جمود البلاغة وأثره في الدراسات البلاغية للقرآن والسنة

إنضم
21/02/2013
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
العمر
42
الإقامة
المملكة العربية
البلاغة هي بلوغ المعنى وتبليغه بطريقة سهلة تتسم بالإقناع والامتاع ومراعاة المقام ، فتأتي موجزة عند الحاجة إلى الإيجاز ، ومطنبة عند الحاجة إلى الإطناب ، وينبغي أن تتسم بالطبع لابالتكلف ، وإن أردنا أعلى نموذج للبلاغة فإننا نقصد إلى القرآن ، فنجد فيه البلاغة في أسمى معانيها ، ثم يأتي الحديث النبوي نموذجا بلاغيا راقيا ، ولكن هل يمكن أن ندرس البلاغة القرآنية وبلاغة الحديث النبوي بنفس أدوات دراسة بلاغة الشعر أو النثر ؟؟
من المؤسف أن نجد دراسات كثيرة لم تفرق بين البلاغتين ، أو بين البلاغات إن جاز ذلك ، فلم تفرق بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر عامة ، وبين بلاغة الشعر والنثر وبلاغة القرآن والسنة خاصة ، فجاء الخلط واضحا .
وأنا أضع بين يدي المهتمين بخدمة القرآن والسنة هذه الكلمات لعلها تحرك راكدا ، أوتثير تساؤلا ، وهذا ما أقصد إليه، ومن أسوأ ما رأيت وطالعت أن تُطبق البلاغة باعتبارها قواعد ثابتة ويأتي القرآن أو الحديث مجرد شواهد وأدلة وهو ما يسمى بـ(البلاغة التعليمية).
خلال دراستي لبلاغة الحديث النبوي استوقفتني عدة تساؤلات :
أولا: عبد القاهر الجرجاني يشترط في جماليات النص الأدبي أن يميل إلى اللطافة ، وإلى تغليف المعنى بشيء من الغموض والخفاء كي يشحذ همة المتلقي ، ويدفعه إلى الغوص وراء مكنونه ، ففي ذلك فائدة في إمتاع المتلقي ، ودمجه في جوهر العمل الذي بين يديه ، يقول: " إن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ، ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى ، وبالميزة أولى ، فكان موقعه من النفس أجل وألطف " [1] فهل يمكن أن يكون ذلك مع القرآن والحديث النبوي أيضا؟؟
بالطبع ستكون الإجابة لا لأن القرآن أو الحديث لايتسمان بالغموض بل بالوضوح والسهولة لدرجة أن كل من يقرأ يخرج بفائدة رغم اختلاف الثقافات .فالحديث النبوي ليس مملوءا بالغرابة والإغراق في التعقيد لكي يكون جميلا ،لكنه هنا يكتسب جماله من الدقة والإتقان والإحكام، وليس من الإغراق في المبالغات والخيال، لأن هذه الظواهر لا تُسرف في المبالغة والخيال، ولكن الخيال يأتي هنا محكماً في اقتصاره على إثارة تصورات ذهنية عند المتلقي تعين على تصور أمور غيبية فيما يتعلق بالجزاء على الأعمال في الآخرة أو التحذير من أمور غيبية في المستقبل في عالم الشهادة.
ثانيا: تقسيم الخبر إلى (ابتدائي وطلبي وإنكاري) وقولهم بأن التأكيد يكون للمنكر ، هل هذه قاعدة عامة تنطبق على جميع النصوص؟ نعلم جيدا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث الصحابة وهم من أكثر الناس تصديقا له وإيمانا برسالته فليسوا منكرين ولامكذبين ، ورغم ذلك جاءت الأحاديث مشتملة على وسائل للتأكيد ، ويمكن أن نقول هنا أن التأكيد ليس للمتلقي ذاته وإنما التأكيد للكلام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لايشك في تصديق المتلقي الحاضر وإنما يؤكد كلامه للمتلقي الذي سيسمع الكلام آنفا.
ثالثا: القرآن والحديث النبوي خطابان تعليميان توجيهيان ، والخطاب التعليمي عند الغرب في منزلة متدنية من الخطابات على ما نرى عند سيلدن ، لقد عرض رامان سلدن لآراء البلاغيين الأوربيين في أنواع الأساليب في كتابه نظرية النقد من أفلاطون حتى الآن (The theory of criticism , from Plato to the present) فذكر أنواع الأساليب الثلاثة: المتدني والمتوسط والرفيع، في عرضه لآراء (سيسرو Cicero) في أنواع الخطابة، مشيراً إلى أن لهذه المهمات الثلاث للخطيب ثلاثة أساليب: الأسلوب الواضح للدليل، والأسلوب المتوسط للمتعة، والأسلوب الرفيع للإقناع. وفي الأسلوب الأخير تكمن القوة الكاملة للخطيب، ثم يصف أصحاب الأسلوب التعليمي بأنهم " واضحون وموجزون في الأسلوب، يشرحون كل شيء ويؤثرون الوضوح على الغموض، ويستخدمون أسلوباً مهذباً ومركزاً، وخالياً من الزينة والزخرفة[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP]،
قد يجمع الأسلوب التعليمي مثلاً بين خصائص متعددة تحقق الغاية الإقناعية والتـأثيرية ولا تكون بمنأي عن الغاية الجمالية، ويأتي الحديث النبوي ليحقق نموذجاً فريداً لخصائص النص في انفراده واطراده وديمومته، فالنص منفرد لأنه نموذج خاص من النصوص يعتمد في خصائصه على الجمع بين الإيجـاز وتحقيق غاية الإفهام والإبانة وما تقتضيانه من الوضوح، ومن المعروف الجلي أن التبليغ والإفهام وتمكين المعنى في نفس المتلقي من الغـايات الجوهرية للقول البليغ، ولعل تعريف أبي هلال العسكري للبلاغة بأنهـا: " كل ما تُبلِّغ به المعنى قلب السامع، فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن"[SUP]([2])[/SUP]يرمي إلى هذه الغاية ويؤسس لها.
أما الاطراد فهو من العوامل التي تحقق لنص الحديث النبوي خصوصيته وتؤكد على تفرد خصائصه في الجمع بين هذه الغايات باطراد دائم، وتكمن أهمية الاطراد في أنه ينفي عن الحديث النبوي صفة الاستثناء الذي لا تعضده قاعدة عريضة مطردة، كما ينفي عنه صفة الصدفة التي لا تقبل التكرار، ومن ثم يأتي الحديث النبوي نمطاً فريداً من الخطاب يجدر بوقفة متأنية مدققة، تأخذ نفسها بتتبع الظواهر وتحليلها.
ولعل في الوقوف على خصائص الأسلوب التعليمي في الحديث النبوي الشريف ما يفسر لنا مقولة جوامع الكلم التي وردت في حديث النبي r (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)[SUP]([3])[/SUP]، فتلك الجوامع تفسر هذه الظاهرة الفريدة وتتفسر بها في الوقت نفسه، إذ جمعت الأحاديث بين الوضوح ـ ظاهرة سائدة ـ والإفهام والإيجاز والإحكام، وقد أشار ابن جني إلى بُعد الإفهام المتعلق بالرسالة اللغوية نفسها، أو ما يتعلق بالمتلقي " قيل لأبى عمرو بن العلاء: أكانت العرب تطيل ؟ فقال: نعم لتبلغ، قيل: أفكانت توجز ؟ قال: نعم، ليُحفظ عنها"[SUP]([4])[/SUP]، وقد لفت ابن وهب إلى هذه الغاية أيضاً في حديثه عن المواضع التي يحسن فيها الإيجاز، إذ جاء منها: " المواعظ والوصايا التي يُراد حفظها ونقلها، ولذلك لا ترى في الحديث عن رسول الله r والأئمة شيئاً يطول، وإنما يأتي على غاية الاقتصار والاختصار"[SUP]([/SUP][5][SUP])[/SUP].
أما ما يتسم به الأسلوب المتوسط من تحقيق الغاية الجمالية فهو متحقق أيضاً في الحديث النبوي الشريف إذا أخذنا في حسابنا أن الجمال غاية تتفاوت في ذاتها وفي مظاهرها، كما يتفاوت الناس في إدراكها، وفيما يتعلق بالجمال اللغوي نجد أنه لا يقتصر على جمال الصور التحسينية التزيينية وفق ما ألمح إليه رامان سلدن في بيانه للأسلوب المتوسط من أنه " أسلوب لامع، مفرط في التنميق، مزين، ومصقول بالفعل، وفيه تكون كل جماليات اللغة والفكر غير مقبولة من قِبَل الخطباء الواضحين ـ خطباء الخطاب التعليمي ـ، ومرفوض بواسطة خطباء النموذج الرفيع، فهو يجد مكانة في الطبقة المتوسطة التي أتحدث عنها"[SUP]([6])[/SUP].
إن نسبية الجمال بالإضافة إلى إمكان تحقق الغايات المتوزعة بين أنواع الأساليب في الأسلوب الواحد يجعل اجتماع البُعد الجمالي مع غايتي الإقناع والتعليم ممكناً، فالغاية التعليمية المتعلقة بالتشريع في الحديث النبوي قوامها الدقة والإتقان والإحكام، ومتى تحقق التناسب بين الموضوع والأسلوب تحقق وجه من أوجه البعد الجمالي تبعاً لتحقق التناسب، الذي عده بشر بن المعتمر من أنماط التناسب المقامي " ومن أَرَاغَ معنىً كريماً فليلتمِسْ له لفظاً كريماً؛ فإنّ حقّ المعنى الشريفِ اللفظُ الشّريف، ومن حقِّهما أن تصونهما عما يفسدُهما ويهجِّنُهمَا، وعمّا تعودُ من أجله أن تكونَ أسوأَ حالاً مِنك قبل أن تلتمس إظهارَهُما، وترتهِن نفسَك بملابستِهما وقضاءِ حقِّهما"[SUP]([/SUP][7][SUP])[/SUP]، فالجمال هنا هو جمال التناسب بين موضوع الحديث والإيجاز الأسلوبي الذي صيغ فيه، وما يحقق هذا التناسب من تركيز في بناء التراكيب بالوسائل الأسلوبية المختلفة، يُضاف إلى هذا أن البعد التشريعي في الحديث النبوي يستلزم الدقة في الصياغة، ولن تتوفر الدقة والإحكام إلا بالوسائل الأسلوبية المحققة لذلك، ومن هنا يُصبح البحث في بلاغة الحديث النبوي هو بحث في الكيفية الأسلوبية التي تحققت بها الدقة والإحكام وصرامة تحديد المواقف، وليس هناك شك في أن هذه غاية تعليمية بالدرجة الأولى تقصد إلى الإيضاح والإفهام، فالتناسب بين الموضوع والأسلوب ـ من جهة ـ وبين الغاية التعليمية التشريعية والأسلوب، من جهة أخرى، إنما هو جمال نسبي يحقق لهذا الأسلوب التعليمي غايات الأسلوب الرفيع، فهذا النمط من الخطاب قد يصل إلى أقصى درجات التفوق والسبق والرفعة " فالمتحدث الذي قد تفوق في الأسلوب الواضح (التعليمي)؛ لأنه تمكن من الخطابة بمهارة وتناسق، هو بالتأكيد خطيب عظيم، إذا لم يكن الأعظم"[SUP]([8])[/SUP]، وهذا الحكم يصدق أتم صدق على بلاغة الخطاب التعليمي في بلاغة الحديث النبوي.
بقى أن نشير إلى أن الغاية الجمالية الإمتاعية الخالصة لا تتناسب عادة مع الخطاب الجاد، فالحقيقة غاية مغايرة للبلاغة التحسينية التزيينية، فالتحسين يحقق غاية إمتاعية بغض النظر عن الغاية التعليمية وما تقتضيه من الإبانة والإيضاح أو الغاية الإقناعية وما تقتضيه من إحكام الحجة وقصد الحقيقة، نخلص من هذا إلى أن الخطاب التعليمي ـ بشكل عام ـ يحقق غايته بمقدار ما ينجزه من تمكين الحقائق في النفوس، وبقدر بُعده عن التصوير الذي مرده إلى المبالغة ومنبعه الخيال؛ ومن ثم فهو فيما يتعلق بالبلاغة النبوية ينبغي أن ينظر إلى بلاغته على أنها بلاغة حقيقة، وليست بلاغة خيال أو زينة، فهي بلاغة هادفة إلى تمكين حقائق معينة في النفوس والقلوب والعقول، ساعية إلى إقرار منهج حياة وتقويم سلوك الأفراد والجماعة، فيما يمكن أن نطلق عليه: التحول بالقول إلى منجز في الواقع، ومن هنا تختلف بلاغة الخطاب التعليمي في الحديث النبوي الشريف عن بلاغة الخطاب الشعري كما تختلف أيضاً من بعض الوجوه مع بلاغة الخطاب الحجاجي.

هذا وبالله التوفيق.
الباحث
أيمن أبومصطفى


([1]) Raman Selden: The theory of criticism , from Plato to the present , New york ,- 1988 , P 365

([2]) أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين، تـ على محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2 ، دار الفكر العربي ، ص 16.

([3]) صحيح البخاري كتاب الجهاد، صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

([4]) ابن جني: الخصائص ت محمد على النجار، ط3 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة جـ 1 ص 84.

([5]) ابن وهب: البرهان في وجوه البيان، تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثى،الطبعة الأولى 1 ص 97 .

([6]) Raman Selden: The theory of criticism. P 369

([7]) صحيفة بشر بن المعتمر، من كتاب البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت (بدون تاريخ) جـ 1 ص 133

([8]) Raman Selden: The theory of criticism. P 369




[1] - أسرار البلاغة , عبد القاهر الجرجاني , تحقيق السيد محمد رشيد رضا والشيخ أسامة صلاح الدين منيمنة , دار إحياء العلوم , بيروت , ط 1 , 1992 م : 192 .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...اما بعد...جزاكم الله تعالى خيرا استاذ أيمن فإن ما ذكرته في بحثك يحز في قلب كل مسلم غيور على دينه وكتابه العظيم الذي يستحق منا كل مظاهر
التوقير والاحترام...ولكن ياحسرة على العباد...نجد النحوي يساوي بين الآية والشاهد
الشعري وأصحاب البلاغة لم يستخرجوا بلاغة القرآن كما إستخرجوا بلاغة كلام البشر
فجٌزيت خيرا على قولك-
(
من المؤسف أن نجد دراسات كثيرة لم تفرق بين البلاغتين ، أو بين البلاغات إن جاز ذلك ، فلم تفرق بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر عامة ، وبين بلاغة الشعر والنثر وبلاغة القرآن والسنة خاصة ، فجاء الخلط واضحا .)
ولنضرب مثلا من القرآن الكريم قال تعالى(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )( 55)طه
ما هذا الإيجاز العجيب!!فقصة الإنسان من بدايتها الى نهايتها جاءت في هذه الكلمات
القليلة البليغة الجميلة الكافية الشافية....وفي الحديث عنه اللهم صلِ عليه وآله-
(
بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخـره فشكر الله له فغفر له)
فهذا الحديث من جوامع الكلم...ليت اهل البلاغة إنشغلوا به فإستخرجوا منه ومن أمثاله
كنوز البلاغة وجواهرها....نسأل الله تعالى ان يهدينا ويهدي اهل النحو والبلاغة الى
توقير القرآن الكريم والحديث النبوي...والله تعالى أعلم.

 
بحث قيم بارك الله فيكم ، والبلاغة وعلوم اللغة نتاج بشري يعتريه النقص وأصمه (بالبدعة) فهو بدعة تكون في مواضع بدعة سيئة تسيء للنص المقدس وتضعه عن قدسيته فتتناوله بالنقد باسم التحليل ويحتج بالاسلوب العلمي فيصار الا الاحتجاج بالمفضول على الفاضل والمتأخر على المتقدم ، وطالما كانت علوما بشرية صرفة فقد يستعملها زنديق في الاساءة للنص المقدس مدعيا مخالفته لقواعد اصلها مستحدث لذلك فينبغي برأيي التحرر منه .
 
بسم الله الرحمن الرحيم...الحمد لله رب العالمين..اما بعد..الاخ الفاضل عدنان ارجو النظر بما يلي-
١-ان البلاغة علم مفيد لبيان إعجاز القرآن بسبك الكلام وإختيار الالفاظ بما يعجز عنه البشر.
٢-اما قولك ان البلاغة بدعة فلا يصح انما نقول انه من العلوم التي إستنبطها العلماء من اللغة لكي يعرف الكلام البليغ من غيره.
٣-ان من الضروري ان نتعلم العلوم التي تخدم القرآن وتعلي من شأنه...والله تعالى أعلم.
 
اخي البهيجي
معك حق في استعمال هذا العلم لنقد وتحليل كلام البشر ووجه اعتراضي هو استعماله كعلم مقيد في قراءة علم مطلق وهو القرآن الكريم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

شكر الله لأخينا أيمن غيرته على كتاب الله جل جلاله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، واهتمامه بلغتهما وبلاغتهما..

شدني عنوان المقالة الذي يحمل هذا الاتهام العريض (جمود البلاغة)، وتوقعت أنها ستكشف عن هذا الجمود وتتناوله بالتحليل، وتبين آثاره السلبية على الدراسة البلاغية للقرآن الكريم والحديث الشريف، وتؤسس لمنهج بلاغي يتجاوز الجمود ويكون أكثر فاعلية.. لكني وجدتها قصيرة النفس، تناولت طرفًا لا ينبئ عن كثافة العنوان، ولعلها أرادت أن تلقي في اليم حجرًا يتردد صداه، وقد قال: ((هذه الكلمات لعلها تحرك راكدًا، أوتثير تساؤلاً، وهذا ما أقصد إليه)). وها أنا ذا أتحرك من غير ركود وأتساءل:

ما المقصود بجمود البلاغة؟ هل يريد أخونا ألا تكون لها أساليب ومعايير قارة يُرجع إليها في تحليل النصوص ونقدها؟ أو ماذا؟

هل البلاغة جامدة؟ ومنذ أن بدأت حركة التدوين حول كتاب الله جل جلاله إلى يومنا هذا والبلاغة في عمل دؤوب، لا يتوقف، والمؤلفات والاتجاهات والنظريات والمناهج في دراسة بلاغة النظم القرآني متعددة متنوعة في القديم والحديث، وعند المسلمين وغيرهم، ومن يتابع حركة التأليف المعاصرة في بلاغة القرآن خاصة يجد أمرًا عجبا..

إن إشكالية البلاغة في العصر الحديث ليس في جمودها مع بلاغة القرآن والحديث، بل في حركتها الواسعة في كل اتجاه، حيث تتخطفها النظريات والمناهج من كل جانب؛ لتتوسل بها إلى دراسة القرآن الكريم.

ومهما قالت المناهج الحديثة في البلاغة العربية فإنها لا تستغني عنها أبدًا، وربما غيرت من اسمهما وتوارت خلف مصطلحات أخرى، والعبرة ليست بالألفاظ، وإنما العبرة بالحقائق.

يقول الكاتب: ((ومن أسوأ ما رأيت وطالعت أن تُطبق البلاغة باعتبارها قواعد ثابتة، ويأتي القرآن أو الحديث مجرد شواهد وأدلة، وهو ما يسمى بالبلاغة التعليمية)).
إذا كان الكاتب يقصد جمود طائفة من أهل العلم على ما في بعض الكتب، والاقتصار في دراسة البلاغة على مجرد ذكر القاعدة والشاهد فنعم، لكن هذا جمود لبعض أهلها وليس جمودًا لها.
ومع ذلك فإن هذا لا يذم بإطلاق؛ فلا يلزم أن تكون الأمة كلها على منهجية واحدة في تناول العلوم، والبلاغة تتسع كغيرها من العلوم لمنهجيات التأليف والدرس، فمجال التعليم والتأليف يختلف عن التحليل والنقد وغير ذلك.
ومع ما على مفتاح السكاكي وتلخيص القزويني من الإيرادات في تناول البلاغة إلا أن لهما فضلاً لا ينكر على البلاغة العربية قديمًا وحديثًا.
وليست البلاغة في المفتاح والتلخيص، بل هناك "البديع" و"عيار الشعر" و"العمدة" و"الصناعتين" و"أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز" و"المثل السائر" و"بديع القرآن" و"الروض المريع" و"الطراز"، فضلاً عن كتب الإعجاز وعلوم القرآن، وغيرها من المؤلفات المتقدمة، وهي متنوعة الاتجاهات.
وأما في العصر الحديث فهنا ثورة في التأليف البلاغي لدراسة القرآن الكريم، منها ما جرى على دراسات الأقدمين، ومنها ما أفاد من خير المناهج الحديثة، ومنها ما اتبع هذه المناهج على ما فيها من شر وخير، ولو أردت أن أعددها ما أحصيت!
* * *​
يقول الكاتب: ((هل يمكن أن ندرس البلاغة القرآنية وبلاغة الحديث النبوي بنفس أدوات دراسة بلاغة الشعر أو النثر؟؟ من المؤسف أن نجد دراسات كثيرة لم تفرق بين البلاغتين، أو بين البلاغات إن جاز ذلك، فلم تفرق بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر عامة، وبين بلاغة الشعر والنثر وبلاغة القرآن والسنة خاصة، فجاء الخلط واضحًا)).
لا شك أن القرآن معجز ومتفرد في أسلوبه، فليس شعرًا وليس كسائر أنواع النثر، ولكنه نزل بلغة العرب، ولا يمكن أن ندرسه إلا من خلال هذه اللغة في ضوء المنهج الشرعي في تفسير النصوص.
نعم، يجب أن نقدس الوحيين ونراعي خصوصيتهما في منهجية الدراسة وإجراءاتها وأساليبها ومصطلحاتها، فلن نطبق كل ما قيل في بلاغة البشر عليهما، وهذا أمر تنبه له الأقدمون كثيرًا فالف بعضهم مؤلفات خاصة ببلاغة القرآن، وربما نبه بعضهم في تناول الأسلوب البلاغي إلى عدم وجوده في القرآن العظيم، وربما غيروا مصطلحًا لعدم مناسبته لقدسية القرآن العظيم، وقد وقع من بعضهم إسقاط بعض الأساليب أو المصطلحات التي لا تليق بهما، ووقوع مثل هذا كثير عند المحدثين.
* * *​
ذكر الكاتب قول الجرجاني: ((إن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف)) ثم قال الكاتب: فهل يمكن أن يكون ذلك مع القرآن والحديث النبوي أيضًا؟؟ بالطبع ستكون الإجابة: لا؛ لأن القرآن أو الحديث لا يتسمان بالغموض، بل بالوضوح والسهولة، لدرجة أن كل من يقرأ يخرج بفائدة رغم اختلاف الثقافات)).
وأنا أقول: نعم، يكون ذلك في القرآن والحديث، وهو كثير فيهما؛ ولا يعني ذلك أنهما يتسمان بالغموض، فهما بيّنان مبينان، ولكن المعنى في القرآن أو الحديث قد يصاغ بنظم يشوق القارئ إلى التساؤل عما وراءه وتطلب ما يوضحه، فيأتيه المعنى بعد تشوف وتشوق فيكون أكثر تأثيرًا وتمكنًا في النفس، ويكون للعلم به حلاوة ولذة، ومن ذلك مثلاً: الإجمال بعد التفصيل أو الإيضاح بعد الإبهام، وانظر مثلا إلى ضمير الشأن أو القصة في قول الله جل جلاله: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] وقوله: ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117] وقوله: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ﴾ [الحج: 46]، وضمير الشأن لا يأتي إلا في الأخبار المهمة التي لها شأن، لأن الغرض البلاغي منه ((هو تفخيم الشأن أو القصة، وتثبيتها في الأنفس؛ لأن مجيء الضمير مبهمًا بدون عائد متقدم يجعل المخاطب ينشغل به، ويبحث عما يفسره فيصغي إلى الكلام، وعندما يعثر على المفسِّر يقع في النفس موقعًا حسنًا، فيقر بها ويثبت، لأن للبيان بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال أثرًا حسنًا في النفس ووقعًا جميلاً، ويتضح لك هذا لو وضعت الاسم الظاهر موضع الضمير في الآيات الكريمة، فقلت: إن الأبصار تعمى.. قل الله أحد.. إن الكافرين لا يفلحون. فإنك تجد الفخامة قد ولت والروعة قد زالت، لأنه لم يتقدم عندئذ ما ينبه ويثير النفس إلى التفتيش والتنقيب عن مفسر لما أبهم. ولذا نجد ضمير الشأن أو القصة لا يستعمل إلا في الأمور المهمة والأخبار ذات البال، والمعاني الجليلة، على نحو ما رأيت في الآيات الكريمة))[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]).
ومن الإيضاح بعد الإبهام في الحديث النبوي قول النبي r: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.
ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو t لما أراد أن يصوم فلا يفطر ويقوم فلا ينام، ومما قال له النبي r: «صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ: صِيَامَ يَوْمٍ، وَإِفْطَارَ يَوْمٍ».
* * *​
قال الكاتب: ((تقسيم الخبر إلى (ابتدائي وطلبي وإنكاري)، وقولهم بأن التأكيد يكون للمنكر. هل هذه قاعدة عامة تنطبق على جميع النصوص؟ نعلم جيدًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث الصحابة وهم من أكثر الناس تصديقًا له وإيمانًا برسالته فليسوا منكرين ولا مكذبين، ورغم ذلك جاءت الأحاديث مشتملة على وسائل للتأكيد)).
أقول: لم يقل البلاغيون: إن التأكيد للمنكر فحسب، بل ذكروا أنه يأتي لغير المنكر، فالخبر يؤكد أيضًا إذا كان المخاطب شاكًّا أو متسائلاً، أو يظهر عليه أمارات التساؤل والتعجب والتردد والشك والإنكار، أو جاء الخبر بعد قول أو فعل يثير التساؤل، أو كان الخبر فيه ما قد يستغربه المخاطب أو يتعجب منه أو يتردد فيه أو ينكره، فيؤكد ليقرر له المعنى من أول الأمر. وقد يأتي الخبر مؤكدًا من غير نظر إلى كون المقام مقام إنكار أو تساؤل وتردد، وإنما يأتي التأكيد لإرادة تقرير المعنى وتمكينه في نفس المخاطب ترغيبًا أو ترهيبًا أو غير ذلك.
* * *​
قال الكاتب: ((القرآن والحديث النبوي خطابان تعليميان توجيهيان، والخطاب التعليمي عند الغرب في منزلة متدنية من الخطابات على ما نرى عند سيلدن...)) إلى آخر ما ذكره حول الأسلوب التعليمي في القرآن والحديث، ولعل الكاتب أفاده من الدكتور بلبع في كتابه "السياق وتوجيه دلالة النص" حينما تعامل مع الحديث النبوي على أنه خطاب تعليمي، وفيما قاله الكاتب نظر؛ لأن إسقاط المفاهيم الحديثة للأسلوب التعليمي وبلاغته على الأسلوب القرآني أو النبوي يحتاج إلى حذر، ثم ما المقصود بالأسلوب التعليمي؟ وما خصائصه؟ وهل القرآن أو الحديث كذلك؟ هل سنعرضهما على قوالب أسلوبية جاهزة، ونحاكمهما إليها؟ وهل الخطاب التعليمي لا تحمله إلا الحقائق ويعارض الإمتاع الأسلوبي والتحسين البلاغي؟ وهل... وهل...؟؟؟
* * *​
هذه مداخلات سريعة تعبر عن وجهة نظر حول ما كتبه أخي الكريم أيمن، لعلها تحقق ما قصده من إثارة للموضوع، ولعل عند القراء ما يفيدنا أكثر، جعلنا الله من أهل كتابه وسنة نبيه، والحمد لله رب العالمين.


([1]) علم المعاني، لبسيوني فيود: 1/261، وينظر: الطراز: 270، وخصائص التراكيب: 241-242.
 
يقول ابن قتيبة رحمه الله: " ولوكان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس ،وسقطت المحنة، وماتت الخواطر."
تأويل مشكل القرآن ،ص 132.
 
السلام عليكم ورحمة الله الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد. فلاأجد ما يعبر عن شكري للإخوة الأجلاء الذين أثروا المقال بتعليقاتهم الثرية ، وإني استفدت وتعلمت منهم كثيرا ، فتبادل الآراء - لاشك -يسهم في فتق أبواب ومجالات البحث والتأمل والتدبر، وهذه المقالة كان من الممكن أن تكون أكثر إلماما لولا عجلتي ، فأنا في طور البحث في إطروحتي للدكتوراة وهي قائمة على المقارنة الأسلوبية لروايات الحديث النبوي الشريف ، وما عرضته كنت أضعه في ملف بعنوان مناقشات على حاسوبي ، وربما استبطأت اكتمال البحث فدفعتها متسائلا لامقرا .فلكم جزيل الشكر ، وأكرر قد استفدت كثيرا من مناقشاتكم فجزاكم الله خيرا.
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

يمكنك الإفادة من بحث: البلاغة النبوية في ضوء تعدد الروايات الحديثية.

ضمن كتاب: بحوث في البلاغة النبوية.

من منشورات دار كنوز إشبيليا بالرياض.

وفقك الله وسددك.
 
عودة
أعلى