الْبَاءُ الْمُفْرَدَةُ حرف جر[1] لأربعة عشر معنى منها *- أَولهَا الإلصاق قيل وَهُوَ معنى لَا يفارقها وَهُوَ تَعَلُّقُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالْآخَرِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً نحو: “وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ” أي ألصقوا المسح برؤوسكم وَقَدْ يَكُونُ مَجَازًا نَحْوَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ أَيْ بِمَكَانٍ يَقْرُبُونَ مِنْهُ.أَي ألصقوا مرورهم بمَكَان يقرب منهم.وقال ابن هشام إِن كلا من الإلصاق والاستعلاء إِنَّمَا يكون حَقِيقِيًّا إِذا كَانَ مفضيا إِلَى نفس الْمَجْرُور ك أَمْسَكت بزيد وصعدت على السَّطْح فَإِن أفْضى إِلَى مَا يقرب مِنْهُ فمجاز ك مَرَرْت بزيد فِي تَأْوِيل الْجَمَاعَة غير الأخقش ,فَإِذا اسْتَوَى التقديران فِي المجازية فالأكثر اسْتِعْمَالا أولى بالتخريج عَلَيْهِ ك مَرَرْت بزيد ومررت عَلَيْهِ وَإِن كَانَ قد جَاءَ كَمَا فِي “لتمرون عَلَيْهِم” “يَمرونَ عَلَيْهَا” فائدة:*- اخْتُلِفَ فِي الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: “وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ” ، فَقِيلَ: لِلْإِلْصَاقِ وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ وَقِيلَ: زَائِدَةٌ وَقِيلَ: لِلِاسْتِعَانَةِ وَإِنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَقَلْبًا فَإِنَّ " مَسَحَ " يَتَعَدَّى إِلَى الْمُزَالِ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُزِيلِ بِالْبَاءِ فَالْأَصْلُ " امْسَحُوا رؤوسكم " بِالْمَاءِ. الثَّانِي: التَّعْدِيَةُ [2]كَالْهَمْزَةِ، نَحْوَ: “ذَهَبَ اللَّهُ بنورهم” ، “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ” أَيْ أَذْهَبَهُ كَمَا قَالَ: “لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ” . الثَّالِثُ: الِاسْتِعَانَةُ وَهِي الدَّاخِلَة على آلَة الْفِعْل نَحْو كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم قيل وَمِنْه الْبَسْمَلَة لِأَن الْفِعْل لَا يَتَأَتَّى على الْوَجْه الْأَكْمَل إِلَّا بهَا قال أبو حيان: الْبَاءُ فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلِاسْتِعَانَةِ، نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وفي الانتصاف أنّ معناها اعتراف العبد في أوّل فعله بأنه جار على يديه وأنّ وجود فعله بقدرة الله وايجاده لا بفعله تسليما لله من أوّل الأمر قيل ومن الأدب أن نقول تبركا قال الرازي :الْبَاءَ مِنْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ، فَنَقُولُ: هَذَا الْمُضْمَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا وَكَانَ فِعْلًا فَكَقَوْلِكَ: أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا وَكَانَ اسْمًا فَكَقَوْلِكَ: ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا وَكَانَ فِعْلًا فَكَقَوْلِكَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَبْدَأُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا وَكَانَ اسْمًا فكقولك: باسم الله ابتدائي “ولا طائر يطير بجناحيه” (الأنعام:38) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) الْبَاءُ فِي بِالطَّاغِيَةِ لِلْاسْتِعَانَةِ. الرَّابِعُ: السَّبَبِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى سَبَبِ الْفِعْلِ، نَحْوَ: “فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ” ، (العنكبوت:40)، أي: عاقبناهم بإرسال الريح، والصيحة، والخسف، والغرق بسبب ذنوبهم. “ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ” ،(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ) الباء سببية أي بسبب طغيانهم وَيُعَبَّرُ عَنْهَا أَيْضًا بِالتَّعْلِيلِية. الْخَامِسُ: الْمُصَاحَبَةُ كَمَعَ، نَحْوَ: “اهْبِطْ بِسَلامٍ” ، “قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ” ، السَّادِسُ: الظَّرْفِيَّةُ كَفِي، زَمَانًا وَمَكَانًا نَحْوَ: “نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ” ، “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ” . وَالتَّاسِع الْمُجَاوزَة كعن فَقيل تخْتَص بالسؤال نَحْو “فاسأل بِهِ خَبِيرا” بِدَلِيل “يسْأَلُون عَن أنبائكم” وَقيل لَا تخْتَص بِهِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى “يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم وبأيمانهم” “وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام” وَجعل الزَّمَخْشَرِيّ هَذِه الْبَاء بمنزلتها فِي شققت السنام بالشفرة على أَن الْغَمَام جعل كالآلة الَّتِي يشق بهَا قَالَ وَنَظِيره “السَّمَاء منفطر بِهِ” وَتَأَول االبصريون “فاسأل بِهِ خَبِيرا” على أَن الْبَاء للسَّبَبِيَّة وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تكون بِمَعْنى عَن أصلا وَفِيه بعد لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي قَوْلك سَأَلت بِسَبَبِهِ أَن الْمَجْرُور هُوَ المسؤول عَنهُ الْسابع الاستعلاء نَحْو “من إِن تأمنه بقنطار” الْآيَة بِدَلِيل “هَل آمنكم عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أمنتكم على أَخِيه من قبل” معنى الباء إلصاق الأمانة كما، أن معنى على في قولك أمنته على كذا، استعلاء الأمانة، فمن ائتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به، وصار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة. وَنَحْو “وَإِذا مروا بهم يتغامزون” بِدَلِيل “وَإِنَّكُمْ لتمرون عَلَيْهِم” الثامن الْقسم وَهُوَ أصل أحرفه وَلذَلِك خصت بِجَوَاز ذكر الْفِعْل مَعهَا نَحْو أقسم بِاللَّه لتفعلن ودخولها على الضَّمِير نَحْو بك لَأَفْعَلَنَّ واستعمالها فِي الْقسم الاستعطافي نَحْو بِاللَّه هَل قَامَ زيد أَي أَسأَلك بِاللَّه مستحلفا التاسع: التَّوْكِيدُ وَهِيَ الزَّائِدَةُ فَتُزَادُ فِي الْفَاعِلِ وُجُوبًا فِي نحو: “أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ” ، وَجَوَازًا غَالِبًا: “كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً” فإن الاسم الكريم فاعل وشهيدا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ وَدَخَلَتْ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي قَوْلِهِ: “كَفَى بِاللَّهِ” مُتَّصِلٌ بِالْفِعْلِ اتِّصَالَ الْفَاعِلِ.قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَفَعَلَ ذَلِكَ إِيذَانًا بِأَنَّ الْكِفَايَةَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ فَضُوعِفَ لَفْظُهَا لِتَضَاعُفِ مَعْنَاهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتْ لِتُضَمِّنَ " كَفَى " مَعْنَى " أَكْتَفِي".قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ مِنَ الْحُسْنِ بِمَكَانٍ.( تزاد الباء في كفى إذا كانت فعلا متعديا لواحد بمعنى اكتف) (أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)فضلت)الباء مزيدة في الفاعل وهذا هو الراجح أي أولم يكفك ربك قالالرازي: "اعلم أن (الباء) في قوله: “وكفى بالله”“وكفى بربك”في جميع القرآن زائدة، وتزاد فِي الْمَفْعُولِ نَحْوَ: “وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” لكن ضمن معنى تفضوا ؟أي لا تفضوا بأيديكم َالْبَاء للآلة أو الباء متعلقة بالفعل والمفعول محذوف والتقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم والمُرَاد بِسَبَب أَيْدِيكُم كما تقول : لا تفسد حالك برأيك. “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ” وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ. ، “فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ” ، “وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ” . وفي المبتدأ، نحو: “بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ” أَيْ أَيُّكُمْ وَقِيلَ: هِيَ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ الفريقين أو فِي أَيِّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ.وهو الراجح لأن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في حسبك فقط وَفِي خبر لَيْسَ وما النافيتين : “ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ“.( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) “وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ) والغرض توكيد النفى
[1] الخفض عبارة كوفية والجر عبارة بصرية
يتسامح ويطلق على الجار والمجرور ظرفا
[2]الفعل اللازم: يكتفي بفاعله ولا ينصب مفعولا به، أو لا يصل إلى مفعوله إلا بحرف جر، نحو:جاء زيد - مررت بزيد. والفعل المتعدي: الذي ينصب مفعولا به أو أكثر، ويصل إليه بدون حرف جر، نحو:أكرمت الضيفَ – علمتُ اللهَ بصيرًا (
ما يقبل الهاء متعد ومالا يقبلها لازم ضرب ضربه
بارك الله في أستاذنا الدكتور البطاوي بمناسبة نشره لهذه النفحات اللغوية اللذيذة.
حروف المعاني من أخطر مباحث العربية إطلاقا فانظر إلى كم جهودٍ انصبت عليها من طرف أهل اللغة الذين صنفوا فيها مصنفات مستقلة مثل " معاني الحروف " و " رصف المباني "، وكذلك حصل على يد الأصوليين والمناطقة، ولنلاحظ كيفية تجمع أهل الفنون على دراستها.
وفيما يخص ( الباء ) قرأت في لسان العرب (204/1، دار صادر) أنها أكثر ما ترد بمعنى الإلصاق ثم ذكر المعاني الأخرى ولم يأت على الأصل، فكيف تدرس دراسة علمية بدون معرفة الأصل؟ ثم قال رحمه الله: "وكل هذه الأَقسام قد جاءت في الحديث وتعرف بسياق اللفظ الواردة فيه"؛ فقلتُ: إن عرفت السياق فما حاجتي إلى إختراع الأسماء للباءات، ثم تساءلت: أليس هذا هو الإستدلال الدائري ؟ ثم أبطل تلك الطريقة الإنتزاعية عند قوله عن ابن جني: "أَما ما يحكيه أَصحاب الشافعي من أَن الباء للتبعيض فشيء لا يعرفه أَصحابنا ولا ورد به بيت" وهو يريد الفائدة الأولى المذكورة أعلاه حول الإختلاف في "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ"، وهذا عندي أي حسب معلوماتي غير دقيق إذ أن محل الإختلاف هنالك لم يكن بين "التبعيض" و "الإلصاق" بل بين "التعميم" و "الإلصاق" فلننتبه للفرق جيدا، وقلت: هل كان سياق "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ" مجهولا ؟ كلا، إذن كيف يستقيم قوله أن المعنى الذي جاء له الباء مما يعرف بسياق اللفظ الواردة فيه؟
أما العلامة ابن جني فقد قال في كتابه اللمع في النحو، وهو كتاب ألفه بشكل عجيب إذ نبّه إشارة وتفهيما إلى أهمية مبحث حروف المعاني من خلال مسلك في التبويب لافت، ما نصه: "اعلم أن القسم ضرب من الخبر يذكر ليؤكد به خبر آخر والحروف التي يصل بها القسم إلى المقسم به ثلاثة وهي الباء والواو والتاء، فالباء هي الأصل .. وتدخل على كل مقسم به مظهرا كان أم مضمرا" (الصفحة 73، جامعة أوبسالا - السويد) وفي حروف الجر اكتفى بذكر الالصاق والزيادة. فهو إذن قد حدد الأصل في حروف القسم، وأضاف الزيادة لأنه لم يقف على ما يؤدي معنى الإلصاق في قولهم "ليس زيد بقائم" مثلا.
من خلال كثرة ابن منظور وحصر ابن جني أفهم أن الأصل الإلصاق، ويرمى به إلى الجمع والتعاضد والتّساعد والاتفاق، وما شابه وقارب وكلها ملازمة للقسم/الحلف، وما يتفرع عن الأصل تخصيص وجب تحديده باستقراء علمي رصين بعيدا عن عمليات الإسقاط على طريقة "أدخل الكرة برأسه في الشباك" إذن الباء باء تحقيق الهدف.
الآن أعود إلى الإختلاف الذي وقع في باء "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ" لأحاول إلقاء نظرة منطقية عليه وأقول أن "الإلصاق" في الخارج لا يهيمن أي لا يستقصي فيلزم منه التبعيض والبعض هنا مجهول فيصار به إلى التعميم فيجوز الإختيار تباعا إذ يصعب هنا الكلام عن مساحة مشتركة بين الرأس وبعضه!! إذن لا معنى لتخطئة أصحاب الشافعي من هذا الوجه، وإلا عدنا إلى السؤال الأول عن الأصل في الباء، وقد يأتي الجواب المقنع (لي) من جهة فقه اللغة أي من المتخصصين في الفيلولوجيا فالمعلوم عن العرب الخلص الخطف والحذف والدرج والاجتياز وغيرها في الإفصاح (الإعراب) فلا أستغرب الإنزياح لتشمل نزعة التخفيف في تحويل الأسماء الشائعة إلى حروف، ولعلها أسهمت في الباء وهذا ما أميل إليه .
كما ذكرتم فإن حروف المعاني والباء على وجه الخصوص اختلف فيها أهل التخصص هل لها معان محصورة أم أن المعاني غير محصورة، ونعلم جميعا أن الكلمات لها مدلولات في نفسها فمثلا لو قال لك إنسان السكين وسكت فأنت ينطبع في ذهنك آلة حادة تقطع، أما لو قال لك بـ وسكت فمهما حاولت من تلمس مراده من لغة جسده وعينيه والملابسات التي حوله لن تستطيع أن تصل إلى مراده إلا عن طريق تصريحه بالحدث والمجرور، وعلى هذا فالصحيح أن حروف المعاني ليس لها معان محصورة وإنما تتحدد معانيها حسب موقعها وعلاقاتها بالمفرادت في باقي الجملة.
وفي قوله تعالى: {وَٱمْسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمْ } (المائدة، 6)
فالسياق ذكر أحكام الوضوء والمسح معروف والرأس معروف، فدخول حرف الباب ومعنى هذا الحرف في هذا السياق يوضحه السياق نفسه إذ ليس لحرف الباء معان محددة في اللغة على الراجح، وأنت إذا تلمست هذا ستجده أنه لتبعيض ليس إلا، لأن الإلصاق مفهوم من لفظ امسحوا فالمسح يقتضي الملامسة والإلصاق. فكيف تكون الباب للإلصاق والإلصاق مستفاد بدونها أما التبعيض فلا يستفاد إلا مع وجود الباء فلو قال في غير القرآن امسحوا رؤوسكم لكان المسح على الرأس كله ولكان الإلصاق مستفاد بدون الباء.
وهناك فائدة جليلة في سورة الفاتحة فإن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه السورة العظيمة بحرف من حروف المعاني، وقد اختلف العلماء في معنى الباء في البسملة والصحيح أن من إعجاز القرآن أن يجعل هذا الحرف له أكثر من معن ذلك أنه لا يتضح معنى الباء في البسملة إلا بتقدير العامل فإذا قدرنا العامل اقرأ بسم الله بخلاف ما إذا قدرناه اهتدي بسم الله وهكذا يمكنك تقدير كثير من التقديرات وعديد من الأحوال عند نطق البسملة في مفتتح قراءة القرآن وفي مفتتح كل الأعمال. وجدير بالذكر أن الله سبحانه وتعالى سمى هذه السورة العظيمة بالفاتحة لأنه افتتحها بالنية فالباء في مفتتح هذه السورة مفتقرة إلى نية، وهذا من إعجاز القرآن وحسن استهلاله فقد استهل كتابة العزيز بالنية ليذكرك بإصلاحها وتجديدها من آن لآخر.
تسلم أخي المعتزبالله محمد.
الجزء الأخير من مداخلتك المحترمة هو الذي تناولته بأسئلتي في مشاركتي السابقة حيث تعمّدت بعض الأخطاء أملا في تعليق نقدا. أما ما ذكرته في الجزء الأول ".. وإنما تتحدد معانيها حسب موقعها وعلاقاتها بالمفرادت في باقي الجملة.." فليس على إطلاقه، رغم أن القدامى في تحديدهم للحرف قد ذكروا ما يوافق تمثيلك للاسم بالسكين والحرف بالباء، وهو أن الحرف لا يصلح معه دليل الفعل ولا دليل الاسم أي لا يُتصور بمفهوم الفعل (المعنى في ذاته وهو حدث + عامل الزمن) ولا بمفهوم الاسم (المعنى في ذاته للشيء - عامل الزمن) فالحرف إذن يدل على معنى في غيره لذلك قالوا وحرف جاء لمعنى. عليه نفهم أن المصطلح (حروف المعاني) يحمل بالإضافة تعريفا للحرف، وأيضا لتمييزه عن الحروف الهجائية فحروف المباني هي أ ب ت ..إلخ في اللغة العربية ولابد من هذه الإضافة ولا نقول "في العربية" هكذا لأن العربية تشمل كل اللهجات التي تتكون أنظمتها الصوتية من حروف لا توجد في اللغة العربية - مثل الجيم اليونانية(القديمة)-القبطية في المصرية، والقاف في النجدية وهي الجيم القاهرية، والباء في المغاربية ..إلخ، لكن في الحقيقة يلزمنا التفريق بين الحرف والأداة لولا أن المحافظين يدافعون عن التقسيم الثلاثي؛ فالحرف الذي ينطبق عليه تعريفهم تماما هو الذي لا يكون إلا حرفا وهو الأداة مثل أداة التأنيث فهذه الأداة دلالتها عدمية ولا تعرف إلا بعد دخولها على الفعل، بينما الحرف قد يكون اسما مثل على أو الباء الظرفية وقد يكون فعلا مثل عدا التي تَنصب وتَجر ولا تَرفع.
الأداة في العربية لا تُسخّر إذ لا وجود للتسخير في الإظهار باللغة العربية التي تكتفي بالأقسام الثلاثة: الرفع والنصب والجر، وربما أضافوا الجزم الذي هو في الحقيقة عدم الإظهار، عكس الذي نجده في اللغات الأخرى مثل السين (س) في الروسية التي تَجر (التعلق والإضافة) وتُسَخّر (التسخير والإستعمال) وهذا النوع من الأعراب بالتسخير كان في الإنجليزية القديمة واختفى في الحديثة حيث حلت وظائف الحروف محل الإعراب كما نرى في المثال الشهير: عاش سيّافاٌ (lifde sweorde) معربة تطورت إلى: هو عاش بـ الـ سيف (he lived by the sword) مبنية، وهناك لغات أخرى تلعب فيها الحروف دورا مختلفا حيث يمكن إستعمال الحرف مكان الإعراب وهذا ما حدث في اللغة الهولندية الحديثة فعلا إذ أدارت ظهرها للإعراب، وفي أختها الألمانية نلاحظ الفروقات بين اللغة الألمانية والألمانية (اللهجات) حيث يمكن إستبدال الوظيفة الإعرابية بالحروف مثلا في قولك سيارة أخي (Das Auto meines Bruders) في اللغة وفي العامية يأتي بحرف von فيقول (Das Auto von meinem Bruder) فيبني جزئيا ويترك من الإعراب ما يتعذر تحويله مثل المفعولية المنقطعة التي جاءت بعد الحرف، وهي حالة إعرابية لا توجد في العربية طبعا مثل التسخير اللي أشرت إليه.
إضافة إلى ذلك تلعب الحروف دورا مهما في رفع اللبس الذي لا يمكن رفعه بالترتيب في الجملة المعربة، مثلا في اللغة العربية عندنا المثال المشهور "ضرب موسى عيسى" ولا يمكن أن تقول أن "موسى عيسى" إسم مركب لأن الجملة عندها غير مفيدة، إذن لابد من الترتيب وهو الدور الذي يقوم به الحرف فينظم الكلام ويتحكم في تركيب الكلمات، أما في الجملة المعربة فأنت في التقديم والتأخير حر تقول (ضربَ زيدٌ عَمرًا) أو (ضرب عَمرًا زيدٌ) في اللغة العربية، وكذلك في اللغة اللاتينية (Zaydus Omarum castigat) أو (Omarum Zaydus castigat) نفس الشيء، وهكذا في اللغات الأخرى التي تعمل بهذا النظام بدل توظيف الحروف، وعندنا نحن في الأمازيغية لابد من توظيف الأداة (ث) إما بحذفها وهو الأصل في الترتيب وإما بإدخالها على الفعل (زيّادْ إِوثا عْما) فتصبح (زيّادْ إِوْثَاثْ عْما) أو (إِوْثيث) حسب اللهجة، والزاي مثل الألف قبل الأداة ينطق بصوت يتواجد بين الإمالة و المصوت المتوسط المركزي وهو صوت لا يوجد في اللغة العربية لذلك إستنجد العرب بهمزة الوصل التي تدخل على كلمات تبدأ بالسكون.
وهذا الدور المنوط بالحروف شبه موجود في العربية، ولا نقول موجود بل شبه موجود، خاصة في بناء الجملة أي تحويلها من الإعراب إلى البناء. ها مثال من المصرية يقول المصري "العربيه بتاع أخي" وفي الأصل، يعني اللغة العربية، الجملة إسمية معربة "عربة أخي" مسند والمسند إليه محذوف تقديره بالإشارة، ولنفهم أن البناء شبه موجود نعود بالكلام إلى الأصل حيث تحول المعرب (مَتاع) إلى حرف ولم تتحول الجملة بشكل كامل إلى البناء لأنها هكذا: هذه السيارة مَتاعُ أخي. وكذلك في المغربية يستعملون (نْتاع) أو (مْتاع) فيقول المغاربي (طوموبيل نتاع خويا)، ويقولون أيضا (طوموبيل ديال خويا) وفي الأصل: (السيارة هذه لـ أخي) أصبحت (السيارة ذي لـ أخي) ثم (السيارة دي لـ أخي) وهكذا إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه لأسباب تدرس في علم النفس اللغوي وعلم الاجتماع اللغوي وغيرها من التخصصات ولعل اللغويات العصبية أهمها فكما تعلم كل مولود يولد عربيا (أي فصيحا) سواء تواصل بالأصوات أم بالإشارات لا يهم فجهازه العصبي مفطور على تعامل معين مع مظاهر اللغة فأساس اللغة موجود بالفطرة وهو ما يسمى في اللسانيات النظرية بالميزان اللغوي الكوني (UG)، وقد أشار إليه ابن جني بشكل أو بآخر قبل دراسات العلامة تشومسكي في هذا الحقل، والمخ في علاقته مع الخارج يقوم تلقائيا بعمليات إنتخابية والتركيب الصوتي الذي يحتاج إلى جهد/طاقة أقل يصبح هو الأصلح للبقاء ومن ثم التوارث؛ وتفاعل الجهاز العصبي مع الخارج يعني الخارج بشكل عام بما في ذلك اللغات المحيطة به، الشيء المحتمل في تطور (ديال) إذ (دْيالْ) هذه لها وضع خاص لأنها تطورت فصارت حرفا واحدا هو الدال: (طوموبيل دْ خويا) ، وربما هذا الذي حصل مع الباء في اللغة العربية لذلك قلت في المشاركة السابقة أن الإختلاف في تحديد المعنى الأصلي يمكن رفعه إما ببحث فيلولوجي أو بإستقراء علمي دقيق وليس بالإسقاط. واختصار (ديال) في الدال وتحويل المعرب إلى المبني كلها من بركات الأمازيغية على اللهجات العربية المغاربية، ففي الأمازيغية أدوات كثيرة تتألف من صوت واحد مثل النون للجر والإضافة والسين للتسخير والثاء للنصب الخ..
ونعود إلى الجزء الأهم بعد هذه الإشارة التي أرجو أن تسهم في توسيع تصورنا لهذا القسم المهم من أقسام الكلام، فأقول تستطيع أن تقول أي شيء في الباء، وأنها جاءت لألف معنى، وتعود إلى كتب الغريب والعجيب، لكن اللغة أي لغة متحكمة لا محكومة وأنظمتها الميزانية (النحوية والصرفية) والأسلوبية والصوتية/الإشارية والدلالية تحمل في طياتها ما تدفع به الدخيل من حيث أنها توفر لك الوسائل التي تستطيع بها تفنيد الدخيل، ويمكن بها التعرف على التكلف والتقعر، كما تدفعك إلى التوقف في المسائل الجزئية التي لا يمكن إختبارها بالتضاد والإبدال، والسياق له دور فعال في تفكيك مكونات الكلام وتحديد حقيقتها منطقيا ولغويا لكن بشرط الاطراد ثم الإختبار، فعندما يقال لك الهمزة للنداء فيأتي لك قائلا أنها وردت في (أفاطم مهلا..) فمن واجبك أن تجيب (إيش تحكي؟) أو (أي شيء تحكيه ؟) قبل التفكر في مسألة الإختبار. أليس كذلك ؟
هل حروف المعاني في القرآن والباء على وجه الخصوص:
1- لها معن أصلي ونحاول أن نتعسف في تكلف هذا المعنى،
2- أم أن معناها يتضح من السياق فقط، وليس لمعناها الأصلي أن وجد دخل في إضهار معناها في السياق.
3- أم أن الباء لها معن أصلي ومعن مستمد من السياق وبذلك يكون المعنى مستمد منهما جميعا.
وفيك بارك الله أخي الأستاذ محمد.
ماذا نعني بالمعني الأصلي؟ طبعا ليس المعنى الذي وضع له اللفظ أول ما تُلفّظ به، لأن الأصل بهذا المعنى يصعب الوصول إليه وكلما كانت اللغة أقدم كلما زادت الصعوبة إلى أن نصل إلى الإستحالة لأن اللغة تتغير وتتطور وتموت في جملتها وكذلك يحدث مع أجزائها، وبين هذا وذاك نستعين بالإثالة والإشتقاق وفقه اللغة المقارن وغيرها فنفترض ونبني نظريات، إذن البحث عن المعنى الأصلي يكاد يشبه تشفير نص/نقش كتب بلغة بائدة وهو تشفير في حاجة إلى مجهود عظيم ووقت يطول كما حدث مثلا مع نقش بيستون حيث تم الإستعانة بلغة (شبه) حية لمحاولة الوصول إلى المعنى المفترض. وفي هذا الصدد أود أن أشير إلى فكرة ملزمة عقلا أن هذا هو الذي ينبغي أن يحصل في تحليل النصوص القديمة التي دونت باللغات السامية بما في ذلك العبرية أي يجب الإستعانة بالعربية (اللغة واللهجات) لأنها 1) حية و 2) قاعدتها المشباكية عريضة، لا العكس كما يتخيّل بعض المغفلين يقول نحن في حاجة إلى الآرامية أو ما أدري إيش لفهم أحسن للألفاظ اللغوية العربية أو العربية، بينما العكس هو المعقول فالعربية في هذه الحالة حاكمة لا محكومة إذ أن كثرة مستعمليها مع كثرة ما وُرد ودُوّن بها كلها أشياء وسّعت حيويتها وشبكتها.
عليه ليس ذاك هو المراد بالمعنى الأصلي، وقد نتفق أنا وأنت الآن على لفظ معين لمفهوم (شبه) مشترك نتصور به أي شيء معنويا أو حسيا كان، ثم ينتشر ويذاع ويكتسب معان جديدة، فمع الوقت يُهمل المعنى الأصلي فيندثر مثلا أو بفعل عوامل أخرى معروفة في الدراسة المهتمة بالتغييز والتطور والانزياح..
إذن المعني الأصلي المراد هو المعنى الموجود في المُتداول وهو الذي يستعمل الآن في العربية واللغة العربية أي مجموع المنقولات المدونة والمنطوقة وهناك يستعمل الحرف الأحادي ( الباء ) المختص بالأسماء في اللغة والذي يدخل على الأفعال في العربية المصرية، أي عندنا تعابير متنوعة وكثيرة نريد البحث فيها عن المعنى الأصلي الذي تتفرع عنه المعاني الأخرى التي جاءت لها الباء.
خذ هذه الأمثلة:
جاء محمد بـ الليل
جاء محمد بـ الدرّاجة
جاء محمد بـ الخبر
جاء محمد بـ خالد
جاء محمد بـ القاهرة
أول شيء ستفكر فيه هو تحديد مجال القول مثلا الإنسان-الزمان في الجملة الأولى، الإنسان-المكان في الجملة الأخيرة؛ ثم إستبدال حدث المجيء بغيرها فستلاحظ أن تعدية الأفعال بالباء غير مفتوح حيث ستلجأ إلى الوضع لتحديد العلاقات الممكنة ..
جزاكما الله خيرا وبارك فيكما أخى الكريم شايب زاوشثتي وأخى الكريم المعتزبالله محمد
المعنى الأصلى للباء الالصاق ولكن عندما يشرح العالم جملة ما فيبين معنى الالصاق في هذه الجملة فلا يتضح إلا إذا شرحه بقيد جديد فيقول الباء هنا للاستعانة أو للسبببية وكل حسب السياق ونلاحظ ذلك جليا في الكشاف وفي الدر المصون فالغرض بيان المعنى وتبسيط المعلومة
هل المعنى الأصلي الذي جاء له حرف الباء هو الالصاق؟ إذا قلنا أنه الإلصاق فيلزم حينها إمكانية الإختزال، أي رد المعاني الفرعية إلى الأصل، وإلا كانت الباء مشتركا لفظيا، شرط اجتناب الإسقاط وهذا يكون بالاستقراء. وفي المثال أعلاه قلت: " ستلجأ إلى الوضع لتحديد العلاقات الممكنة " لأن تعلق الجرارات والمجرورات (بالليل، بالخبر، بالقاهرة..) بالمجيء غير مفتوح، وكذلك ( المسح ) حيث لا يكون الممسوح به هو الممسوح.
أشرت في الرد الأول إلى التفكير الدائري في اشتراط السياق لتحديد معنى الكلمة بحجة أن معرفة سياق الكلام موقوفة على معرفة الكلمات، وهذا خطأ لم تنتبها له؛ وقد يصح في حالة حمل السياق على المراد من الكلام، أو المعنى.. لكن السياق روح تسري في الكلام (سياق داخلي: عام وخاص|مستويات)، وروح تسري خلف/وراء الكلام (سياق خارجي: عام وخاص|مستويات)؛ فالسياق هو علاقات تفاعلية بين محيط الفضاء القولي والوحدات الكلامية، أي بالسياق نوجّه الكلام وبأجزاء من الكلام نتعرّف على السياق .
وبعيدا عن التعريفات التفصيلية للسياق، وأقسامه وأنواعه وعلاقته بالأدوات الأخرى في تحليل الخطاب، سننظر لنرى أن السياق لا يقوم بتحديد المعنى - ولعل هذا السبب الذي دفع بعض المتقدمين إلى القول أن السياق لا يقام عليه الدليل -، لكن يقوم بتوجيهه وضبطه حسب طبيعة الكلام، فقد يكون الكلام متشابها إذا تكوّن مثلا من المشترك اللفظي، المعنوي، الدلالي.. الخ، وكذلك حسب مد مستوى السياق. وقد عبر ابن القيم الجوزية على التوجيه والضبط بقوله: " السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة " (بدائع الفوائد ج4 ص9، أو ص1414). وعليه نفهم أن الإختلاف في تحديد المعنى الذي جاء له حرف الباء في الاية الكريمة "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ" ليس سببه جهلهم بالسياق بل بسبب الإختلاف في التعرف على مستوى السياق، أما السياق في حد ذاته فغير مجهول.
لنأخذ هذا المثال: (ذهب محمد بـ [س1] إلى [س2] عبر [س3] حتى [س4]).
المجموعة ( س ) مجهولة، لكن السياق ظاهر فالفضاء القولي هنا هو: (محمد | الزمان و المكان)، إضافة لتحقق القول بتحقق أدنى متطلباته: المسند والمسند إليه أي الفعل والفاعل فهي جملة فعلية، والمثال هذا بالصورة طبعا وإلا فهو لا يسمى كلاما عند النحاة لعدم تحقق الإفادة والوضع. أما تقرير الطرف الثاني في فضاء القول (الزمان و/أو المكان) فبالبرهان (ذهب فعل والفعل حدث مقترن بزمن) وبالاستقراء إذ أن المجموعة ( س ) مجرورة وكل فرد فيها مع جرارته يتعلق بالذهاب وهذا التعلق تعلق زمكاني. وإذا استبدلت الفرد الأول (س1) بكلمة الليل مثلا، فقد بدأت بعملية التخصيص، أي إنتقلت في السياق إلى مستوى آخر من مستوياته.
وفي حالة أخرى قد يكون الكلام كله أعجميا أي بغير لغتك، فهو بلغة لا تفهمها، مع ذلك تعرف سياق الكلام وقد تتصرف وفق ذلك، وبالمثال: وقفت على طرف الشارع تفعل شيئا لا يجوز عادة بل هو مستقبح عندك أيضا، فإذ بسيارة شرطة تقف عندك ويخاطبك الشرطي بكلام لا تفقه منه شيئا.
والعكس صحيح، فكل إنسان قال ولو لمرة واحدة في حياته " ماذا تقصد؟"عندما يعرف الكلام كله ويكون السياق مجهولا، كأن يقول مجهول مخاطبا إياك: " هل فعلا قلت ذلك، يا هذا؟". ستكون في حاجة إلى السياق لتفهم سؤاله، وهذا أيضا مستويات: قلتُ ماذا؟ أو: من أنت وماذا قلتُ؟ أو: من أنت وهل تعرفني وماذا قلت وأين ولم تسأل.. الخ؟
والمثال الثاني في إمتداد مستوى السياق بين العموم والخصوص:
- رأيت عينها.
- رأيت عين الجماعة.
- رأيت عين الجماعة فأخبرت الجهاز.
- رأيت عين الجماعة فأخبرت جهاز المخابرات.
- رأيت عين الجماعة فأخبرت جهاز المخابرات فقالوا أنهم قد تعرفوا عليه.
-..
هكذا تتمدد مستويات السياق حتى تعرف أن العين هي الجاسوس وتتمدد أكثر فتعرف من الذي رأى والجماعة، والسياق الخارجي تستمده من السياق الداخلي، وقد تعرف خطورة الأمر عندما تنتقل في السياق الخارجي إلى أعلى مستوى ممكن.
هناك كثير من المفاهيم المستمدة من الكتاب أو من السنة الصحيحة أو من إجماع العلماء،
هذه المفاهيم مسلمات وهي قواعد نتفق عليها ونتحاور على أساسها،
وأما ما اختلف فيه أهل العلم فمهما كان القول قوي من حيث كثرة القائلين به، إلا أنه يحتاج إلى براهين كثيرة حتى تقنع مخالفك بهذا الرأي، والحقيقة أن الذين قالوا أن الإلصاق هو المعنى الأصلي للباء تجدهم يتوقفون في كثير من الأمثلة التي تنافي الإلصاق أصلا. فيضطر إلى التكلف والتعسف في التقدير.
نعود إلى الآية الكريمة:
إذا كانت الباء للإلصاق، ما رأيك في قولك مسح رأسه، هل فيها إلصاق أم لا؟
الأولى: أنك بارك الله فيك، تخاطب في هذا المنتدى علماء أفاضل كثر، وطلاب علم، وجهال أمثالي كثر أيضا، وأنت بارك الله فيك تحاول أن توضح المراد بكثير من الأمثلة الدارجة، فإذا لم يكن طلبي ثقيلا هل يمكن أن تكتب مع مزيد من التوضيح وقليل من الصطلحات العلمية؟ وجزاك الله خيرا،،،
الثاني: أنت بارك الله فيك، تتحدث عن القضية من زاوية بعيدة وتريد تأصيل الموضوع ككل، فلا تتقيد بلغة، لكن لو تطرقنا في كل قضية ألى الموقف فيها من لغة القرآن يكون أفضل، لأن مهما وضع العلماء من قواعد، فلغة القرآن لها قواعد خاصة.
أعود وأقول وأسأل هل الباء في لغة القرآن (استقراءا)، لها معن مشترك لكل المواضع، وكل موضع فيه معن خاص؟
سؤال أخينا المعتزبالله مهم: إذا كانت الباء للإلصاق، ما رأيك في قولك مسح رأسه، هل فيها إلصاق أم لا؟
نعم، هل من مسح بلا إلصاق؟ وكي نخصص المسح نقول مسح جثماني، مسح الجثة، حتى نستثني المسح الأدبي. في هذه الحالة تكون الباء زائدة لأن الإلصاق قد دلّ عليه المسح الجسماني، فما هي الدلالة الأسلوبية البلاغية للباء هنا؟ أو نفترض تعدد المعاني للمسح المادي إن كان مشتركا لفظيا، وفي هذه الحالة نحن في حاجة إلى دليل خارجي. هنا يأتي سؤال آخر عن المعنى الذي جاء له الباء في " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ " و " فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ".
أما قول أستاذنا البطاوي ومعنى الآلة ظاهر فيدك آلة للمسح، فغير ظاهر، بل العكس هو الظاهر أي الآلة هنا هي الرأس.
أخي الكريم محمد:
في الحقيقة أنا تجنبت المصطلحات. الفكرة المطروحة للمناقشة تهم من يبحث عن ميزان معياري يتحاكم إليه عند التعميم، كما تهم من لا يحفظ ولا وقت لديه ليحفظ.
فقد قال بزيادة الباء هنا الواحدى كما في التفسير البسيط (14/ 227)
والرازي = مفاتيح الغيب (21/ 528وأبو حيان كما في البحر المحيط (7/ 254) و أبو السعود -إرشاد العقل السليم (5/ 262 والسمين الحلبي وغيرهم وكذا العلامة محمد عبد الخالق عضيمة
قال أبو السعود:والباء في قوله عز وجل {بِجِذْعِ النخلة} صلةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ الخ قال الفراء تقول العرب هَزّه وهزّ بِه وأخذ الخطامَ وأخذ بالخطام أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهز بجذعها أو هزي الثمرة بهزه وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول الهز أي هزي إليك الرطب كائنا بجذعها
وكذا ابن عاشور الذي قال:وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَقَوَلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: 195] .وَضُمِّنَ وَهُزِّي مَعْنَى قَرِّبِي أَوْ أَدْنِي، فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) ، أَيْ حَرِّكِي جِذْعَ النَّخْلَةِ وَقَرِّبِيهِ يَدْنُ إِلَيْكِ وَيَلِنْ بَعْدَ الْيُبْسِ وَيُسْقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا.وَالْمَعْنَى: أَدْنِي إِلَى نَفْسِكِ جِذْعَ النَّخْلَةِ.
ومن الممكن فهم الباء بمعنى الآلة كما قال الآلوسي : فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم) تفسير الألوسي = روح المعاني (8/ 402)
فالفرق بين قولك هزى بجذع النخلة وهزى جذع النخلة زيادة تأكيد فعل الهز بأن يكون بواسطة آلة(الجذع) مباشرة وليس بواسطة عصا أو نحوه وكلام الآلوسي أن الجذع هو آلة الهز كأنه يقرب المعنى الذي نفهمه