان هذا التعليل؛ فهو العلي بذاته وأسمائه وصفاته ، ودينه أعلى الأديان، وعباده المؤمنون هم الأعلون، ومن سواهم فهم الأذلون الأرذلون، ولا يمكن أن يغلب الأذل الأعز، والا الأدنى الأعلى.
وهو (الكبير) الذي لا أكبر منه؛ فهو أكبر من كل شيء بذاته وصفاته، وهذه الصفة الجليلة تستلزم ما تستلزم من صفات جليلة أخرى كالقوة والقدرة والقهر والجبروت والملكوت وشدة البطش وغيرها.
فكونه العلي يقتضي عدم خذلانهم.
وكون الكبير يقتضي عدم عجزه عن نصرتهم.
فتحصل للمؤمن بذلك سكينة وطمأنينة بانتصار الحق وعلوه وغلبة جند الله تعالى، وهذه التهيئة النفسية لها أثرها العظيمة في حسن الإعداد للجهاد، وأخذ العدة له ، والتبصر بمواضع قوة الخصم ومصادر إمداده، فيوجه عنايته إليه.
وقد مضى الوقت..
لكن من تأمل هذه الآية حق التأمل ظهر له من دقائق المعاني ما تعجز عنه العبارات، والله يهدي من يشاء لتدبر كتابه والانتفاع به.
 
بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[..]
فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه جمعت بين كونها:
[..]
-قاطعة للشكوك والشُّبَه.
-ملزمة للمعاند والجاحد.
[..]
جزاكم الله خيرا على ما تفضلتم به و أحببت أعلق على هذه الجزئية بسؤال.
هل هذه الحجج الربانية التي ظهرت في الوحي المرسل فعلا قاطعة للشكوك والشبه عامةّ؟
ملزمة لكل معاند وجاحد؟ أم أن الناس متفاوتون في كل شيء فهم متفواتون في الفهم و الإنفتاح على دعوة الأنبياء كما أنهم متفاوتون في الجهل و الإنغلاق و المناعة ضد هذه الدعوة، و متفاوتون في العناد و الجحد؟

أظن هناك آيات قرآنية مقدسة تبين الفرق بين العناد و العناد.
{قلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}
{فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

أظن، والله أعلم، مثل هذه الآيات توضح أن هناك مجموعة من الناس لا ينفع معها أسلوب المحاجة والاستدلال.
(ينفع معهم الوعظ و التذكير أو الترهيب و الترغيب فقط).

ما رأيك فضيلتكم؟
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

هل هذه الحجج الربانية التي ظهرت في الوحي المرسل فعلا قاطعة للشكوك والشبه عامةّ؟
ملزمة لكل معاند وجاحد؟ أم أن الناس متفاوتون في كل شيء فهم متفواتون في الفهم و الإنفتاح على دعوة الأنبياء كما أنهم متفاوتون في الجهل و الإنغلاق و المناعة ضد هذه الدعوة، و متفاوتون في العناد و الجحد؟

نعم هي قاطعة للشك فيما يحتاج إلى بيانه من دين الله تعالى ، لمن ابتغى الهدى وعقل معاني هذه الحجج الربانية.
وهي كذلك داحضة للباطل ملزمة للمعاند بالحجة.
وتفاوت الناس في الفهم والإدراك حاصل كما يتفاوتون في درجات التصديق، بل قد يكون منهم من لم تبلغه الحجة أصلاً.
وعدم علمهم بالحجة أو عدم فهمهم لها أو ضعف إدراكهم لها كل ذلك لا يستلزم ضعف الحجة نفسها وأنها غير كافية.
كما لو تُرجم لأعجمي معاني بعض هذه الحجج ترجمة ضعيفة فإن الضعف في الترجمة لا في الحجة نفسها، ويكون فهمه بحسب ما بلغه من الحجة، ويعذر بما التبس عليه إذ لم يتبين له وجه الحق.
وكما أن من لم تبلغه الحجة لا يعذب لقول الله تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فكذلك من بلغته الحجة على غير وجهها الصحيح أو حصلت له شبهة يعذر بها فإنه يرفع عنه العقاب لهذا العذر.
وأما من تبينت له الحجة وعرف معناها وأصر واستكبر فهو معاند مستحق للعقاب لعناده ومكابرته.



أظن هناك آيات قرآنية مقدسة تبين الفرق بين العناد و العناد.
لم أفهم هذه.


ظن، والله أعلم، مثل هذه الآيات توضح أن هناك مجموعة من الناس لا ينفع معها أسلوب المحاجة والاستدلال.
(ينفع معهم الوعظ و التذكير أو الترهيب و الترغيب فقط).
الحجج القرآنية تخاطب العقول والقلوب فمن الناس من تحمله القناعة العقلية على الاتباع، ومنهم من لو فهم الحجة وعرفها بقي محتاجاً إلى ما يحفزه من التذكير بحسن ثواب المتبع للهدى ، وعظيم عقاب المعرض عنه؛ فيستقيم بتذكر الترغيب والترهيب.

فمن عُرف من قرائن الأحوال معرفته بالحجة وعناده واستكباره قد يجدي معه مخاطبة قلبه بالموعظة الحسنة البليغة كما قال الله تعالى في المنافقين: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً}
 
عودة
أعلى