قوله تعالى: { وَمَنْ عِندَهُ }: العامَّة [على فتح ميم] " مَنْ " ، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و { عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و " عِلْمُ " فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ لـ " مَنْ ".
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: " ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ ". واعترض الشيخُ عليه بأنَّ " مَنْ " لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } جعلوا " مِنْ " حرفَ جرّ، و " عندِه " مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و " عِلْم " مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } يجعلون " مِنْ " جارَّةً، و " عُلِمَ " مبنياً للمفعول، و " الكتابُ " رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد " عُلِّم ". والضمير في " عنده " على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً " وبمَن " بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة.
{ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام يهدم ما قبله " أنه يرفع ما قبله مطلقاً حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى:
{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }
[الأحزاب: 71] بدون من، و من هنا ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة { مِنْ } فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل: هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.
وجوز أيضاً أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعاً. ورد الإمام الأول بأن { مِنْ } لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبـي عبيدة والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال: إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي " البحر " يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعداً بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتاً عنه باقياً تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضاً على معنى أنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبـي قال: والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد{ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }
[الأنفال: 38]
أحدُها: أنَّ:مِنْ " الأولى للتبيين، والثانيةَ للتبعيض، تقديرُه: مُغْنون عنا بعضَ الشيءِِ الذي هو عذابُ الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ: " هذا يقتضي التقديمَ في قوله " مِن شَيْءٍ " على قوله { مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ }؛ لأنه جَعَلَ { مِن شَيْءٍ } هو المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب، و " مِنْ " التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه ولا يتأخَّر ". قلتُ: كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى، فإنَّ { مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ } لو تأخَّر عن " شيء " كان صفةً له ومُبَيِّناً، فلمَّا تقدَّم انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ.
الثاني: أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى: هل أنتم مُغْنُوْن عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ الله؟ أي: بعض عذاب الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ: " وهذا يقتضي أن يكونَ بدلاً، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشيء مطلقةٌ، فلا يكون لها بعضٌ ". قلت: لا نزاعَ أنه يقالُ: بعضُ البعض، وهي عبارةٌ متداولةٌ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه، وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه، جنسٌ لِما تحته.
الثالث: أنَّ " مِنْ " في { مِن شَيْءٍ } مزيدةٌ، و " مِنْ " في { مِنْ عَذَابِ } فيها وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء، فلمَّا تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال. والثاني: أنها تتعلَّق بنفس " مُغْنُوْنَ " على أن يكون " من شيء " واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنى. ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء، قال: " ومِنْ زائدةٌ، أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ " شيء " واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنَى، فيكون { مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ } متعلقاً بـ " مُغْنُوْن ". وقال الحوفيُّ أيضاً: { ومِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ } متعلٌ بـ " مُغْنُون " ، و " مِنْ " في { مِن شَيْءٍ } لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد ".
أحدُهما: أنها لابتداءِ الغاية. قال الزمخشريُّ: " ويجوز أن تكونَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ كقولك: " القلبُ مني سقيم " تريد: قلبي، كأنه قيل: أفئدةَ ناسٍ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ " أَفْئدة " لأنها في الآية نكرةٌ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ ". قال الشيخ: " ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس ".
والثاني: أنها للتبعيضِ، وفي التفسير: لو لم يقل " من الناس " لحجَّ الناسُ كلُّهم.
أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة «من» في قوله: { وَمِن ذُرّيَتِى } للتبعيض، وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ }.
قال الواحدي: من في قوله: { مِنْ أُمَّةٍ } زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، وقال آخرون: إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد.
المسألة الثانية: لفظة " من " في قوله: { سبعاً من المثاني } قال الزجاج فيها وجهان: أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن أي ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن العظيم قال ويجوز أن تكون من صلة، والمعنى: آتيناك سبعاً هي المثاني كما قال:
{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان }
[الحج: 30] المعنى: اجتنبوا الأوثان، لا أن بعضها رجس والله أعلم.
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير
فأما قوله: { من المثاني } ففي «مِن» قولان:
أحدهما: أنها للتبعيض، فيكون المعنى: آتيناك سبعاً من جملة الآيات التي يُثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن.
والثاني: أنها للصفة، فيكون السبع هي المثاني، ومنه قوله:
{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان }
[الحج 30] لا أن بعضها رجس، ذكر الوجهين الزجاج، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريباً من هذا المعنى.
وقول سبحانه: { مِنْ أَمْرِهِ } بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى:
{ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ }
[البقرة: 187] لما قالوا: من أن بينهما بوناً بعيداً لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبهاً به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى:
{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى }
[الإسراء: 85] كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان { مِنْ أَمْرِهِ } وزان
{ مِنَ ٱلْفَجْرِ }
[البقرة: 187] وليس كل بيان مانعاً من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في «شرح التلخيص». وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من الروح على معنى حال كونه ناشئاً ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقاً ـ بينزل ـ و { مِنْ } سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن { ٱلرُّوحِ } هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ }
[الشعراء: 193] وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن { ٱلرُّوحِ } خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا. وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه/ روح من تلك الأرواح.
وقال ابو حيان فى بحره
وقال الزمخشري: بالروح من أمره، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى. ومِنْ للتبعيض، أو لبيان الجنس
قوله تعالى: { مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ }: يجوزُ في " لكم " أن يتعلَّقَ بـ " أنْزَلَ " ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً لـ " ماءً " ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، فعلى الأولِ يكون " شرابٌ " مبتدأً و " منه " خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ أيضاً صفةٌ لـ " ماءً " وعلى الثاني يكون " شرابٌ " فاعلاً بالظرف، و " منه " حالٌ من " شراب ". و " مِنْ " الأولى للتبعيض، وكذا الثانيةُ عند بعضِهم، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله:
2946- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ
أي: في سَحابة، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها.
وقال أبو بكر بن الأنباري: " هو على حذف مضاف إمَّا من الأول، يعني قبل الضمير، أي: مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شُرْب شجر أو حياة شجر ". وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية، أي: بسببه، ودَلَّ عليه قولُه: { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ }.
قوله: { وَمِنْ أَوْزَارِ } فيه وجهان، أحدهما: أنَّ " مِن " مزيدةٌ، وهو قولُ الأخفش، أي: وأوزار الذين على معنى: ومثل أوزارِ، كقولِه: كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها ". والثاني: أنها غيرُ مَزيدةٍ وهي للتبعيضِ، أي: وبعض أوزارِ الذين. وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه، أي: وأوزاراً مِنْ أوزارِ، ولا بدَّ مِنْ حذف " مثل " أيضاً.
وقد منع الواحديُّ أن تكونَ " مِنْ " للتبعيض قال: " لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام " من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ " لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزارِ الأتباع ". قال الشيخ: " والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا، إنما تتقدَّر: والأوزار التي هي أوزارُ الذين، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير ".
و " مِنْ " في { مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } يجوز ان تكونَ تبعيضيةً، وأن تكونَ للابتداء على معنى: أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات، وهو بعيدٌ جداٌ.
قوله تعالى: { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ }: " إن " نافيةٌ و " مِنْ " مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس. وقال ابنُ عطية: " هي لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما قال الشيخ: " لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما، تُفَسّره كقوله:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ }
[فاطر: 2]، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ ". ثم قال " ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: " وقيل: المرادُ الخصوصُ ".
و { مَنِ ٱسْتَطَعْتَ } يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم. والثاني: أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ بـ " استطعْتَ " قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ لأنَّ " اسْتَفْزِزْ " يطلبه مفعولاً به، فلا يُطقع عنه، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق.
والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال:
3079- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة " فزَّاً ". قال الشاعر:
3080- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ: القَطْعُ، يقال: تَفَزَّز الثوبُ، أي: تقطَّع.
قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّيْلِ }: في " منْ " هذه وجهان،
أحدُهما: أنها متعلقةٌ بـ " تَهَجَّدْ " ، أي: تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل،
والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: وقُمْ قَوْمةً من الليل، أو واسهرْ من الليل، ذَكَرهما الحوفيُّ. وقال الزمخشري: " وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به " فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ، وإن أراد تفسيرَ الإِعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفاً، وجَعْلُه " مِنْ " بمعنى بعض لا يَقْتضي اسميَّتَها، بدليل أنَّ واوَ " مع " ليسَتْ اسماً بإجماعٍ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو " مع ".
قوله تعالى: { مِنَ ٱلْقُرْآنِ }: في " مِنْ " هذه ثلاثةُ أوجهٍ،
أحدُها: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله الزمخشري، وابنُ عطية وأبو البقاء. ورَدَّ الشيخُ عليهم: بأنَّ التي للبيان لا بد أن يتقدَّمَها ما تُبَيِّنُه، لا أَنْ تتقدَّمَ هي عليه، وهنا قد وُجِدَ تقديمُها عليه.
الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي قال: " لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه شفاءً ". وأُجيب عنه: بأنَّ إنزالَه إنما هو مُبَعَّضٌ. وهذا الجوابُ ليس بظاهرٍ. وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يَشْفي من المرضِ. قلت: وهذا قد وُجِد بدليل رُقْيَةِ بعضِ الصحابةِ سَيِّدَ الحيِّ الذي لُدِغ، بالفاتحةِ فشُفي.
أحدُها: أنها صفةٌ لـ " وليّ " ، والتقدير: وليّ من أهلِ الذل، والمرادُ بهم: اليهودُ والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناسِ.
والثاني: أنها تبعيضية.
الثالث: أنها للتعليل، أي: مِنْ أجل الذُّلِّ. وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: " وليٌّ من الذل: ناصرٌ من الذل، ومانعٌ له منه، لاعتزازه به، أو لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه ".
قوله: { مِنْ أَسَاوِرَ }: في " مِنْ " هذه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنَّها للابتداءِ. والثاني: أنها للتعيض. والثالث: أنها لبيان الجنسِ، لأي: شيئاً مِنْ أساور. والرابع: أنها زائدةٌ عند الأخفش، ويَدُلُّ عليه قولُه:
{ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ }
[الإِنسان: 21]. ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء..
{ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ كُلّ شَىْء } أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه { سَبَباً } أي طريقاً يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار، ومن بيانية والمبين سبباً وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء، والمراد بذلك الأسباب العادية، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى.
قوله: { مِن تَحْتِهَآ }: قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم " مِنْ " ، وجَرَّ " تحتِها " على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب " تحتَها ". فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في " نادَى " مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه { مِن تَحْتِهَآ } أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس " فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و { مِن تَحْتِهَآ } على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها.
وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح.
والقراءةُ الثانية: تكون فيها " مَنْ " موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
وقال الالوسي فى تفسيره:
{ فَنَادَاهَا } أي جبريل عليه السلام كما روي عن ابن عباس ونوف. وقرأ علقمة (فخاطبها). قال أبو حيان: وينبغى أن تكون تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف، وقرأ الحبر { فناداها ملك } { مِن تَحْتِهَا } وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السلام ليوافق ما روي عنه أولاً. ومعنى { مِن تَحْتِهَا } من مكان أسفل منها وكان واقفاً تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفاً، ونقل في «البحر» عن الحسن أنه قال: ناداها جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه السلام هناك إجلالاً لها وتحاشياً من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، وقيل: ضمير { تَحْتِهَا } للنخلة، واستظهر أبو حيان كون المنادي عيسى عليه السلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاماً فانطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها.
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:
قوله تعالى: { فناداها من تحتها } قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مَن تحتها» بفتح الميم، والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مِن تحتها» بكسر الميم، والتاء. فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان.
أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل: كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها.
وقال الزمخشري: " ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله:
{ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا }
[مريم: 50]، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا ". فجعل " أيُّهم " موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ ".
قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين ".
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ { كُلِّ شِيعَةٍ } و " مِنْ " مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ " مِنْ " ، و " أيُّ " استفهامٍ " ، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
{ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ } من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر، و { مِنْ } سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية، والقول بأنها تبعيضية بعيد، و { مِنْ } في قوله تعالى: { مّن رَّبّهِمُ } لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر
والضميرُ في " مِنْها " يعودُ على " قرية ". ويجوز أَنْ يعودَ على " بَأْسَنا " لأنه في معنى النِّقْمة والبأساء، فَأَنَّثَ الضميرَ حملاً على المعنىٰ. و " مِنْ " على الأولِ لابتداءِ الغايةِ، وللتعليل على الثاني
: { مّنَ ٱلأَرْضِ } متعلق باتخذوا و(من) ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية. وقال أبو البقاء وغيره: يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض، وأياً ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص
وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ } عطف على { أن ٱلسَّمَـٰوَاتِ } الخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا، والجعل بمعنى الخلق المتعدي لمفعول واحد، و(من) ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية. ونقل ذلك عن الكلبـي...
ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين وهما هنا { كُلٌّ } و { مِنْ ٱلْمَاء }.
وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به و(من) اتصالية كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أنا من دد ولا الدد مني " والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلاً بالماء أي مخالطاً له غير منفك عنه، والمراد أنه لا يحيا دونه، وجوز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من { كُلٌّ } وجعل الطيبـي (من) على هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو
سورة الحج
أحدُها: أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ. وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صارا دونَ حُلِيّ.
الثاني: أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته. و " مِنْ " مزيدةٌ في قولِه { مِنْ أَسَاوِرَ } قال: " فيكونُ المعنى: يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة ". ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال: " وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً متعدياً، ولذلك حَكَم بزيادةِ " مِنْ " في الواجبِ. وليس مذهبَ البصريين. وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنىٰ إلاَّ لازِماً، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ " مِنْ " للسببِ أي: بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم، أي: يَحْلَىٰ بعضُهم بعينِ بعضٍ ".
قلت: وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال: " ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن، وتكونُ " مِنْ " زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً، و " مِنْ أساورَ " نعتٌ له ". فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن.
الثالث: أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به، فيكونُ التقديرُ: يَحْلَوْن بأساورَ. فـ " مِنْ " بمعنىٰ الباء. ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم: لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي: لم يظفرْ به. واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية، أو بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ. وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها.
قوله: { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } في " مِنْ " الأولى ثلاثةُ أوجه،
أحدُها: أنها زائدةٌ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء. وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين.
والثاني: أنَّها للتعبيضِ أي: بعض أساور.
والثالث: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله ابن عطية، وبه بدأ. وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ. وفي " مِنْ ذهب " لابتداءِ الغايةِ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم.
أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتَّىٰ فيها ذلك ولا بعضُه.
والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: " ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا " يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه البتةَ.
الثالث: أنها للتبعيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ، فقال: " ومَنْ قال: إن " مِنْ " للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده " وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ, ألا ترىٰ أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ.
قوله: { مِن سُلاَلَةٍ }: فيه وجهان: أحدهما: ـ وهو الظاهرُ ـ أَنْ يتعلَّقَ بـ خَلَقْنا و " مِنْ " لابتداءِ الغاية. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الإِنسان....
قوله: { مِّن طِينٍ } في " مِنْ " وجهان، أحدهما: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ. قال الزمخشري: " فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين " مِنْ " ومِنْ "؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه: { مِنَ ٱلأَوْثَانِ }. قال الشيخ: " ولا تكونُ للبيان؛ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه مِنْ أُنْسِل من الطين فـ " مِنْ " لابتداءِ الغاية ".
وفيما تتعلَّق به " مِنْ " هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ لـ " سُلالة ". الثاني: أنَّها تتعلَّقُ بنفس " سُلالة "؛ لأنها بمعنى مَسْلولة. الثالث: أنها تتعلَّقُ بـ " خَلَقْنا " لأنها بدلٌ مِن الأولى، إذا قلنا: إن السُّلالةَ هي نفسُ الطين.
{ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف: المراد أنشأنا عنده { جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ } قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة { لَكُمْ فِيهَا } أي في الجنات { فَوٰكِهُ كَثِيرَةٌ } / تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب. { وَمِنْهَا } أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، و(من) ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول { تَأْكُلُونَ } والمراد بالأكل معناه الحقيقي. وجوز أن يكون مجازاً أو كناية عن التعيش مطلقاً أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم
وقوله تعالى: { إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه؛ و(من) ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه، وجوز أن تكون (من) صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا. وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى: { قَدْ كَانَتْ ءايَـٰتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ }.
سورة النور
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { مِنْ أَبْصَارِهِمْ }: في " مِنْ " أوجهٌ،
أحدُها: أنها للتبعيضِ لأنَّه يُعْفَىٰ عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ.
والثاني: لبيانٍ الجنسِ. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً بـ " مِنْ ".
أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ.
الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ الإِنزالِ كأنه قال: ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ.
الثالثَ: أنها زائدة أي: يُنَزِّل من السماءِ جبالاً. وقال الحوفيُّ: " مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى ". ثم قال: " وهي للتبعيضِ ".
ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: " خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ " لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية.
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ.
والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ " يُنَزِّلُ " هو " مِنْ جبال " كما تقدَّمَ تقريرُه.
وقال الزمخشري: " أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض " قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول " يُنَزِّل " هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً لـ " يُنَزِّل " ، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً لـ " جبال " ، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ.
ويجوزُ أن يكونَ " فيها " وحدَه هو الوصفَ، ويكون " مِنْ بَرَدٍ " فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.
وقال الزَّجاج: " معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ: " هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ " أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية بـ " مِنْ " لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً " انتهى. فيكونُ " مِنْ بَرَدٍ " في موضعِ جَرٍّ صفةً/ لـ " جبال " ، كما كان " من حديد " صفةً لـ " خاتم " ، ويكونُ مفعولُ " يُنَزِّل " " من جبال ". ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً.
وقال أبو البقاء: " والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه ". وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: " وتَقْديرٌ مستغنى عنه " ، وينافي قولَه: " وهذا الوجه هو الصحيح ". والضميرُ في " به " يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ.
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ " مِنْ " لبيانِ الجنس أي: حين ذلك الذي هو الظهيرةُ. الثاني: أنها بمعنى " في " أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ.
قوله: { أَن نَّتَّخِذَ } فاعلُ " ينبغي " أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود. وقرأ العامَّةُ " نَتَّخِذَ " مبنياً للفاعل. و " من أولياء " مفعولُه، وزِيْدَتْ فيه " مِنْ ". ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ " اتَّخَذَ " متعديةٌ لاثنين، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ، فعلى هذا " مِنْ دونِك " متعلِّقٌ بالاتِّخاذ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ " أولياء ".
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين " نُتَّخَذَ " مبنيَّاً للمفعول. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها المتعديةُ لاثنينِ، والأولُ همز ضمير المتكلمين. والثاني: قولُه: " مِنْ أولياء " و " مِنْ " للتبعيضِ أي: ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ " مِنْ أولياء " هو المفعولُ الثاني ايضاً، إلاَّ أنَّ " مِنْ " مزيدةٌ في المفعولِ الثاني. وهذا مردودٌ: بأنَّ " مِنْ " لا تُزاد في المفعول الثاني، إنما تُزاد في الأولِ. قال ابن عطية: " ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ " مِنْ " في قوله: " مِنْ أولياء ". اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه ". الثالث: أَنْ يكونَ " مِنْ أولياء " في موضعِ الحالِ. قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: " ودَخَلَتْ " مِنْ " زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم، كقولك: ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل ". قلت: فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ " مِنْ " مزيدةً، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و " مِنْ " مزيدةٌ فيه، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ " مِنْ " في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك.
بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيداً لصرف رسول الله / صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم. و(من) الأولى مزيدة لتأكيد العموم، وجوز أن تكون تبعيضية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى، والثانية لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر
وقوله تعالى: { كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان. و(كم) خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى انبتنا فيها شيئاً كثيراً من كل صنف على أن (من) تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئاً كثيراً هو كل صنف على أن (من) بيانية،
قوله: { مَن فِي ٱلنَّارِ } " مَنْ " قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ " بُوْرك ". وبارَكَ يتعدَّىٰ بنفسِه، ولذلك بُني للمفعولِ. يقال: بارَكَكَ اللهُ، وبارَكَ عليكَ، وبارَكَ فيك، وبارك لكَ، وقال الشاعر:
3539ـ فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبدُ الله بن الزبير:
3540ـ فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ
وقال آخر:
3541ـ بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْ رِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ
والمرادُ بـ " مَنْ ": إمَّا الباري تعالى، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي: مَنْ قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار. وقيل: المرادُ به موسىٰ والملائكةُ، وكذلك بمَنْ حولَها. وقيل: المرادُ بـ " مَنْ " غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها.
قوله: { مِن كُلِّ أُمَّةٍ }: يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً بالحشر، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " فَوْجاً "؛ لأن يجوزُ أن يكونَ صفةً له في الأصل. والفَوْجُ: الجماعة كالقوم، وقيَّدهم الراغبُ فقال: الجماعةُ المارَّةُ المسرعةُ " وكأنَّ هذا هو الأصلُ ثم أُطْلِقَ، وإنْ لم يكُن مرورٌ ولا إسراعٌ. والجمعُ: أفواجٌ وفُؤُوج. و " مِمَّنْ يُكَذِّبُ " صفةٌ له. و " ِمنْ " في " مِنْ كلِّ " تبعيضيةٌ، وفي " مِمَّن يُكَّذِّبُ " تَبْيينيَّة.
{ فَلَمَّا أَتَـٰهَا } أي النار التي آنسها. { نُودِىَ مِن شَاطِىء ٱلْوَادِ ٱلأَيْمَنِ } أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطىء وهو ضد الأيسر، وجوز أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطىء أو الوادي، و { مِنْ } على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالاً من ضمير موسى عليه السلام المستتر في { نودي } أي نودي قريباً من شاطىء الوادي، وجوز على الحالية أن تكون من بمعنى في كما في قوله تعالى:
{ مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ }
[الأحقاف: 4] أي نودي كائناً في شاطىء الوادي.
وقوله تعالى: { فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } في موضع الحال من الشاطىء أو صلة لنودي، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في «القاموس»، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي ومسلمة. ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عز وجل وأنواره. وقيل: لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك، وقوله سبحانه: { مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } بدل من قوله تعالى: { مِن شَاطِىء } أو الشجرة فيه بدل من { شاطىء } وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطىء كان مشتملاً على الشجرة إذ كانت نابتة فيه، و { مِنْ } هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في (من) الأولى، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى:
{ مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ }
[نوح: 25] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة، وقيل: يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عناباً، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة، وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبـي ووهب عوسجة، وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم.
{ وَمَا هُمْ بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُمْ مّن شَىْء } نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئاً ما من خطاياهم التي التزموا حملها، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير، و(من) الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق، وهذه الجملة اعتراض أو حال.
{ وَعَاداً وَثَمُودَ } منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى:
{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ }
[العنكبوت: 37] أي وأهلكنا عاداً وثمود، وقوله تعالى: { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَـٰكِنِهِمْ } عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها، وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهاباً إلى الشام وإياباً منه، وجوز كون { مِنْ } تبعيضية،
و { من الأرض } يتعلق بدعاكم، و { دعوة }: أي مرة، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة. وقيل: { من الأرض } صفة لدعوة.
وقال ابن عطية: ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية، كما يقول: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى. وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا.
وعن نافع ويعقوب: أنهما وقفا على دعوة، وابتدآ من الأرض. { إذا أنتم تخرجون } علقاً من الأرض بتخرجون، وهذا لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وهو لا يجوز.
الأولى: قوله تعالى: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ثم قال: { مِّن شُرَكَآءَ }؛ ثم قال: { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فـ«ـمن» الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ قاله سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
و { من } في قوله { من سلالة } ابتدائية. وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سُلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله { من ماء مهين } بيان لــــ { سلالة }. و { من } بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكوّن الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضلة، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون { من } في قوله { من ماء مهين } للتبعيض أو للابتداء.
من) للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في «الكشاف» وجهين، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحداً من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزأ منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.
قوله: " منه " في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً بـ " امسحوا " و " مِنْ " فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغايةِ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ.
فَاتَّبَعُوهُ } أي سبأ وقيل بنو آدم { إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه على أن (من) بيانية، وتقليلهم إما لقلتهم في حد ذاتهم أو لقلتهم بالإضافة إلى الكفار، وهذا متعين على القول برجوع الضمير إلى بني آدم؛ وكأني بك تختار كون القلة في حد ذاتهم على القول برجوع الضمير إلى سبأ لعدم شيوع كثرة المؤمنين في حد ذاتهم منهم أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون فمن تبعيضية والمراد مطلق الاتباع الذي هو أعم من الكفر.
وقال السمين في الدر المصون
و " مِنْ " للبيان لا للتبعيضِ لئلا يَفْسُدَ/ المعنى؛ إذ يلزمُ أَنْ يكونَ بعضُ مَنْ آمن اتَّبع إبليسَ.
وقال القرطبي
{ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيراً من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضاً إلا فريق وهو المعني بقوله تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }
[الإسراء: 42]. فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ«ـمن» على هذا للتبيين لا للتبعيض،
قوله: " منها " متعلقٌ بمحذوفٍ على معنى البيان أي: أعني منها وبسببها. وقيل: " مِنْ " بمعنى في. وقيل: هو حالٌ من " شك ". وقوله: " مَنْ يؤمِنُ " يجوز في " مَنْ " وجهان، أحدهما: أنَّها استفهاميةٌ فَتَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم. كذا ذكره أبو البقاء وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ لنُمَيِّزَ ونُظْهِرَ للناسِ مَنْ يؤمِنُ مِمَّن لا يُؤْمِنُ فعبَّر عن مقابِلِه بقولِه: { مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ }؛ لأنَّه مِنْ نتائجه ولوازِمِه. والثاني: أنها موصولةٌ، وهذا هو الظاهرُ على ما تقدَّم تفسيرُه
{ مِنْ } للتبيين إذ القرآن أخص من { الَّذِى أَوْحَيْنَا } مفهوماً وإن اتحدا ذاتاً أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من { الَّذِى أَوْحَيْنَا } هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب، وقيل هو اللوح و(من) للابتداء
والرَّكوب بفتح الراء: المركوب مثل الحلوب وهو فعول بمعنى مفعول، فلذلك يطابق موصوفه يقال: بعير رَكوب وناقةٌ حَلوبة.
و { مِن } تبعيضية، أي وبعضها غير ذلك مثل الحرث والقتال كما قال: { ولهم فيها منافِعُ ومشَارِبُ } والمشارب: جمع مشرب، وهو مصدر ميمي بمعنى: الشرب، أريد به المفعول، أي مشروبات.