طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
"جولة فى التفاسير الصوفية" للدكتور إبراهيم عوض.
عُرِف الصوفية بالتركيز على التجربة الروحية، سواء عن حق أو عن ادعاء. وفى تفسيرهم للقرآن نراهم يهتمون بالبحث عما فى آياته من إشارات لا تدل عليها دلالة مباشرة، بل يحتاج الأمر فيها إلى تأويلٍ، وأحيانا إلى لَىٍّ للنص عن ظاهره. وكثيرا ما يُغَشِّى تأويلاتِهم التكلّفُ الثقيل الذى يفسد تذوقنا حتى للبسملة كما صنع القشيرى (ت 465هـ) عند بداية تفسيره لسورة "الفاتحة"، إذ يقف أمام كل حرف من حروف البسملة قائلا: "وقوم عند ذكر هذه الآية (يقصد آية "البسملة") يتذكرون من الباء بِرَّه (أى بِرّ الله) بأوليائه، ومن السين سِرَّه مع أصفيائه، ومن الميم مِنَّتَه على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببرّه عرفوا سِرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع "بسم الله" تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعزّ وَصْفه. وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه. فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية، أعني "بسم الله الرحمن الرحيم"، في كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة، وإشارات غير معادة". فالقشيرى، كما ترى، يُبْعِد النُّجْعَة، إذ من غير المتصوَّر أن يقف قارئ القرآن أمام البسملة فى كل مرة يتلوها فيمعن النظر فى كل حرف منها على النحو الذى ذكره القشيرى، فضلا عن أن يستطيع القشيرى أو غيره استقصاء ما يعنّ لجميع فئات القراء من معانٍ عند قراءتهم للبسملة ويسجل كل ذلك على اختلافه. إن هذا لهو التكلف!
ونفس هذا التكلف نجده فى تناوله للحروف المقطعة التى تبتدئ بها بعض السور، إذ ها هو ذا لدن تفسيرها فى أول "البقرة"، وهى السورة التى تلى "الفاتحة" مباشرة، يقول: "هذه الحروف المقطعة في أوائل السورة من المتشابِه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم. ويقولون: لكل كتاب سر، وسر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم أنها مفاتح أسمائه: فالألف من اسم "الله"، واللام يدل على اسمه "اللطيف"، والميم يدل على اسمه: "المجيد" و"الملك". وقيل: أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه. وقيل إنها أسماء السور. وقيل: الألف تدل على اسم "الله"، واللام تدل على اسم "جبريل"، والميم تدل على اسم "محمد" صلى الله عليه وسلم. فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألِف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع. ويقال: يتذكر العبد المخلص مِنْ حالة الألف تَقَدُّسَ الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان، فإن سائر الحروف لها محل من الحَلقْ أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هوائية لا تضاف إلى محل. ويقال: الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال: يطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في مراعاة حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. ويقال: اختص كل حرف بصيغة مخصوصة: فانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجُعِل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن مَنْ تجرَّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حَظِي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركَّبة، على سُنّة الأحباب في ستر الحال وإخفاء الأمر على الأجنبي من القصة... ويقال: تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص. أَسْمَعَ موسى كلامَه في ألْف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: أَلِفْ... وقال عليه السلام: أُوتِيتُ جوامع الكلِم فاختُصِرَ لي الكلامُ اختصارا".
وفى تفسير "الم" الموجودة فى أول سورة "الرعد" يقول: "أَقْسَم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إِنَّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرتُ أَنِّي أُنَزِّلُ عليك. فالألف تشير إلى اسم "الله"، واللام تشير إلى اسم "اللطيف"، والميم تشير إلى "المجيد"، والراء تشير إلى اسم "الرحيم". قال: بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آياتُ الكتاب الذي أخبرتُ أني أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم". وبالله عليك أيها القارئ ما الذى منع أن يقول عز وجلّ: "بسم الله اللطيف المجيد" مرة واحدة بدلا من "بسم الله الرحمن الرحيم" ما دام هذا هو مراده سبحانه؟ ومن أين علم القشيرى أو غير القشيرى أن الله قد أراد هذا المعنى الذى ذكره، ما دام لم يَرِد ذلك عن النبى عليه السلام؟ أعنده علم الغيب فهو يرى؟
ويقول سهل التسترى فى تفسير البسملة فى أول "الفاتحة": "واللهُ: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرفٌ مكنىٌّ غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلاَّ الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان. والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنىّ بين الألف واللام. والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع، والابتداء في الأصل رحمةً لسابق علمه القديم. قال أبو بكر: أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الرحمن الرحيم": اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده". والحق أن كلام التسترى فى التعليق على اسم الجلالة و"الرحمن" أقرب إلى البهلوانيات منه إلى التفسير، إذ هو مجرد أصوات لا معنى لها فى الواقع، وإن خُيِّل لبعض الناس أن وراءها شيئا من المعنى، إذ ما معنى قوله مثلا: "وبين الألف واللام منه حرفٌ مكنىٌّ غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة"؟. ومثله ما كتبه فى تفسير الآية الثامنة عشرة من سورة "الكهف" عن أصحاب الكهف، إذ قال: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا": "قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} يعني: لو اطلعت عليهم بنفسك لوليت منهم فرارا، ولو اطلعت عليهم بالحق لوقفت على حقائق الوحدانية فيهم منه". ترى هل فهم القارئ من ذلك شيئا؟ فما معنى اطِّلاع المطَّلِع عليهم بنفسه؟ وما معنى اطلاعه عليهم بالحق؟ وما معنى أنه فى المرة الأولى يُوَلِّى منهم فرارا ويمتلئ منهم رعبا، وفى الثانية يقف على حقائق الوحدانية منه فيهم؟
أما إسماعيل حقى (ت 1127هـ) صاحب "روح البيان في تفسير القرآن" فيقول فى تفسير البسملة فى مطلع سورة "الفاتحة": "قالوا: وأودع جميع العلوم في الباء. أى: بى كان ما كان، وبى يكون ما يكون. فوجود العوالم بى، وليس لغيرى وجود حقيقى إلا بالاسم والمجاز. وهو معنى قولهم: ما نظرت شيئا إلا ورأيت الله فيه أو قبله، ومعنى قوله عليه السلام: "لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله". فان قلت: ما الحكمة فى افتتاح الله بالباء؟ عشرة معان: أحدها أن فى الألف ترفعا وتكبرا وتطاولا، وفى الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا. فمن تواضع لله رفعه الله. وثانيها أن الباء مخصوصة بالإلصاق بخلاف أكثر الحروف، خصوصا الألف من حروف القطع. وَجَدَتْ شرف العِنْدِيّة من الله تعالى كما قال الله تعالى: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى". ورابعها أن فى الباء تساقطا وتكسرا فى الظاهر، ولكنْ رفعة درجة وعلوّ همة فى الحقيقة، وهى من صفات الصديقين، وفى الألف ضدها. أما رفعة درجتها فبأنها أعطيت نقطة، وليست للألف هذه الدرجة. وأما علو الهمة فانه لما عُرِضَتْ عليها النُّقَط ما قبلت إلا واحدة ليكون حالها كحال محب لا يقبل إلا محبوبا واحدا. وخامسها أن فى الباء صدقا فى طلب قربة الحق لأنها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتْها تحت قدمها وما تفاخرت بها، ولا يناقضه الجيم والياء لان نُقَطهما فى وضع الحروف ليست تحتهما بل فى وسطهما، وإنما موضع النقط تحتها عند اتصالهما مفردة أو متصلة بحرف آخر. وسادسها أن الالف حرف علة بخلاف الباء. وسابعها أن الباء حرف تام متبوع فى المعنى، وان كان تابعا صورةً من حيث إن موضعه بعد الألف فى وضع الحروف. وذلك لأن الألف فى لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الألف، فإن الباء لا يتبعه، والمتبوع فى المعنى أقوى. وثامنها أن الباء حرفٌ عامل ومتصرف فى غيره. فظهر لها من هذا أنه كامل فى صفات نفسه بأنه للإلصاق والاستعانة والإضافة، مكمل لغيره بأن يخفض الاسم التابع له. أشار إليه سيدنا على رضى الله عنه بقوله: إن النقطة تحت الباء. فالباء له مرتبة الإرشاد والدلالة على التوحيد. وعاشرها أن الباء حرف شفوى تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية. ولذلك كان أول انفتاح فم الذرّة الإنسانية فى عهد "ألست بربكم؟" بالباء فى جواب: "بلى". فلما كان الباء أول حرف نطق به الإنسان وفتح به فمه وكان مخصوصا بهذه المعانى اقتضت الحكمة الإلهية اختياره من سائر الحروف فاختارها ورفع قدرها وأظهر برهانها وجعلها مفتاح كتابه ومبدأ كلامه وخطابه تعالى وتقدس: كذا فى ’التأويلات النجمية’".
وهذا، كما ترى، كلام ليس له رأس ولا ذنب. ومن الطريف أن يُنْسَب إلى على كرم الله وجهه القول بأن الباء منقوطة من تحت، مع أننا جميعا نعلم أن الأبجدية العربية لم تكن قد عرفت النقط بَعْدُ على عهد على بن أبى طالب. ومعنى ذلك أن الرواية مكذوبة لا أصل لها، وكان ينبغى أن يتنبه الكاتب إلى ذلك، لكنْ من الواضح أن الخواطر الشعرية الإنشائية تفتنه وتسكره فلا يتنبه إلى ما فيها من سخف ومدابرة للمنطق وحقائق التاريخ. ثم من قال إن الباء هى أول حرف نطق به الفم الإنسانى؟ ترى هل كان الإنسان فى عالم الذرّ يتحدث العربية فقال: "بَلَى" فعلا بنطقها العربى؟ بل هل كان هناك حديث أصلا فى ذلك الموقف؟ وهذا إن كانت الآية تشير إلى عالم الذر فعلا كما يقول عامة المفسرين، إذ من الممكن جدا أن يكون الكلام على المجاز، ويكون المراد أنه سبحانه يشير إلى إرساله الرسل حتى لا يتحجج البشر يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن ربوبيته لأنه لم يرسل لهم رسلا يوضحون لهم تلك الحقيقة كما تومئ كل من الآية 165 من سورة "النساء"، والآية 15 من سورة "الإسراء"، ونصاهما على الترتيب: "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً". ثم إن حقى يقول: إن "الباء حرفٌ عاملٌ ومتصرفٌ فى غيره"، مشيرا إلى أن الباء حرف جر، فهو يعمل فى الاسم ويجره. وهذا معناه أنه يأخذ كلام النحاة القدماء فى عمل الكلمات بعضها فى بعض كلاما مسلما به، مع أنه مجرد كلام نظرى لا حقيقة له، إذ ليس فى الكلمات تلك القوة التى ينسبها لها النحويون، بل العامل فيها جميعا هو أهل اللغة الذين اصطلحوا على هذا وذاك من أوجه الإعراب، والذين كان من الممكن أن يصطلحوا على غيره.
ومع هذا فمن الممكن، بناء على أسلوب المفسر، أن نقول إن الألف أفضل من الباء لأنها أول حروف الأبجدية والألفباء العربية، فلها إذن فضل الصدارة، أما الباء فتابعة لها. كما يمكننا بنفس الطريقة أن نقول إن انتقال أى اسم من حالة التنكير إلى حالة التعريف لا يحصل دون معاونة الألف التى تبدأ بها أداة التعريف: "أل". ثم إن المفسر يخلط بين الألف والهمزة، فيقول عن الألف فى البسملة إنها حرف علة، مع أنها همزة لا ألف، ومن ثم ليست حرف علة. كما أن العِلّة لا تعيب الحرف فى شىء، اللهم إلا إذا ظن مفسرنا أن العلة هنا تعنى المرض، وهو تصور مضحك. ومُضِيًّا مع هذا المنطق نقول إن الهمزة هى أول حرف فى اسم الجلالة، وهو شرف لا يتشرف به حرف الباء. وهو نفسه قد قال، فى تفسير "ألمص" التى تبدأ بها سورة "الأعراف"، إن الألف "إشارة الى الذات الأحدية". أى أنه يقول الشىء ثم ينساه ويقول بعكسه، وهو ما يدل على أن الأمر لا يزيد عن أن يكون خواطر شاعرية وقتية لا حقيقة لها، فلذلك سرعان ما تذوب وتُنْسَى. كما أن الهمزة هى أداة استفهام تامة، ومعروف أن أداة الاستفهام تؤثر على معنى الجملة كلها وليست كالباء التى يقتصر عملها على جر الاسم التالى لها كما فى الباء، وهذا إن صدقنا ما يقوله النحاة القدماء من أن الكلمات يعمل بعضها فى بعض، وهو ما لا نقول به. وبالمثل فهى أداة تسوية كما فى قوله تعالى: "سواء علينا أَجَزِعْنا أم صَبَرْنا: ما لنا من مَحِيص". وفضلا عن ذلك فإن الهمزة هى الحرف الذى تبدأ به الأدوات التالية: "أل" و"إلى" و"أمام" و"أين" و"أيّان" و"إنْ" و"إنّ" و"أَنْ" و"أَنّ" و"إذا" و"أَيَا" و"أىْ" و"أىّ" و"أو" و"أم" و"أَجَلْ" و"ألاَ" و"أنا" و"أنت" و"الذى" و"التى" و"أولاء"، وكل أفعال الأمر الثلاثية، وكثير من أفعال الأمر غير الثلاثية، وكذلك كثير من الأفعال الماضية المزيدة، فضلا عن أن فى النحو العربى بابا لهمزة الوصل وهمزة القطع، وفى الإملاء العربى بابا لكيفية كتابة الهمزة فى حالاتها المختلفة الكثيرة، أما الباء فربما لا نجد لها وجودا فى الأدوات إلا فى "بَلَى" و"بَلْهَ"... إلى آخر هذا الكلام الذى يغرم به مفسرنا وأمثاله، ولا نقيم نحن لشىء منه وزنا، بيد أننا أردنا أن نبين للقارئ أن ما يقوله حقى هو كلام فى الهواء لا يعنى شيئا.
ولكى يتبين القارئ بنفسه ما قلناه ونقوله من أن كلام المتصوفة فى إشاراتهم التفسيرية إنما هى خواطر تسنح لهم فيقيدونها حسبما اتفق دون تحقيق أو تدقيق، أذكر له أن السلمى فى تفسيره لبسملة "الفاتحة" قد خصص لما قاله فيها بنو طريقته عدة صفحات. والملاحظ أن ما يذكره الواحد منهم يذكر الآخر شيئا مخالفا له. ويحسن بالقراء أن يعودوا إلى ما كتبه ذلك المفسر فى مفتتح تفسيره للسورة المذكورة حتى يروا بأنفسهم ويحكموا بأنفسهم. وزيادة فى تأكيد ما أقول سوف أقف الآن أمام ما كتبه اثنان من كبار مفسرى الصوفية عن "ألمص" التى فى أول "الأعراف" لنرى أنهم إنما يخبطون خبط عشواء.
يقول ابن عجيبة: "إما أن تكون مختصرة من "المصطفى" على عادة العشاق: يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب اتقاء الرقباء. أي يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا، هذا كتاب أُنْزِل إليك. وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة: الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد إشارةً إلى صدقه فيما يُخْبِر به من علم الغيوب، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار. وقال الورتجبي: كان الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء وما جرى عليهم في الدهور والأعصار وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع، وأراد أن يخصه صلى الله عليه وسلم بشريعته وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته، ويخبره بما كان وما يكون، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي، وأعلمه سر ذلك بخفيّ الإشارة ولطيف الخطاب. وعَلِم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق، ونبأٍ صادق، وعَلِم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه. وخواصُّ أمته ربما تطلع على سر بعضها كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء، كأنَّ حروف المقطَّعات رموز ومعاني سور القرآن، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين".
ويقول إسماعيل حقى فى تفسير ذات الأحرف: "{المص}: "ا" إشارة الى الذات الاحدية. "ل" إلى الذات مع صفة العلم. "م" إلى معنى محمد صلى الله عليه وسلم، أى نفسه وحقيقته. "ص" إلى الصورة المحمدية، وهى جسده وظاهره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "ص" جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار. إشارة بالجبل إلى جسد محمد صلى الله عليه وسلم. وبعرش الرحمن إلى قلبه كما ورود فى الحديث: "قلب المؤمن عرش الله". وقوله: "حين لا ليل ولا نهار" إشارة إلى الوحدة لأن القلب إذا وقع فى ظل أرض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان فى الليل، وإذا طلع عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان فى النهار، وإذا وصل إلى الوحدة الحقيقية بالمعرفة والشهود الذاتى واستوى عنده النور والظلمة لفناء الكل فيه كان وقته لا ليل ولا نهار، ولا يكون عرش الرحمن إلا فى هذا الوقت. فمعنى الآية أن وجود الكل من أوله الى آخره كتاب أُنْزِل إليك عمله: كذا فى "التأويلات القاشانية". وقال الشيخ نجم الدين إنه تعالى بعد ذكر ذاته وصفاته بقوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} عرّف نفسه بقوله: {المص}، يعنى الله أنه من لطفه فَرَّدَ عبده للمحبة والمعرفة، وأنعم عليه بالصبر والصدق لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كتاب أُنْزِل إليك... يقول الفقير غفر الله ذنوبه: إن الحروف المقطَّعة من المتشابهات القرآنية التى غاب علمها عن العقول، وإنما أُعْطِىَ فهمها لأهل الوصول. وكل ما قيل فيها فهو من لوازم معانيها وحقائقها. فلنا أن نقول إن فيها إشارة إلى هذا التركيب الصِّفاتىّ والفِعْلِىّ الواحدىّ الأبدىّ. كان إفرادا فى مرتبة الوحدة الذاتية الأزلية، فبالتجلى الإلهى صار المفرد مركَّبا، والمقطَّع موصَّلا، والقوة فعلا، والجمع فرْقا، وتعيَّنت النِّسَب والإضافات، كما أن أصل المركَّبات الكلامية هو حروف التهجى، ثم بالتركيب يحصل "أب" ثم "أبجد" ثم "الحمد لله"، وكما أن أصل الانسان بالنسبة إلى تعين الجسم هو النطفة، ثم بالتصوير يحصل التركيب الجسمى". وواضح أولا أن بعض الكلام فى هذا النص غامض لا يستطيع الإنسان أن يقبض منه على شىء محدد. وواضح كذلك مدى البعد بين هذا التفسير والتفسير الذى يسبقه، مع أن كلا من هذين المفسرين هو من أهل التصوف والإشارات. ألم أقل إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خواطر تسنح للمفسر الصوفى فينفضها على الورق دون أن يفكر فى أبعادها وما يترتب عليها، بل دون أن يعنى نفسه بتذكرها، حتى إنه لسرعان ما يخالفها فى أول فرصة!
ومن التكلف المقيت بعيدا عن البسملة والحروف المقطعة هذا النص الذى اقتطعناه من تفسير "عرائس البيان فى حقائق القرآن" للبقلى (ت 404هـ)، وهو فى تفسير قوله جل جلاله: "ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران/ 191): "{ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}: إن الله سبحانه لما خلق أرواح أهل المعارف أوجدها على كشف جماله فوقعت كينونة الأرواح على سواطع نور المشاهدة فباشرت أنوارها صميم الأرواح فعشقت بالله جماله وجلاله، فلما استترت بالأشباح بقى الذكر والعشق والمحبة معها عوض المشاهدة. ففى كل نفس لا يخلو عن ذكر معاهد الأول ومشاهدة القديم بنعت الشوق والمحبة والعشق، وذلك بغير اختيارها ذاكرة للمذكور، متفكره للغيبة والحضور، شائقة عاشقة بنعت الهيجان والهيمان على جميع الاحوال، مجذوبة بسلسلة الوصلة الى جمال القدم، مستغرقة فى بحار المواجيد وأنوار الكواشف. لأجل ذلك وصفها الله بدوام الذكر والفكر على نعت التسرمد وأخبر على قدر عقول الخلق عن أحوالهم بلفظ الذكر والفكر. وبذلك نعت قلوبهم وعقولهم وأبدانهم، وأخفى شهود أرواحهم مشاهد القدس والأنس لطفا وإبقاء ومحبة وغيرة بقوله: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم". قيامهم مقرون بذكر العظمة والكبرياء، وقعودهم مقرون بذكر الجمال وحسن الإفضال، واضطجاعهم مقرون بذكر البسط والانبساط والرفاهية فى الشوق والمحبة. فذكرهم على قدر كشوف الصفات. فكشْف العظمة هيّجهم إلى ذكر الفناء فى التوحيد، وكشف الكبرياء هيجهم إلى ذكر الاضمحلال فى التواضع والتفريد، وكشف البهاء هيجهم الى ذكر الخمود فى الشهود، وكشف القدرة هيجهم الى ذكر العجز فى العبودية عن إدراك الربوبية، وكشف الجمال هيجهم الى الغيبة فى ذكر الآباد. وعلى ذلك كل صفة لها تجلٍّ، ولذلك التجلى مباشرةٌ فى قلوب الذاكرين. وكل ذكر له عمل فى المقامات، وله حقيقةُ وَجْدٍ فى الحالات: ذكر الرضا من رضى الحق، وذكر التوكل من حب الله، وذكر القهر من جبروت الله، وذكر الإفضال من ملكوت الله، وذكر الآلاء من ملك الله. وعلى قدر ظهور الصفات لهم تسرمد الذكر الذى وافق الكشف من الأسماء والصفات والنعوت والذات. سبحان من خص الأولياء بكشوف صفاته. سبق ذكره لهم بهذه الفضائل والقربات قبل ذكرهم إياه إلى الأزل. فذِكْرُه جعلهم ذاكرين، ورحمته جعلتهم متفكرين فى جلاله وعظمته، ومن عاش منهم عن حقيقة القدم صار متصفا بعد الذكر بصفة المذكور، وخرج من مقام الذكر لغيبته عن الذكر فى رؤية الأزل والأبد. فعند ذلك: الذاكرُ والذكرُ والمذكورُ فى باب الاتحاد واحد فى شرط الفردانية. الموحِّد الذاكر يفنى، ويبقى الموحَّد لا غير كما لم يزل فى الأزل. قال: يذكرون الله قياما فى مشاهدات الربوبية، وقعودا فى إقامة الخدمة، وعلى جنوبهم فى رؤية الزلف... {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ}: التفكر فى خلق السموات والارض على معنيين: الأول طلب غيب القلوب فى الغيوب التى هى كنوز أنوار الصفات التي تبرز منها مقادير الخلق. يتفكرون فى محض الربوبية، وإرادتهم إدراك أنوار القدرة التى تبلّغ الشاهد إلى المشهود بحقيقة رؤية الوصف. والثانى جولان القلوب بنعت التفكر فى إبداع المالك فى الملك طلب مشاهدة المالك في الملك. الأول مَنْزِل التوحيد، والآخر منزل الجمع. قال بعضهم: هو رؤية الله قبل التفكر فى الأشياء، وواسطة التفكر أن ترى الاشياء قائمة بالله، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فيستدل بها على الله، وقبل ذلك بالتفكر فى صفات الحق لا فى المحدثات. ولو كان ذلك على المحدثات لقال: ويتفكرون فى السموات. قوله تعالى: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}: تطرقوا من مقام الذكر الى مقام التفكر فى خلق الكون استرواحا من الاحتراق بنور الذكر بمروحة صفاء الفعل لكيلا يَفْنَوْا فى مشاهدة المذكور، وذلك غلبة المريدين فى طلب الرفاهية وركوب الرُّخَص. ألا ترى كيف احتجبوا بالفعل عن الفاعل؟ وأيضا لـمّا استحلوا رؤية الفاعل فى العقل ووجدوا حكم الأنانية بنعت التجلى فى مرآة الفعل قالوا: ما خلقت هذا باطلا. أرادوا وجود الكون مرآة التجلى المكون فى مقام التفكر بعد إرادتهم زواله في صفاء الذكر غيرةً على الغير، وذلك قولهم: ربنا ما خلقت. وعلة ذلك أن الله سبحانه عرف مكان ضعف الخلق عن حمل مشاهدته صِرْفًا فأظهر الكون ليتطرقوا بالوسيلة اليه كيلا يحترقوا فى أول بوادى ظهور العظمة وسطوات الكبرياء رحمةً وشفقةً. قال فارس: الحكمة فى إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمى. قال الخوّاص: أمرهم بالتفكر فى خلق السموات والارض ثم قطعهم عن ذلك بقوله: ربنا ما خلقت هذا باطلا. دلهم عليها ثم حثهم على الرجوع اليه لكيلا يقفوا معها وينقطعوا من مشاهدته والإقبال عليه. قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: لما نزل القوم من مقام الذكر الخالص بغير الوسائط إلى مقام التفكر فى الأفعال والآيات ووقعوا فى رؤية الخلق أدركوا ما فاتهم من خوالص الذكر بقوله: سبحانك. أى أنت منزَّه عن كل ذكر وفكر وكل خاطر وإشارة وعبارة، وأنت أعظم من أن يدركك أحد بوسيلة الكون حيث لم يدركك بكل ذكر خالص، ولا يدركك إلا بك كل عارف. سبحانك عما وصفناك بلسان الحدث! أنت كما أثنيت على نفسك بقولك: سبحان الله عما يصفون. {وقِنَا عذاب النار}، أى عن طلبنا بنا لا بك. وعذاب النار عذاب البعد، وذلك نيران الفراق، وهو أحرق من نار الظاهر. قال النصرابادى: سبحانك، أى نزّهت نفسك فى نفسك بمعناك بما لاق منك بك لك". يا ألطاف السماوات! إن دين الله لأبسط من هذا وأسلس، ولا يصلح له هذا التَّفَيْهُق على أى وضع. وقد ذم رسول الله التشادق، ومن قديم الزمان والناس الأسوياء يكرهون التصنع والتعمل. الحق أن هذا الكلام بتعثكل أسلوبه والتوائه وتداخله وغموض معانيه وحرص مؤلفه على إبداء كل ما يمكنه من ضروب الحذلقة من شأنه أن يصيب الذهن بالصداع والدوار، ثم يعود الإنسان منه بعد الدوخة الأليمة دون محصول أو معقول!
ومما يقوله الصوفية أيضا ولا معنى له واضح، إن كان له معنى أصلا، قول السلمى فى تفسيره لقوله تعالى: "وقال ربكم ادعونى أَسْتَجِبْ لكم": "سمعت منصور بن عبد الله الأصفهانى يقول: سمعت الشبلى يقول، وقد سئل عن قوله: "وقال ربكم: ادعونى، أستجبْ لكم" فقال: أوه! من أمر؟ ولمن أمر؟ وكيف أمر؟ وبأى أمرٍ أمر؟ وبأى شىء أمر؟ وما المراد فيما أمر؟ بلى والله أمرنا أن نكون بلا نحن فى سر ظهر الغيب سِرًّا بسِرٍّ متصل. وأما على الظاهر فقال: ادعونى ولا تدعوا معى سواى، فإذا وجدتمونى فقد وجدتم الكل". وأنا فى الحقيقة لم أفهم شيئا من هذا، اللهم إلا الجملة الأخيرة. وهأنذا أُقِرّ بذلك ولا أجد فى الإقرار به أى حرج على الإطلاق.
ليس ذلك فقط، بل أحيانا ما نرى مفسرى الصوفية يأتون بروايات لا ندرى من أين حصلوا عليها كالذى قاله التسترى فى تفسير قوله تعالى فى أول "العنكبوت": "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ": "وحُكِيَ أن الملائكة تقول: يا رب، عبدك الكافر بَسَطْتَ له الدنيا وزَوَيْتَ عنه البلاء! فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه. فإذا رأوْه قالوا: لا ينعّمه ما أصاب من الدنيا. وتقول: يا رب، عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء! فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه. فإذا رأوْا ثوابه قالوا: لا يضره ما أصابه في الدنيا. وقال: اجعلوا صلاتكم الصبر على البأساء، وصومكم الصمت، وصدقتكم كف الأذى. والصبر على العافية أشد منه على البلاء". فمن أين للتسترى بهذا الكلام؟ ثم من قال إن الله يبلو المؤمن فى الدنيا دائما بالضيق والضنك، وينعم على الكافر دائما بالسعة والغنى؟ ألا إن أحوال الدنيا لتكذّب ذلك تكذيبا وتؤكد أن الغنى والفقر يعتوران هذا كما يعتوران ذاك دون فرق بين الاثنين. إلا أن مفسِّرنا الصوفى ينساح مع خواطره التى تبرق فى ذهنه لأول وهلة دون تحقيق أو تدقيق.
ومنها ما كتبه القشيرى فى تفسير قوله عز من قائل: "فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ"، إذ ذكر أن داود "أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يومًا لا يرفع رأسَه من السجود إلا (للصلاة) المكتوبة عليه، وأخذ يبكي حتى نَبَتَ العُشبُ من دموعه، ولم يأكل ولم يشرب في تلك المدة حتى أوحى اللَّهُ إليه بالمغفرة، فقال: يا رب، فكيف بحديث الـخَصْم؟ فقال: إني استوهبْتُك منه". فأنى للقشيرى ذلك الزعم؟ وكيف يمكن تصور عشب فى قصر داود أو محرابه؟ أوكانت أرضيته من تراب؟ وهل دموع العين من الغزارة بحيث تنبت عشبا؟ وفى بيوتنا الريفية قديما، وكانت ترابية، ولم يكن الماء ينقطع عن أرضيتها، لا أذكر أن العشب نبت من جراء ذلك. وهل يعقل أن يبقى داود أو غيره أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى دخول حمام ولا يكلم أحدا أو يكلمه أحد؟ والطريف أن القشيرى عاد فقال: "وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجًا بدموعه". أى أنه كان يشرب، وإن كان الماء الذى يشربه ممزوجا بالدموع. ولقد قال القرآن إنه خَرّ راكعا وأناب، ولم يزد، فلم التزيد إذن؟ أترى القرآن، لو كان عليه السلام ظل ساجدا أربعين يوما، يسكت عن هذا فلا يذكره؟ ثم إن القرآن يقول إنه خر راكعا، ولم يقل: خر ساجدا؟ وأخيرا أى ذنب ذلك الذى يثقل على ضمير داود حتى يستمر ساجدا ندما وابتهالا بسببه طيلة تلك المدة؟ أويقصد القشيرى أنه، عليه السلام، قد فَجَرَ بامرأة أوريا الحثى كما جاء فى العهد القديم؟ لكن القشيرى لم يذكر ما فرط منه، صلى الله عليه وسلم، صراحة، بل اكتفى بالإشارة إلى "الفتنة الموعودة"!
ومنها أيضا هذه الرواية التى أوردها إسماعيل حقى فى تفسيره المسمى: "روح البيان فى تفسير القرآن": "قال فى التفسير الكبير: يقال إن لله أربعة آلاف اسم: ثلاثة آلاف منها لا يعلمها إلا الله والأنبياء، أما الألْف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها: فثلاثمائة فى التوراة، وثلاثمائة فى الانجيل، وثلاثمائة فى الزبور، ومائة فى القرآن: تسعة وتسعون ظاهرة، وواحد مكنون، من أحصاها دخل الجنة".
كما أنهم قد يرددون قصصا لا يمكن تصديقها، كالذى رواه التسترى فى تفسير سورة "الجن" عن سهل فى أمر أولئك الجن، إذ قال: "وقال سهل: رأيت في دار عادٍ الأولى مدينةً مبنيةً من حجر فيها قصر عظيم منقور من حجر يأويه الجن، فدخلت القصر معتبرا، فرأيت شخصا عظيما قائما يصلي نحو الكعبة، عليه جبة صوف بيضاء بها طراوة، فعجبت لطراوة جبته، وانتظرت حتى فرغ من صلاته، فقلت: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا أبا محمد. عجبتَ لطراوة جبتي، وهي عليّ منذ تسعمائة سنة؟ فيها لقيت عيسى بن مريم ومحمدا صلى الله عليه وسلم فآمنت بهما. واعلم يا أبا محمد أن الأبدان لا تُخْلِق الثياب، وإنما يُخْلِقهما مطاعم السحت والإصرار على الذنوب. فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا من الذين قال الله تعالى في حقهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن}".
وثَمَّ قِيَمٌ يعمل المفسرون الصوفيون على تأصيلها ونشرها بين المسلمين باعتبارها قِيَمًا عُلْيَا، على حين أنها فى حقيقة الأمر تعويق لمسيرة الحياة والحضارة. خذ مثلا قول القشيرى تعليقا على الآية السابعة من سورة "الحشر"، وهى فى فقراء المهاجرين الذين اصطفاهم رسول الله بفىء خيبر كى يسد خَلّتهم، فرضى بذلك الأنصار ولم يجدوا فى أنفسهم غضاضة مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدارَ مائةِ رجلٍ.{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ}، وهو الرزق،{وَرِضْوَانًا} بالثواب في الآخرة، وينصرون دين الله.{أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. والفقيرُ الصادقُ هو الذي يترك كلَّ سببٍ وعلاقةٍ، ويفرّغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف بقلبه على شيء سوى الله، ويَقِفُ مع الحقِّ راضيًا بِجَرَيَانِ حُكْمه فيه". إن كلام التسترى معناه أن اهتمام الإنسان بالدنيا أمر مذموم، مع أن عمل الإنسان على ترقية وضعه فى الحياة وسعيه لتكثير ماله والتوسعة على نفسه وأولاده ومساعدة المحتاجين، كل ذلك ألوان من العبادة، بل من أفضل تلك الألوان رغم أن التسترى لا ينظر إليه بارتياح. إن الإسلام لا يرحب كثيرا بإنفاق المسلم وقته كله فى العبادة التقليدية من صوم وصلاة وما إلى ذلك، بل يريد منه أن يضرب بكل قوته فى العمل والإنتاج والإبداع والاختراع، وأن يستخدم عقله وحواسه وذوقه فى كل ما يرقّى دنياه ودنيا الآخرين. أما الانصراف عن تيار الحياة والنأى عن الناس والاعتزال فى المساجد والخلوات فهذا ليس من الإسلام، أو على أقل تقدير: ليس مما يرحّب به الإسلام كثيرا. وكلنا نعرف ما قاله الرسول الكريم للرجل الذى كان يلازم المسجد معتمدا على أخيه فى طعامه وشرابه ولباسه، إذ قال له عليه السلام: أخوك أعبد منك! وهو ما نقوله أيضا لكل صوفى يعتكف بعيدا عن الناس ويتكئ فى ذات الوقت على جهدهم ونشاطهم فى مطعمه ومشربه، يظن أنه بذلك يتقرب إلى الله. إن أى فلاح أو صانع أو مدير أو عالم أو ضابط أو كاسح مجارٍ يؤدى عمله بإتقانٍ وتفانٍ ويراعى ربه وضميره فيما يعمل لهو أفضل عند الله ألف مرة من أى صوفى كسول يعتزل الحياة ويمد يده للآخرين كى يطعموه ويسقوه ويستروه ويُؤْوُوه، ثم يحسب مع ذلك أنه آثر لدى الله منهم. إن الثواب فى الإسلام ليس بترك كل سبب وعلاقة، بل بالقيام بحق الأسباب والعلاقات: أسباب الحياة الكريمة لإحراز الإنسان قصب السبق فيما ينتجه وينجزه، وعلاقاته بالآخرين القريب منهم والبعيد، إذ لكل منهم حق عليه لا بد له من النهوض به، وإلا فلِمَ خَلَق الله الدنيا وغَرَس فى أعماقنا الغرائز والشهوات إذا كان يريد منا أن ننخلع من فطرتنا على هذا النحو المستحيل؟ ولو كان ما يقوله القشيرى صحيحا لكان أولى الناس بأن يطبَّق عليهم هذا الكلام هم أولئك الفقراء المهاجرين. بيد أنه كان للقرآن والرسول رأى آخر، وهو إعطاؤهم مال الفىء لسدّ خَلّتهم وإشباع حاجتهم، وهذه من أمور الدنيا.
ومن ذلك قول ابن عجيبة (ت 1224هـ) فى "البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد" لدى تناوله قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا" (النمل/ 15): "والعلماء على قسمين: علماء بالله، وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به، أهل الشهود والعِيَان. وهم أهل علم الباطن، أعني علم القلوب. والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدأت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن لأن علم أهل الظاهر جُلُّه ظني، وعلم أهل الباطن عياني ذوقي، وليس الخبر كالعيان، مع ما فاقوهم به من المجاهدة والمكابدة، ومقاساة مخالفة النفوس، وقطع المقامات حتى ماتوا موتات، ثم حييت أرواحهم فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول، وتكلّ عنه النقول". فمن أين له ذلك التقسيم والتقييم؟ وكيف واتته نفسه على الاغترار فظن نفسه هو وأهل طريقته أفضل من غيرهم من العلماء، إن عددناهم علماء أصلا؟ إن هذا العلم الظنى هو الذى يدفع الحياة إلى الأمام ويحل مشكلاتها وييسر صعوباتها ويخفف على الناس ويلاتها، أما دعاوى القوم عن المقامات والمجاهدات فأمور لا تنضبط من جهة، ولا يترتب عليها منفعة تُذْكَر من جهة أخرى. وكيف يجرؤ هو أو غيره على القول بأنهم يعرفون الله حتى ليسمِّى نفسه ومن على شاكلته: العلماء بالله؟ ثم من قال له إن الإنسان يمكن أن يترقى دائما فى معارج الروح لا يهبط أبدا؟ إن أمور الروح، مثل أمور الجسد، تقبل الرقىّ والانحطاط فى أى وقت، وليس ثمة ضمانة للصعود المطرد أبدا. ثم أين ذلك المقياس الذى به نعرف درجة التقدم الروحى الذى يُكْثِر الصوفيون من الكلام فيه؟ إن عندنا لمعرفة أحوال الجسم ميزان الحرارة وميزان السكر وميزان الضغط... وهلم جرا، فأين الميزان الذى نقيس به أحوال الإيمان واليقين والتجرد والزهد؟ وهل هناك إنسان إذا ما أحرز درجة عالية فى ميدان من هذه الميادين يظل على وضعه فلا ينزل أبدا، فضلا عن أن يظل فى صعودٍ ورُقِىٍّ لا يتوقف؟ هل يُعْقَل أنه إذا ما رأى امرأة فاتنة لا تتحرك الشهوة فى بدنه أبدا؟ وإذا ما لاح له منصب يمكنه أن يناله لا تطمح له نفسه أبدا؟ وإذا ما اعتدى عليه أحد لا يحدثه قلبه بالثأر أبدا؟ إن هذا ليس بإنسان، بل هو جماد لا ينفعل ولا يحس، بل لا يعقل أصلا! إن الإنسان الطبيعى هو الإنسان الذى يظل فى مجاهدات ومحاولات ومجادلات مع طبيعته البشرية ومع الدنيا من حوله ولا يتوقف جهاده ولا اجتهاده أبدا، ولا يستطيع أن يزعم أنه قد وصل وانتهى الأمر، فلا خوف ولا قلق ولا تقهقر ولا خطأ. أما الزعم بخلاف ذلك فهو كلام فى الهواء لا يساوى ثمن الحبر الذى حُبِّر به!
ومنه أيضا قول القاشانى فى التفسير المنسوب لابن عربى (ت 638هـ) عند تفسيره لقوله تعالى: "وأُفَوِّض أمرى إلى الله" (غافر/ 44): "حُكِىَ عن بعض السلف أنه قال: ... إنما يكون مراد العبد إلى ربه إذا أتاه على حد الإفلاس والفقر، لا يرى لنفسه مقاما فى إحدى الدارين. وهو أن يكون فى الدنيا خاضعا لمن يذله ولا يلتفت إليه، هاربا ممن يكرمه وينزهه، ويكون فى الآخرة طالبا للفضل مشفقا من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم". نعوذ بالله من الذل والرضا به وممن يحببه إلى الناس ويغريهم به! ويا ويل من أصاخ إلى نصيحة القاشانى بشأن الإشفاق من الحسنات! فإنها لكفيلة بتربية حَسَك الوسواس فى صدره وملء حياته بالفرع وإصابته بالخبل، كفانا الله شر الخبل والوساوس، وأفعم قلوبنا ببرد الطمأنينة إلى رحمته عزّ وجلّ وإلى ودّه وكرمه!
وفى "روح البيان فى تفسير القرآن" لإسماعيل حقى نراه يورد الآتى فى تفسير قوله عز شأنه: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80): "وقال بعضهم: واذا مرضت بداء محبته وسقمت بسقم الشوق الى لقائه ووَصْلته فهو يشفين بحسن وصاله وكشف جماله:
بمقدمك المبارك زال دائى وفى لقياك عُجِّلَ لى شفائى
وفى الآية إشارة إلى رفض الرجوع إلى غيره والسكون إلى التداوى والمعالجة بشىء، فهو كمال التسليم... وحُكِىَ عن بعضهم أنه مرض وضعف واصفر لونه، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبا يداويك من هذا المرض؟ فقال: الطبيب أمرضنى. ثم أنشد:
كيف أشـــكو إلى طبيــبىَ مـــا بى والذى بى أصــابنى من طبيبى؟".
وفى تفسير ابن عجيبة فى ذات الآية: "قال أبو الوراق في قوله تعالى: {الذي هو يُطْعِمني ويسقين}، أي يُطْعِمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب. قال: ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}، فرمى بِقِرْبَتِهِ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة، فسقاه. قال أنس: فعاش بعد ذلك نيَِّفًا وعشرين سنة، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة. وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فأدخله الحجاج بيتًا، وأغلق عليه بابه، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما، ولم يشك أنه مات، فوجده قائما يصلي، فقال: يا فاسق، تصلي بغير وضوء؟ فقال: إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها. ومكث سفيان الثوري بمكة دهرًا، وكان يَسُفُّ من السبت إلى السبت كفا من الرمل. وهذا من باب الكرامة، فلا يجب طردها، وقد تكون بالرياضة، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم". وواضح أن أولئك المفسرين، عفا الله عنهم، يريدون أن يفسدوا، بقصد أو بغير قصد، علىالناس دنياهم بتبغيض الأخذ بالأسباب إليهم، وكأن الأسباب من الشيطان لا من الله سبحانه، الذى أقام دنياه على تلك الأسباب وأمرنا أن نأخذ بها حتى نصل لمبتغانا. وليس فى ذلك أدنى إنكار لسيادة قدرة الله وشمول إرادته ولا أن شيئا فى الدنيا لا يخضع لعظمته ومشيئته، بل هو من كمال الإيمان. وقد أمرنا الرسول عليه السلام، إذا ما مرضنا، أن نلتمس الدواء الذى يشفينا من هذا المرض. وقال عمر بن الخطاب إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنها لا تمطر شفاء ولا دواء، بل الذى يأتينا بالذهب والفضة والشفاء والدواء إنما هو العمل والاجتهاد والسعى وراء الرزق والوعى الصحى والذهاب إلى الطبيب وشراء ما يشير به من دواء. وهذا كله من الله ومن فضل الله، وإلا فمن الذى أعطانا الصحة والعقل والقدرة على العمل وعلى السعى على المعاش والعلم بأن لكل مرض علاجه ودواءه المخصوص؟ أليس هو الله؟ أما غير ذلك فهو تواكل ضار مهلك، وإن ظن بعض الناس أنه هو التوكل، إذ التوكل فى الإسلام لا يتم إلا بالأخذ بالأسباب. ومعلوم أن المؤمن إنما يعزو تلك الأسباب إلى الله، الذى خلقها ونظم كونه على أساسها، لكن لا مفر لنا من ترتيب أمورنا على وجودها ووضعها دائما فى الحسبان. وهنيئا للسادة الصوفية الاكتفاء بالأكل مرة واحدة فى الشهر وسَفّ الرمال!
وبعض كتب التفسير الصوفى لا تورد دائما التفسير العادى ثم تتبعه بالإشارة الصوفية، بل لا يوجد فى تفسيرهم فى بعض الأحيان أو فى أكثرها إلا تلك الإشارات. وهذا هو الغالب مثلا على تفسير السلمى المسمى: "حقائق التفسير". ففى تفسيره لقوه تعالى: "أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ" نراه يقول: "قوله تعالى: {أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا}، قال ابن عطاء: النفس خُلِقَتْ من الأرض فسماها الله بها لمجاورتها لها وقُرْبها فقال: من جعل للنفوس القرار عند المناجاة فى أوان الحظوة، وجعل خلالها أنهارًا ألسنةً ناطقة بالذكر وأعينًا ناظرة بالعبرة وأسماعًا واعية عن الحق مخاطبًا به على لسان السفر أو الوسائط، وجعل بهذه الأنفس رحمة، وهم الرواسى الأقطاب من الأولياء يرجعون إليهم عند العثرات فيقوّمونهم بتقويم الحق، ويردونهم إلى طرق الرشاد؟ قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} بين أوقات الذكر وأوقات الغفلة هل أحد يستحق الألوهية إلا من يقدر على مثل هذه اللطائف؟ وقال جعفر: من جعل قلوب أوليائه مستقر معرفته، وجعل فيها أنوار الزوائد من بره فى كل نفس وأثبتها بحبال التوكل، وزينها بأنوار الإخلاص واليقين والمحبة، وجعل بينهما حاجزًا أى القلب والنفس لئلا يقلب عليه النفس وظلماتها فيظلمها فجعل الحاجز بينهما التوفيق والعقل؟". ولا شك أن كلام السلمى فى واد، وما تقوله الآية الكريمة فى واد آخر بعيد.
وفى التفسير المنسوب لابن عربى مثال آخر على هذه النزعة، إذ نراه يقول فى تفسير الآية 79 من سورة "الكهف"، وهى الآية التى يكشف فيها العبد الصالح لموسى عليه السلام السر فى إقدامه على خرق سفينة المساكين وقتل الغلام وبناء الجدار الذى كان فى القرية البخيلة، إذ يقول: "{أما السفينة فكانت لمساكين} في بحر الـهَيُولَى، أي: القوى البدنية من الحواس الظاهرة والقوى الطبيعية النباتية. وإنما سماها: "مساكين" لدوام سكونها وملازمتها لتراب البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر القوى الحيوانية. وحُكِيَ أنهم كانوا عشرة إخوة: خمسة منهم زَمْنَى، وخمسة يعملون في البحر، وذلك إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة. {فأردتُ أن أعيبها} بالرياضة لئلا يأخذها ملك النفس الأمّارة غصبا، وهو الملك الذي كان وراءهم، أي قدّامهم،{يأخذ كل سفينة غصبًا} بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه. {وأما الغلام فكان أبواه} اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية {مُؤْمِنَيْن} مُقَرَّيْنِ بالتوحيد لانقيادهما في سلك طاعة الله وامتثالهما لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما، {فخَشِينا أن يرهقهما}، أي يغشّيهما {طغيانًا} عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح {وكفرًا} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، أو كفرًا بالحجاب فيفسد عليهما أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما لله، {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة} كما بدّلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير منه زكاة، أي طهارة ونقاء، {وأقرب رُحْمًا} تعطفًا ورحمة لكونها أعطف على الروح والبدن وأنفع لهما، وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجدّ والأب، فكان كناية عن الروح والقلب. وكونه أقرب رُحْمًا أنسب لهما وأشدّ تعطفا. {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة}، أي العاقلتين النظرية والعملية المنقطعتين عن أبيهما الذي هو روح القدس لاحتجابهما عنه بالغواشي البدنية أو القلب الذي مات أو قُتِل قبل الكمال باستيلاء النفس في مدينة البدن. {وكان تحته كنز لهما}، أي كنز المعرفة التي لا تحصل إلا بهما في مقام القلب لإمكان اجتماع جميع الكليات والجزئيات فيه بالفعل وقت الكمال، وهو حال بلوغ الأَشُدّ واستخراج ذلك الكنز. وقال بعض أهل الظاهر من المفسرين: كان الكنز صحفًا فيها علم. {وكان أبوهما} على كلا التأويلين {صالحًا}. وقيل: كان أبًا أعلى لهما حفظهما الله له، فعلى هذا لا يكون إلا روح القدس".
ومن ذلك أيضا ما قاله نجم الدين داية (ت 654هـ) فى تفسير "التأويلات النجمية" لَدُنْ تعرُّضه لحكاية امرأة العزيز التى تدلهت فى هوى يوسف عليه السلام فلاكت النسوة سيرتها فأرسلت لهن وأَعْتَدَتْ لهن مُتَّكَأً...إلخ، وهو قوله جل شأنه: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ"، إذ قال داية: "يشير بالنسوة إلى صفات البشرية النفسانية من البهيمية والسبعية والشيطانية فى مدينة الجسد. {ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ}، وهى الدنيا، {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ}: تطالب عبدها، وهو القلب. كان عبدًا فى البداية لحاجته إليها للتربية، فلما كمل القلب وصفا عن دنس البشرية استأهل المنظر الإلهى، فتجلى له الرب تبارك وتعالى فتنوّر القلب بنور جماله وجلاله، فاحتاج إليه كل شىء، وسجد له حتى الدنيا. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، أى أحبته الدنيا غاية الحب لما ترى عليه آثار جمال الحق. ولما لم يكن لنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب كنّ يَلُمْنَ الدنيا على محبته فقلن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. {فَلَمَّا سَمِعَتْ} زليخا الدنيا {بِمَكْرِهِنَّ} فى ملامتها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}، أى الصفات، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا}، أى هيأت أطعمة مناسبة لكل صفة منها، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا}، وهو سكين الذِّكْر، {وَقَالَتِ} زليخا الدنيا ليوسف القلب: {ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}، وهو إشارة إلى غلبة أحوال القلب على صفات البشرية. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ}، أى وقعن على جماله وكماله، {أَكْبَرْنَهُ}: أكبرن جماله أن يكون جمال بَشَر، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا} أى جمال بشر. {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ}: ما هذا إلا جمال ملك كريم، وهو الله تعالى بقراءة من قرأ "مَلِك" بكسر اللام".
ومنه قول عبد الرزاق القاشانى الصوفى فى التفسير المنسوب لابن عربى عند تفسيره لقوله تعالى: "{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} (البقرة/ 126): "وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا الصدر، الذى هو حَرَم القلب، بلدًا آمنًا من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللَّعين، وتخطّف جن القوى البدنية أهله، وارزق أهله من ثمرات معارف الروح أو حِكَمه أو أنواره، {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ} مَن وَحَّدَ الله منهم وعَلِم المعاد. {قَالَ وَمَن كَفَرَ}، أى ومن احتجب أيضا من الذين سكنوا الصدر ولا يجاوزون حده بالترقى إلى مقام العين لاحتجاجهم بالعلم الذى وعاؤه الصدر، فأُمتّعه قليلا من المعانى العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالَم الروح على قدر ما تعيَّشوا به، ثم أضطره إلى عذاب النار الحرمان والحجاب، وبئس المصير مصيرهم لتعذبهم بنقصانهم، وتألمهم بحرمانهم". فالقاشانى، كما نرى، لا يقول فى أى من المرتين شيئا يتصل بالآية. إنما هى خواطر سنحت له، ويمكن غيره أن يقول فى ذلك السياق كلاما مختلفا، ويمكن مفسرا صوفيا ثالثا أن يقول كلاما لا صلة بينه وبين هذا أو ذاك... وهكذا دواليك بعدد كل من يريد أن يقول ما يعنّ له. بل إننا لو تأملنا مَلِيًّا ما قاله القاشانى فى الآية الأولى لوجدناه يخالف ما تقوله الآية. فإبراهيم يبتهل لربه، فيزعم القاشانى أن كلام إبراهيم هو عن صدره وشهواته. ومعنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام يمكن أن يتعرض لحرمان الله وعذاب ناره، أيا ما يكن معنى هذه النار. لكن القاشانى فى غمرة انشراحه بما ورد على ذهنه من خواطر قد أفسد تفسير الآية وقلب وجهها إلى قفاها، وهو يظن أنه يحسن صنعا!
ولنأخذ مثالا آخر من تفسير ابن عجيبة، إذ فسر على النحو التالى قوله تعالى عن موسى حين رأى فى سُرَاه نارا: "{إذ رأى نارًا} هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية، رآها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية. {فقال لأهله}: القوى النفسانية: {امكثوا}: اسكنوا ولا تتحرّكوا، إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها. {إني آنست نارًا}، أي رأيت نارًا {لعلي آتيكم منها بقبس}، أي هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنوّر وتصير ذاته فضيلة، {أو أجد على النار} من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق. أي أكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية. {فلما أتاها}، أي اتصل بها {نودي} من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية: {يا موسى إني أنا ربّك} محتجبًا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي تجليًا فيها، {فاخلع نعليك}، أي نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرّد عنهما فقد تجرّد عن الكونين. أي كما تجرّدت بروحك وسرّك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلتَ بروح القدس فتجرّدْ بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما: نعلين، ولم يسمهما: ثوبين، لأنه لو لم يتجرّد عن ملابستهما لم يتصل بعالم القدس، والحال حال الاتصال، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال".
ومثله أيضا هذه الإشارة لعلاء الدين السمنانى مكمّل تفسير "التأويلات النجمية" (ت 736هـ) حول ناقة ثمود فى سورة "الشمس": "{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ* إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا}، يعنى: إذ انبعثت اللطيفة وأسرعت إلى الطاغية انبعث أشقى قوى النفس على إثر اللطيفة الصالحة ليعقر ناقة شوقها. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ}، أى اللطيفة: {نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، أى احذروا عقر ناقة الشوق وشربها من عين الذكر. {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} بتكذيبهم صالح اللطيفة النفسية، وعقروا ناقة الشوق، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ}، أى أهلكهم الله، {فَسَوَّاهَا} أى عمَّهم بذلك العذاب. {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}: ولا يخاف القوى العاقرة فى عقر ناقة الشوق عاقبة الأمر، فأهلكهم بطغيانهم لرسوله وتكذيبهم إياه".
وفى مثل هذه الإشارات التى كثيرا ما تطيش سهام المفسر الصوفى أثناءها قد نجد معنى جميلا ومؤثرا فى حد ذاته رغم انعدام الصلة بينه وبين النص كما قلنا. فمثلا فى تفسير قوله تعالى: "قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ" فى الآية الرابعة من سورة "ق"، وهى الآية التى ترد على تكذيب الكفار بالبعث لكون الميت يتحول إلى تراب يختلط بالأرض وتضيع معالمه فى نظرهم، إذ يقولون عن البعث والمعاد: "هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ"، نرى القشيرى يدلى بإشارته قائلا: "{قَدْ عَلِمْنا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ}: في هذا تسليةٌ للعبد، فإنه إذا وُسِّدَ التراب، وانصرف عنه الأصحاب، واضطرب لوفاته الأحباب، فَمَنْ يَتَفَقَّدُه؟ ومَنْ يَتَعَهَّدُه وهو في شفير قبره، وليس لهم منه شيءٌ سوى ذكرِه، ولا أحدَ منهم يدري ما الذي يقاسيه المسكين في حُفْرته؟ فيقول الحقُّ سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا}. ولعلَّه يخبر الملائكة قائلاً: عَبدي الذي أخْرَجته من دنياه، ماذا بقي بينه وبين مَنْ يهواه؟ هذه أجزاؤه قد تَفرَّقَتْ، وهذه عِظامُه بَلِيَتْ، وهذه أعضاؤه قد تَفَتَّتَتْ! {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ}، وهو اللَّوحُ المحفوظ، أَثْبَتنا فيه تفصيل أحوالِ الخَلْقِ من غير نسيانٍ ، وبيَّنَّا فيه كلَّ ما يحتاج العبدُ إلى تَذكُّره". فالكلام فى الآية هو رد على الكفار المكذبين، لكن القشيرى يدلى بإشارته كما لو كان الكلام عن المؤمنين الذين يريد الله سبحانه أن يزيل وحشتهم فى قبورهم ويدخل السكينة عليهم ويشعرهم أنه معهم لم يتخلَّ عنهم. وشتان هذا وذاك! ذلك أن تذكر الله للكفار فى هذا السياق إنما هو عكس ما يقول القشيرى، إذ هو تذكُّر التعذيب والقمع والإخزاء والإهانة لا تذكُّر العطف والمرحمة والتسلية من هموم الوحشة والظلام! وحتى لو كان الكلام فى الآية عن المؤمنين، يظل كلام القشيرى مبتوت الصلة به، إذ تقول الآية إن الله يعلم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى أية وحشة أو تسلية على الإطلاق.
ومن هذا الوادى ما قاله القشيرى أيضا فى تفسير قوله عز وجل: "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا" (الإسراء/ 45)، إذ فسره على النحو التالى الذى يقلب معناه رأسا على عقب: "أدخلناك في إيواءِ حفِظْنَا، وضربنا عليك سرادقاتِ عصمتنا، ومنعنا الأيدي الخاطئةَ عنك بلطفنا"، مما يوحى بأن "الحجاب المستور" هو حجاب يمنع المشركين من الوصول إلى رسول الله عليه السلام بالأذى، مع أن المراد هو انغلاق عقولهم وقلوبهم فى وجه دعوة الحق، فإنهم حين يُتْلَى عليهم القرآن تَصَمّ عنه آذانُهم، وحين يسمعونه تنسد عن فهمه قلوبهم. وإن الآية التى تتلو ذلك لتقطع بأن هذا هو المعنى المراد بلاد أدنى شك، إذ يقول رب العزة والجلال: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا". ومثله كذلك تفسيره لقوله عز من قائل: "إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" (الشعراء/ 112)، إذ يقول: "وَجَدُوا السمع الذي هو الإدراك، ولكن عَدِمُوا الفَهْمَ، فلم يستجيبوا لِمَا دُعُوا إليه. فعند ذلك استوجبوا من الله سوء العاقبة"، وهو ما يفهم منه أن الكلام فى الآية الكريمة عن المشركين وصمم آذانهم واستغلاق أفئدتهم عن دعوة الإسلام وتدبرها، مع أنه عن الشياطين ومنعها من التنصت على ما يدور فى الملإ الأعلى. والدليل على ذلك هو الآيتان السابقتان، ونصهما: "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ". فآيتنا إذن تبين سبب عجز الشياطين عن التنزل بالوحى القرآنى الكريم، وهو أنهم عن السمع معزولون. والملاحَظ أن هاتين الآيتين قد سقطتا فلم تردا عند القشيرى فى التفسير: لا فى التفسير الورقى ولا فى التفسير الضوئى الموجود فى موقع "www.altafsir.com" التابع لــ"مؤسسة آل البيت الملكية الأردنية للفكر الإسلامى". وقد يفسر سقوطهما هذا الخطأ الذى وقع فيه القشيرى، إذ الكلام فى الآيات التى قبلهما عن المشركين، فربما ظن القشيرى أن هذه الآية هى أيضا عنهم. لكن هذا الافتراض رغم ذلك لا يشفع له فى هذا الخطإ، لأن كون المشركين معزولين عن السمع لا يمكن أن يكون معناه أنهم "وجدوا السمع، ولكن عدموا الفهم". ذلك أن المعزول عن السمع لا يمكنه البتة أن يسمع، ولا يقال عنه إنه يسمع لكنه لا يفهم. ومثلها قوله سبحانه على لسان الكفار أنفسهم فى الآية الأخيرة من النص القرآنى التالى يخاطبون الرسول مكايدين متعنتين: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ" (فُصِّلَتْ/ 2- 5)، فقد ذكروا الحجاب، وهو الحجاب الذى يقوم بينه وبينهم فيمنعهم من الإنصات والإيمان لا الحجاب الذى يقوم حائلا بينهم وبين إيذائهم له عليه السلام.
وقد يكون للإشارة الصوفية ارتباط بالآية، لكنه ارتباط عام تمام العمومية كما فى الإشارة التى ألحقها ابن عجيبة فى كتابه: "البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد" بقوله تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل/ 68- 69)، إذ قال: "الإشارة: إنما كان العسل فيه شفاء للناس لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء. فإذا كان بهذه المنزلة كان فيه شفاء للقلوب. كل من صحبه بصدق ومحبة شفاه الله، وكل من رآه بتعظيم وصدق أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف: هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيبُ منه شيئًا. يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء. قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي: قال أبو بكر الوراق: النحلة لما تبعت الأمر وسلكت سبيلها على ما أُمِرَتْ به جعل لعابها شفاء للناس. كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على مولاه جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق. ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد"، فكأنه اتخذ من الآية صورة كنائية وأجرى الإشارة مجراها، وإلا فلا صلة بين الاثنتين.
ومما يلاحظ على التفسيرات الصوفية أيضا أنها تستخدم أحيانا لغة العشاق والمحبين فى الحديث عن العلاقة بين الله وعباده. وفى الشعر الصوفى باب كبير يدور حول "الحب الإلهى" حيث يلتمس الصوفيون ألفاظهم وعباراتهم في قصائد الشعر الغزلى أو الخمرى كمجنون ليلى وجميل بثينة وأبى نواس، ومن ثم تتردد فى تلك الأشعار ألفاظ الحب و الصبابة والأسى والجوى والحان والألحان والطاس والخمر والمدامة والنشوة، حتى ليظن بعض القراء أن الألفاظ الغزلية إنما تدل على حب بشرى، أو أن الخمرة المذكورة هى الخمرة التى نعرفها، وهو ما أدى بابن عربى أن يضع بنفسه شرحا لديوانه: "ترجمان الأشواق" وأن يشرح صاحبُ "الرسالة القشيرية" الأمرَ قائلا إن الصوفية قد قصدوا "أن تكون ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، فهي معانٍ أودعها الله في قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم". ونحن نتساءل: ولماذا يحرص الصوفية على أن تكون ألفاظهم مستبهمة على من يسميهم القشيرى بــ"الأجانب" بدافع الغيرة على أسرارهم أن تشيع خارج نطاقهم، وكل إنسان كريم إنما يحرص بالعكس على أن يشاركه إخوانه فى الدين، بل فى الإنسانية كلها، ما يتعرض له من ألطاف وهدايات؟ كما أن كلامه يشى بغير قليل من الغرور والكبر، إذ يتحدث عن المتصوفة على أنهم قوم مختارون من قِبَل الله وأن غيرهم لا يمكنه الارتفاع إلى أوجهم، وهو ما قد يؤدى إلى فساد العمل وحُبُوطه لخلوّه من التواضع ولاطمئنان صاحبه دون أى أساس إلى أن عمله مقبول وأن أحدا آخر لا يستطيع الإتيان بمثله. كذلك فالعاقل إنما يعمل بكل جهده على تجنب ما يجلب عليه القيل والقال ويعرّضه للشبهات دون وجه حق، وبخاصة إذا لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك، وعلى وجه أخص إذا عرفنا أن هذا الطريق لم يعرفه الرسول الكريم بما فيه من تكلف شديد وفيهقة وتجرىء للناس على مقام الذات الإلهية بتصويرها على أنها ليلى أو هند وأن عيونها سهام قتالة وأنها تضن على الشاعر بالوصل واللقاء وتعذبه بالهجر والدلال، فضلا عن الحديث عن التوهج الروحى على أنه خمرٌ وسُكْرٌ وطاسٌ وحانٌ وما إلى ذلك.
ومن استخدام مفسرى الصوفية مفردات العشق فى حديثهم عن الحب بين الله وعباده قول القشيرى تعليقا على قوله تعالى فى أول سورة "الإسراء": "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا...": "ويقال: جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد... ويقال:
ليلةُ الوَصْــــلِ أَصْفَى مـــن شهور ودهور سواها".
وفى تفسير قوله سبحانه: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران/ 31) يقول القشيرى كذلك: "ويقال: شرط المحبة امتحاء كلّيتك عنك لاستهلاكك في محبوبك، قال قائلهم:
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وهذا فرق بين الحبيب والخليل: قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} (إبراهيم/ 36). وقال الحبيب: {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. فإن كان مُتَّبِعُ الخليل "منه" إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً... ويقال: في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة، وليست باجتلاب طاعة أو التجرد عن آفة لأنه قال: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له ذنوب كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله. ويقال: قال أولاً: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران. أولاً يحبهم ويحبونه، وبعده يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة، والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال. ومنه "حَبَبُ الأسنان"، وهو صفاؤها. والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر... والحبُّ حرفان: حاء وباء. والإشارة من الحاء إلى الروح، ومن الباء إلى البَدَن، فالمـُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه".
وفى تفسير قوله جل جلاله: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80) يقول القشيرى أيضا: "لم يَقُلْ: "وإذا أمرضني"، لأنه حفظ أدبَ الخطاب. ويقال: لم يكن ذلك مرضا معلوما، ولكنه أراد تمارضًا كما يتمارض الأحبابُ طمعا في العيادة. قال بعضهم:
إن كان يمنعكَ الوشاةُ زيارتي فادخُــــلْ عليَّ بِعَلَّةِ العُـــــوَّادِ
ويقول آخر:
يـــــــَوَدُّ بأن يمشِي سقيمًـــــا لَعَلَّهـــــــا إذا سَمِعَتْ منه بشَكْوى تُرَاسِلُه".
وقال الشيرازى البقلى (ت 404هـ) فى تفسير قوله عز وجل عن المؤمنين: "يحبّهم ويحبونه" (المائدة/ 54): "قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أن الله تعالى وبخ المفلسين من أهل الردة بأنْ ليس لهم فى محبة الله نصيب بارتدادهم عن الاسلام. أخبر أنه يجئ بقوم كان الله سبحانه قد أحبهم فى الازل، وهم بمحبته يحبونه. وهم يوافقون النبى صلى الله عليه وآله وأصحابه بشرط المحبة لأن من شرط المحبة الموافقة والطاعة. وبين أن من لم يكن مطيعا لم يكن محبا. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}. وفى الآية ذكر شرف الصحابة والتابعين من بعدهم. وبين تعالى أن المحبة من خواص صفته الأزلية... أحبهم بعلمه فى الأزل قبل إيجادهم باصطفائية، فكأنه أحب نفسه لأن كونهم لم يكن الا بكون وجوده، ووجوده سبب وجودهم، وهو تعالى أحب فعله. ومرجع فعل صفته، فكأنه أحب صفته. ومرجع صفته ذاته، فكأنه أحب ذاته. لم يكن الغير فى البين، فكان هو المحب، وهو المحبوب، وصفته المحبة. وهم يحبونه بتجلى الصفة فى قلوبهم، وهو مباشرة نور محبته فى فؤادهم. فلما تكحلت عيون أحبائهم بنور محبته فطابت مصدر أصل الصفة فوجدت مشاهدة الأزل عيانا بلا حجاب، فأحبتها بالمحبة الأصلية التى لا تتحول من مصرف الاصل أبدا. فإذا كان كذلك فالمحب والمحبوب والمحبة فى عين الجمع واحد، وهذا عبرة قوله سبحانه بلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث أخبر عن المحب المتحد المتصف بصفاته. قال فى اثناء الحديث: " فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ". وفى هذا المعنى أنشد الحسين بن منصور فقال:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا نحن روحـــــان حللنا بدنــــا
فــــإذا أبصــــــرتنى أبصــــرته وإذا أبصـــــــــرته أبصــرتنـــا
قال الواسطى فى هذه: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته لأن الهاء راجعة الى الذات دون النعوت والصفات. قال السلامى: ... الحب شرطه أن يلحقه سكرات المحبة. فاذا لم يكن كذلك لم يكن فيه حقيقة. وقال يوسف بن الحسين: المحبة الايثار. وأنشد فى معناه الحسين بن أحمد الرازى وأنشد أبو على الرودبارى لنفسه:
ســـــامرت صفو صبابتى أشجانــها حـــــرق الهــــوى وغليــــله نيرانــــها
وسألت من فرط الصبابة. قيل لى: إيثار حبــــك. قلت: خذ بعنانها
كلٌّ لـــه وبـــــه ومنـــــه. فأيــــــــــن لى وصف فأوثـــره فطـــاح لسانـــها؟
فالمحبة ارتياح الذات بمشاهدة الذات. وقيل: المحبة هى أن يصير ذات المحب صفة المحبوب"
وقال البقلى أيضا فى قوله جل شأنه عن موسى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي": "قال السرى السقطى قدَّس الله روحه: ألقى عليه لطفا من لطفه استجلب به قلوب عباده. وقال ابن عطا: ألقيت عليك محبة منى لك، فمن رأى فيك محبتى تلك أحبك بحبي لك. وقال فارس: زيّنتُك بملاحة من عندى حتى لا تصلح لغيري، ويحبك كل من يرى تلك الملاحة فيك. فقيل: أليس يوسف أُعْطِىَ شطر الحسن ولم يكن يستوجب المحبة؟ فقال: الحسن لا يوجب المحبة، والملاحة توجب المحبة. ألا ترى النبى صلى الله عليه سلم كان عليه ملاحة ممزوجة بهيبة؟ قال بعضهم: غنج بعينك لا يراك أحد إلا رق لك ومال إليك... ثم ذكر سبحانه عظم منته عليه بقوله: {وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، أى خمرت سرك بنور سرى، وقلبك بنور نورى، وعقلك بسنا قدسي، وروحك بجمال وجهي، وألبستك نور محبتى، وكسوتك كسوة ربوبيتى لتكون مشكاة أنوار صفاتى وذاتى، أتجلى من وجهك بالهيبة للعالمين، وخصصتك بمخاطبتى وسماع كلامى، فإن في زمانك ليس فى العالم سواك محل وقوع نور تجلياتي وكشوف أسرار سري، ولتكون لنفسى خاصا بالمحبة والشوق والعشق لا لغيرى. وأنا غيور عليك لا يراك أحد بعين المحبة الا ابتليته، ولا ترى أحدا بعين المحبة إلا ابتليتك حتى لا يكون فيك نصيب لأحد غيرى".
وفى تفسير ابن عجيبة لقوله سبحانه: "والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله" (البقرة/ 165) نراه يقول: "قال سعيد بن جبير: إن الله تعالى يأمر يوم القيامة مَنْ عَبَد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها. ثم يقول للمؤمنين بين يدي الكفار: إن كنتم أحبائي فادخلوا. فيقتحم المؤمنون النار، وينادي مُنَادٍ مِنْ تحت العرش: {والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله}. وفي ذلك يقول ابن الفارض:
أحِبّايَ أنتُم: أحْسَنَ الدهرُ أَمَ أسَــا فكونوا كَمَا شِئْتُم. أَنا ذلك الخِلُُّ
وقال أيضا:
لَو قالَ تِيهًا: قِف عَلَى جَمْرِ الغَضَــا لوقفــتُ مُمْتثــــلاً، ولَمْ أَتـــَـــوقَّفِ
وقال آخر:
ولَو عَذَّبْتَـــــــني في النــــــارِ حتْمًـــــا دخلتُ مُطاوعًا وسْطَ الجَحِيمِ
إذا كَانَ الجَحِيــــــمُ رِضَــــاك عَـنِّي فَمَـــا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيـــــمِ
الإشارة: المحبةُ مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة. وقال الشِّبْلِيّ: أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك. والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّنًا بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته. والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتَح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيُكْسَى حلل التقريب على بساط القُرْبة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيّبات العلوم. فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون".
وفى تفسير إسماعيل حقى عند تعرضه لقوله عز شأنه: "فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ* إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى": "يقول الفقير: النور للمحبة، والنار للعشق. وعندما كمل وامتلأ نور محبة موسى وتم واشتعلت نار عشقه وشوقه تجلى الله له بصورة ما فى باطنه، وذلك لأنه لما وُلِد له وَلَد القلب الذى هو طفل خليفة الله فى أرض الوجود فى ليلة شاتية هى ليلة الجلال ظهر له نور ذاتى فى صورة نار صفاتية لأن الصورة إنما هى للصفات، واحترق جميع أنانيته، وحصل له التوجه الوحدانى".
وفى ذات التفسير يقول حقى لدن تناوله قوله عز وجل: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80): "وقال بعضهم واذا مرضت بداء محبته وسقمت بسقم الشوق الى لقائه ووَصْلَته فهو يَشْفِينِ بحسن وصاله وكشف جماله". ولا شك أن القراء قد لاحظوا كيف تبرز فى هذه النصوص ألفاظ العشق والشوق والهيام والمحبة والغيرة والمراقبة والوصل واللقاء والتمارض والسقم والبكاء والزيارة واللطف والملاحة والزينة والحسن والجمال والمعانقة والعرائس والأبكار والثيبات، فضلا عن الأشعار العشقية التى يستشهدون بها على ما يقولون: وبعضها أشعار صوفية، وبعضها أشعارُ عشاقٍ عاديين يتغزلون فى النساء. وكثير من المتصوفة، كما هو معروف، إذا أنشدوا أشعارا فى الحب الإلهى قالوا ما يقوله كل محب فى محبوبته وفى وصلها وهجرانها ودلالها وسهام لحاظها والخمرة التى يشربها من نظرات عينيها. ومن هؤلاء عبد القادر الجيلانى والحلاج والسهروردى وابن الفارض سلطان العاشقين على سبيل المثال ليس إلا.
على أن كلام مفسرى الصوفية عن الذات الإلهية لا يقف عند هذا الحد، بل كثيرا ما يستعملون ألفاظ وُصّاف الخمر من الشعراء للتعبير بها عن سلطان الوجد كما سبق أن أشرنا. ومن ذلك مثلا ما قاله ابن عجيبة فى "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" عند تفسيره قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة/ 219)، وهذا نص ما قال: "الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نورًا يميز بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع. ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية، وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضًا بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية. فسمى الصوفية هذه الغيبة: "خمرة" لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنَّوْا بها في أشعارهم ومواجيدهم. قال ابن الفارض رضي الله عنه:
شَرِبْنَا على ذِكْــر الحبيبِ مُدامَـــــةً سَكرنَا بها من قبل أن يُخْلَقَ الكَرْمُ
ثم قال:
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْـــرُه وليسَ لـــهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْــــمُ
وقلت في عينيتي:
وَلِي لَوْعَةٌ بالــــرَّاحِ إِذْ فِيــــــه رَاحِتــِي وَرَوْحِــــي ورَيْحَــانِي، وخيرٌ واســــِعُ
سَكرْنَــــا فهِمْنَـــــا في بَهــــــاءِ جَمَـــالِه فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُــورُ ساطعُ
والميسر في طريق الإشارة: هو الغِنَى الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغِنَى بالله عن كل ما سواه.{قل فيهما إثم كبير}، أي في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما: فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا:
لَوْ كَان لي مُسْعِــــــــدٌ يُسعِــــدُني لمَا انتظــــرتُ لشُــربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه فاشْــرَب ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ عــلى صَهْبَاءَ صافيــةٍ خُذِ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض:
وقالُوا: شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ، وإنمــا شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر:
طـابَ شُرْبُ المـدامِ في الخَلَواتْ فاسْــــقِــــني يا نديــــمُ بالآنِيَــاتْ
خْمْــرَةٌ تركُهـــــا علينــا حــــرَامٌ ليـــسَ فيهـــا إثــــمٌ ولا شُبُهَـاتْ
عُتِّقَتْ في الدِّنـان مـِنْ قَبْـلِ آدمْ أصلُهــــا طيّـــبٌ مــــن الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أَيُّهَــا الفقيــه وقــلْ لي: هـل يجوز شُرْبُها على عَرَفـاتْ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب. يعني: في الخمرة الأزلية والغِنَى بالله. وقوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} خطاب على قدر ما يفهم الناس، لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خواص الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق".
وفى قوله عز شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة/ 90) يقول القشيرى ضمن تفسيره له: "ويقال: لم يحرّم عليه الشرابَ في الدنيا إلا وأباح له شرابَ القلوب. فشراب الكبائر محظور، وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حَظِىَ القوم بالشراب، وحيثما كان الشرابُ كان السُّكْر. وفي معناه أنشدوا:
فما مــــلَّ ساقيها ومـــا ملَّ شارب عقـــــــــار لحاظٍ كأسه يسكر اللُّبَّــــا
فصَحْوُك من لفظي هو الوصل كله وسُكْرُك من لحظي يبيح لك الشربا
وحُرِّم الميسر في الشرع، وفي شريعة الحب القوم مقهورون. فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة في شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القُرْعة... قال تعالى{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} (الصافات/ 141)".
وفى التفسسير المنسوب لابن عربى نقرأ فى شرح قوله تعالى: "يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ* لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ" (الصافّات/ 45- 47) ما نصه: "{يطاف عليهم بكأسٍ من} خمر العشق {مَعِين}: مكشوف لأهل العيان، إذ دَنُّه المعاينة، فكيف لا يعاين؟ {بيضاء} نورية من عين الأحدية الكافورية، لا شَوْب فيها ولا مزج من التعينات.{لذّةٍ للشاربين لا فيها غَوْلٌ} يغتال العقل لأنهم أهل صحو أخلصهم الله من الشوائب والحجاب فلا ينكر لهم ،{ولا هُمْ عنها يُنْزَفون} بذهاب العقول، وإلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء".
وفى "البحر المديد" لابن عجيبة نقرأ فى تفسير قوله تعالى: "{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ* لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} (الواقعة/ 18- 20) ما يلى: "يُسْقَوْن بأكوابٍ وأباريق من عِلْم الطريق وكأس من خمر الحقيقة فلا يتصدّعون من أجلها، إذ ليست كخمر الدوالي. ولا يُنْزَفون: لا يَسْكَرون سُكْر اصطلام، وإنما يسكرون سُكرًا مشوبًا بصَحْوٍ، إذ كان الساقي عارفًا ماهرًا... وكان بعض أشياخنا يقول: خمرة الناس في الحضرة، وخمرتنا في الهدرة، أي المذاكرة". وفى هذه النصوص نرى كيف تحولت مشاعر القوم إلى خمر وسكر. والمقصود، حسب قولهم، خمر العشق الإلهى وسكره.
وفى التفسيرات الصوفية تقابلنا أيضا مصطلحات القوم من مثل "المقام" و"الشهود" و"الحضرة". و"المقام"، كما جاء فى "الرسالة القشيرية"، هو ما يتحقق به العبد بمنازله من الآداب، وما هو مشتغل بالرياضة له. وشرطه أن لا يرتقى من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام، فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكُّل له لا يصح التسليم، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. أما الحال فهو معنى يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب اكتساب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو اهتياج. فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. ثم هناك الغَيْبة والحضور والشهود والحضور: فالغَيْبة هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه ثم يغيب إحساسه بنفسه وبغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب. ويقال لرجوع العبد إلى إحساسه بأحوال نفسه وأحوال الخلق: إنه رجع عن غيبته. فهذا يكون حضورا بخلق، والأول يكون حضورا بحق. وقد تختلف أحوالهم في الغيبة: فمنهم من لا تطول غيبته، ومنهم من تدوم غيبته. ورُوِيَ عن علي بن الحسين زين العابدين أنّه كان في سجوده فوقع حريق في داره فلم ينصرف عن صلاته، فسئل عن حاله فقال: "ألهتني النار الكبرى عن هذه النار". ولديهم كذلك المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة: فالمحاضرة حضور القلب، ثم بعدها المكاشفة، وهي حضوره بنعت البيان، ثم المشاهدة، وهي الحضور من غير بقاء تهمة. ويقال: المشاهدة ما قاله عمرو بن عثمان المكي رحمه الله من أنّه تتوالى أنوار التجلي على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدر اتصال البروق. ومن الواضح أن القوم يبالغون فيذكرون أمورا لم يكن يعرفها النبى والصحابة، إذ ما معنى أن الصلاة مثلا تستولى على كيان الصوفى حتى لتشبّ النار فى داره فلا يشعر ولا يبالى لأنه ليس هناك. ترى هل صلاة المتصوفة أعمق من صلاة الرسول والصحابة، وقد كانوا يصلون صلاة الخوف، وهى التى تصلَّى أثناء الحرب، ويؤديها المصلون، وأعينهم وأيديهم على السلاح، وطائفة منهم واقفون فى الخلف ينظرون إلى الطريق، بحيث إذا أراد العدو مباغتتهم كانوا له بالمرصاد ولم يتمكن من أخذهم على غرة؟ وهناك حديث عن ابن عباس يروى فيه ذلك الصحابى الجليل كيف كان فى ضيافة النبى وخالته ميمونة أم المؤمنين ذات ليلة، فقام النبى يصلى فصلى وراءه ابن عباس عن شماله، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن مد يده وأخذه من أذنه وأقامه عن يمينه، كل ذلك وهو يصلى. وهذه إحدى روايات ذلك الحديث، وهى فى "صحيح مسلم": "بِتُّ ليلةً عند خالتي ميمونة بنت الحارث. فقلت لها: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي، فجعلني من شقه الأيمن. فجعل إذا أغفيتُ يأخذ بشحمة أذني. قال: فصلى إحدى عشرة ركعة. ثم احْتَبَى حتى إني لأسمع نَفَسه راقدا. فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين". وعن أمير المؤمنين عمر، رضى الله عنه، أن أمور المسلمين لم تكن تتركه حتى فى صلاته، وذلك من شدة اهتمامه برعيته وخوفه عليهم وانشغاله بتحسين أحوالهم ورغبته فى تجنيبهم الأذى والضرر. ومعلوم أن التركيز مائة فى المائة فى الصلاة غير مطاق فى العادة، وعلى الإنسان أن يبذل جهده فى ذلك التركيز، وأن يسدد ويقارب. أما أن يتصور أنه قادر فى كل الظروف أن يبعد عن ذهنه كل ما هو خارج الصلاة فهذا أمر لا أتصوره سهلا. ذلك أن الإنسان حينما يصلى فإنما يصلى فى سياق بشرى خاص، لا فى عالم الملكوت: فحرارة الجو أو برودته، وضيق المكان أو سعته، وهدوء الناس أو ضجتهم، وسكينة المصلى أو قلقه، وجوعه أو شبعه، واستعجاله أو رَيْثه، وشعوره بالأمن أو بالخوف...، كل ذلك يؤثر فى نفسيته. ثم يتفاوت المصلون فى درجة هذا التأثير، أما أن يعلو المصلى تماما فوق كل تأثير فهذا ما لا أدرى كيف يكون. ومن هنا فإنى لا أستطيع أن أفهم كيف أن أحد المتصوفة، عندما تعيّن قطع رجله، طلب منهم أن يمهلوه حتى يدخل فى الصلاة، ثم فليبتروا رجله حينذاك، فإنه لن يشعر بشىء! وقد كنت أستطيع أن أتفهم ذلك لو كان الأمر يتعلق بألم بسيط غير متوقَّع من قِبَل المصلى، أما أن يكون معلوما للمصلى سلفا، وأن يكون ناشئا من بتر رجله، بل أن يكون هو الذى اقترح توقيت البتر، فهذا ما لا قِبَل لى بفهمه!
وعودًا إلى ما نحن فيه من تردد المصطلحات الصوفية فى تفاسير القوم وسَوْق الشواهد على ذلك نشير إلى ما جاء فى تفسير القشيرى عند تناوله قوله سبحانه: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الصافات/ 99)، إذ نقرأ ما يلى: "يقال إنه طلبَ هدايةً مخصوصةً لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه. ويحتمل أنه كان صاحبَ هدايةٍ في الحال، وطلبَ الهداية في الاستقبال، أي زيادةً في الهداية. ويقال: طلبَ الهداية على كيفية مراعاة الأدَب في الحضور. ويقال: طلبَ الهداية إلى نفسه لأنه فقدَ فيه قلبه ونفسه، فقال: "سيهديني إليَّ لأقومَ بحقِّ عبُوديته"، فإن المستَهْلَكَ في حقائق الجمع لا يصحُّ منه أداء العبادة إلا بأن يُرَدَّ إلى حَالة التفرقة والتمييز. ومعنى {إِلَى رَبِّى} أي إلى المكان الذي يُعْبَدُ فيه ربي. ويقال: أخبر عن إبراهيم أنه قال: {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى}، فأخبر عن قوله. وأخبر عن موسى فقال: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنا} (الأعراف/ 143). وأخبر عن نبينا فقال: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء/ 1)، فأخبر عن ذاته سبحانه. وفصل بين هذه المقامات: فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعين الجمع، ونبينا كان بعين جمع الجمع".
وفى "عرائس البيان في حقائق القرآن" للشيرازى البقلى لدن تفسيره قوله عز شأنه: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (الإسراء/ 79) نقرأ: "قال الأستاذ: المقام المحمود هو المجالسة فى حال الشهود. ويقال: هو الشفاعة لاهل الكبائر. ثم علَّمه دعاء الوسيلة منه إليه بقوله: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، أى أدخلنى فى بحر قِدَمك بنعت الفناء والتجريد عن غيرك وصدق المحبة لأن هناك مدخل الصدق حيث لا يبقى منى شئ غيرك. وأخرجنى من بحر الفناء بنعت البقاء حتى أكون باقيا معك فى مشاهدتك، فإن هناك مخرج صدق حيث لا يبقى معى غيرك. وألبِسْني من أنوار سلطان عزتك قميص الاستقامة حتى لا أكون فانيا فيك. وهذا معنى قوله: {وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}. وأيضا أدخلنى مدخل صدق العبودية، وأخرجنى مخرج صدق الربوبية، واجعل لى من لدنك قوة الاتصاف والاتحاد من سلطان كبريائك".
وفى تفسير قوله تعالى: "وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم" (الصافات/ 164) يقول البقلى أيضا: "قوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}: أهل البدايات فى مقام الطاعات، والأوساط فى المقامات مثل التوكل والرضا والتسليم، والمحبون فى مقام الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة فى مقام المعارف ينتقلون فى المشاهدة من مقام إلى مقام. ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون فى بحار الذات والصفات، وليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف حيث أفناهم قهر الجلال والجمال والعظمة والكبرياء عن كل ما وجدوا من الحق فبَقُوا فى الفناء إلى الأبد. قال ابن عطاء: لك مقام المشاهدة، ولهم مقام الخدمة. وقال جعفر: الخلق مع الله على مقامات شتى. مَنْ تجاوز حده هلك: فللأنبياء مقام المشاهدة، وللرسل مقام العيان، وللملائكة مقام الهيبة، وللمؤمنين مقام الدنو والخدمة، وللعصاة مقام التوبة، وللكفار مقام الطرد والغفلة واللعنة. قال الحسين: المريدون فى المقامات يجولون من مقام إلى مقام، والمرادون جاوزوا المقامات إلى رب المقامات. وقال الجنيد: المقامات معلومة كما ذكره الله تعالى، وأرباب الحقائق يأنفون من المعلومات والمرسومات لأنهم فى قبضة الحق وأمره".
وفى تفسير ابن عجيبة: "ولعل قولهم: {وما منّا إلا له مقام معلوم} إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرْب ومقامات اليقين. وقولهم: {وإنا لنحن الصافُّون} إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات. وهم طبقات: منهم هائمون مستغرقون في الشهود، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم".
ويقول إسماعيل حقى: "وقال السدى: {إلا له مقام معلوم} فى القُرْبة والمشاهدة. وقال أبو بكر الوراق قُدِّسَ سِرّه: {إلا له مقام معلوم} يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضى... وفى "التأويلات النجمية" يشير إلى أن للملَك مقاما معلوما لا يتعدى حده، وهو مقام الملَك الروحانى او الكروبى. فالروحانى لا يَعْبُر عن مقامه الى مقام الكروبى، والكروبى لا يقدم على مقام الروحانى، فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم، ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم. ولهم بهذا فضيلة على إنسان بقى فى أسفل سافلين فى الدرك الأسفل من النار وللذين عبروا منهم عن أسفل سافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى أعلى عليين، بل ساروا الى مقام قاب قوسين، بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم. ولهذا أُمِروا بسجدة أهل الفضل منهم: فقَعُوا له ساجدين. فللإنسان أن يتنزل من مقام الإنسانية إلى دركة الحيوانية كقوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل}، وله أن يترقى بحيث يعبر عن المقام الملكى. ويقال له: تخلقوا بأخلاق الله. وقال جعفر رضى الله عنه: الخلق مع الله على مقامات شتى، من تجاوز حده هلك: فللأنبياء مقام المشاهدة، وللرسل مقام العيان، وللملائكة مقام الهيبة، وللمؤمنين مقام الدنو، وللعصاة مقام التوبة، وللكفار مقام الغفلة والطرد واللعنة". وإذا كان لا بد من كلمة نقولها هنا فهو أننى لا أعرف كيف عرف أولئك الصوفيون عدد المقامات والأحوال التى يمرون بها، وكيف حددوها وفرقوا بينها، وهى حالات وجدانية؟ ثم كيف عرفوا مقامات الأنبياء والملائكة، وهم ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك؟ إنهم، فى هذه المقامات وكلامهم عنها، يبدون وكأنهم بسطوا بين أيديهم خريطة مدينة من المدن يعلمونها تمام العلم فعرفوا شوارعها وحاراتها وطرقها، وإلام يؤدى هذا، ومن أين يبتدئ ذاك، وأين يشتبك هذان الشارعان، وأين يفترقان...إلخ. كذلك أخشى أن يكون فيما أشمه هنا رائحة اجتراء على مقام الألوهية. ذلك أنه لا يحق لأحد من البشر أن يصنف الناس والرسل والملائكة حسب درجة القرب أو البعد من الله، بل ينبغى أن نلزم حدودنا مع الله جل وعلا وأن نتحلى بالتواضع ونعرف أننا مجرد عبيد وعباد له سبحانه لا يعرفون شيئا عن مصيرهم ولا مكانتهم عند الله، فكيف نجترئ على تقسيم الآخرين من إنس وملائكة إلى جماعات وفئات فى ميدان الرقى الروحى؟
وفى رؤية الله نطالع ما يلى فى "حقائق التفسير" للسلمى فى تفسير قوله جل جلاله: "لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ" (الأنعام/ 103): "قال أبو يزيد رحمة الله عليه: إن الله احتجب عن القلوب كما احتجب عن الأبصار. فإن أُطِيعَ تجلَّى، فالبصر والفؤاد واحد. وقيل معناه: إن الله عز وجل يَطْلُع على الأبصار بالتجلى لها، لأن الأبصار تسمو إليه". وهو ما يفيد بصريح العبارة أن رؤية الله ممكنة ما دام الإنسان مطيعا له سبحانه رغم أن الآية قد نفت تلك الرؤية أيا ما يكن الرائى: مطيعا كان أو عاصيا. وهناك حديث عن عائشة رضى الله عنها عن معراج الرسول الكريم إلى السماوات العُلاَ وبلوغه سِدْرَة المنتهى جاء فيه على لسان الراوى: "كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفِرْيَة. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرْيَة. قال: وكنت متكئا فجلستُ. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تُعْجِليني. ألم يقل الله عز وجل: "ولقد رآه بالأفق المبين" (التكوير/23)، "ولقد رآه نزلة أخرى" (النجم/ 13)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء سادًّا عظمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم" (الشورى/ 51)؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفِرْيَة. والله يقول: "يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أُنْزِل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بَلَّغْتَ رسالته" (المائدة/ 67). قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفِرْيَة. والله يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغَيْبَ إلا الله" (النمل/65)". فإذا كان هذا حال النبى عليه الصلاة والسلام، فما بالنا بمن هو أدنى منه بمراحل؟ بل إن علماء الحديث متفقون على أن الحديث القائل بأن الرسول عليه السلام رأى ربه هو حديثٌ "موضوعٌ كَذِب".
أما إسماعيل حقى فيفصل القول فى تلك القضية، إذ يرى أن الإدراك، وإن كان مستحيلا لأنه يعنى الإحاطة بكُنْه الله، فإن الرؤية ممكنة. ولم يفرق بين رؤيته تعالى فى الدنيا ورؤيته فى الجنة، بل أطلق القول إطلاقا. كما حمل على المعتزلة لنفيهم الرؤية واتهمهم بالمبالغة فى ذلك. وهذا نص كلامه: "اعلم ان الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشئ والإحاطة به، والرؤية المعاينة. وقد تكون الرؤية بلا إدراك لأنه يصح أن يقال: رآه، وما أدركه. فالإدراك أخص من الرؤية، ونَفْىُ الأخصّ لا يستلزم نَفْىَ الأعم. فالله يجوز أن يُرَى من غير إدراك وإحاطة كما يُعْرَف فى الدنيا ولا يحاط به. يعنى أن معرفة الله تعالى ممكنة من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية، إذ منه ما لا تفيه الطاقة البشرية، وهو ما وقع به الكُمَّل فى ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة وقالوا: ما عرفناك حق معرفتك. فذات الله تعالى من حيث تجرده عن النِّسَب والإضافات لا تُدْرَك. ولهذا سئل النبى عليه السلام: هل رأيتَ ربك؟ قال "نور أَنَّى أراه؟". أى النور المجرد لا يمكن رؤيته. وكذا أشار الحق فى كتابه لما ذكر ظهور نوره فى مراتب المظاهر. قال الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} (النور/35). فلما فرغ من ذكر مراتب التمثيل قال: {نور على نور} (النور/ 35). فأحد النورين هو الضياء، والآخر هو النور المطلق الأصلى. ولهذا تمم فقال: {يهدى الله لنوره من يشاء} (النور/ 35). أى يهدى الله بنوره المتعيِّن فى المظاهر والسارى فيها إلى نوره المطلق الأحدىّ، فإنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات. فأما فى المظاهر ومن ورائية حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل:
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجههــــا فإذا اكتست ببريـــــقِ غيمٍ أمكنـــا
وإلى مثل هذا أشار النبى صلى الله عليه وسلم فى بيان الرؤية الجنانية المشبَّهة برؤية الشمس والقمر فأخبر عن أهل الجنة أنهم يَرَوْنَ ربهم وأنه ليس بينه وبينهم حجاب إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عَدْن. فنبَّه صلى الله عليه وسلم على بقاء الرتبة الحجابية، وهى رتبة المظهر. وتحقيقه أن أهل الاعتزال بالغوا فى نفى الرؤية". لكن كيف فات حقى أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: "لن ترانى"، ثم علق رؤيته له على أمر مستحيل، وهو استقرار الجبل لدن تجليه سبحانه له، ثم لما تجلى عز وجلّ للجبل لم يستقر الجبل، بل أصبح دَكًّا، وفضلا عن ذلك خر موسى صعقا! كما أن عائشة نفت نفيا قاطعا أن يكون الرسول قد رأى ربه. وفوق هذا فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله مستنكرا: نورٌ أنى أراه؟ فكيف بعد ذلك كله يقول قائل إن رؤية الله ممكنة؟ وهذا فى الدنيا، أما فى جِنَان الـخُلْد فقد قال جل جلاله: "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة* إلى ربها ناظرة"، فالأمران إذن مختلفان. ذلك أننا سيعاد خلقنا ككل شىء فى الكون من جديد، وعلى وضع آخر يختلف عن وضع خلقنا هنا، هذا الوضع الذى يقوم حائلا بيننا وبين إمكان النظر إليه سبحانه ورؤيته.
وعلى درب السلمى وحقى يسير ابن عجيبة، إذ كتب فى تفسيره: "يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا تدركه الأبصار}، أي لا تحيط به ولا تناله بحقيقته. وعن ابن عباس: "لا تدركه في الدنيا، وهو يُرَى في الآخرة". ومذهب الأشعرية أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً لأن موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال. وأحالته المعتزلة مطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًّا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا: "ما كل بصر يدركه"، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي". ويزيد الأمر إيضاحا عند تعرضه لقوله تعالى فى الآيتين 22- 23 من سورة "القيامة": "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ"، إذ قال: "ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصِّصة لقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام/ 103)، أي لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث: "فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها". المراد بالصورة: الصفة. والمعنى أنهم يرونه ثانيًا على ما يعرفونه من صفاته العلية. وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال". ولى تعليق على قول البيضاوى إنه لو كانت رؤية الله أمرا محالا ما سألها موسى عليه السلام، وهو أن هذا الطلب لا يَقْدَح فيه صلى الله عليه وسلم لأن طلبه رؤية ربه ليس أمرا منافيا للخلق الكريم ولا للإيمان السليم، بل هو أمر مبعثه الفضول المشروع والمفهوم بسبب حبه الجارف لربه وتطلعه لرؤيته، وبخاصة أنه عز شأنه قد كلم موسى تكليما، فازداد تشوقه عليه السلام لرؤيته سبحانه، وكان عليه السلام لا يعرف أنها أمر مستحيل فى الدنيا بسبب التركيبة البشرية التى نحن عليها هنا، وليس فى هذا ما يعيبه فى شىء، إذ هو أمر غيبى لا يستطيع معرفته أحد إلا عن طريق الوحى، فبين الله له ذلك على نحو عملى أدى به إلى أن يقول: "تبتُ إليك"، وهى كلمة تعنى أنه ما كان ينبغى له أن يطلب رؤية ربه لأنها غير ممكنة، وإلا فما معنى التوبة؟ الواقع إنه لعجيب أن يقول البيضاوى إن رؤية الله ليست أمرا محالا، ودليله أن موسى طلبها، مع أن الله قد علق رؤية موسى له سبحانه على مستحيل، وهو بقاء الجبل مستقرا فى مكانه، هذا البقاء الذى لم يتحقق. وانضاف إلى ذلك خرور موسى صعقا. فماذا كان يريد البيضاوى أكثر من ذلك كى يقرّ باستحالة رؤية الله فى الدنيا؟ ثم أيمكن أن يُرَى الله فى الدنيا، ثم يحرم سبحانه نبيَّه الكليم هذا الشرف، وبالذات بعد أن طلبه تشوقًا لرؤية ربه؟ أيكون السادة الصوفية أكرم على الله من نبيه وكليمه موسى عليه السلام؟ ولقد ندّت عن القشيرى عبارة خطيرة يُفْهَم منها أنهم فعلا يَرَوْن أنفسهم كذلك، إذ قال إن موسى حين تجلى ربه للجبل عند طلبه عليه السلام منه سبحانه أن يراه "خرَّ موسى صَعِقًا، وكان يفيق والملائكة تقوله له: يا ابن الحيض، أمثلك مَنْ يسأل الرؤية؟". ونحن بدورنا نسأل: إذا كان موسى ابنا من أبناء الحيض، وهو فعلا كذلك، فهل السادة الصوفية أبناء القشدة والعسل؟ إن ما قاله القشيرى كلام لا يليق، إن لم نقل فيه أكثر من ذلك. ومثل حقى والسلمى فى هذا الرأى البقلى، الذى نفى الإدراك، لكنه نقل مع ذلك كلام أبى يزيد البسطامى فى إمكان تجلى الله للفؤاد والبصر جميعا كما رأينا فى تفسير السلمى.
فإذا انتقلنا إلى القشيرى فى "لطائف الإشارات" وابن عربى فى التفسير المنسوب إليه (أو فلنقل: القاشانى) وجدنا أنهما، عند تعرضهما لقوله تعالى فى آية سورة "الأنعام" المذكورة آنفا، قد نفيا الإدراك، إلا أنهما لم يتعرضا للرؤية، فخرجا هنا بالصمت عن "لا" و"نعم". قال الأول: "قدَّسَ اللهُ الصمديةَ عن كل لحوقٍ ودَرَك، فأنَّى بالإدراك، ولا حدَّ له ولا طرف؟". وقال الثانى: "{لا تدركه الأبصار}، أي لا تحيط به لأنه اللطيف الجليل عن إدراكها. وكيف تدركه وهي لا تدرك أنفسها التي هي نور منه؟". إلا أن القشيرى مثلا، فى تفسيره الآية الثالثة من سورة "الدخان"، قد قال ما نصه: "وأشدُّ الليالي بركةً ليلةٌ يكون العبدُ فيها حاضرا بقلبه مشاهدا لربَّه، يتَنَعَّمُ فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القُرْبَة". كذلك فى تفسيره للآية التاسعة عشرة من سورة "محمد" نراه يقول: "فالعبد يعلم أولاً ربَّه بدليلٍ وحُجَّةٍ. فعِلْمُه بنفسه كَسْبيٌّ، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي. ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمُه بنفسه لغَلَبَاتِ ذِكْرِ اللَّهِ على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار عِلْمُه في تلك الحالة ضروريا، ويقلُّ إحساسُه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ، وكأنه غافلٌ عن نفسه أو ناسٍ لنفسه".
أما بالنسبة لرؤية الآخرة عند مفسِّرى الصوفية فيقول التسترى (ت 283هـ) مثلا فى تفسير الآيتين 22- 23 من سورة "القيامة": "قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. قال: من قتله حُبُّه فدِيَتُه رؤيته. ثم قال: جزاء الأعمال الجنة، وجزاء التوحيد النظر إلى الحق عزَّ وجلَّ". ويورد السلمى فى تفسيره للآيتين هذه العبارة المنسوبة لأبى سلميان الدارانى، وهى كاشفة: "قال أبو سليمان الدارانى: لو لم يكن لأهل المعرفة سرور إلاَّ قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لاكتفَوْا به. وأى سرور أتمّ من وصول المحب إلى حبيبه، والعارف إلى معروفه؟". وفى "لطائف الإشارات" للقشيرى: "{نَّاضِرَةٌ}: أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إلى ربها ناظرة، أي رائية لله. والنظر المقرون بـ"إلى" مضافًا إلى الوجه لا يكون إلاَّ الرؤية". ويقول ابن عجيبة فى تفسيره: "{إِلى ربها ناظرةٌ}، أي مستغرِقة في مشاهدة جماله فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظر على قدر حضوره هنا ومعرفته".
عُرِف الصوفية بالتركيز على التجربة الروحية، سواء عن حق أو عن ادعاء. وفى تفسيرهم للقرآن نراهم يهتمون بالبحث عما فى آياته من إشارات لا تدل عليها دلالة مباشرة، بل يحتاج الأمر فيها إلى تأويلٍ، وأحيانا إلى لَىٍّ للنص عن ظاهره. وكثيرا ما يُغَشِّى تأويلاتِهم التكلّفُ الثقيل الذى يفسد تذوقنا حتى للبسملة كما صنع القشيرى (ت 465هـ) عند بداية تفسيره لسورة "الفاتحة"، إذ يقف أمام كل حرف من حروف البسملة قائلا: "وقوم عند ذكر هذه الآية (يقصد آية "البسملة") يتذكرون من الباء بِرَّه (أى بِرّ الله) بأوليائه، ومن السين سِرَّه مع أصفيائه، ومن الميم مِنَّتَه على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببرّه عرفوا سِرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع "بسم الله" تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعزّ وَصْفه. وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه. فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية، أعني "بسم الله الرحمن الرحيم"، في كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة، وإشارات غير معادة". فالقشيرى، كما ترى، يُبْعِد النُّجْعَة، إذ من غير المتصوَّر أن يقف قارئ القرآن أمام البسملة فى كل مرة يتلوها فيمعن النظر فى كل حرف منها على النحو الذى ذكره القشيرى، فضلا عن أن يستطيع القشيرى أو غيره استقصاء ما يعنّ لجميع فئات القراء من معانٍ عند قراءتهم للبسملة ويسجل كل ذلك على اختلافه. إن هذا لهو التكلف!
ونفس هذا التكلف نجده فى تناوله للحروف المقطعة التى تبتدئ بها بعض السور، إذ ها هو ذا لدن تفسيرها فى أول "البقرة"، وهى السورة التى تلى "الفاتحة" مباشرة، يقول: "هذه الحروف المقطعة في أوائل السورة من المتشابِه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم. ويقولون: لكل كتاب سر، وسر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم أنها مفاتح أسمائه: فالألف من اسم "الله"، واللام يدل على اسمه "اللطيف"، والميم يدل على اسمه: "المجيد" و"الملك". وقيل: أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه. وقيل إنها أسماء السور. وقيل: الألف تدل على اسم "الله"، واللام تدل على اسم "جبريل"، والميم تدل على اسم "محمد" صلى الله عليه وسلم. فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألِف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع. ويقال: يتذكر العبد المخلص مِنْ حالة الألف تَقَدُّسَ الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان، فإن سائر الحروف لها محل من الحَلقْ أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هوائية لا تضاف إلى محل. ويقال: الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال: يطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في مراعاة حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. ويقال: اختص كل حرف بصيغة مخصوصة: فانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجُعِل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن مَنْ تجرَّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حَظِي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركَّبة، على سُنّة الأحباب في ستر الحال وإخفاء الأمر على الأجنبي من القصة... ويقال: تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص. أَسْمَعَ موسى كلامَه في ألْف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: أَلِفْ... وقال عليه السلام: أُوتِيتُ جوامع الكلِم فاختُصِرَ لي الكلامُ اختصارا".
وفى تفسير "الم" الموجودة فى أول سورة "الرعد" يقول: "أَقْسَم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إِنَّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرتُ أَنِّي أُنَزِّلُ عليك. فالألف تشير إلى اسم "الله"، واللام تشير إلى اسم "اللطيف"، والميم تشير إلى "المجيد"، والراء تشير إلى اسم "الرحيم". قال: بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آياتُ الكتاب الذي أخبرتُ أني أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم". وبالله عليك أيها القارئ ما الذى منع أن يقول عز وجلّ: "بسم الله اللطيف المجيد" مرة واحدة بدلا من "بسم الله الرحمن الرحيم" ما دام هذا هو مراده سبحانه؟ ومن أين علم القشيرى أو غير القشيرى أن الله قد أراد هذا المعنى الذى ذكره، ما دام لم يَرِد ذلك عن النبى عليه السلام؟ أعنده علم الغيب فهو يرى؟
ويقول سهل التسترى فى تفسير البسملة فى أول "الفاتحة": "واللهُ: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرفٌ مكنىٌّ غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلاَّ الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان. والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنىّ بين الألف واللام. والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع، والابتداء في الأصل رحمةً لسابق علمه القديم. قال أبو بكر: أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الرحمن الرحيم": اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده". والحق أن كلام التسترى فى التعليق على اسم الجلالة و"الرحمن" أقرب إلى البهلوانيات منه إلى التفسير، إذ هو مجرد أصوات لا معنى لها فى الواقع، وإن خُيِّل لبعض الناس أن وراءها شيئا من المعنى، إذ ما معنى قوله مثلا: "وبين الألف واللام منه حرفٌ مكنىٌّ غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة"؟. ومثله ما كتبه فى تفسير الآية الثامنة عشرة من سورة "الكهف" عن أصحاب الكهف، إذ قال: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا": "قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} يعني: لو اطلعت عليهم بنفسك لوليت منهم فرارا، ولو اطلعت عليهم بالحق لوقفت على حقائق الوحدانية فيهم منه". ترى هل فهم القارئ من ذلك شيئا؟ فما معنى اطِّلاع المطَّلِع عليهم بنفسه؟ وما معنى اطلاعه عليهم بالحق؟ وما معنى أنه فى المرة الأولى يُوَلِّى منهم فرارا ويمتلئ منهم رعبا، وفى الثانية يقف على حقائق الوحدانية منه فيهم؟
أما إسماعيل حقى (ت 1127هـ) صاحب "روح البيان في تفسير القرآن" فيقول فى تفسير البسملة فى مطلع سورة "الفاتحة": "قالوا: وأودع جميع العلوم في الباء. أى: بى كان ما كان، وبى يكون ما يكون. فوجود العوالم بى، وليس لغيرى وجود حقيقى إلا بالاسم والمجاز. وهو معنى قولهم: ما نظرت شيئا إلا ورأيت الله فيه أو قبله، ومعنى قوله عليه السلام: "لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله". فان قلت: ما الحكمة فى افتتاح الله بالباء؟ عشرة معان: أحدها أن فى الألف ترفعا وتكبرا وتطاولا، وفى الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا. فمن تواضع لله رفعه الله. وثانيها أن الباء مخصوصة بالإلصاق بخلاف أكثر الحروف، خصوصا الألف من حروف القطع. وَجَدَتْ شرف العِنْدِيّة من الله تعالى كما قال الله تعالى: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى". ورابعها أن فى الباء تساقطا وتكسرا فى الظاهر، ولكنْ رفعة درجة وعلوّ همة فى الحقيقة، وهى من صفات الصديقين، وفى الألف ضدها. أما رفعة درجتها فبأنها أعطيت نقطة، وليست للألف هذه الدرجة. وأما علو الهمة فانه لما عُرِضَتْ عليها النُّقَط ما قبلت إلا واحدة ليكون حالها كحال محب لا يقبل إلا محبوبا واحدا. وخامسها أن فى الباء صدقا فى طلب قربة الحق لأنها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتْها تحت قدمها وما تفاخرت بها، ولا يناقضه الجيم والياء لان نُقَطهما فى وضع الحروف ليست تحتهما بل فى وسطهما، وإنما موضع النقط تحتها عند اتصالهما مفردة أو متصلة بحرف آخر. وسادسها أن الالف حرف علة بخلاف الباء. وسابعها أن الباء حرف تام متبوع فى المعنى، وان كان تابعا صورةً من حيث إن موضعه بعد الألف فى وضع الحروف. وذلك لأن الألف فى لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الألف، فإن الباء لا يتبعه، والمتبوع فى المعنى أقوى. وثامنها أن الباء حرفٌ عامل ومتصرف فى غيره. فظهر لها من هذا أنه كامل فى صفات نفسه بأنه للإلصاق والاستعانة والإضافة، مكمل لغيره بأن يخفض الاسم التابع له. أشار إليه سيدنا على رضى الله عنه بقوله: إن النقطة تحت الباء. فالباء له مرتبة الإرشاد والدلالة على التوحيد. وعاشرها أن الباء حرف شفوى تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية. ولذلك كان أول انفتاح فم الذرّة الإنسانية فى عهد "ألست بربكم؟" بالباء فى جواب: "بلى". فلما كان الباء أول حرف نطق به الإنسان وفتح به فمه وكان مخصوصا بهذه المعانى اقتضت الحكمة الإلهية اختياره من سائر الحروف فاختارها ورفع قدرها وأظهر برهانها وجعلها مفتاح كتابه ومبدأ كلامه وخطابه تعالى وتقدس: كذا فى ’التأويلات النجمية’".
وهذا، كما ترى، كلام ليس له رأس ولا ذنب. ومن الطريف أن يُنْسَب إلى على كرم الله وجهه القول بأن الباء منقوطة من تحت، مع أننا جميعا نعلم أن الأبجدية العربية لم تكن قد عرفت النقط بَعْدُ على عهد على بن أبى طالب. ومعنى ذلك أن الرواية مكذوبة لا أصل لها، وكان ينبغى أن يتنبه الكاتب إلى ذلك، لكنْ من الواضح أن الخواطر الشعرية الإنشائية تفتنه وتسكره فلا يتنبه إلى ما فيها من سخف ومدابرة للمنطق وحقائق التاريخ. ثم من قال إن الباء هى أول حرف نطق به الفم الإنسانى؟ ترى هل كان الإنسان فى عالم الذرّ يتحدث العربية فقال: "بَلَى" فعلا بنطقها العربى؟ بل هل كان هناك حديث أصلا فى ذلك الموقف؟ وهذا إن كانت الآية تشير إلى عالم الذر فعلا كما يقول عامة المفسرين، إذ من الممكن جدا أن يكون الكلام على المجاز، ويكون المراد أنه سبحانه يشير إلى إرساله الرسل حتى لا يتحجج البشر يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن ربوبيته لأنه لم يرسل لهم رسلا يوضحون لهم تلك الحقيقة كما تومئ كل من الآية 165 من سورة "النساء"، والآية 15 من سورة "الإسراء"، ونصاهما على الترتيب: "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً". ثم إن حقى يقول: إن "الباء حرفٌ عاملٌ ومتصرفٌ فى غيره"، مشيرا إلى أن الباء حرف جر، فهو يعمل فى الاسم ويجره. وهذا معناه أنه يأخذ كلام النحاة القدماء فى عمل الكلمات بعضها فى بعض كلاما مسلما به، مع أنه مجرد كلام نظرى لا حقيقة له، إذ ليس فى الكلمات تلك القوة التى ينسبها لها النحويون، بل العامل فيها جميعا هو أهل اللغة الذين اصطلحوا على هذا وذاك من أوجه الإعراب، والذين كان من الممكن أن يصطلحوا على غيره.
ومع هذا فمن الممكن، بناء على أسلوب المفسر، أن نقول إن الألف أفضل من الباء لأنها أول حروف الأبجدية والألفباء العربية، فلها إذن فضل الصدارة، أما الباء فتابعة لها. كما يمكننا بنفس الطريقة أن نقول إن انتقال أى اسم من حالة التنكير إلى حالة التعريف لا يحصل دون معاونة الألف التى تبدأ بها أداة التعريف: "أل". ثم إن المفسر يخلط بين الألف والهمزة، فيقول عن الألف فى البسملة إنها حرف علة، مع أنها همزة لا ألف، ومن ثم ليست حرف علة. كما أن العِلّة لا تعيب الحرف فى شىء، اللهم إلا إذا ظن مفسرنا أن العلة هنا تعنى المرض، وهو تصور مضحك. ومُضِيًّا مع هذا المنطق نقول إن الهمزة هى أول حرف فى اسم الجلالة، وهو شرف لا يتشرف به حرف الباء. وهو نفسه قد قال، فى تفسير "ألمص" التى تبدأ بها سورة "الأعراف"، إن الألف "إشارة الى الذات الأحدية". أى أنه يقول الشىء ثم ينساه ويقول بعكسه، وهو ما يدل على أن الأمر لا يزيد عن أن يكون خواطر شاعرية وقتية لا حقيقة لها، فلذلك سرعان ما تذوب وتُنْسَى. كما أن الهمزة هى أداة استفهام تامة، ومعروف أن أداة الاستفهام تؤثر على معنى الجملة كلها وليست كالباء التى يقتصر عملها على جر الاسم التالى لها كما فى الباء، وهذا إن صدقنا ما يقوله النحاة القدماء من أن الكلمات يعمل بعضها فى بعض، وهو ما لا نقول به. وبالمثل فهى أداة تسوية كما فى قوله تعالى: "سواء علينا أَجَزِعْنا أم صَبَرْنا: ما لنا من مَحِيص". وفضلا عن ذلك فإن الهمزة هى الحرف الذى تبدأ به الأدوات التالية: "أل" و"إلى" و"أمام" و"أين" و"أيّان" و"إنْ" و"إنّ" و"أَنْ" و"أَنّ" و"إذا" و"أَيَا" و"أىْ" و"أىّ" و"أو" و"أم" و"أَجَلْ" و"ألاَ" و"أنا" و"أنت" و"الذى" و"التى" و"أولاء"، وكل أفعال الأمر الثلاثية، وكثير من أفعال الأمر غير الثلاثية، وكذلك كثير من الأفعال الماضية المزيدة، فضلا عن أن فى النحو العربى بابا لهمزة الوصل وهمزة القطع، وفى الإملاء العربى بابا لكيفية كتابة الهمزة فى حالاتها المختلفة الكثيرة، أما الباء فربما لا نجد لها وجودا فى الأدوات إلا فى "بَلَى" و"بَلْهَ"... إلى آخر هذا الكلام الذى يغرم به مفسرنا وأمثاله، ولا نقيم نحن لشىء منه وزنا، بيد أننا أردنا أن نبين للقارئ أن ما يقوله حقى هو كلام فى الهواء لا يعنى شيئا.
ولكى يتبين القارئ بنفسه ما قلناه ونقوله من أن كلام المتصوفة فى إشاراتهم التفسيرية إنما هى خواطر تسنح لهم فيقيدونها حسبما اتفق دون تحقيق أو تدقيق، أذكر له أن السلمى فى تفسيره لبسملة "الفاتحة" قد خصص لما قاله فيها بنو طريقته عدة صفحات. والملاحظ أن ما يذكره الواحد منهم يذكر الآخر شيئا مخالفا له. ويحسن بالقراء أن يعودوا إلى ما كتبه ذلك المفسر فى مفتتح تفسيره للسورة المذكورة حتى يروا بأنفسهم ويحكموا بأنفسهم. وزيادة فى تأكيد ما أقول سوف أقف الآن أمام ما كتبه اثنان من كبار مفسرى الصوفية عن "ألمص" التى فى أول "الأعراف" لنرى أنهم إنما يخبطون خبط عشواء.
يقول ابن عجيبة: "إما أن تكون مختصرة من "المصطفى" على عادة العشاق: يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب اتقاء الرقباء. أي يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا، هذا كتاب أُنْزِل إليك. وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة: الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد إشارةً إلى صدقه فيما يُخْبِر به من علم الغيوب، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار. وقال الورتجبي: كان الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء وما جرى عليهم في الدهور والأعصار وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع، وأراد أن يخصه صلى الله عليه وسلم بشريعته وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته، ويخبره بما كان وما يكون، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي، وأعلمه سر ذلك بخفيّ الإشارة ولطيف الخطاب. وعَلِم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق، ونبأٍ صادق، وعَلِم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه. وخواصُّ أمته ربما تطلع على سر بعضها كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء، كأنَّ حروف المقطَّعات رموز ومعاني سور القرآن، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين".
ويقول إسماعيل حقى فى تفسير ذات الأحرف: "{المص}: "ا" إشارة الى الذات الاحدية. "ل" إلى الذات مع صفة العلم. "م" إلى معنى محمد صلى الله عليه وسلم، أى نفسه وحقيقته. "ص" إلى الصورة المحمدية، وهى جسده وظاهره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "ص" جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار. إشارة بالجبل إلى جسد محمد صلى الله عليه وسلم. وبعرش الرحمن إلى قلبه كما ورود فى الحديث: "قلب المؤمن عرش الله". وقوله: "حين لا ليل ولا نهار" إشارة إلى الوحدة لأن القلب إذا وقع فى ظل أرض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان فى الليل، وإذا طلع عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان فى النهار، وإذا وصل إلى الوحدة الحقيقية بالمعرفة والشهود الذاتى واستوى عنده النور والظلمة لفناء الكل فيه كان وقته لا ليل ولا نهار، ولا يكون عرش الرحمن إلا فى هذا الوقت. فمعنى الآية أن وجود الكل من أوله الى آخره كتاب أُنْزِل إليك عمله: كذا فى "التأويلات القاشانية". وقال الشيخ نجم الدين إنه تعالى بعد ذكر ذاته وصفاته بقوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} عرّف نفسه بقوله: {المص}، يعنى الله أنه من لطفه فَرَّدَ عبده للمحبة والمعرفة، وأنعم عليه بالصبر والصدق لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كتاب أُنْزِل إليك... يقول الفقير غفر الله ذنوبه: إن الحروف المقطَّعة من المتشابهات القرآنية التى غاب علمها عن العقول، وإنما أُعْطِىَ فهمها لأهل الوصول. وكل ما قيل فيها فهو من لوازم معانيها وحقائقها. فلنا أن نقول إن فيها إشارة إلى هذا التركيب الصِّفاتىّ والفِعْلِىّ الواحدىّ الأبدىّ. كان إفرادا فى مرتبة الوحدة الذاتية الأزلية، فبالتجلى الإلهى صار المفرد مركَّبا، والمقطَّع موصَّلا، والقوة فعلا، والجمع فرْقا، وتعيَّنت النِّسَب والإضافات، كما أن أصل المركَّبات الكلامية هو حروف التهجى، ثم بالتركيب يحصل "أب" ثم "أبجد" ثم "الحمد لله"، وكما أن أصل الانسان بالنسبة إلى تعين الجسم هو النطفة، ثم بالتصوير يحصل التركيب الجسمى". وواضح أولا أن بعض الكلام فى هذا النص غامض لا يستطيع الإنسان أن يقبض منه على شىء محدد. وواضح كذلك مدى البعد بين هذا التفسير والتفسير الذى يسبقه، مع أن كلا من هذين المفسرين هو من أهل التصوف والإشارات. ألم أقل إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خواطر تسنح للمفسر الصوفى فينفضها على الورق دون أن يفكر فى أبعادها وما يترتب عليها، بل دون أن يعنى نفسه بتذكرها، حتى إنه لسرعان ما يخالفها فى أول فرصة!
ومن التكلف المقيت بعيدا عن البسملة والحروف المقطعة هذا النص الذى اقتطعناه من تفسير "عرائس البيان فى حقائق القرآن" للبقلى (ت 404هـ)، وهو فى تفسير قوله جل جلاله: "ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران/ 191): "{ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}: إن الله سبحانه لما خلق أرواح أهل المعارف أوجدها على كشف جماله فوقعت كينونة الأرواح على سواطع نور المشاهدة فباشرت أنوارها صميم الأرواح فعشقت بالله جماله وجلاله، فلما استترت بالأشباح بقى الذكر والعشق والمحبة معها عوض المشاهدة. ففى كل نفس لا يخلو عن ذكر معاهد الأول ومشاهدة القديم بنعت الشوق والمحبة والعشق، وذلك بغير اختيارها ذاكرة للمذكور، متفكره للغيبة والحضور، شائقة عاشقة بنعت الهيجان والهيمان على جميع الاحوال، مجذوبة بسلسلة الوصلة الى جمال القدم، مستغرقة فى بحار المواجيد وأنوار الكواشف. لأجل ذلك وصفها الله بدوام الذكر والفكر على نعت التسرمد وأخبر على قدر عقول الخلق عن أحوالهم بلفظ الذكر والفكر. وبذلك نعت قلوبهم وعقولهم وأبدانهم، وأخفى شهود أرواحهم مشاهد القدس والأنس لطفا وإبقاء ومحبة وغيرة بقوله: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم". قيامهم مقرون بذكر العظمة والكبرياء، وقعودهم مقرون بذكر الجمال وحسن الإفضال، واضطجاعهم مقرون بذكر البسط والانبساط والرفاهية فى الشوق والمحبة. فذكرهم على قدر كشوف الصفات. فكشْف العظمة هيّجهم إلى ذكر الفناء فى التوحيد، وكشف الكبرياء هيجهم إلى ذكر الاضمحلال فى التواضع والتفريد، وكشف البهاء هيجهم الى ذكر الخمود فى الشهود، وكشف القدرة هيجهم الى ذكر العجز فى العبودية عن إدراك الربوبية، وكشف الجمال هيجهم الى الغيبة فى ذكر الآباد. وعلى ذلك كل صفة لها تجلٍّ، ولذلك التجلى مباشرةٌ فى قلوب الذاكرين. وكل ذكر له عمل فى المقامات، وله حقيقةُ وَجْدٍ فى الحالات: ذكر الرضا من رضى الحق، وذكر التوكل من حب الله، وذكر القهر من جبروت الله، وذكر الإفضال من ملكوت الله، وذكر الآلاء من ملك الله. وعلى قدر ظهور الصفات لهم تسرمد الذكر الذى وافق الكشف من الأسماء والصفات والنعوت والذات. سبحان من خص الأولياء بكشوف صفاته. سبق ذكره لهم بهذه الفضائل والقربات قبل ذكرهم إياه إلى الأزل. فذِكْرُه جعلهم ذاكرين، ورحمته جعلتهم متفكرين فى جلاله وعظمته، ومن عاش منهم عن حقيقة القدم صار متصفا بعد الذكر بصفة المذكور، وخرج من مقام الذكر لغيبته عن الذكر فى رؤية الأزل والأبد. فعند ذلك: الذاكرُ والذكرُ والمذكورُ فى باب الاتحاد واحد فى شرط الفردانية. الموحِّد الذاكر يفنى، ويبقى الموحَّد لا غير كما لم يزل فى الأزل. قال: يذكرون الله قياما فى مشاهدات الربوبية، وقعودا فى إقامة الخدمة، وعلى جنوبهم فى رؤية الزلف... {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ}: التفكر فى خلق السموات والارض على معنيين: الأول طلب غيب القلوب فى الغيوب التى هى كنوز أنوار الصفات التي تبرز منها مقادير الخلق. يتفكرون فى محض الربوبية، وإرادتهم إدراك أنوار القدرة التى تبلّغ الشاهد إلى المشهود بحقيقة رؤية الوصف. والثانى جولان القلوب بنعت التفكر فى إبداع المالك فى الملك طلب مشاهدة المالك في الملك. الأول مَنْزِل التوحيد، والآخر منزل الجمع. قال بعضهم: هو رؤية الله قبل التفكر فى الأشياء، وواسطة التفكر أن ترى الاشياء قائمة بالله، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فيستدل بها على الله، وقبل ذلك بالتفكر فى صفات الحق لا فى المحدثات. ولو كان ذلك على المحدثات لقال: ويتفكرون فى السموات. قوله تعالى: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}: تطرقوا من مقام الذكر الى مقام التفكر فى خلق الكون استرواحا من الاحتراق بنور الذكر بمروحة صفاء الفعل لكيلا يَفْنَوْا فى مشاهدة المذكور، وذلك غلبة المريدين فى طلب الرفاهية وركوب الرُّخَص. ألا ترى كيف احتجبوا بالفعل عن الفاعل؟ وأيضا لـمّا استحلوا رؤية الفاعل فى العقل ووجدوا حكم الأنانية بنعت التجلى فى مرآة الفعل قالوا: ما خلقت هذا باطلا. أرادوا وجود الكون مرآة التجلى المكون فى مقام التفكر بعد إرادتهم زواله في صفاء الذكر غيرةً على الغير، وذلك قولهم: ربنا ما خلقت. وعلة ذلك أن الله سبحانه عرف مكان ضعف الخلق عن حمل مشاهدته صِرْفًا فأظهر الكون ليتطرقوا بالوسيلة اليه كيلا يحترقوا فى أول بوادى ظهور العظمة وسطوات الكبرياء رحمةً وشفقةً. قال فارس: الحكمة فى إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمى. قال الخوّاص: أمرهم بالتفكر فى خلق السموات والارض ثم قطعهم عن ذلك بقوله: ربنا ما خلقت هذا باطلا. دلهم عليها ثم حثهم على الرجوع اليه لكيلا يقفوا معها وينقطعوا من مشاهدته والإقبال عليه. قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: لما نزل القوم من مقام الذكر الخالص بغير الوسائط إلى مقام التفكر فى الأفعال والآيات ووقعوا فى رؤية الخلق أدركوا ما فاتهم من خوالص الذكر بقوله: سبحانك. أى أنت منزَّه عن كل ذكر وفكر وكل خاطر وإشارة وعبارة، وأنت أعظم من أن يدركك أحد بوسيلة الكون حيث لم يدركك بكل ذكر خالص، ولا يدركك إلا بك كل عارف. سبحانك عما وصفناك بلسان الحدث! أنت كما أثنيت على نفسك بقولك: سبحان الله عما يصفون. {وقِنَا عذاب النار}، أى عن طلبنا بنا لا بك. وعذاب النار عذاب البعد، وذلك نيران الفراق، وهو أحرق من نار الظاهر. قال النصرابادى: سبحانك، أى نزّهت نفسك فى نفسك بمعناك بما لاق منك بك لك". يا ألطاف السماوات! إن دين الله لأبسط من هذا وأسلس، ولا يصلح له هذا التَّفَيْهُق على أى وضع. وقد ذم رسول الله التشادق، ومن قديم الزمان والناس الأسوياء يكرهون التصنع والتعمل. الحق أن هذا الكلام بتعثكل أسلوبه والتوائه وتداخله وغموض معانيه وحرص مؤلفه على إبداء كل ما يمكنه من ضروب الحذلقة من شأنه أن يصيب الذهن بالصداع والدوار، ثم يعود الإنسان منه بعد الدوخة الأليمة دون محصول أو معقول!
ومما يقوله الصوفية أيضا ولا معنى له واضح، إن كان له معنى أصلا، قول السلمى فى تفسيره لقوله تعالى: "وقال ربكم ادعونى أَسْتَجِبْ لكم": "سمعت منصور بن عبد الله الأصفهانى يقول: سمعت الشبلى يقول، وقد سئل عن قوله: "وقال ربكم: ادعونى، أستجبْ لكم" فقال: أوه! من أمر؟ ولمن أمر؟ وكيف أمر؟ وبأى أمرٍ أمر؟ وبأى شىء أمر؟ وما المراد فيما أمر؟ بلى والله أمرنا أن نكون بلا نحن فى سر ظهر الغيب سِرًّا بسِرٍّ متصل. وأما على الظاهر فقال: ادعونى ولا تدعوا معى سواى، فإذا وجدتمونى فقد وجدتم الكل". وأنا فى الحقيقة لم أفهم شيئا من هذا، اللهم إلا الجملة الأخيرة. وهأنذا أُقِرّ بذلك ولا أجد فى الإقرار به أى حرج على الإطلاق.
ليس ذلك فقط، بل أحيانا ما نرى مفسرى الصوفية يأتون بروايات لا ندرى من أين حصلوا عليها كالذى قاله التسترى فى تفسير قوله تعالى فى أول "العنكبوت": "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ": "وحُكِيَ أن الملائكة تقول: يا رب، عبدك الكافر بَسَطْتَ له الدنيا وزَوَيْتَ عنه البلاء! فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه. فإذا رأوْه قالوا: لا ينعّمه ما أصاب من الدنيا. وتقول: يا رب، عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء! فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه. فإذا رأوْا ثوابه قالوا: لا يضره ما أصابه في الدنيا. وقال: اجعلوا صلاتكم الصبر على البأساء، وصومكم الصمت، وصدقتكم كف الأذى. والصبر على العافية أشد منه على البلاء". فمن أين للتسترى بهذا الكلام؟ ثم من قال إن الله يبلو المؤمن فى الدنيا دائما بالضيق والضنك، وينعم على الكافر دائما بالسعة والغنى؟ ألا إن أحوال الدنيا لتكذّب ذلك تكذيبا وتؤكد أن الغنى والفقر يعتوران هذا كما يعتوران ذاك دون فرق بين الاثنين. إلا أن مفسِّرنا الصوفى ينساح مع خواطره التى تبرق فى ذهنه لأول وهلة دون تحقيق أو تدقيق.
ومنها ما كتبه القشيرى فى تفسير قوله عز من قائل: "فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ"، إذ ذكر أن داود "أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يومًا لا يرفع رأسَه من السجود إلا (للصلاة) المكتوبة عليه، وأخذ يبكي حتى نَبَتَ العُشبُ من دموعه، ولم يأكل ولم يشرب في تلك المدة حتى أوحى اللَّهُ إليه بالمغفرة، فقال: يا رب، فكيف بحديث الـخَصْم؟ فقال: إني استوهبْتُك منه". فأنى للقشيرى ذلك الزعم؟ وكيف يمكن تصور عشب فى قصر داود أو محرابه؟ أوكانت أرضيته من تراب؟ وهل دموع العين من الغزارة بحيث تنبت عشبا؟ وفى بيوتنا الريفية قديما، وكانت ترابية، ولم يكن الماء ينقطع عن أرضيتها، لا أذكر أن العشب نبت من جراء ذلك. وهل يعقل أن يبقى داود أو غيره أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى دخول حمام ولا يكلم أحدا أو يكلمه أحد؟ والطريف أن القشيرى عاد فقال: "وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجًا بدموعه". أى أنه كان يشرب، وإن كان الماء الذى يشربه ممزوجا بالدموع. ولقد قال القرآن إنه خَرّ راكعا وأناب، ولم يزد، فلم التزيد إذن؟ أترى القرآن، لو كان عليه السلام ظل ساجدا أربعين يوما، يسكت عن هذا فلا يذكره؟ ثم إن القرآن يقول إنه خر راكعا، ولم يقل: خر ساجدا؟ وأخيرا أى ذنب ذلك الذى يثقل على ضمير داود حتى يستمر ساجدا ندما وابتهالا بسببه طيلة تلك المدة؟ أويقصد القشيرى أنه، عليه السلام، قد فَجَرَ بامرأة أوريا الحثى كما جاء فى العهد القديم؟ لكن القشيرى لم يذكر ما فرط منه، صلى الله عليه وسلم، صراحة، بل اكتفى بالإشارة إلى "الفتنة الموعودة"!
ومنها أيضا هذه الرواية التى أوردها إسماعيل حقى فى تفسيره المسمى: "روح البيان فى تفسير القرآن": "قال فى التفسير الكبير: يقال إن لله أربعة آلاف اسم: ثلاثة آلاف منها لا يعلمها إلا الله والأنبياء، أما الألْف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها: فثلاثمائة فى التوراة، وثلاثمائة فى الانجيل، وثلاثمائة فى الزبور، ومائة فى القرآن: تسعة وتسعون ظاهرة، وواحد مكنون، من أحصاها دخل الجنة".
كما أنهم قد يرددون قصصا لا يمكن تصديقها، كالذى رواه التسترى فى تفسير سورة "الجن" عن سهل فى أمر أولئك الجن، إذ قال: "وقال سهل: رأيت في دار عادٍ الأولى مدينةً مبنيةً من حجر فيها قصر عظيم منقور من حجر يأويه الجن، فدخلت القصر معتبرا، فرأيت شخصا عظيما قائما يصلي نحو الكعبة، عليه جبة صوف بيضاء بها طراوة، فعجبت لطراوة جبته، وانتظرت حتى فرغ من صلاته، فقلت: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا أبا محمد. عجبتَ لطراوة جبتي، وهي عليّ منذ تسعمائة سنة؟ فيها لقيت عيسى بن مريم ومحمدا صلى الله عليه وسلم فآمنت بهما. واعلم يا أبا محمد أن الأبدان لا تُخْلِق الثياب، وإنما يُخْلِقهما مطاعم السحت والإصرار على الذنوب. فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا من الذين قال الله تعالى في حقهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن}".
وثَمَّ قِيَمٌ يعمل المفسرون الصوفيون على تأصيلها ونشرها بين المسلمين باعتبارها قِيَمًا عُلْيَا، على حين أنها فى حقيقة الأمر تعويق لمسيرة الحياة والحضارة. خذ مثلا قول القشيرى تعليقا على الآية السابعة من سورة "الحشر"، وهى فى فقراء المهاجرين الذين اصطفاهم رسول الله بفىء خيبر كى يسد خَلّتهم، فرضى بذلك الأنصار ولم يجدوا فى أنفسهم غضاضة مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدارَ مائةِ رجلٍ.{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ}، وهو الرزق،{وَرِضْوَانًا} بالثواب في الآخرة، وينصرون دين الله.{أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. والفقيرُ الصادقُ هو الذي يترك كلَّ سببٍ وعلاقةٍ، ويفرّغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف بقلبه على شيء سوى الله، ويَقِفُ مع الحقِّ راضيًا بِجَرَيَانِ حُكْمه فيه". إن كلام التسترى معناه أن اهتمام الإنسان بالدنيا أمر مذموم، مع أن عمل الإنسان على ترقية وضعه فى الحياة وسعيه لتكثير ماله والتوسعة على نفسه وأولاده ومساعدة المحتاجين، كل ذلك ألوان من العبادة، بل من أفضل تلك الألوان رغم أن التسترى لا ينظر إليه بارتياح. إن الإسلام لا يرحب كثيرا بإنفاق المسلم وقته كله فى العبادة التقليدية من صوم وصلاة وما إلى ذلك، بل يريد منه أن يضرب بكل قوته فى العمل والإنتاج والإبداع والاختراع، وأن يستخدم عقله وحواسه وذوقه فى كل ما يرقّى دنياه ودنيا الآخرين. أما الانصراف عن تيار الحياة والنأى عن الناس والاعتزال فى المساجد والخلوات فهذا ليس من الإسلام، أو على أقل تقدير: ليس مما يرحّب به الإسلام كثيرا. وكلنا نعرف ما قاله الرسول الكريم للرجل الذى كان يلازم المسجد معتمدا على أخيه فى طعامه وشرابه ولباسه، إذ قال له عليه السلام: أخوك أعبد منك! وهو ما نقوله أيضا لكل صوفى يعتكف بعيدا عن الناس ويتكئ فى ذات الوقت على جهدهم ونشاطهم فى مطعمه ومشربه، يظن أنه بذلك يتقرب إلى الله. إن أى فلاح أو صانع أو مدير أو عالم أو ضابط أو كاسح مجارٍ يؤدى عمله بإتقانٍ وتفانٍ ويراعى ربه وضميره فيما يعمل لهو أفضل عند الله ألف مرة من أى صوفى كسول يعتزل الحياة ويمد يده للآخرين كى يطعموه ويسقوه ويستروه ويُؤْوُوه، ثم يحسب مع ذلك أنه آثر لدى الله منهم. إن الثواب فى الإسلام ليس بترك كل سبب وعلاقة، بل بالقيام بحق الأسباب والعلاقات: أسباب الحياة الكريمة لإحراز الإنسان قصب السبق فيما ينتجه وينجزه، وعلاقاته بالآخرين القريب منهم والبعيد، إذ لكل منهم حق عليه لا بد له من النهوض به، وإلا فلِمَ خَلَق الله الدنيا وغَرَس فى أعماقنا الغرائز والشهوات إذا كان يريد منا أن ننخلع من فطرتنا على هذا النحو المستحيل؟ ولو كان ما يقوله القشيرى صحيحا لكان أولى الناس بأن يطبَّق عليهم هذا الكلام هم أولئك الفقراء المهاجرين. بيد أنه كان للقرآن والرسول رأى آخر، وهو إعطاؤهم مال الفىء لسدّ خَلّتهم وإشباع حاجتهم، وهذه من أمور الدنيا.
ومن ذلك قول ابن عجيبة (ت 1224هـ) فى "البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد" لدى تناوله قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا" (النمل/ 15): "والعلماء على قسمين: علماء بالله، وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به، أهل الشهود والعِيَان. وهم أهل علم الباطن، أعني علم القلوب. والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدأت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن لأن علم أهل الظاهر جُلُّه ظني، وعلم أهل الباطن عياني ذوقي، وليس الخبر كالعيان، مع ما فاقوهم به من المجاهدة والمكابدة، ومقاساة مخالفة النفوس، وقطع المقامات حتى ماتوا موتات، ثم حييت أرواحهم فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول، وتكلّ عنه النقول". فمن أين له ذلك التقسيم والتقييم؟ وكيف واتته نفسه على الاغترار فظن نفسه هو وأهل طريقته أفضل من غيرهم من العلماء، إن عددناهم علماء أصلا؟ إن هذا العلم الظنى هو الذى يدفع الحياة إلى الأمام ويحل مشكلاتها وييسر صعوباتها ويخفف على الناس ويلاتها، أما دعاوى القوم عن المقامات والمجاهدات فأمور لا تنضبط من جهة، ولا يترتب عليها منفعة تُذْكَر من جهة أخرى. وكيف يجرؤ هو أو غيره على القول بأنهم يعرفون الله حتى ليسمِّى نفسه ومن على شاكلته: العلماء بالله؟ ثم من قال له إن الإنسان يمكن أن يترقى دائما فى معارج الروح لا يهبط أبدا؟ إن أمور الروح، مثل أمور الجسد، تقبل الرقىّ والانحطاط فى أى وقت، وليس ثمة ضمانة للصعود المطرد أبدا. ثم أين ذلك المقياس الذى به نعرف درجة التقدم الروحى الذى يُكْثِر الصوفيون من الكلام فيه؟ إن عندنا لمعرفة أحوال الجسم ميزان الحرارة وميزان السكر وميزان الضغط... وهلم جرا، فأين الميزان الذى نقيس به أحوال الإيمان واليقين والتجرد والزهد؟ وهل هناك إنسان إذا ما أحرز درجة عالية فى ميدان من هذه الميادين يظل على وضعه فلا ينزل أبدا، فضلا عن أن يظل فى صعودٍ ورُقِىٍّ لا يتوقف؟ هل يُعْقَل أنه إذا ما رأى امرأة فاتنة لا تتحرك الشهوة فى بدنه أبدا؟ وإذا ما لاح له منصب يمكنه أن يناله لا تطمح له نفسه أبدا؟ وإذا ما اعتدى عليه أحد لا يحدثه قلبه بالثأر أبدا؟ إن هذا ليس بإنسان، بل هو جماد لا ينفعل ولا يحس، بل لا يعقل أصلا! إن الإنسان الطبيعى هو الإنسان الذى يظل فى مجاهدات ومحاولات ومجادلات مع طبيعته البشرية ومع الدنيا من حوله ولا يتوقف جهاده ولا اجتهاده أبدا، ولا يستطيع أن يزعم أنه قد وصل وانتهى الأمر، فلا خوف ولا قلق ولا تقهقر ولا خطأ. أما الزعم بخلاف ذلك فهو كلام فى الهواء لا يساوى ثمن الحبر الذى حُبِّر به!
ومنه أيضا قول القاشانى فى التفسير المنسوب لابن عربى (ت 638هـ) عند تفسيره لقوله تعالى: "وأُفَوِّض أمرى إلى الله" (غافر/ 44): "حُكِىَ عن بعض السلف أنه قال: ... إنما يكون مراد العبد إلى ربه إذا أتاه على حد الإفلاس والفقر، لا يرى لنفسه مقاما فى إحدى الدارين. وهو أن يكون فى الدنيا خاضعا لمن يذله ولا يلتفت إليه، هاربا ممن يكرمه وينزهه، ويكون فى الآخرة طالبا للفضل مشفقا من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم". نعوذ بالله من الذل والرضا به وممن يحببه إلى الناس ويغريهم به! ويا ويل من أصاخ إلى نصيحة القاشانى بشأن الإشفاق من الحسنات! فإنها لكفيلة بتربية حَسَك الوسواس فى صدره وملء حياته بالفرع وإصابته بالخبل، كفانا الله شر الخبل والوساوس، وأفعم قلوبنا ببرد الطمأنينة إلى رحمته عزّ وجلّ وإلى ودّه وكرمه!
وفى "روح البيان فى تفسير القرآن" لإسماعيل حقى نراه يورد الآتى فى تفسير قوله عز شأنه: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80): "وقال بعضهم: واذا مرضت بداء محبته وسقمت بسقم الشوق الى لقائه ووَصْلته فهو يشفين بحسن وصاله وكشف جماله:
بمقدمك المبارك زال دائى وفى لقياك عُجِّلَ لى شفائى
وفى الآية إشارة إلى رفض الرجوع إلى غيره والسكون إلى التداوى والمعالجة بشىء، فهو كمال التسليم... وحُكِىَ عن بعضهم أنه مرض وضعف واصفر لونه، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبا يداويك من هذا المرض؟ فقال: الطبيب أمرضنى. ثم أنشد:
كيف أشـــكو إلى طبيــبىَ مـــا بى والذى بى أصــابنى من طبيبى؟".
وفى تفسير ابن عجيبة فى ذات الآية: "قال أبو الوراق في قوله تعالى: {الذي هو يُطْعِمني ويسقين}، أي يُطْعِمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب. قال: ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}، فرمى بِقِرْبَتِهِ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة، فسقاه. قال أنس: فعاش بعد ذلك نيَِّفًا وعشرين سنة، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة. وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فأدخله الحجاج بيتًا، وأغلق عليه بابه، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما، ولم يشك أنه مات، فوجده قائما يصلي، فقال: يا فاسق، تصلي بغير وضوء؟ فقال: إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها. ومكث سفيان الثوري بمكة دهرًا، وكان يَسُفُّ من السبت إلى السبت كفا من الرمل. وهذا من باب الكرامة، فلا يجب طردها، وقد تكون بالرياضة، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم". وواضح أن أولئك المفسرين، عفا الله عنهم، يريدون أن يفسدوا، بقصد أو بغير قصد، علىالناس دنياهم بتبغيض الأخذ بالأسباب إليهم، وكأن الأسباب من الشيطان لا من الله سبحانه، الذى أقام دنياه على تلك الأسباب وأمرنا أن نأخذ بها حتى نصل لمبتغانا. وليس فى ذلك أدنى إنكار لسيادة قدرة الله وشمول إرادته ولا أن شيئا فى الدنيا لا يخضع لعظمته ومشيئته، بل هو من كمال الإيمان. وقد أمرنا الرسول عليه السلام، إذا ما مرضنا، أن نلتمس الدواء الذى يشفينا من هذا المرض. وقال عمر بن الخطاب إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنها لا تمطر شفاء ولا دواء، بل الذى يأتينا بالذهب والفضة والشفاء والدواء إنما هو العمل والاجتهاد والسعى وراء الرزق والوعى الصحى والذهاب إلى الطبيب وشراء ما يشير به من دواء. وهذا كله من الله ومن فضل الله، وإلا فمن الذى أعطانا الصحة والعقل والقدرة على العمل وعلى السعى على المعاش والعلم بأن لكل مرض علاجه ودواءه المخصوص؟ أليس هو الله؟ أما غير ذلك فهو تواكل ضار مهلك، وإن ظن بعض الناس أنه هو التوكل، إذ التوكل فى الإسلام لا يتم إلا بالأخذ بالأسباب. ومعلوم أن المؤمن إنما يعزو تلك الأسباب إلى الله، الذى خلقها ونظم كونه على أساسها، لكن لا مفر لنا من ترتيب أمورنا على وجودها ووضعها دائما فى الحسبان. وهنيئا للسادة الصوفية الاكتفاء بالأكل مرة واحدة فى الشهر وسَفّ الرمال!
وبعض كتب التفسير الصوفى لا تورد دائما التفسير العادى ثم تتبعه بالإشارة الصوفية، بل لا يوجد فى تفسيرهم فى بعض الأحيان أو فى أكثرها إلا تلك الإشارات. وهذا هو الغالب مثلا على تفسير السلمى المسمى: "حقائق التفسير". ففى تفسيره لقوه تعالى: "أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ" نراه يقول: "قوله تعالى: {أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا}، قال ابن عطاء: النفس خُلِقَتْ من الأرض فسماها الله بها لمجاورتها لها وقُرْبها فقال: من جعل للنفوس القرار عند المناجاة فى أوان الحظوة، وجعل خلالها أنهارًا ألسنةً ناطقة بالذكر وأعينًا ناظرة بالعبرة وأسماعًا واعية عن الحق مخاطبًا به على لسان السفر أو الوسائط، وجعل بهذه الأنفس رحمة، وهم الرواسى الأقطاب من الأولياء يرجعون إليهم عند العثرات فيقوّمونهم بتقويم الحق، ويردونهم إلى طرق الرشاد؟ قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} بين أوقات الذكر وأوقات الغفلة هل أحد يستحق الألوهية إلا من يقدر على مثل هذه اللطائف؟ وقال جعفر: من جعل قلوب أوليائه مستقر معرفته، وجعل فيها أنوار الزوائد من بره فى كل نفس وأثبتها بحبال التوكل، وزينها بأنوار الإخلاص واليقين والمحبة، وجعل بينهما حاجزًا أى القلب والنفس لئلا يقلب عليه النفس وظلماتها فيظلمها فجعل الحاجز بينهما التوفيق والعقل؟". ولا شك أن كلام السلمى فى واد، وما تقوله الآية الكريمة فى واد آخر بعيد.
وفى التفسير المنسوب لابن عربى مثال آخر على هذه النزعة، إذ نراه يقول فى تفسير الآية 79 من سورة "الكهف"، وهى الآية التى يكشف فيها العبد الصالح لموسى عليه السلام السر فى إقدامه على خرق سفينة المساكين وقتل الغلام وبناء الجدار الذى كان فى القرية البخيلة، إذ يقول: "{أما السفينة فكانت لمساكين} في بحر الـهَيُولَى، أي: القوى البدنية من الحواس الظاهرة والقوى الطبيعية النباتية. وإنما سماها: "مساكين" لدوام سكونها وملازمتها لتراب البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر القوى الحيوانية. وحُكِيَ أنهم كانوا عشرة إخوة: خمسة منهم زَمْنَى، وخمسة يعملون في البحر، وذلك إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة. {فأردتُ أن أعيبها} بالرياضة لئلا يأخذها ملك النفس الأمّارة غصبا، وهو الملك الذي كان وراءهم، أي قدّامهم،{يأخذ كل سفينة غصبًا} بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه. {وأما الغلام فكان أبواه} اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية {مُؤْمِنَيْن} مُقَرَّيْنِ بالتوحيد لانقيادهما في سلك طاعة الله وامتثالهما لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما، {فخَشِينا أن يرهقهما}، أي يغشّيهما {طغيانًا} عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح {وكفرًا} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، أو كفرًا بالحجاب فيفسد عليهما أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما لله، {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة} كما بدّلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير منه زكاة، أي طهارة ونقاء، {وأقرب رُحْمًا} تعطفًا ورحمة لكونها أعطف على الروح والبدن وأنفع لهما، وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجدّ والأب، فكان كناية عن الروح والقلب. وكونه أقرب رُحْمًا أنسب لهما وأشدّ تعطفا. {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة}، أي العاقلتين النظرية والعملية المنقطعتين عن أبيهما الذي هو روح القدس لاحتجابهما عنه بالغواشي البدنية أو القلب الذي مات أو قُتِل قبل الكمال باستيلاء النفس في مدينة البدن. {وكان تحته كنز لهما}، أي كنز المعرفة التي لا تحصل إلا بهما في مقام القلب لإمكان اجتماع جميع الكليات والجزئيات فيه بالفعل وقت الكمال، وهو حال بلوغ الأَشُدّ واستخراج ذلك الكنز. وقال بعض أهل الظاهر من المفسرين: كان الكنز صحفًا فيها علم. {وكان أبوهما} على كلا التأويلين {صالحًا}. وقيل: كان أبًا أعلى لهما حفظهما الله له، فعلى هذا لا يكون إلا روح القدس".
ومن ذلك أيضا ما قاله نجم الدين داية (ت 654هـ) فى تفسير "التأويلات النجمية" لَدُنْ تعرُّضه لحكاية امرأة العزيز التى تدلهت فى هوى يوسف عليه السلام فلاكت النسوة سيرتها فأرسلت لهن وأَعْتَدَتْ لهن مُتَّكَأً...إلخ، وهو قوله جل شأنه: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ"، إذ قال داية: "يشير بالنسوة إلى صفات البشرية النفسانية من البهيمية والسبعية والشيطانية فى مدينة الجسد. {ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ}، وهى الدنيا، {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ}: تطالب عبدها، وهو القلب. كان عبدًا فى البداية لحاجته إليها للتربية، فلما كمل القلب وصفا عن دنس البشرية استأهل المنظر الإلهى، فتجلى له الرب تبارك وتعالى فتنوّر القلب بنور جماله وجلاله، فاحتاج إليه كل شىء، وسجد له حتى الدنيا. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، أى أحبته الدنيا غاية الحب لما ترى عليه آثار جمال الحق. ولما لم يكن لنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب كنّ يَلُمْنَ الدنيا على محبته فقلن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. {فَلَمَّا سَمِعَتْ} زليخا الدنيا {بِمَكْرِهِنَّ} فى ملامتها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}، أى الصفات، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا}، أى هيأت أطعمة مناسبة لكل صفة منها، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا}، وهو سكين الذِّكْر، {وَقَالَتِ} زليخا الدنيا ليوسف القلب: {ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}، وهو إشارة إلى غلبة أحوال القلب على صفات البشرية. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ}، أى وقعن على جماله وكماله، {أَكْبَرْنَهُ}: أكبرن جماله أن يكون جمال بَشَر، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا} أى جمال بشر. {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ}: ما هذا إلا جمال ملك كريم، وهو الله تعالى بقراءة من قرأ "مَلِك" بكسر اللام".
ومنه قول عبد الرزاق القاشانى الصوفى فى التفسير المنسوب لابن عربى عند تفسيره لقوله تعالى: "{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} (البقرة/ 126): "وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا الصدر، الذى هو حَرَم القلب، بلدًا آمنًا من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللَّعين، وتخطّف جن القوى البدنية أهله، وارزق أهله من ثمرات معارف الروح أو حِكَمه أو أنواره، {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ} مَن وَحَّدَ الله منهم وعَلِم المعاد. {قَالَ وَمَن كَفَرَ}، أى ومن احتجب أيضا من الذين سكنوا الصدر ولا يجاوزون حده بالترقى إلى مقام العين لاحتجاجهم بالعلم الذى وعاؤه الصدر، فأُمتّعه قليلا من المعانى العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالَم الروح على قدر ما تعيَّشوا به، ثم أضطره إلى عذاب النار الحرمان والحجاب، وبئس المصير مصيرهم لتعذبهم بنقصانهم، وتألمهم بحرمانهم". فالقاشانى، كما نرى، لا يقول فى أى من المرتين شيئا يتصل بالآية. إنما هى خواطر سنحت له، ويمكن غيره أن يقول فى ذلك السياق كلاما مختلفا، ويمكن مفسرا صوفيا ثالثا أن يقول كلاما لا صلة بينه وبين هذا أو ذاك... وهكذا دواليك بعدد كل من يريد أن يقول ما يعنّ له. بل إننا لو تأملنا مَلِيًّا ما قاله القاشانى فى الآية الأولى لوجدناه يخالف ما تقوله الآية. فإبراهيم يبتهل لربه، فيزعم القاشانى أن كلام إبراهيم هو عن صدره وشهواته. ومعنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام يمكن أن يتعرض لحرمان الله وعذاب ناره، أيا ما يكن معنى هذه النار. لكن القاشانى فى غمرة انشراحه بما ورد على ذهنه من خواطر قد أفسد تفسير الآية وقلب وجهها إلى قفاها، وهو يظن أنه يحسن صنعا!
ولنأخذ مثالا آخر من تفسير ابن عجيبة، إذ فسر على النحو التالى قوله تعالى عن موسى حين رأى فى سُرَاه نارا: "{إذ رأى نارًا} هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية، رآها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية. {فقال لأهله}: القوى النفسانية: {امكثوا}: اسكنوا ولا تتحرّكوا، إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها. {إني آنست نارًا}، أي رأيت نارًا {لعلي آتيكم منها بقبس}، أي هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنوّر وتصير ذاته فضيلة، {أو أجد على النار} من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق. أي أكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية. {فلما أتاها}، أي اتصل بها {نودي} من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية: {يا موسى إني أنا ربّك} محتجبًا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي تجليًا فيها، {فاخلع نعليك}، أي نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرّد عنهما فقد تجرّد عن الكونين. أي كما تجرّدت بروحك وسرّك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلتَ بروح القدس فتجرّدْ بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما: نعلين، ولم يسمهما: ثوبين، لأنه لو لم يتجرّد عن ملابستهما لم يتصل بعالم القدس، والحال حال الاتصال، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال".
ومثله أيضا هذه الإشارة لعلاء الدين السمنانى مكمّل تفسير "التأويلات النجمية" (ت 736هـ) حول ناقة ثمود فى سورة "الشمس": "{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ* إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا}، يعنى: إذ انبعثت اللطيفة وأسرعت إلى الطاغية انبعث أشقى قوى النفس على إثر اللطيفة الصالحة ليعقر ناقة شوقها. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ}، أى اللطيفة: {نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، أى احذروا عقر ناقة الشوق وشربها من عين الذكر. {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} بتكذيبهم صالح اللطيفة النفسية، وعقروا ناقة الشوق، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ}، أى أهلكهم الله، {فَسَوَّاهَا} أى عمَّهم بذلك العذاب. {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}: ولا يخاف القوى العاقرة فى عقر ناقة الشوق عاقبة الأمر، فأهلكهم بطغيانهم لرسوله وتكذيبهم إياه".
وفى مثل هذه الإشارات التى كثيرا ما تطيش سهام المفسر الصوفى أثناءها قد نجد معنى جميلا ومؤثرا فى حد ذاته رغم انعدام الصلة بينه وبين النص كما قلنا. فمثلا فى تفسير قوله تعالى: "قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ" فى الآية الرابعة من سورة "ق"، وهى الآية التى ترد على تكذيب الكفار بالبعث لكون الميت يتحول إلى تراب يختلط بالأرض وتضيع معالمه فى نظرهم، إذ يقولون عن البعث والمعاد: "هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ"، نرى القشيرى يدلى بإشارته قائلا: "{قَدْ عَلِمْنا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ}: في هذا تسليةٌ للعبد، فإنه إذا وُسِّدَ التراب، وانصرف عنه الأصحاب، واضطرب لوفاته الأحباب، فَمَنْ يَتَفَقَّدُه؟ ومَنْ يَتَعَهَّدُه وهو في شفير قبره، وليس لهم منه شيءٌ سوى ذكرِه، ولا أحدَ منهم يدري ما الذي يقاسيه المسكين في حُفْرته؟ فيقول الحقُّ سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا}. ولعلَّه يخبر الملائكة قائلاً: عَبدي الذي أخْرَجته من دنياه، ماذا بقي بينه وبين مَنْ يهواه؟ هذه أجزاؤه قد تَفرَّقَتْ، وهذه عِظامُه بَلِيَتْ، وهذه أعضاؤه قد تَفَتَّتَتْ! {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ}، وهو اللَّوحُ المحفوظ، أَثْبَتنا فيه تفصيل أحوالِ الخَلْقِ من غير نسيانٍ ، وبيَّنَّا فيه كلَّ ما يحتاج العبدُ إلى تَذكُّره". فالكلام فى الآية هو رد على الكفار المكذبين، لكن القشيرى يدلى بإشارته كما لو كان الكلام عن المؤمنين الذين يريد الله سبحانه أن يزيل وحشتهم فى قبورهم ويدخل السكينة عليهم ويشعرهم أنه معهم لم يتخلَّ عنهم. وشتان هذا وذاك! ذلك أن تذكر الله للكفار فى هذا السياق إنما هو عكس ما يقول القشيرى، إذ هو تذكُّر التعذيب والقمع والإخزاء والإهانة لا تذكُّر العطف والمرحمة والتسلية من هموم الوحشة والظلام! وحتى لو كان الكلام فى الآية عن المؤمنين، يظل كلام القشيرى مبتوت الصلة به، إذ تقول الآية إن الله يعلم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى أية وحشة أو تسلية على الإطلاق.
ومن هذا الوادى ما قاله القشيرى أيضا فى تفسير قوله عز وجل: "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا" (الإسراء/ 45)، إذ فسره على النحو التالى الذى يقلب معناه رأسا على عقب: "أدخلناك في إيواءِ حفِظْنَا، وضربنا عليك سرادقاتِ عصمتنا، ومنعنا الأيدي الخاطئةَ عنك بلطفنا"، مما يوحى بأن "الحجاب المستور" هو حجاب يمنع المشركين من الوصول إلى رسول الله عليه السلام بالأذى، مع أن المراد هو انغلاق عقولهم وقلوبهم فى وجه دعوة الحق، فإنهم حين يُتْلَى عليهم القرآن تَصَمّ عنه آذانُهم، وحين يسمعونه تنسد عن فهمه قلوبهم. وإن الآية التى تتلو ذلك لتقطع بأن هذا هو المعنى المراد بلاد أدنى شك، إذ يقول رب العزة والجلال: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا". ومثله كذلك تفسيره لقوله عز من قائل: "إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" (الشعراء/ 112)، إذ يقول: "وَجَدُوا السمع الذي هو الإدراك، ولكن عَدِمُوا الفَهْمَ، فلم يستجيبوا لِمَا دُعُوا إليه. فعند ذلك استوجبوا من الله سوء العاقبة"، وهو ما يفهم منه أن الكلام فى الآية الكريمة عن المشركين وصمم آذانهم واستغلاق أفئدتهم عن دعوة الإسلام وتدبرها، مع أنه عن الشياطين ومنعها من التنصت على ما يدور فى الملإ الأعلى. والدليل على ذلك هو الآيتان السابقتان، ونصهما: "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ". فآيتنا إذن تبين سبب عجز الشياطين عن التنزل بالوحى القرآنى الكريم، وهو أنهم عن السمع معزولون. والملاحَظ أن هاتين الآيتين قد سقطتا فلم تردا عند القشيرى فى التفسير: لا فى التفسير الورقى ولا فى التفسير الضوئى الموجود فى موقع "www.altafsir.com" التابع لــ"مؤسسة آل البيت الملكية الأردنية للفكر الإسلامى". وقد يفسر سقوطهما هذا الخطأ الذى وقع فيه القشيرى، إذ الكلام فى الآيات التى قبلهما عن المشركين، فربما ظن القشيرى أن هذه الآية هى أيضا عنهم. لكن هذا الافتراض رغم ذلك لا يشفع له فى هذا الخطإ، لأن كون المشركين معزولين عن السمع لا يمكن أن يكون معناه أنهم "وجدوا السمع، ولكن عدموا الفهم". ذلك أن المعزول عن السمع لا يمكنه البتة أن يسمع، ولا يقال عنه إنه يسمع لكنه لا يفهم. ومثلها قوله سبحانه على لسان الكفار أنفسهم فى الآية الأخيرة من النص القرآنى التالى يخاطبون الرسول مكايدين متعنتين: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ" (فُصِّلَتْ/ 2- 5)، فقد ذكروا الحجاب، وهو الحجاب الذى يقوم بينه وبينهم فيمنعهم من الإنصات والإيمان لا الحجاب الذى يقوم حائلا بينهم وبين إيذائهم له عليه السلام.
وقد يكون للإشارة الصوفية ارتباط بالآية، لكنه ارتباط عام تمام العمومية كما فى الإشارة التى ألحقها ابن عجيبة فى كتابه: "البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد" بقوله تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل/ 68- 69)، إذ قال: "الإشارة: إنما كان العسل فيه شفاء للناس لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء. فإذا كان بهذه المنزلة كان فيه شفاء للقلوب. كل من صحبه بصدق ومحبة شفاه الله، وكل من رآه بتعظيم وصدق أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف: هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيبُ منه شيئًا. يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء. قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي: قال أبو بكر الوراق: النحلة لما تبعت الأمر وسلكت سبيلها على ما أُمِرَتْ به جعل لعابها شفاء للناس. كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على مولاه جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق. ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد"، فكأنه اتخذ من الآية صورة كنائية وأجرى الإشارة مجراها، وإلا فلا صلة بين الاثنتين.
ومما يلاحظ على التفسيرات الصوفية أيضا أنها تستخدم أحيانا لغة العشاق والمحبين فى الحديث عن العلاقة بين الله وعباده. وفى الشعر الصوفى باب كبير يدور حول "الحب الإلهى" حيث يلتمس الصوفيون ألفاظهم وعباراتهم في قصائد الشعر الغزلى أو الخمرى كمجنون ليلى وجميل بثينة وأبى نواس، ومن ثم تتردد فى تلك الأشعار ألفاظ الحب و الصبابة والأسى والجوى والحان والألحان والطاس والخمر والمدامة والنشوة، حتى ليظن بعض القراء أن الألفاظ الغزلية إنما تدل على حب بشرى، أو أن الخمرة المذكورة هى الخمرة التى نعرفها، وهو ما أدى بابن عربى أن يضع بنفسه شرحا لديوانه: "ترجمان الأشواق" وأن يشرح صاحبُ "الرسالة القشيرية" الأمرَ قائلا إن الصوفية قد قصدوا "أن تكون ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، فهي معانٍ أودعها الله في قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم". ونحن نتساءل: ولماذا يحرص الصوفية على أن تكون ألفاظهم مستبهمة على من يسميهم القشيرى بــ"الأجانب" بدافع الغيرة على أسرارهم أن تشيع خارج نطاقهم، وكل إنسان كريم إنما يحرص بالعكس على أن يشاركه إخوانه فى الدين، بل فى الإنسانية كلها، ما يتعرض له من ألطاف وهدايات؟ كما أن كلامه يشى بغير قليل من الغرور والكبر، إذ يتحدث عن المتصوفة على أنهم قوم مختارون من قِبَل الله وأن غيرهم لا يمكنه الارتفاع إلى أوجهم، وهو ما قد يؤدى إلى فساد العمل وحُبُوطه لخلوّه من التواضع ولاطمئنان صاحبه دون أى أساس إلى أن عمله مقبول وأن أحدا آخر لا يستطيع الإتيان بمثله. كذلك فالعاقل إنما يعمل بكل جهده على تجنب ما يجلب عليه القيل والقال ويعرّضه للشبهات دون وجه حق، وبخاصة إذا لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك، وعلى وجه أخص إذا عرفنا أن هذا الطريق لم يعرفه الرسول الكريم بما فيه من تكلف شديد وفيهقة وتجرىء للناس على مقام الذات الإلهية بتصويرها على أنها ليلى أو هند وأن عيونها سهام قتالة وأنها تضن على الشاعر بالوصل واللقاء وتعذبه بالهجر والدلال، فضلا عن الحديث عن التوهج الروحى على أنه خمرٌ وسُكْرٌ وطاسٌ وحانٌ وما إلى ذلك.
ومن استخدام مفسرى الصوفية مفردات العشق فى حديثهم عن الحب بين الله وعباده قول القشيرى تعليقا على قوله تعالى فى أول سورة "الإسراء": "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا...": "ويقال: جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد... ويقال:
ليلةُ الوَصْــــلِ أَصْفَى مـــن شهور ودهور سواها".
وفى تفسير قوله سبحانه: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران/ 31) يقول القشيرى كذلك: "ويقال: شرط المحبة امتحاء كلّيتك عنك لاستهلاكك في محبوبك، قال قائلهم:
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وهذا فرق بين الحبيب والخليل: قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} (إبراهيم/ 36). وقال الحبيب: {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. فإن كان مُتَّبِعُ الخليل "منه" إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً... ويقال: في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة، وليست باجتلاب طاعة أو التجرد عن آفة لأنه قال: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له ذنوب كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله. ويقال: قال أولاً: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران. أولاً يحبهم ويحبونه، وبعده يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة، والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال. ومنه "حَبَبُ الأسنان"، وهو صفاؤها. والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر... والحبُّ حرفان: حاء وباء. والإشارة من الحاء إلى الروح، ومن الباء إلى البَدَن، فالمـُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه".
وفى تفسير قوله جل جلاله: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80) يقول القشيرى أيضا: "لم يَقُلْ: "وإذا أمرضني"، لأنه حفظ أدبَ الخطاب. ويقال: لم يكن ذلك مرضا معلوما، ولكنه أراد تمارضًا كما يتمارض الأحبابُ طمعا في العيادة. قال بعضهم:
إن كان يمنعكَ الوشاةُ زيارتي فادخُــــلْ عليَّ بِعَلَّةِ العُـــــوَّادِ
ويقول آخر:
يـــــــَوَدُّ بأن يمشِي سقيمًـــــا لَعَلَّهـــــــا إذا سَمِعَتْ منه بشَكْوى تُرَاسِلُه".
وقال الشيرازى البقلى (ت 404هـ) فى تفسير قوله عز وجل عن المؤمنين: "يحبّهم ويحبونه" (المائدة/ 54): "قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أن الله تعالى وبخ المفلسين من أهل الردة بأنْ ليس لهم فى محبة الله نصيب بارتدادهم عن الاسلام. أخبر أنه يجئ بقوم كان الله سبحانه قد أحبهم فى الازل، وهم بمحبته يحبونه. وهم يوافقون النبى صلى الله عليه وآله وأصحابه بشرط المحبة لأن من شرط المحبة الموافقة والطاعة. وبين أن من لم يكن مطيعا لم يكن محبا. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}. وفى الآية ذكر شرف الصحابة والتابعين من بعدهم. وبين تعالى أن المحبة من خواص صفته الأزلية... أحبهم بعلمه فى الأزل قبل إيجادهم باصطفائية، فكأنه أحب نفسه لأن كونهم لم يكن الا بكون وجوده، ووجوده سبب وجودهم، وهو تعالى أحب فعله. ومرجع فعل صفته، فكأنه أحب صفته. ومرجع صفته ذاته، فكأنه أحب ذاته. لم يكن الغير فى البين، فكان هو المحب، وهو المحبوب، وصفته المحبة. وهم يحبونه بتجلى الصفة فى قلوبهم، وهو مباشرة نور محبته فى فؤادهم. فلما تكحلت عيون أحبائهم بنور محبته فطابت مصدر أصل الصفة فوجدت مشاهدة الأزل عيانا بلا حجاب، فأحبتها بالمحبة الأصلية التى لا تتحول من مصرف الاصل أبدا. فإذا كان كذلك فالمحب والمحبوب والمحبة فى عين الجمع واحد، وهذا عبرة قوله سبحانه بلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث أخبر عن المحب المتحد المتصف بصفاته. قال فى اثناء الحديث: " فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ". وفى هذا المعنى أنشد الحسين بن منصور فقال:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا نحن روحـــــان حللنا بدنــــا
فــــإذا أبصــــــرتنى أبصــــرته وإذا أبصـــــــــرته أبصــرتنـــا
قال الواسطى فى هذه: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته لأن الهاء راجعة الى الذات دون النعوت والصفات. قال السلامى: ... الحب شرطه أن يلحقه سكرات المحبة. فاذا لم يكن كذلك لم يكن فيه حقيقة. وقال يوسف بن الحسين: المحبة الايثار. وأنشد فى معناه الحسين بن أحمد الرازى وأنشد أبو على الرودبارى لنفسه:
ســـــامرت صفو صبابتى أشجانــها حـــــرق الهــــوى وغليــــله نيرانــــها
وسألت من فرط الصبابة. قيل لى: إيثار حبــــك. قلت: خذ بعنانها
كلٌّ لـــه وبـــــه ومنـــــه. فأيــــــــــن لى وصف فأوثـــره فطـــاح لسانـــها؟
فالمحبة ارتياح الذات بمشاهدة الذات. وقيل: المحبة هى أن يصير ذات المحب صفة المحبوب"
وقال البقلى أيضا فى قوله جل شأنه عن موسى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي": "قال السرى السقطى قدَّس الله روحه: ألقى عليه لطفا من لطفه استجلب به قلوب عباده. وقال ابن عطا: ألقيت عليك محبة منى لك، فمن رأى فيك محبتى تلك أحبك بحبي لك. وقال فارس: زيّنتُك بملاحة من عندى حتى لا تصلح لغيري، ويحبك كل من يرى تلك الملاحة فيك. فقيل: أليس يوسف أُعْطِىَ شطر الحسن ولم يكن يستوجب المحبة؟ فقال: الحسن لا يوجب المحبة، والملاحة توجب المحبة. ألا ترى النبى صلى الله عليه سلم كان عليه ملاحة ممزوجة بهيبة؟ قال بعضهم: غنج بعينك لا يراك أحد إلا رق لك ومال إليك... ثم ذكر سبحانه عظم منته عليه بقوله: {وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، أى خمرت سرك بنور سرى، وقلبك بنور نورى، وعقلك بسنا قدسي، وروحك بجمال وجهي، وألبستك نور محبتى، وكسوتك كسوة ربوبيتى لتكون مشكاة أنوار صفاتى وذاتى، أتجلى من وجهك بالهيبة للعالمين، وخصصتك بمخاطبتى وسماع كلامى، فإن في زمانك ليس فى العالم سواك محل وقوع نور تجلياتي وكشوف أسرار سري، ولتكون لنفسى خاصا بالمحبة والشوق والعشق لا لغيرى. وأنا غيور عليك لا يراك أحد بعين المحبة الا ابتليته، ولا ترى أحدا بعين المحبة إلا ابتليتك حتى لا يكون فيك نصيب لأحد غيرى".
وفى تفسير ابن عجيبة لقوله سبحانه: "والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله" (البقرة/ 165) نراه يقول: "قال سعيد بن جبير: إن الله تعالى يأمر يوم القيامة مَنْ عَبَد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها. ثم يقول للمؤمنين بين يدي الكفار: إن كنتم أحبائي فادخلوا. فيقتحم المؤمنون النار، وينادي مُنَادٍ مِنْ تحت العرش: {والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله}. وفي ذلك يقول ابن الفارض:
أحِبّايَ أنتُم: أحْسَنَ الدهرُ أَمَ أسَــا فكونوا كَمَا شِئْتُم. أَنا ذلك الخِلُُّ
وقال أيضا:
لَو قالَ تِيهًا: قِف عَلَى جَمْرِ الغَضَــا لوقفــتُ مُمْتثــــلاً، ولَمْ أَتـــَـــوقَّفِ
وقال آخر:
ولَو عَذَّبْتَـــــــني في النــــــارِ حتْمًـــــا دخلتُ مُطاوعًا وسْطَ الجَحِيمِ
إذا كَانَ الجَحِيــــــمُ رِضَــــاك عَـنِّي فَمَـــا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيـــــمِ
الإشارة: المحبةُ مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة. وقال الشِّبْلِيّ: أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك. والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّنًا بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته. والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتَح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيُكْسَى حلل التقريب على بساط القُرْبة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيّبات العلوم. فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون".
وفى تفسير إسماعيل حقى عند تعرضه لقوله عز شأنه: "فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ* إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى": "يقول الفقير: النور للمحبة، والنار للعشق. وعندما كمل وامتلأ نور محبة موسى وتم واشتعلت نار عشقه وشوقه تجلى الله له بصورة ما فى باطنه، وذلك لأنه لما وُلِد له وَلَد القلب الذى هو طفل خليفة الله فى أرض الوجود فى ليلة شاتية هى ليلة الجلال ظهر له نور ذاتى فى صورة نار صفاتية لأن الصورة إنما هى للصفات، واحترق جميع أنانيته، وحصل له التوجه الوحدانى".
وفى ذات التفسير يقول حقى لدن تناوله قوله عز وجل: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 80): "وقال بعضهم واذا مرضت بداء محبته وسقمت بسقم الشوق الى لقائه ووَصْلَته فهو يَشْفِينِ بحسن وصاله وكشف جماله". ولا شك أن القراء قد لاحظوا كيف تبرز فى هذه النصوص ألفاظ العشق والشوق والهيام والمحبة والغيرة والمراقبة والوصل واللقاء والتمارض والسقم والبكاء والزيارة واللطف والملاحة والزينة والحسن والجمال والمعانقة والعرائس والأبكار والثيبات، فضلا عن الأشعار العشقية التى يستشهدون بها على ما يقولون: وبعضها أشعار صوفية، وبعضها أشعارُ عشاقٍ عاديين يتغزلون فى النساء. وكثير من المتصوفة، كما هو معروف، إذا أنشدوا أشعارا فى الحب الإلهى قالوا ما يقوله كل محب فى محبوبته وفى وصلها وهجرانها ودلالها وسهام لحاظها والخمرة التى يشربها من نظرات عينيها. ومن هؤلاء عبد القادر الجيلانى والحلاج والسهروردى وابن الفارض سلطان العاشقين على سبيل المثال ليس إلا.
على أن كلام مفسرى الصوفية عن الذات الإلهية لا يقف عند هذا الحد، بل كثيرا ما يستعملون ألفاظ وُصّاف الخمر من الشعراء للتعبير بها عن سلطان الوجد كما سبق أن أشرنا. ومن ذلك مثلا ما قاله ابن عجيبة فى "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" عند تفسيره قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة/ 219)، وهذا نص ما قال: "الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نورًا يميز بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع. ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية، وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضًا بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية. فسمى الصوفية هذه الغيبة: "خمرة" لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنَّوْا بها في أشعارهم ومواجيدهم. قال ابن الفارض رضي الله عنه:
شَرِبْنَا على ذِكْــر الحبيبِ مُدامَـــــةً سَكرنَا بها من قبل أن يُخْلَقَ الكَرْمُ
ثم قال:
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْـــرُه وليسَ لـــهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْــــمُ
وقلت في عينيتي:
وَلِي لَوْعَةٌ بالــــرَّاحِ إِذْ فِيــــــه رَاحِتــِي وَرَوْحِــــي ورَيْحَــانِي، وخيرٌ واســــِعُ
سَكرْنَــــا فهِمْنَـــــا في بَهــــــاءِ جَمَـــالِه فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُــورُ ساطعُ
والميسر في طريق الإشارة: هو الغِنَى الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغِنَى بالله عن كل ما سواه.{قل فيهما إثم كبير}، أي في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما: فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا:
لَوْ كَان لي مُسْعِــــــــدٌ يُسعِــــدُني لمَا انتظــــرتُ لشُــربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه فاشْــرَب ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ عــلى صَهْبَاءَ صافيــةٍ خُذِ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض:
وقالُوا: شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ، وإنمــا شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر:
طـابَ شُرْبُ المـدامِ في الخَلَواتْ فاسْــــقِــــني يا نديــــمُ بالآنِيَــاتْ
خْمْــرَةٌ تركُهـــــا علينــا حــــرَامٌ ليـــسَ فيهـــا إثــــمٌ ولا شُبُهَـاتْ
عُتِّقَتْ في الدِّنـان مـِنْ قَبْـلِ آدمْ أصلُهــــا طيّـــبٌ مــــن الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أَيُّهَــا الفقيــه وقــلْ لي: هـل يجوز شُرْبُها على عَرَفـاتْ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب. يعني: في الخمرة الأزلية والغِنَى بالله. وقوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} خطاب على قدر ما يفهم الناس، لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خواص الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق".
وفى قوله عز شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة/ 90) يقول القشيرى ضمن تفسيره له: "ويقال: لم يحرّم عليه الشرابَ في الدنيا إلا وأباح له شرابَ القلوب. فشراب الكبائر محظور، وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حَظِىَ القوم بالشراب، وحيثما كان الشرابُ كان السُّكْر. وفي معناه أنشدوا:
فما مــــلَّ ساقيها ومـــا ملَّ شارب عقـــــــــار لحاظٍ كأسه يسكر اللُّبَّــــا
فصَحْوُك من لفظي هو الوصل كله وسُكْرُك من لحظي يبيح لك الشربا
وحُرِّم الميسر في الشرع، وفي شريعة الحب القوم مقهورون. فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة في شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القُرْعة... قال تعالى{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} (الصافات/ 141)".
وفى التفسسير المنسوب لابن عربى نقرأ فى شرح قوله تعالى: "يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ* لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ" (الصافّات/ 45- 47) ما نصه: "{يطاف عليهم بكأسٍ من} خمر العشق {مَعِين}: مكشوف لأهل العيان، إذ دَنُّه المعاينة، فكيف لا يعاين؟ {بيضاء} نورية من عين الأحدية الكافورية، لا شَوْب فيها ولا مزج من التعينات.{لذّةٍ للشاربين لا فيها غَوْلٌ} يغتال العقل لأنهم أهل صحو أخلصهم الله من الشوائب والحجاب فلا ينكر لهم ،{ولا هُمْ عنها يُنْزَفون} بذهاب العقول، وإلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء".
وفى "البحر المديد" لابن عجيبة نقرأ فى تفسير قوله تعالى: "{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ* لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} (الواقعة/ 18- 20) ما يلى: "يُسْقَوْن بأكوابٍ وأباريق من عِلْم الطريق وكأس من خمر الحقيقة فلا يتصدّعون من أجلها، إذ ليست كخمر الدوالي. ولا يُنْزَفون: لا يَسْكَرون سُكْر اصطلام، وإنما يسكرون سُكرًا مشوبًا بصَحْوٍ، إذ كان الساقي عارفًا ماهرًا... وكان بعض أشياخنا يقول: خمرة الناس في الحضرة، وخمرتنا في الهدرة، أي المذاكرة". وفى هذه النصوص نرى كيف تحولت مشاعر القوم إلى خمر وسكر. والمقصود، حسب قولهم، خمر العشق الإلهى وسكره.
وفى التفسيرات الصوفية تقابلنا أيضا مصطلحات القوم من مثل "المقام" و"الشهود" و"الحضرة". و"المقام"، كما جاء فى "الرسالة القشيرية"، هو ما يتحقق به العبد بمنازله من الآداب، وما هو مشتغل بالرياضة له. وشرطه أن لا يرتقى من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام، فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكُّل له لا يصح التسليم، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. أما الحال فهو معنى يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب اكتساب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو اهتياج. فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. ثم هناك الغَيْبة والحضور والشهود والحضور: فالغَيْبة هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه ثم يغيب إحساسه بنفسه وبغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب. ويقال لرجوع العبد إلى إحساسه بأحوال نفسه وأحوال الخلق: إنه رجع عن غيبته. فهذا يكون حضورا بخلق، والأول يكون حضورا بحق. وقد تختلف أحوالهم في الغيبة: فمنهم من لا تطول غيبته، ومنهم من تدوم غيبته. ورُوِيَ عن علي بن الحسين زين العابدين أنّه كان في سجوده فوقع حريق في داره فلم ينصرف عن صلاته، فسئل عن حاله فقال: "ألهتني النار الكبرى عن هذه النار". ولديهم كذلك المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة: فالمحاضرة حضور القلب، ثم بعدها المكاشفة، وهي حضوره بنعت البيان، ثم المشاهدة، وهي الحضور من غير بقاء تهمة. ويقال: المشاهدة ما قاله عمرو بن عثمان المكي رحمه الله من أنّه تتوالى أنوار التجلي على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدر اتصال البروق. ومن الواضح أن القوم يبالغون فيذكرون أمورا لم يكن يعرفها النبى والصحابة، إذ ما معنى أن الصلاة مثلا تستولى على كيان الصوفى حتى لتشبّ النار فى داره فلا يشعر ولا يبالى لأنه ليس هناك. ترى هل صلاة المتصوفة أعمق من صلاة الرسول والصحابة، وقد كانوا يصلون صلاة الخوف، وهى التى تصلَّى أثناء الحرب، ويؤديها المصلون، وأعينهم وأيديهم على السلاح، وطائفة منهم واقفون فى الخلف ينظرون إلى الطريق، بحيث إذا أراد العدو مباغتتهم كانوا له بالمرصاد ولم يتمكن من أخذهم على غرة؟ وهناك حديث عن ابن عباس يروى فيه ذلك الصحابى الجليل كيف كان فى ضيافة النبى وخالته ميمونة أم المؤمنين ذات ليلة، فقام النبى يصلى فصلى وراءه ابن عباس عن شماله، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن مد يده وأخذه من أذنه وأقامه عن يمينه، كل ذلك وهو يصلى. وهذه إحدى روايات ذلك الحديث، وهى فى "صحيح مسلم": "بِتُّ ليلةً عند خالتي ميمونة بنت الحارث. فقلت لها: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي، فجعلني من شقه الأيمن. فجعل إذا أغفيتُ يأخذ بشحمة أذني. قال: فصلى إحدى عشرة ركعة. ثم احْتَبَى حتى إني لأسمع نَفَسه راقدا. فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين". وعن أمير المؤمنين عمر، رضى الله عنه، أن أمور المسلمين لم تكن تتركه حتى فى صلاته، وذلك من شدة اهتمامه برعيته وخوفه عليهم وانشغاله بتحسين أحوالهم ورغبته فى تجنيبهم الأذى والضرر. ومعلوم أن التركيز مائة فى المائة فى الصلاة غير مطاق فى العادة، وعلى الإنسان أن يبذل جهده فى ذلك التركيز، وأن يسدد ويقارب. أما أن يتصور أنه قادر فى كل الظروف أن يبعد عن ذهنه كل ما هو خارج الصلاة فهذا أمر لا أتصوره سهلا. ذلك أن الإنسان حينما يصلى فإنما يصلى فى سياق بشرى خاص، لا فى عالم الملكوت: فحرارة الجو أو برودته، وضيق المكان أو سعته، وهدوء الناس أو ضجتهم، وسكينة المصلى أو قلقه، وجوعه أو شبعه، واستعجاله أو رَيْثه، وشعوره بالأمن أو بالخوف...، كل ذلك يؤثر فى نفسيته. ثم يتفاوت المصلون فى درجة هذا التأثير، أما أن يعلو المصلى تماما فوق كل تأثير فهذا ما لا أدرى كيف يكون. ومن هنا فإنى لا أستطيع أن أفهم كيف أن أحد المتصوفة، عندما تعيّن قطع رجله، طلب منهم أن يمهلوه حتى يدخل فى الصلاة، ثم فليبتروا رجله حينذاك، فإنه لن يشعر بشىء! وقد كنت أستطيع أن أتفهم ذلك لو كان الأمر يتعلق بألم بسيط غير متوقَّع من قِبَل المصلى، أما أن يكون معلوما للمصلى سلفا، وأن يكون ناشئا من بتر رجله، بل أن يكون هو الذى اقترح توقيت البتر، فهذا ما لا قِبَل لى بفهمه!
وعودًا إلى ما نحن فيه من تردد المصطلحات الصوفية فى تفاسير القوم وسَوْق الشواهد على ذلك نشير إلى ما جاء فى تفسير القشيرى عند تناوله قوله سبحانه: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الصافات/ 99)، إذ نقرأ ما يلى: "يقال إنه طلبَ هدايةً مخصوصةً لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه. ويحتمل أنه كان صاحبَ هدايةٍ في الحال، وطلبَ الهداية في الاستقبال، أي زيادةً في الهداية. ويقال: طلبَ الهداية على كيفية مراعاة الأدَب في الحضور. ويقال: طلبَ الهداية إلى نفسه لأنه فقدَ فيه قلبه ونفسه، فقال: "سيهديني إليَّ لأقومَ بحقِّ عبُوديته"، فإن المستَهْلَكَ في حقائق الجمع لا يصحُّ منه أداء العبادة إلا بأن يُرَدَّ إلى حَالة التفرقة والتمييز. ومعنى {إِلَى رَبِّى} أي إلى المكان الذي يُعْبَدُ فيه ربي. ويقال: أخبر عن إبراهيم أنه قال: {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى}، فأخبر عن قوله. وأخبر عن موسى فقال: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنا} (الأعراف/ 143). وأخبر عن نبينا فقال: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء/ 1)، فأخبر عن ذاته سبحانه. وفصل بين هذه المقامات: فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعين الجمع، ونبينا كان بعين جمع الجمع".
وفى "عرائس البيان في حقائق القرآن" للشيرازى البقلى لدن تفسيره قوله عز شأنه: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (الإسراء/ 79) نقرأ: "قال الأستاذ: المقام المحمود هو المجالسة فى حال الشهود. ويقال: هو الشفاعة لاهل الكبائر. ثم علَّمه دعاء الوسيلة منه إليه بقوله: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، أى أدخلنى فى بحر قِدَمك بنعت الفناء والتجريد عن غيرك وصدق المحبة لأن هناك مدخل الصدق حيث لا يبقى منى شئ غيرك. وأخرجنى من بحر الفناء بنعت البقاء حتى أكون باقيا معك فى مشاهدتك، فإن هناك مخرج صدق حيث لا يبقى معى غيرك. وألبِسْني من أنوار سلطان عزتك قميص الاستقامة حتى لا أكون فانيا فيك. وهذا معنى قوله: {وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}. وأيضا أدخلنى مدخل صدق العبودية، وأخرجنى مخرج صدق الربوبية، واجعل لى من لدنك قوة الاتصاف والاتحاد من سلطان كبريائك".
وفى تفسير قوله تعالى: "وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم" (الصافات/ 164) يقول البقلى أيضا: "قوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}: أهل البدايات فى مقام الطاعات، والأوساط فى المقامات مثل التوكل والرضا والتسليم، والمحبون فى مقام الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة فى مقام المعارف ينتقلون فى المشاهدة من مقام إلى مقام. ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون فى بحار الذات والصفات، وليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف حيث أفناهم قهر الجلال والجمال والعظمة والكبرياء عن كل ما وجدوا من الحق فبَقُوا فى الفناء إلى الأبد. قال ابن عطاء: لك مقام المشاهدة، ولهم مقام الخدمة. وقال جعفر: الخلق مع الله على مقامات شتى. مَنْ تجاوز حده هلك: فللأنبياء مقام المشاهدة، وللرسل مقام العيان، وللملائكة مقام الهيبة، وللمؤمنين مقام الدنو والخدمة، وللعصاة مقام التوبة، وللكفار مقام الطرد والغفلة واللعنة. قال الحسين: المريدون فى المقامات يجولون من مقام إلى مقام، والمرادون جاوزوا المقامات إلى رب المقامات. وقال الجنيد: المقامات معلومة كما ذكره الله تعالى، وأرباب الحقائق يأنفون من المعلومات والمرسومات لأنهم فى قبضة الحق وأمره".
وفى تفسير ابن عجيبة: "ولعل قولهم: {وما منّا إلا له مقام معلوم} إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرْب ومقامات اليقين. وقولهم: {وإنا لنحن الصافُّون} إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات. وهم طبقات: منهم هائمون مستغرقون في الشهود، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم".
ويقول إسماعيل حقى: "وقال السدى: {إلا له مقام معلوم} فى القُرْبة والمشاهدة. وقال أبو بكر الوراق قُدِّسَ سِرّه: {إلا له مقام معلوم} يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضى... وفى "التأويلات النجمية" يشير إلى أن للملَك مقاما معلوما لا يتعدى حده، وهو مقام الملَك الروحانى او الكروبى. فالروحانى لا يَعْبُر عن مقامه الى مقام الكروبى، والكروبى لا يقدم على مقام الروحانى، فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم، ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم. ولهم بهذا فضيلة على إنسان بقى فى أسفل سافلين فى الدرك الأسفل من النار وللذين عبروا منهم عن أسفل سافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى أعلى عليين، بل ساروا الى مقام قاب قوسين، بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم. ولهذا أُمِروا بسجدة أهل الفضل منهم: فقَعُوا له ساجدين. فللإنسان أن يتنزل من مقام الإنسانية إلى دركة الحيوانية كقوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل}، وله أن يترقى بحيث يعبر عن المقام الملكى. ويقال له: تخلقوا بأخلاق الله. وقال جعفر رضى الله عنه: الخلق مع الله على مقامات شتى، من تجاوز حده هلك: فللأنبياء مقام المشاهدة، وللرسل مقام العيان، وللملائكة مقام الهيبة، وللمؤمنين مقام الدنو، وللعصاة مقام التوبة، وللكفار مقام الغفلة والطرد واللعنة". وإذا كان لا بد من كلمة نقولها هنا فهو أننى لا أعرف كيف عرف أولئك الصوفيون عدد المقامات والأحوال التى يمرون بها، وكيف حددوها وفرقوا بينها، وهى حالات وجدانية؟ ثم كيف عرفوا مقامات الأنبياء والملائكة، وهم ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك؟ إنهم، فى هذه المقامات وكلامهم عنها، يبدون وكأنهم بسطوا بين أيديهم خريطة مدينة من المدن يعلمونها تمام العلم فعرفوا شوارعها وحاراتها وطرقها، وإلام يؤدى هذا، ومن أين يبتدئ ذاك، وأين يشتبك هذان الشارعان، وأين يفترقان...إلخ. كذلك أخشى أن يكون فيما أشمه هنا رائحة اجتراء على مقام الألوهية. ذلك أنه لا يحق لأحد من البشر أن يصنف الناس والرسل والملائكة حسب درجة القرب أو البعد من الله، بل ينبغى أن نلزم حدودنا مع الله جل وعلا وأن نتحلى بالتواضع ونعرف أننا مجرد عبيد وعباد له سبحانه لا يعرفون شيئا عن مصيرهم ولا مكانتهم عند الله، فكيف نجترئ على تقسيم الآخرين من إنس وملائكة إلى جماعات وفئات فى ميدان الرقى الروحى؟
وفى رؤية الله نطالع ما يلى فى "حقائق التفسير" للسلمى فى تفسير قوله جل جلاله: "لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ" (الأنعام/ 103): "قال أبو يزيد رحمة الله عليه: إن الله احتجب عن القلوب كما احتجب عن الأبصار. فإن أُطِيعَ تجلَّى، فالبصر والفؤاد واحد. وقيل معناه: إن الله عز وجل يَطْلُع على الأبصار بالتجلى لها، لأن الأبصار تسمو إليه". وهو ما يفيد بصريح العبارة أن رؤية الله ممكنة ما دام الإنسان مطيعا له سبحانه رغم أن الآية قد نفت تلك الرؤية أيا ما يكن الرائى: مطيعا كان أو عاصيا. وهناك حديث عن عائشة رضى الله عنها عن معراج الرسول الكريم إلى السماوات العُلاَ وبلوغه سِدْرَة المنتهى جاء فيه على لسان الراوى: "كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفِرْيَة. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرْيَة. قال: وكنت متكئا فجلستُ. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تُعْجِليني. ألم يقل الله عز وجل: "ولقد رآه بالأفق المبين" (التكوير/23)، "ولقد رآه نزلة أخرى" (النجم/ 13)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء سادًّا عظمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم" (الشورى/ 51)؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفِرْيَة. والله يقول: "يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أُنْزِل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بَلَّغْتَ رسالته" (المائدة/ 67). قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفِرْيَة. والله يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغَيْبَ إلا الله" (النمل/65)". فإذا كان هذا حال النبى عليه الصلاة والسلام، فما بالنا بمن هو أدنى منه بمراحل؟ بل إن علماء الحديث متفقون على أن الحديث القائل بأن الرسول عليه السلام رأى ربه هو حديثٌ "موضوعٌ كَذِب".
أما إسماعيل حقى فيفصل القول فى تلك القضية، إذ يرى أن الإدراك، وإن كان مستحيلا لأنه يعنى الإحاطة بكُنْه الله، فإن الرؤية ممكنة. ولم يفرق بين رؤيته تعالى فى الدنيا ورؤيته فى الجنة، بل أطلق القول إطلاقا. كما حمل على المعتزلة لنفيهم الرؤية واتهمهم بالمبالغة فى ذلك. وهذا نص كلامه: "اعلم ان الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشئ والإحاطة به، والرؤية المعاينة. وقد تكون الرؤية بلا إدراك لأنه يصح أن يقال: رآه، وما أدركه. فالإدراك أخص من الرؤية، ونَفْىُ الأخصّ لا يستلزم نَفْىَ الأعم. فالله يجوز أن يُرَى من غير إدراك وإحاطة كما يُعْرَف فى الدنيا ولا يحاط به. يعنى أن معرفة الله تعالى ممكنة من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية، إذ منه ما لا تفيه الطاقة البشرية، وهو ما وقع به الكُمَّل فى ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة وقالوا: ما عرفناك حق معرفتك. فذات الله تعالى من حيث تجرده عن النِّسَب والإضافات لا تُدْرَك. ولهذا سئل النبى عليه السلام: هل رأيتَ ربك؟ قال "نور أَنَّى أراه؟". أى النور المجرد لا يمكن رؤيته. وكذا أشار الحق فى كتابه لما ذكر ظهور نوره فى مراتب المظاهر. قال الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} (النور/35). فلما فرغ من ذكر مراتب التمثيل قال: {نور على نور} (النور/ 35). فأحد النورين هو الضياء، والآخر هو النور المطلق الأصلى. ولهذا تمم فقال: {يهدى الله لنوره من يشاء} (النور/ 35). أى يهدى الله بنوره المتعيِّن فى المظاهر والسارى فيها إلى نوره المطلق الأحدىّ، فإنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات. فأما فى المظاهر ومن ورائية حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل:
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجههــــا فإذا اكتست ببريـــــقِ غيمٍ أمكنـــا
وإلى مثل هذا أشار النبى صلى الله عليه وسلم فى بيان الرؤية الجنانية المشبَّهة برؤية الشمس والقمر فأخبر عن أهل الجنة أنهم يَرَوْنَ ربهم وأنه ليس بينه وبينهم حجاب إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عَدْن. فنبَّه صلى الله عليه وسلم على بقاء الرتبة الحجابية، وهى رتبة المظهر. وتحقيقه أن أهل الاعتزال بالغوا فى نفى الرؤية". لكن كيف فات حقى أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: "لن ترانى"، ثم علق رؤيته له على أمر مستحيل، وهو استقرار الجبل لدن تجليه سبحانه له، ثم لما تجلى عز وجلّ للجبل لم يستقر الجبل، بل أصبح دَكًّا، وفضلا عن ذلك خر موسى صعقا! كما أن عائشة نفت نفيا قاطعا أن يكون الرسول قد رأى ربه. وفوق هذا فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله مستنكرا: نورٌ أنى أراه؟ فكيف بعد ذلك كله يقول قائل إن رؤية الله ممكنة؟ وهذا فى الدنيا، أما فى جِنَان الـخُلْد فقد قال جل جلاله: "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة* إلى ربها ناظرة"، فالأمران إذن مختلفان. ذلك أننا سيعاد خلقنا ككل شىء فى الكون من جديد، وعلى وضع آخر يختلف عن وضع خلقنا هنا، هذا الوضع الذى يقوم حائلا بيننا وبين إمكان النظر إليه سبحانه ورؤيته.
وعلى درب السلمى وحقى يسير ابن عجيبة، إذ كتب فى تفسيره: "يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا تدركه الأبصار}، أي لا تحيط به ولا تناله بحقيقته. وعن ابن عباس: "لا تدركه في الدنيا، وهو يُرَى في الآخرة". ومذهب الأشعرية أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً لأن موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال. وأحالته المعتزلة مطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًّا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا: "ما كل بصر يدركه"، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي". ويزيد الأمر إيضاحا عند تعرضه لقوله تعالى فى الآيتين 22- 23 من سورة "القيامة": "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ"، إذ قال: "ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصِّصة لقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام/ 103)، أي لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث: "فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها". المراد بالصورة: الصفة. والمعنى أنهم يرونه ثانيًا على ما يعرفونه من صفاته العلية. وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال". ولى تعليق على قول البيضاوى إنه لو كانت رؤية الله أمرا محالا ما سألها موسى عليه السلام، وهو أن هذا الطلب لا يَقْدَح فيه صلى الله عليه وسلم لأن طلبه رؤية ربه ليس أمرا منافيا للخلق الكريم ولا للإيمان السليم، بل هو أمر مبعثه الفضول المشروع والمفهوم بسبب حبه الجارف لربه وتطلعه لرؤيته، وبخاصة أنه عز شأنه قد كلم موسى تكليما، فازداد تشوقه عليه السلام لرؤيته سبحانه، وكان عليه السلام لا يعرف أنها أمر مستحيل فى الدنيا بسبب التركيبة البشرية التى نحن عليها هنا، وليس فى هذا ما يعيبه فى شىء، إذ هو أمر غيبى لا يستطيع معرفته أحد إلا عن طريق الوحى، فبين الله له ذلك على نحو عملى أدى به إلى أن يقول: "تبتُ إليك"، وهى كلمة تعنى أنه ما كان ينبغى له أن يطلب رؤية ربه لأنها غير ممكنة، وإلا فما معنى التوبة؟ الواقع إنه لعجيب أن يقول البيضاوى إن رؤية الله ليست أمرا محالا، ودليله أن موسى طلبها، مع أن الله قد علق رؤية موسى له سبحانه على مستحيل، وهو بقاء الجبل مستقرا فى مكانه، هذا البقاء الذى لم يتحقق. وانضاف إلى ذلك خرور موسى صعقا. فماذا كان يريد البيضاوى أكثر من ذلك كى يقرّ باستحالة رؤية الله فى الدنيا؟ ثم أيمكن أن يُرَى الله فى الدنيا، ثم يحرم سبحانه نبيَّه الكليم هذا الشرف، وبالذات بعد أن طلبه تشوقًا لرؤية ربه؟ أيكون السادة الصوفية أكرم على الله من نبيه وكليمه موسى عليه السلام؟ ولقد ندّت عن القشيرى عبارة خطيرة يُفْهَم منها أنهم فعلا يَرَوْن أنفسهم كذلك، إذ قال إن موسى حين تجلى ربه للجبل عند طلبه عليه السلام منه سبحانه أن يراه "خرَّ موسى صَعِقًا، وكان يفيق والملائكة تقوله له: يا ابن الحيض، أمثلك مَنْ يسأل الرؤية؟". ونحن بدورنا نسأل: إذا كان موسى ابنا من أبناء الحيض، وهو فعلا كذلك، فهل السادة الصوفية أبناء القشدة والعسل؟ إن ما قاله القشيرى كلام لا يليق، إن لم نقل فيه أكثر من ذلك. ومثل حقى والسلمى فى هذا الرأى البقلى، الذى نفى الإدراك، لكنه نقل مع ذلك كلام أبى يزيد البسطامى فى إمكان تجلى الله للفؤاد والبصر جميعا كما رأينا فى تفسير السلمى.
فإذا انتقلنا إلى القشيرى فى "لطائف الإشارات" وابن عربى فى التفسير المنسوب إليه (أو فلنقل: القاشانى) وجدنا أنهما، عند تعرضهما لقوله تعالى فى آية سورة "الأنعام" المذكورة آنفا، قد نفيا الإدراك، إلا أنهما لم يتعرضا للرؤية، فخرجا هنا بالصمت عن "لا" و"نعم". قال الأول: "قدَّسَ اللهُ الصمديةَ عن كل لحوقٍ ودَرَك، فأنَّى بالإدراك، ولا حدَّ له ولا طرف؟". وقال الثانى: "{لا تدركه الأبصار}، أي لا تحيط به لأنه اللطيف الجليل عن إدراكها. وكيف تدركه وهي لا تدرك أنفسها التي هي نور منه؟". إلا أن القشيرى مثلا، فى تفسيره الآية الثالثة من سورة "الدخان"، قد قال ما نصه: "وأشدُّ الليالي بركةً ليلةٌ يكون العبدُ فيها حاضرا بقلبه مشاهدا لربَّه، يتَنَعَّمُ فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القُرْبَة". كذلك فى تفسيره للآية التاسعة عشرة من سورة "محمد" نراه يقول: "فالعبد يعلم أولاً ربَّه بدليلٍ وحُجَّةٍ. فعِلْمُه بنفسه كَسْبيٌّ، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي. ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمُه بنفسه لغَلَبَاتِ ذِكْرِ اللَّهِ على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار عِلْمُه في تلك الحالة ضروريا، ويقلُّ إحساسُه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ، وكأنه غافلٌ عن نفسه أو ناسٍ لنفسه".
أما بالنسبة لرؤية الآخرة عند مفسِّرى الصوفية فيقول التسترى (ت 283هـ) مثلا فى تفسير الآيتين 22- 23 من سورة "القيامة": "قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. قال: من قتله حُبُّه فدِيَتُه رؤيته. ثم قال: جزاء الأعمال الجنة، وجزاء التوحيد النظر إلى الحق عزَّ وجلَّ". ويورد السلمى فى تفسيره للآيتين هذه العبارة المنسوبة لأبى سلميان الدارانى، وهى كاشفة: "قال أبو سليمان الدارانى: لو لم يكن لأهل المعرفة سرور إلاَّ قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لاكتفَوْا به. وأى سرور أتمّ من وصول المحب إلى حبيبه، والعارف إلى معروفه؟". وفى "لطائف الإشارات" للقشيرى: "{نَّاضِرَةٌ}: أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إلى ربها ناظرة، أي رائية لله. والنظر المقرون بـ"إلى" مضافًا إلى الوجه لا يكون إلاَّ الرؤية". ويقول ابن عجيبة فى تفسيره: "{إِلى ربها ناظرةٌ}، أي مستغرِقة في مشاهدة جماله فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظر على قدر حضوره هنا ومعرفته".