ما رأيكم جزاكم الله خيراً ؟
أعانك الله يا د. أحمد، في مستقبل الأيام، فستسمع من الأذى على سؤالك هذا ما سيجعلك تتمنى لو لم تكن طرحته على شبكة الإنترنت :)
ولكن، أبشر: فطرحك للموضوع في قالب سؤال عوض أن يكون رأيا، سيخفف ولا ريب من وطأة الردود عليك، ويتيح لك فرصة الهروب والاعتذار وإحسان الظن بك :)
أقول هذا للمزاح فقط..
أما عن الموضوع، فاسمح لي بطرح الأفكار التالية، وعذرا على الإطالة، فقد لامست موضوعا يستثيرني هذه الأيام، في جوانب متعددة منه، من خلال أحاديثي مع بعض إخواني من المسلمين العرب والمهتدين الجدد وغير المسلمين، في العمل والمركز والمنتديات. فاصبر على أخيك، إن رأيت منه إسهابا في غير محله، فإنما هي (فشة خلق) كما يقول أهل الشام...
واقعنا ما زال يخوض في موضوع التصوير، أهو حلال أم حرام. وسمعت في بعض الندوات العلمية التي تم تصويرها للتلفزيون في بث مباشر (كما فهمت من السياق)، من يطلب من تلك القنوات التلفزية إيقاف البث (أو إيقاف التصوير) لفسح المجال لأحد العلماء كي يقول كلمة لم تتجاوز 3 أو 4 دقائق، لأنه لا يرى بجواز التصوير. والحصيلة أن مداخلته لم تكن لا في صلب موضوع الندوة، ولا بتلك الأهمية التي تلجئ القائمين على الوقوع في مثل هذا الحرج.
فهل ترى أن سؤالا كهذا مناسب لواقعنا الراهن؟
ورغم ذلك، أكمل الحديث...
قد يكون مثل هذا الفيلم الذي تنصح بإنجازه مفيدا، ولكن لا أعتقد ضرورة تجسيد دور الرسول صلى الله عليه وسلم. ولنا في فيلم الرسالة لمصطفى العقاد خير مثال.
ولعل أفضل من مثل هذا الفيلم السينمائي: إنتاج سلسلة من الأفلام الوثائقية الجيدة منهجيا وتقنيا. وقد تم إنجاز نماذج من هذه الأشرطة في الولايات المتحدة، مثل الشريط الذي أعدته قناة PBS الوثائقية: Legacy of a Prophet والذي لاقى نجاحا جعل منظمة كير (مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية) تتبناه وتوزع منه آلاف النسخ الدي في دي، على غير المسلمين في أمريكا الشمالية.
وقل مثله عن شريط وثائقي أعده مخرج كندي (أشهر إسلامه منذ بضع سنوات)، عن الإسلام والمسلمين في كندا، لاقى نجاحا كبيرا على المستوى المحلي، وتم عرضه، هنا في مدينة أوتاوا مثلا، في نطاق خاص على أعضاء من البرلمان والوزراء والمسئولين المحليين، ووسائل الإعلام، في إطار مواجهة التشويه الإعلامي.
كما علمت بوجود مثل هذه الأشرطة في فرنسا أيضا.
من ناحية أخرى: الفيلم السينمائي قد يدغدغ العواطف، ولكن يبقى فيلما سينمائيا، يخشى التعامل معه على أساس أنه قصة محبوكة شأنها شان القصص التي تقوم عليها باقي الأفلام.
أما الشريط الوثائقي المحترف، فأثره أعمق وأكبر، وإن كان لا يتمتع بنفس الانتشار. وفي اعتقادي أن الجودة مقدمة على الكمية في مثل هذه المواضيع.
وأحسب أن من أهم عوامل نجاح فيلم وثائقي كهذا في أوساط غير المسلمين ما يلي:
1- أن يدع جانبا عادة (التغني بالأمجاد التليدة) وتصديرنا للعلم للعالم في القرون الماضية، ومنطق (كنا.. وكان أجدادنا) التي لا تحسنها أمة في العالم كما تحسنها أمتنا. ونحن، المسلمين في الغرب، من أكثر من يعاني من تبعات هذا الخطاب، واستهزاء المستهزئين منه. وقد أخبرني من أثق بهم بما حصل لهم في مؤتمر علمي دولي (لا صلة له بالدين) تم مؤخرا في دولة عربية، دعي فيه الحاضرون (وأكثرهم علمانيون لا يؤمنون بشيء)على هامش المؤتمر، إلى أنشطة دعوية خالصة تروي لهم أمجاد المسلمين في تأسيس العلوم، وتدعوهم إلى الدخول في الإسلام. فكان ذلك محل تندر وتهكم.
2- المصداقية (العدل، الصدق، التوازن، الإتقان) وعدم المبالغة في دغدغة العواطف.
3- الحرفية العالية.
أخي العزيز:
يبدو أن طرح سؤالك هذا جاء نتيجة ما يجري من أحداث راهنة حول فتنة الرسوم الكاريكاتورية. ومن المؤسف أن ما يجري من ردود أفعال لا يغني ولا يسمن من جوع لحد الآن: إصدار بيانات، مظاهرات، رفع شعارات،إنشاء منظمة لنصرة النبي (ص)... وآخرها ما سمعت عنه من إعلان أحد الدعاة في اليمن إنشاء قناة تلفزيونية خاصة بنصرة النبي (ص)...
أقدر هذه الأفعال وحسن النية وراءها، وصدق الرغبة في القيام بواجب يعبر عن محبتنا للنبي (ص).. غير أنني، مع كامل التقدير، لا أرى في أي من هذه الأعمال ما يوحي بثمرة إيجابية من ورائه، في ظل التناقضات والوضع المتردي للأمة.
ولا أقول هذا الكلام من باب التشاؤم ولا من باب الانتقاص من جهد الآخرين، معاذ الله، ولكن من باب معايشة واعية لواقع الغرب.
وما يؤرق المسلم فعلا، هو البحث عن جواب لسؤال أكبر يحتاج فعلا لتأمل عميق: ما هو الأسلوب الأمثل لتبليغ دعوة الإسلام إلى الغرب والشرق، والشمال والجنوب، في صورتها الحقيقية كما أرادها الله عز وجل لرسالته؟
واقعنا المعاصر مليء، كما قلت، بالمتناقضات والفرقة والشحناء، والخطاب العاطفي المتشنج، المعتد بنفسه. وخطابنا الراهن يستدعي في غالبه خلافات الماضي بين الأشاعرة والماتريدية، والفرقة الناجية ومن أهل السنة الحقيقيون (أهم الأشاعرة أم غيرهم)..
ولا أريد أن أسترسل في وصف المساحات القاتمة أو المؤسفة في واقعنا...
غير أنني مضطر لوصف بعض الواقع هنا، مما قد لا تجدون أحدا يصرح به علنا:
فمن خلال تواصلي شبه اليومي بالمهتدين الجدد، لاحظت أن كثيرا منهم يدخل الإسلام من خلال تجربة وجدانية خاصة، إما عن طريق تأثره بسلوك أصدقائه المسلمين، أو نتيجة بحثه الفكري الخالص، إلخ. وعادة ما يكون التحول في لحظة شفافية وصدق مع الذات.
غير أن أكثر هؤلاء لا يمر عليهم سوى بضع أسابيع (أو لأقل: شهر العسل في اهتدائه للإسلام) حتى تبدأ متاعبه الناتجة عن مخالطة مجتمع المسلمين، ورغبته في فهم تفاصيل الدين الفقهية والعقائدية والأخلاقية.
ومع أول صلاة له في المسجد، تبدأ رحلة معاناته مع المسلمين الحريصين على استقطابه، فيتداعون إليه كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. وبعد فترة من الشعور بالزهو للاهتمام الذي يلاقيه ممن حوله من المسلمين، يبدأ في الضجر من المواضيع التي يفرض عليه فهمها منذ بداية الرحلة:
- الموسيقى والغناء
- طول اللحية
- الختان (إن كان رجلا)، وأحمد الله أنني لم أتعرض لحد الآن لسؤال عن حكم الخفاض، وأدعو الله ألا أسأل عنه :)
- دار الحرب ودار السلم، ودار الكفر ودار الإسلام
- البدعة
- الصوفية
- فلسطين وأفغانستان والعراق
- الحرب مع الأعداء (اليهود وأنصارهم)
- الحذر من القراءة للعالم الفلاني والعالم الفلاني، والاكتفاء بكتب الشيخ الفلاني الذي يمثل وحده المنهج الحق.
- مشروعية تهنئة النصارى في أعيادهم
- مشروعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي
- ...
وهو في كل هذا، يتلقاه من أشخاص لا يتورعون عن استعمال أساليب الاستهزاء والتفسيق والتبديع والغيبة والنميمة، مع قلة علم بالقرآن والسنة، ومع جهل مطبق بمواطن الخلاف والأولويات في الخطاب الدعوي المتدرج.
وقد عاينت حالات مؤلمة من التخلي عن الإسلام، ناتجة عن هذه المعاناة. ولولا يقيني برحمة الله بعباده لاعتبرت أن أكبر فتنة لهؤلاء المهتدين لا تكمن في دخولهم إلى الإسلام، وإنما تكمن في اضطرارهم إلى مخالطة المسلمين.
...
أخي د. أحمد،
لعلك تتساءل لماذا طفت بك كل هذا الطواف؟
وجوابي: لأنني أعتبر أن من مهامنا القصوى التي لا تحتمل التراخي: هو إصلاح ما بأنفسنا قبل كل شيء، وتنظيف بيتنا، وترتيب محتوياته والتصالح بين أفراد الأسرة، قبل دعوة الضيوف لزيارتنا، فما بالك بأشخاص ندعوهم لأن يصبحوا من أهلنا ويقيموا معنا في نفس البيت؟
...
والحمد لله على (فشة الخلق) ولك الشكر على إتاحتها لي :)