د. محي الدين غازي
New member
إنها حجة تتلخص في أنه إذا نقل قول في تفسير آية من القرآن الكريم، عن السلف الصالحين، فيجب التمسك به، وإن كان يبدو في ظاهر الأمر مخالفا لقواعد اللغة وأدلة السياق، ومنافيا لعظمة كلام الله وعظمة الأنبياء عليهم السلام. لأن السلف الصالحين هم أعلم بكتاب الله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم، ولا يجوز العدول عن ما نقل عنهم إلى قول يخالف ذلك القول، ويجب رفض الأقوال الجديدة التي تخالف جميع أَهل العلم بتأويل القرآن الَّذين عنهم يؤخذ تأويله. والتأويلات الجديدة تكون غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم.
هذه الحجة احتج بها الإمام الطبري والإمام البغوي والإمام الواحدي وغيرهم في تأويل قوله تعالى في سورة يوسف: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه. حيث قال الواحدي: قال المفسرون الموثوق بعلمهم، المرجوع إلى روايتهم، الآخذون للتأويل، عمن شاهدوا التنزيل: هَمَّ يوسف عليه السلام بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة منه. ويقول الطبري في صدد الرد على الرأي المخالف: هذا مع خلافهما جميع أَهل العلم بتأْويل القرآن الَّذين عنهم يؤخذ تأْويله. ويقول البغوي أيضا في صدد الرد على الرأي المخالف: وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم.
وهي حجة تبدو قوية جدا في بادئ أمرها، فإنه لا يشك مسلم أن الصحابة وعلماء التابعين كانوا أعلم بالقرآن ممن أتوا بعدهم، ولا يشك أنهم كانوا أشد تعظيما للأنبياء ممن جاء بعدهم، كما لا يشك أنهم كانوا أعلم باللغة وأساليبها والسياق ودلالته من غيرهم.
وقد احتج الطبري والبغوي الواحدي وغيرهم بهذه الحجة على البعض القليل الذين لم يكونوا من عداد الصحابة والتابعين، ولكنهم أتوا بأقوال جميعها تخالف ما نقل عن الصحابة والتابعين، وكان من شأن هذه الحجة أن يقتنع بها العلماء المحققون، ويرجع بسببها عن آرائهم المخالفون، ولكن ذلك لم يحدث، فقد قام كثير من المحققين على مر القرون وبجرأة قوية بردّ القول المنسوب إلى الصحابة والتابعين، ولم يعطوا لحجة الطبري والبغوي والواحدي هذه أي اهتمام.
فهذا الإمام الرازي يقول: القول الثاني، أن يوسف عليه السلام كان بريئا عن العمل الباطل ، والهم المحرم ، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين ، وبه نقول وعنه نذب. وبعد تقرير طويل يقول: فقد ظهر بحمد اللَّه تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين. (التفسير الكبير)
وهذا الإمام ابن تيمية يقول: وأَمَّا ما ينقل: من أَنَّه حلَّ سراويله، وجلس مجلس الرَّجل من المرأَة، وأَنَّه رأَى صورة يعقوب عاضًّا على يده، وأَمثاله ذلك، فكلُّه ممَّا لم يخبر اللَّه به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإِنَّما هو مأْخوذٌ عن اليهود الَّذين هم من أَعظم النَّاس كذبًا على الْأَنْبياء وقدحًا فيهم، وكلُّ من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أَحد عن نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرفًا واحدًا.(الفتاوى)
وهذا أبو حيان يقول: طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق. والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك اللّه.
ويضيف فيقول: وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لو لا محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا لهم بها. ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين.(تفسير البحر المحيط)
وهذا ابن الجوزي يقول: ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا. (زاد المسير)
وهذا أبو السعود يقول: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها.(إرشاد العقل السليم)
وهذا محمد رشيد رضا يقول: ذهب الْجمهور والمخدوعون بالرِّوايات إِلى أَنَّ المعنى أَنَّها همَّت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارضٌ ولا مانعٌ منها، وهمَّ هو بمثل ذلك، ولولا أَنَّه رأَى برهان ربِّه لاقترفها ولم يستح بعضهم أَن يروي أَخبار اهتياجه وتهوُّكه فيه ووصف انهماكه وإِسرافه في تنفيذه، وتهتك المرأَة في تبذُّلها بين يديه، ما لا يقع مثله إِلَّا من أَوقح الفسَّاق المسرفين المستهترين... فإِنَّ مثل هذا الَّذي افتروه في قصَّة هذا النَّبيِّ الكريم، لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أَوَّل مرَّةٍ من سليمي الفطرة، ولا من سذَّج الأَعراب الَّذين لم تغلبهم سورة الشَّهوة الجامحة على حيائهم الفطريِّ، وإِيمانهم وحيائهم من نظر ربِّهم إِليهم، فضلا عن نبيٍّ عصمه اللهُ ووصفه بما وصف، وشهد له بما شهد، وقد بلغ ببعضهم (كَالسُّدِّيِّ) الجهل بالدِّين والوقاحة وقلَّة الأَدب أَن يزعموا أَنَّ يوسف - عليه السَّلام - لم ير برهانًا واحدًا، بل رأَى عدَّة براهين من رؤْية والده متمَثِّلًا له منكرًا عليه، وتكرار وعظه له، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأَشدِّ زواجر الْقُرْآن بآياتٍ من سوره، فلم تنهه من شبقه، ولم تنهه عن غيِّه، حتَّى كان أَن خرجت شهوته من أَظَافره، ومعنى هذا أَنَّه لم يكفَّ إِلَّا عجزًا عن الإِمضاء، أَفبهذا صرف اللهُ عنه السُّوء والفحشاء، وكان من عباد اللهِ المخلصين، وأَنبيائه المصطفين المجتبين الأَخيار(تفسير المنار)
وهذا الشنقيطي يقول:هذه الأقوال الَّتي رأيت نسبتها إِلَى هَؤُلَاءِ العلماء منقسمةٌ إِلَى قسمينِ، قسمٌ لم يثبت نقلهُ عَمَّنْ نقله عنه بسندٍ صَحِيحٍ، وهذا لَا إِشكال في سقوطه. وقسمٌ ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيءٌ من ذلك، فالظَّاهر الغالب على الظَّنِّ المزاحم لليقين: أَنَّهُ إِنَّمَا تلقَّاه عن الْإِسرائيلِيَّات; لِأَنَّهُ لَا مجال لِلرَّأْيِ فيه، ولم يرفع منه قليلٌ ولا كثِيرٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبهذا تعلم أَنَّهُ لَا ينبغي التَّجرُّؤُ عَلَى الْقَوْلِ فِي نبيِّ اللَّهِ يوسف بأَنَّه جلس بين رجلي كافرةٍ أجنبيَّةٍ، يريد أَن يزني بها، اعتمادًا على مثل هذه الرِّوايات، مع أَنَّ في الرِّوايات المذكُورة ما تلوح عليه لوائح الكذب، كقصَّة الكفِّ الَّتِي خرجت له أربع مرَّاتٍ، وفي ثلاثٍ منهنَّ لا يبالي بها; لأنَّ ذلك على فرض صحَته فيه أَكبر زاجرٍ لعوامِّ الفسَّاق، فما ظَنُّك بخيارِ الْأَنبياء؟ مع أَنَّا قَدَّمنا دلالة القرآن على براءَته من جهاتٍ متعدِّدة، وأَوضحنا أَنَّ الحقيقة لَا تتعدَّى أَحد أَمرين، إِمَّا أَن يكون لم يقع منه هَمٌّ بها أَصلًا، بناءً على تعليق هَمِّه على عدم رؤية البرهان، وقد رأَى البرهان، وإِمَّا أَن يكون همُّه الميل الطَّبيعيَّ المزموم بالتَّقوى، والعلم عند اللَّه تعالى. (أضواء البيان)
وهذا سيد قطب يقول: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»! لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، واللّه يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن! - تنهى عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي! حتى أرسل اللّه جبريل يقول له : أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره .. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع! وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك.(في ظلال القرآن)
وأضف إلى ذلك ما كتبه الألوسي وما نقله من قول الطيبي حيث قال: وقد ذكر الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محيي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان : هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب ان نذهب اليه ونتخذه مذهبا ، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير اليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم ، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب ا ه ، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار.(روح المعاني)
والذي نلاحظ في ما عرضناه من أقوال المحقّقين، أنهم لم يرفضوا القول المنقول عن السلف فحسب، بل أتوا بأقوال لم ينقل واحد منها عن أحد من الصحابة أو التابعين، فبعضهم قال بالفرق بين همّ المرأة وهمّ يوسف، وبعضهم قال بأن الهمّ بمعنى الهمّ بالضرب، وبعضهم قال بأنّه لم يحصل همّ أصلا. واستدلوا على ما ذهبوا إليه باللغة والسياق، ولكنهم لم يستدلوا بما ورد عن الصحابة والتابعين، وليس السبب وراء ذلك عدم اهتمامهم بأقوال الصحابة والتابعين، وإنما السبب هو أنهم لما رأوا أن الأقوال المنسوبة إلى السلف تخالف العقل وتتعارض مع عصمة الأنبياء، اعتقدوا أنه لايمكن أن تكون هذه أقوال الصحابة أو التابعين، وأبوا أن يقبلوا الروايات في ذلك وحتى رواية مستدرك الحاكم والذي قال فيها الحاكم أنه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
إن تضعيف أي قول على أساس أنه يخالف ما نقل عن الصحابة والتابعين، وعلى أساس أنه رأي جديد لم يقل به أحد ممن سبق، لم يكن منهج العلماء المحققين في الأمة، لأن كون القول جديدا لنا لا يعني كونه جديدا على سلف هذه الأمة، وكون قول منقولا عن السلف لا يعني أنه لم يكن هناك قول آخر، كما أن نقل قول عن السلف لا يعني بالضرورة أنه كان فعلا قولهم.
ولذلك لا ينبغي لأحد أن يقول لشيخ الإسلام ابن تيمية، هل فهمت مالم يفهمه الطبري والواحدي ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس وغيرهم من السلف؟ وهل عندك غيرة على الأنبياء أشد من غيرة من سبقك من العلماء؟
بل المنهج الصحيح الذي اختاره المحققون من الأمة أن الرأي الذي يخالف القرآن والعقل مخالفة صريحة لا يقبل وإن كان منقولا عن السلف، والرأي الذي تعضده الأدلة من القرآن والعقل يجب أن يقبل وإن لم ينقل عن أحد من السلف، كما يجب الاعتقاد بأن سلف هذه الأمة كانوا على الرأي الصحيح وإن لم ينقل ذلك عنهم، وكانوا بعيدين عن الرأـي الضعيف وإن نقل عنهم ذلك.
وهذا المنهج يبقى ساري المفعول وصالحا للعمل إلى يوم القيامة. كل يعرض رأيه بأدلته، والرفض أو القبول يكون بناء على ما قيل وليس بناء على من قال، والله على ما نقول وكيل.
هذه الحجة احتج بها الإمام الطبري والإمام البغوي والإمام الواحدي وغيرهم في تأويل قوله تعالى في سورة يوسف: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه. حيث قال الواحدي: قال المفسرون الموثوق بعلمهم، المرجوع إلى روايتهم، الآخذون للتأويل، عمن شاهدوا التنزيل: هَمَّ يوسف عليه السلام بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة منه. ويقول الطبري في صدد الرد على الرأي المخالف: هذا مع خلافهما جميع أَهل العلم بتأْويل القرآن الَّذين عنهم يؤخذ تأْويله. ويقول البغوي أيضا في صدد الرد على الرأي المخالف: وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم.
وهي حجة تبدو قوية جدا في بادئ أمرها، فإنه لا يشك مسلم أن الصحابة وعلماء التابعين كانوا أعلم بالقرآن ممن أتوا بعدهم، ولا يشك أنهم كانوا أشد تعظيما للأنبياء ممن جاء بعدهم، كما لا يشك أنهم كانوا أعلم باللغة وأساليبها والسياق ودلالته من غيرهم.
وقد احتج الطبري والبغوي الواحدي وغيرهم بهذه الحجة على البعض القليل الذين لم يكونوا من عداد الصحابة والتابعين، ولكنهم أتوا بأقوال جميعها تخالف ما نقل عن الصحابة والتابعين، وكان من شأن هذه الحجة أن يقتنع بها العلماء المحققون، ويرجع بسببها عن آرائهم المخالفون، ولكن ذلك لم يحدث، فقد قام كثير من المحققين على مر القرون وبجرأة قوية بردّ القول المنسوب إلى الصحابة والتابعين، ولم يعطوا لحجة الطبري والبغوي والواحدي هذه أي اهتمام.
فهذا الإمام الرازي يقول: القول الثاني، أن يوسف عليه السلام كان بريئا عن العمل الباطل ، والهم المحرم ، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين ، وبه نقول وعنه نذب. وبعد تقرير طويل يقول: فقد ظهر بحمد اللَّه تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين. (التفسير الكبير)
وهذا الإمام ابن تيمية يقول: وأَمَّا ما ينقل: من أَنَّه حلَّ سراويله، وجلس مجلس الرَّجل من المرأَة، وأَنَّه رأَى صورة يعقوب عاضًّا على يده، وأَمثاله ذلك، فكلُّه ممَّا لم يخبر اللَّه به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإِنَّما هو مأْخوذٌ عن اليهود الَّذين هم من أَعظم النَّاس كذبًا على الْأَنْبياء وقدحًا فيهم، وكلُّ من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أَحد عن نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرفًا واحدًا.(الفتاوى)
وهذا أبو حيان يقول: طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق. والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك اللّه.
ويضيف فيقول: وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لو لا محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا لهم بها. ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين.(تفسير البحر المحيط)
وهذا ابن الجوزي يقول: ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا. (زاد المسير)
وهذا أبو السعود يقول: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها.(إرشاد العقل السليم)
وهذا محمد رشيد رضا يقول: ذهب الْجمهور والمخدوعون بالرِّوايات إِلى أَنَّ المعنى أَنَّها همَّت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارضٌ ولا مانعٌ منها، وهمَّ هو بمثل ذلك، ولولا أَنَّه رأَى برهان ربِّه لاقترفها ولم يستح بعضهم أَن يروي أَخبار اهتياجه وتهوُّكه فيه ووصف انهماكه وإِسرافه في تنفيذه، وتهتك المرأَة في تبذُّلها بين يديه، ما لا يقع مثله إِلَّا من أَوقح الفسَّاق المسرفين المستهترين... فإِنَّ مثل هذا الَّذي افتروه في قصَّة هذا النَّبيِّ الكريم، لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أَوَّل مرَّةٍ من سليمي الفطرة، ولا من سذَّج الأَعراب الَّذين لم تغلبهم سورة الشَّهوة الجامحة على حيائهم الفطريِّ، وإِيمانهم وحيائهم من نظر ربِّهم إِليهم، فضلا عن نبيٍّ عصمه اللهُ ووصفه بما وصف، وشهد له بما شهد، وقد بلغ ببعضهم (كَالسُّدِّيِّ) الجهل بالدِّين والوقاحة وقلَّة الأَدب أَن يزعموا أَنَّ يوسف - عليه السَّلام - لم ير برهانًا واحدًا، بل رأَى عدَّة براهين من رؤْية والده متمَثِّلًا له منكرًا عليه، وتكرار وعظه له، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأَشدِّ زواجر الْقُرْآن بآياتٍ من سوره، فلم تنهه من شبقه، ولم تنهه عن غيِّه، حتَّى كان أَن خرجت شهوته من أَظَافره، ومعنى هذا أَنَّه لم يكفَّ إِلَّا عجزًا عن الإِمضاء، أَفبهذا صرف اللهُ عنه السُّوء والفحشاء، وكان من عباد اللهِ المخلصين، وأَنبيائه المصطفين المجتبين الأَخيار(تفسير المنار)
وهذا الشنقيطي يقول:هذه الأقوال الَّتي رأيت نسبتها إِلَى هَؤُلَاءِ العلماء منقسمةٌ إِلَى قسمينِ، قسمٌ لم يثبت نقلهُ عَمَّنْ نقله عنه بسندٍ صَحِيحٍ، وهذا لَا إِشكال في سقوطه. وقسمٌ ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيءٌ من ذلك، فالظَّاهر الغالب على الظَّنِّ المزاحم لليقين: أَنَّهُ إِنَّمَا تلقَّاه عن الْإِسرائيلِيَّات; لِأَنَّهُ لَا مجال لِلرَّأْيِ فيه، ولم يرفع منه قليلٌ ولا كثِيرٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبهذا تعلم أَنَّهُ لَا ينبغي التَّجرُّؤُ عَلَى الْقَوْلِ فِي نبيِّ اللَّهِ يوسف بأَنَّه جلس بين رجلي كافرةٍ أجنبيَّةٍ، يريد أَن يزني بها، اعتمادًا على مثل هذه الرِّوايات، مع أَنَّ في الرِّوايات المذكُورة ما تلوح عليه لوائح الكذب، كقصَّة الكفِّ الَّتِي خرجت له أربع مرَّاتٍ، وفي ثلاثٍ منهنَّ لا يبالي بها; لأنَّ ذلك على فرض صحَته فيه أَكبر زاجرٍ لعوامِّ الفسَّاق، فما ظَنُّك بخيارِ الْأَنبياء؟ مع أَنَّا قَدَّمنا دلالة القرآن على براءَته من جهاتٍ متعدِّدة، وأَوضحنا أَنَّ الحقيقة لَا تتعدَّى أَحد أَمرين، إِمَّا أَن يكون لم يقع منه هَمٌّ بها أَصلًا، بناءً على تعليق هَمِّه على عدم رؤية البرهان، وقد رأَى البرهان، وإِمَّا أَن يكون همُّه الميل الطَّبيعيَّ المزموم بالتَّقوى، والعلم عند اللَّه تعالى. (أضواء البيان)
وهذا سيد قطب يقول: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»! لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، واللّه يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن! - تنهى عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي! حتى أرسل اللّه جبريل يقول له : أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره .. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع! وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك.(في ظلال القرآن)
وأضف إلى ذلك ما كتبه الألوسي وما نقله من قول الطيبي حيث قال: وقد ذكر الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محيي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان : هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب ان نذهب اليه ونتخذه مذهبا ، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير اليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم ، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب ا ه ، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار.(روح المعاني)
والذي نلاحظ في ما عرضناه من أقوال المحقّقين، أنهم لم يرفضوا القول المنقول عن السلف فحسب، بل أتوا بأقوال لم ينقل واحد منها عن أحد من الصحابة أو التابعين، فبعضهم قال بالفرق بين همّ المرأة وهمّ يوسف، وبعضهم قال بأن الهمّ بمعنى الهمّ بالضرب، وبعضهم قال بأنّه لم يحصل همّ أصلا. واستدلوا على ما ذهبوا إليه باللغة والسياق، ولكنهم لم يستدلوا بما ورد عن الصحابة والتابعين، وليس السبب وراء ذلك عدم اهتمامهم بأقوال الصحابة والتابعين، وإنما السبب هو أنهم لما رأوا أن الأقوال المنسوبة إلى السلف تخالف العقل وتتعارض مع عصمة الأنبياء، اعتقدوا أنه لايمكن أن تكون هذه أقوال الصحابة أو التابعين، وأبوا أن يقبلوا الروايات في ذلك وحتى رواية مستدرك الحاكم والذي قال فيها الحاكم أنه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
إن تضعيف أي قول على أساس أنه يخالف ما نقل عن الصحابة والتابعين، وعلى أساس أنه رأي جديد لم يقل به أحد ممن سبق، لم يكن منهج العلماء المحققين في الأمة، لأن كون القول جديدا لنا لا يعني كونه جديدا على سلف هذه الأمة، وكون قول منقولا عن السلف لا يعني أنه لم يكن هناك قول آخر، كما أن نقل قول عن السلف لا يعني بالضرورة أنه كان فعلا قولهم.
ولذلك لا ينبغي لأحد أن يقول لشيخ الإسلام ابن تيمية، هل فهمت مالم يفهمه الطبري والواحدي ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس وغيرهم من السلف؟ وهل عندك غيرة على الأنبياء أشد من غيرة من سبقك من العلماء؟
بل المنهج الصحيح الذي اختاره المحققون من الأمة أن الرأي الذي يخالف القرآن والعقل مخالفة صريحة لا يقبل وإن كان منقولا عن السلف، والرأي الذي تعضده الأدلة من القرآن والعقل يجب أن يقبل وإن لم ينقل عن أحد من السلف، كما يجب الاعتقاد بأن سلف هذه الأمة كانوا على الرأي الصحيح وإن لم ينقل ذلك عنهم، وكانوا بعيدين عن الرأـي الضعيف وإن نقل عنهم ذلك.
وهذا المنهج يبقى ساري المفعول وصالحا للعمل إلى يوم القيامة. كل يعرض رأيه بأدلته، والرفض أو القبول يكون بناء على ما قيل وليس بناء على من قال، والله على ما نقول وكيل.