الفصل الرابع: انعكاسات التاريخية على الرسالة القرآنية:
المبحث الأول: زحزحة الثوابت ونفي المقدس:
المطلب الأول: زحزحة الثوابت:
لا مجال في الخطاب العلماني للحديث عن الثوابت واليقينيات، فلا بد - بنظره - لتحقيق التقدم والنهضة من خلخلة القناعات وزحزحة المعتقدات، واختراق الممنوعات السائدة، وانتهاك المحرمات والتمرد على الرقابة الاجتماعية، وإعادة النظـر في كل المسلمـات التراثية والعقائد الدينية التي يتلقاها المسلم منذ الطفولة.
ولذلك لا مانع من انتهاك القيم السائدة والخروج عليها من أجل تقدم المعرفة، وذلك بهدم الأسوار والحصون التي شيدها الفكر المستقيل والمنغلق على ذاته بسياج دوغمائي مجمَّد وذلك كما فعل المفكرون الأحرار الذين رفضوا الدين جملة وتفصيلاً، ومع ذلك فهم لم يخرجوا عن الإسلام وإنما عن فهم ضيق قسري شكلاني سطحي للإسلام.
ولن يتم ذلك إلا بتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي والإسلامي، لا بد أن تسـير في نفس الطريق الذي سـارت فيه أوربا، ولا بد أن تَهـزَّ المسلمين، ولا بد أن يدفعـوا الثمن، والسبيـل إلى هـذا الأمل هو التخلص من سلطة النصوص المغلقة، والتحرر من قال الله وقال الرسول، والتحرر من سلطة السلف، والإجماع، والقياس..
وهكذا تلتقي العلمانية مع الغنوصية والباطنية في بداية الطريق ونهايته.
المطلب الثاني: نفي المقدس:
الخطاب العلماني - كما رأينا - يرفض أن تكون هناك محرمات أو مقدسات لأن المقدس أو المحرم أولاً يحاصر العقل ويحول بينه وبين الانطلاق، ويسبب له عملية كبت.
ولذلك يمكن اعتبار التنوير أعظم ثورة في تاريخ البشرية لأنها تربي البشرية على اجتثاث هذه الجريمة. إن التربية التنويرية هي التي يجب أن تعم بيوتنا ومدارسنا وعقولنا لكي تُنتِج الشعب الشجاع القادر على تجاوز الحدود التي يفرضها المقدس ونبذ الخوف منه.
و يحلم الخطاب العلماني بانزياح هذه الأنظمة الكبرى المتمثلة في الأديان من دائرة التقديس والغيب باتجاه الركائز والدعامات التي لا زال العلم الحديث يواصل اكتشافها.
المبحث الثاني: انتهاك قداسة القرآن:
المطلب الأول: الأنسنة ونزع القداسة:
إن القرآن – بنظر الخطاب العلماني لأنه متعالي لا تاريخي – فهو يسيطر على عواطف الناس وعقـولهم، ويزيح الموضوعية مقدماً، ويطالب بالتسليم المطلق، ويختار قراءه منذ البداية، ويستولي على مشاعر القارئ والسامع بحيث يحاصره في سلفوية ماضوية، فيفصل الواقع عن الإنسان، ويصبح المثال بدل الواقع، ويتغلب التأثر بالعاطفة على الفهم والعقل.
و يريد الخطاب العلماني نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة والتعالي والتقديس التي يمارسها الخطاب القرآني، وذلك بأن ننظر إلى القرآن ليس على أنه كلامٌ آتٍ من فوق، وإنما على أنه حدث واقعي تماماً كوقائع الفيزياء والبيولوجيا، أو أن ندرسه بوصفه نصاً فقط ونصاً لغوياً دون أي اعتبار لبعده الإلهي لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق على النص يعكِّر كون النص منتَجاً ثقافياً، ويعكر الفهم العلمي له.
ومن هنا يمتدح الخطاب العلماني أركون لأنه " حررنا من الهيبة الساحقة للنص...هذه الهيبة التي تحجب عنا حقيقة ماديته اللغوية "، وهو ما يعلنه أركون حين يقول: " عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن ".
هكذا تكلم العلمانيون..وهذا هو رأيهم في القرآن بشكل عام وهم يوظفون لإزاحة قداسة القرآن الكريم مناهج مختلفة ماركسية وإنسية وهرمينوطيقية دون اعتبار لقداسته ودون اعتبار لكونه كلام الله عز وجل.
المطلب الثاني: نقد القرآن:
الخطاب العلماني يكرر كثيراً الدعوة إلى نقد القرآن وإخضاعه للتحليل والتفكيك ، ويرى أن نقد القرآن من المناطق المحرمة في فكرنا، مع أن هذا النقد ضروري ولا بد منه لكي يحافظ الإنسان على تماسكه المنهجي أو العقلي.
و النقد في المفهوم العلماني حتى يكون نقداً يجب أن يخرج بنتائج مناقضة للقرآن ومضادة لتعاليمه، فكل نقد يرسخ المعاني القرآنية ويؤكدها هو نقد تقليدي أيديولوجي تبجيلي، أما النقد الذي يرفض بعض العقائد القرآنية أو يسخر منها أو يستهزئ بالقرآن الكريم فهو الذي يسمى نقداً تنويرياً.
ومن هنا فإن النقد في الخطاب العلماني يجب أن يقوم على الهدم والتشكيك والنقض والتفكيك لأن خلفيته الفلسفية تقوم على هذه الأسس.
وهكذا يحسم الخطاب العلماني موقفه مستخدماً كل أشكال المصادرة والنفي والإقصاء والفاشية هذه الأوصاف التي لا يكف عن وصم الآخرين بها.
المطلب الثالث: القرآن الكريم تحت مطرقة النقد العبثي العلماني:
ينطلق الخطاب العلماني في تعامله مع القرآن الكريم من خلال عدة أسس هي:
1- الأنسنة: فالنص القرآني بنظر هذا الخطاب قد تأنسن منذ أن تلفظ به النبي وتحول منذ تلك اللحظة من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل.
2- المركسة: فالنص " منتَج ثقافي " و "يعيد إنتاج الثقافة ".
3- النسبية: حيث يصبح النص قابلاً لكل الأفهام، وليس له معنى محدداً.
من خلال هذه الخلفية الفلسفية ينطلق الخطاب العلماني يقرأ القرآن الكريم ويطمئننا بأننا يجب أن لا نخشى تطبيق العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة وخصوصاً علم الأديان المقارن على النص القرآني.
وإذا تعاملنا مع كتاب الله بهذا المنهج – منهج التحليل اللغوي المعاصر – فإننا قد نستخلص ما يتنافى وعقيدتنا فهل نتجاهل ذلك وندفن رؤوسنا في الرمال؟! وهل نخشى على كتاب الله؟!
بالطبع نحن لا نخشى على كتاب الله عز وجل، ولا نخشى من العبث به لأنه محفوظ من العبث وإنما نخشى من العبث بالعقول، وتزوير الحقائق، وترويج الأكاذيب.
من خلال الأسس السابقة يفسح الخطاب العلماني المجال لنفسه لكي يصف القرآن الكريم بكل الأوصاف المنحطة، ويتجلى ذلك في:
أولا: أدلجة القرآن:
كما رأينا طرفاً من ذلك في الفقرة السابقة فالقرآن له دوافع خفية دنيوية أهمها تكريس السلطـة النبوية، وإضفاء المشروعية على أفعال النبي، وإكراه الناس على الخضوع والطاعة.
أما المؤمنون فيرون أن القرآن في نزوله عند الأحداث " أسباب النزول " ومتابعته لحركة المجتمع يقصد التثبيت لفؤاد النبي كما يقرر القرآن بصراحة.
ثانياً – تمييع التفرد القرآني:
1- دمجه في إطار النصوص المحرفة والمزورة.
2- دمجه في إطار النصوص الإنسية البشرية.
3- تمييع مفهوم الإعجاز.
المبحث الثالث: العلمانيون والتحريف
المطلب الأول: المتن القرآني والتزوير العلماني:
1- صورة المسألة عند محمد أركون: يعرف أركون القرآن بأنه مجموعة محدودة ومفتوحة من النصوص باللغة العربية يمكن أن نصل إليها ماثلة في النص المثبت إملائيا.
فإن القرآن الذي لدينا – بنظر أركون – هو الصورة التقليدية لتشكل المصحف وشخصيات الصحابة، ويجب علينا أن نبحث عن الصورة التاريخية أي الحقيقية أي العقلانية.
ويرى أركون أن النص القرآني ليس مكتمل وأن المصحف لا يشتمل على كل ما نزل من الوحي، ويعبر عن موقفه هذا فيقول: على الرغم من أن المدونة القرآنية أصبحت مغلقة نهائيًا، فإننا نستطيع تاريخيا أن نقبل بأنها تظل مفتوحة على التحسينات النصية التي قد يقدمها النقد اللغوي أو التاريخي.
فالمطلوب منا بنظر أركون أن نعيد تحقيق القرآن الكريم، وكتابته من جديد، وقراءته قراءة ألسنية كباقي الكتب.
2- الرأي عند بقية الثلة العلمانية:
يندر أن نجد علمانيا يعترف بالحفظ الإلهي للقرآن، ويسلم بسلامته من التحريف، ويقر بإجماع الأمة على ذلك..
فهذا طيب تنزاني يدعي أن القرآن جمع تحت صعوبات كثيرة وفي ظروف سياسية صعبة، مما أدى إلى اختراق المتن القرآني اختراقات هائلة زيادة ونقصا.
لقد أصبح الحديث عن جمع القرآن من هذا المنظور الاستشراقي هواية للعلمانيين لأنها تحقق لهم بعض المكاسب من الشهرة والمجد، وبالإضافة إلى ما ذكر هناك أيضا نصر حامد أبو زيد، وسيد القمني، ومحمد سعيد العشماوي، والصادق النيهوم، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد شحرور، وحسن حنفي وغيرهم ممن نهج نفس منهجهم.
المطلب الثاني: الاستلال العلماني:
الخطاب العلماني في الغالب لا يستدل على ما يذكر وإنما هو بارع في طريقة العرض والتزوير والتغليف، ولكنه في هذه القضية يحاول أن يستدل ويسرد الروايات الكثيرة، والسبب في ذلك:
- أنه وجد المسلمون يعرضون لهذه الروايات دون خوف على قرآنهم.
- كما أنه لم يتعب نفسه في البحث عن أدلة بل وجد المسلمون أنفسهم يتكلمون بها، من هذه الروايات أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، وأن بعض الصحابة ذكر أجزاء من آيات لا نجدها اليوم في المصحف.
المطلب الثالث: تنوير أم تدمير؟
هذه أبرز الأخبار التي يتداولها العلمانيون في كتاباتهم فرحين وهم يظنون أنهم عثروا على كنز يمكنهم من زحزحة المعتقد الإسلامي الراسخ، فيقول عبد المجيد الشرفي: إن فقدان الوثائق الأصلية للمصحف أمر مؤسف، لأن المصحف الموجود لدينا دوِّن بقرار سياسي من عثمان.
المطلب الرابع: تعقيب ونقد:
1- متى كان الجهل دليلا؟ إذا كان هؤلاء العمانيون يعدون المسلمين إلى عصر ابن النديم تنويريين لأنهم لم يترددون ولم يتأثموا من الحديث عن جمع القرآن وكتابته والإشكالات التي ترد في ذلك، فإننا ندعو هؤلاء إلى قراءة التراث الإسلامي الحديثي والتفسيري وعلوم القرآن، فالمسلمون لم يكن لديهم شيء داخلا فيما يسميه أركون اللامفكر فيه، أو المسكوت عنه، بل لم يترك المسلمون اعتراضا لزنديق أو شبهة إلا وطرحوه للبحث والنظر ولم يتخوفوا من ذلك وأجابوا عن كل هذه الإشكاليات.
2- من لا يكون معنا يكون دوغمائيًا! فالمسلمون منتقدون في نظر الخطاب العلماني لأنهم رفضوا هذه الروايات ولم يقبلوها، لذلك يعتبرون دومغائيون، وإلا فسيظفروا بالثناء العلماني.
3- الحضور السبينوزي: حيث فرق سبينوزا بين الوحي المطبوع والوحي المكتوب فالأول في القلب والعقل، وهو المعنى، أما الثاني فهو المكتوب في المصحف والقراطيس، والتحريف يقع في الثاني، أما الأول فليس فيه تحريف.
ويريد الخطاب العلماني أن يطبق نظرية سبينوزا على النص القرآني كما طبقت من قبل على التوراة. وهم بذلك يرفضون ما أجمعت عليه الأمة وهو قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
المطلب الخامس: المنهجية المتوازنة:
يتعامل الخطاب العلماني مع القرآن الكريم على أنه ليس من المهم حفظ ألفاظه، وإنما المهم هو حفظ معانيه، وفي هذا تناقض صريح.
إن الأخبار التي عرضها العلمانيون قد تناولها علماء المسلمين بالنقد والتمحيص ولم يسكتوا عليها، فهذه الأخبار هي أخبار آحاد بعضها صريح مؤول وأغلبها ضعيف أو موضوع، وهذه الأخبار تتعارض مع القرآن الكريم ككل وهو المنقول بالتواتر وبإجماع الصحابة، وتتعارض ثانيا مع قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
المبحث الرابع: مآل الإسلام في القراءات العلمانية:
المطلب الأول: الإسلام وأيديولوجات التورخة:
1- التورخة من منظور حداثوي:
إن الموقف العلماني من الإسلام عموماً ليس مستغرباً إلا لكونه يصدر من أناس يقولون: إنهم مسلمون، ولكن إسلامهم ليس استثناءً بين الأديان، فهو ليس إلا مجموعة أساطير مخلوطة من أساطير الشعوب القديمة البابلية، والسومرية، والآشورية، والفرعونية.
إن الإسلام الشائع اليوم – بنظر أركون – هو الإسلام السني الأرثوذكسي وهو ليس إلا تنظيراً دوغمائياً جاء نتيجة سلسلة من الأعمال المنجزة تاريخياً، ونفس الشيء يقال عن الإسلام الشيعي، فلا يوجد إذن إسلام حقيقي "لقد خُرِّب تاريخ الإسلام وأفسد إلى الأبد"، وما قُدّم إلينا ما هو إلا الإسلام الرسمي السلطوي.
و"تغيرت معالم الإسلام الأساسية، وملامحه المحددة، وسماته الذاتية، وصفاته الخاصة، وحلت بدلاً منها معالم أخرى مخالفة تماماً، ومناقضة كلية، ومضادة على الإطلاق، واستُبدلت بالمعالم الأساسية للإسلام معالم أخرى خاطئة وفاسدة ودخيلة"، وانزلق الإسلام على مهوى خطير، وانحدرت الشريعة إلى مسقط عسير.
التورخة من منظور ماركسي:
أما بنظر الاتجاه الماركسي العربي فقد كان الإسلام "ثورة تعمل على تغيير المجتمع وتطويره اقتصادياً وطبقياً وسياسياً ودينياً، طبقاً لأنظمة وعلاقات ومبادئ وعقائد جاءت بها حلاً للتناقضات الحادة التي كانت تعتمل في كيان المجتمع العربي بخاصة والإنسانية بعامة". والقرآن كتاب الثورة الإسلامية الكبرى والمعبر عنها، ومصدر المعرفة الأول لنظرية هذه الثورة.
وهكذا وطبقاً للتحليل الماركسي يوصف الإسلام بأنه حركة محمدية، أو ثورة يقارن بينها وبين الثورة البلشفية والثورة الفرنسية. وهكذا يبدو الإسلام – في المنظور العلماني – ليس إلا حلماً سياسياً راود عبد المطلب ثم حققه الحفيد محمد صلى الله عليه وسلم "أي جدّي ها أنذا أحقق حلمك"، وقد حققه.
وحتى القرآن – في نظرهم - ما هو إلا مجرد تراكيب لغوية، اقتبسها النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت، وخصوصاً ما يتعلق بوصف القيامة والبعث والجنة والنار.
3- التورخة التشطيرية:
الخلاصة الأركونية أن "الإسلام فرض نفسه كدين مدعوماً بواسطة نجاح سياسي، إذن فهو حدث تاريخي بشكل كامل"، وتشكل منه إسلام مثالي متعال، وفوق تاريخي، هو الدين الصحيح [بنظر أصحابه طبعاً] يبطل ويلغي كل الإسلامات الأخرى، ولا يمكن هو نفسه أن يلغي أو يبطل، ولذا فإن "إدخال البعد التاريخي في التحليل سوف يضطرنا إلى التفريق بين الإسلام المثالي هذا، وبين الإسلام التاريخي".
وهكذا فإن أركون يعد الإسلام الذي فهمته الأمة عبر تاريخها وتقبله الناس، وآمن به السواد الأعظم من البشر إسلاماً مثالياً خيالياً يختلف عن الإسلام الحقيقي [وليس هناك إسلام حقيقي في المنظور العلماني عموماً]، ولذا فإن أركون يأخذ على عاتقه أن يكشف عن الإسلام بمفهوميه: الإسلام المعاش، وهو غير مطابق وغير صحيح، والإسلام غير المعاش وغير المفهوم وهو الخاضع للتحليل.
4- التورخة النسبية:
إذا كان الإسلام بنظر أحد الباحثين فكرة مجردة، وإذا كان الإسلام جاء وذهب بنظر باحث آخر، ولا يمكن إعادته في بكارته النبوية الأولى عقيدة وتشريعاً وفقهاً. وكان في أساسه قاصراً على الأخلاق والقيم، ولم يكن فيه أي نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، وكان رخواً مرناً جداً في التعامل مع الشعوب المفتوحة، فلم يطلب أكثر من إعلان الشهادة فقط، وليمارسوا عاداتهم ومعتقداتهم كما يريدون..
فإن هذا يتيح لنا – أقصد للخطاب العلماني – أن نبحث عن إسلام عصري مستنير، مساير لروح العصر، فالإسلام لا يكون صحيحاً إلا إذا طرح بالمفهوم البرغسوني وذلك يجعله ديناً منفتحاً، والتخلص من الفهم الحرفي للدين، ولن يتم ذلك إلا إذا تمت إعادة النظر في الإسلام كلية من منظور تاريخي بحيث يصبح من الضروري أن نوفق بين الإسلام والفكر اللاديني، وبحيث يمكن أن يصبح الإلحاد إيماناً، والإيمان إلحاداً، "فالإلحاد هو التجديد، وهو المعنى الأصلي للإيمان".
5- التورخة الهدمية الاجتثاثية:
النقد الإيديولوجي هو وسيلتهم للتخلص من فكر العصور الوسطى.. وتكريس القطيعة مع الماضي – كما فعل الغربيون – هو الحل وليس الإصلاح "لا أحد يتكلم أبداً عن التجديد بمعنى القطيعة والاستئناف، بل الجميع يدعو إلى الإصلاح والإحياء والعودة إلى حالة ماضية"، في حين المطلوب هو "اجتثاث الفكر السلفي من محيطنا الثقافي".
وإذا كان التغير يفترض هدماً للبنية التقليدية القديمة، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله، وإن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته. هذه الآلة ما هي إلا التأويل الباطني الغنوصي الذي ينفي النبوة الإسلامية، ويقيم على أنقاضها دين العقل.
المطلب الثاني: الإسلام العلماني الجديد:
لا أعتقد أننا بحاجة إلى التذكير بأن ما يتحكم بالموقف العلماني – الذي عرضناه آنفاً بشكل مكثف – هو معيار مادي فلسفي غربي – اعترف العلمانيون بذلك أم لم يعترفوا – وأن الخلفية الإلحادية أو الشكية أو اللاأدرية هي التي يستبطنها أغلب العلمانيين في تناولهم للإسلام، وأنه حتى الذين لم يصرحوا برفض الإسلام، ولم يجاهروا بإلحادهم وتحدثوا عن إمكانية وجود ما للإسلام.
فالشهادتان في الدين العلماني الجديد ليس لهما مدلول إيماني؛ لأنه "في حقيقة الأمر وطبقاً لمقتضيات العصر لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما، إنما تعني الشهادة على العصر.
والزكاة – أيضاً – ليست واجبة، وإنما هي اختيارية..
والصوم – كذلك – ليس فرضاً، وإنما هو للتخيي..
أما الحج فهو – كذلك – من الطقوس الوثنية الميثية العربية القديمة التي أقرها الإسلام مراعاة لحال العرب...
هكذا تُميَّع كل الشعائر الإسلامية وتعد طقوساً وثنية تحدرت إلى القرآن من البيئات والأمم السابقة والجاهلية.
وهكذا يطمس الإسلام الرباني الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، ويبرز الإسلام العلماني المخترع بأركانه الجديدة العصرية المفتوحة، والقابلة لكل الأفهام والتأويلات، والتي لم تتوقف عند هذا الحد؛ لأنه لا حدود يمكن الوقوف عندها في الخطاب العلماني.
الخاتمة:
يمكننا بعد تلك الجولة في المصادر المختلفة أن نشير إلى النتائج التالية:
1- لقد خلق الله عز وجل العقل وزوده بأدوات تمكنه من سلوك الطريق الذي يفضي به إلى الحق إذا تجرد عن الأهواء والنوازع والأغراض، ولكنه سبحانه وتعالى أيضاً جعل لهذا العقل حدوداً كما جعل للبصر حدوداً، وحدوده لا يمكن أن تتجاوز عالم الشهادة والحس.
2- عندما ينتهي العقل إلى الشك والعدمية واللأدرية مع تمكن النوازع الغريزية والأرضية منه فإنه يصبح وحشاً جامحاً لا يمكن أن يقف في طريق رعوناته وشهواته وأهوائه شيء.
3- هذه التجربة الغربية كان يفترض أن تكون درساً وعبرة لنا نحن المسلمين بالذات؛ لأن ديننا الحنيف في الوقت الذي مجد فيه العقل وأكد دائماً على دوره في عالم الشهادة وعالم المحسوسات، بين لنا ما لا يمكن للعقل أن يخوض فيه أو يقتحمه من عوالم الغيبيات كالآخرة وكنه الذات الإلهية وكنه صفاتها.
4- هذه التاريخية سلك إليها الخطاب العلماني مسالك يستأنس بها المسلمين، فاستخدم لهذا الغرض مفاهيم إسلامية مفرغة من مضامينها الحقيقية، ومجردة من ضوابطها وكوابحها الأساسية.
5- ثم تبين أن المضامين الحقيقية التي ألبست ثياباً إسلامية هي في الحقيقة فلسفات علمانية غربية.
6- انعكس ذلك على المرجعية التي يجب أن تحكم الحياة فأصبح المرجع والحاكم هو الإنسان والواقع، أما القرآن فهو مجرد غطاء للتبرير، عليه أن يبارك الواقع.
7- ولذلك لم يعد للقرآن معنى في الفكرانية العلمانية لأنه أصبح يقول كل شيء دون أن يقول شيئاً.
8- ولمزيد من الوفاء العلماني لجذوره الغربية الدنيوية اجتر كل ما قاله المبشرون من أمثال فندر في كتابه ميزان الحق والمستشرقون من أمثال نولدكه وبلاشير بخصوص تاريخ القرآن وجمعه وكتابته، فردد كل ما قاله هؤلاء من طعن في سلامة القرآن عن التحريف.
- أما واجبنا نحن المسلمين فعلينا أن نقارع الخصم بنفس أسلحته، وعلينا أن لا نكتفي بالإدانة والرفض والتسفيه، لأن ذلك إذا لم يقترن بالحجة والبرهان يكون ضرره أكثر من نفعه، ولابد من قراءة مصادر العلمانيين ومراجعهم والإطلاع على أحدث ما يتبجحون به، مع العلم بأن أحدث ما يتبجحون به مرفوض في بيئته، ومهجور في عقر داره.
- أما الوصية الثانية: فهي أنني أرى أن البحوث الأكاديمية الفلسفية في أقسام الدراسات الإسلامية تولي اهتماماً لدراسة التراث أكثر من اهتمامها بدراسة الواقع المعاصر، وقد ترتب على ذلك أن تركت الساحة للخطاب العلماني يسد الثغرة، ويملأ الفراغ، وكان لذلك انعكاسات خطيرة على الفكر والعلم والواقع، وخصوصاً في استقطاب أعداد كبيرة من أنصاف المثقفين الذين تغريهم المناهج بسبب عدم استنادهم على قاعدة أصولية متينة. ولا يعني ذلك أنني أدعو إلى التقصير في دراسة التراث، وإنما أدعو القائمين على توجيه الدراسات الأكاديمية إلى إقامة توازن بين الواقع والماضي، ونسج وشائج تواصل بين دراسة التراث والواقع المعاصر بما فيه من أطروحات جديدة، ومناهج حديثة.
إن الخطاب العلماني يريد أن يدمر هذا السياج – الدوغمائي بنظره – ليقتحم الغيب، ويزحزح هذه الحدود والثوابت لأنه يطمح إلى معرفة ما وراء هذا السياج، ولا يكتفي بالخبر الموثوق، ويأبى إلا أن يقتحم هذا السياج ويرتع في الحمى، ويتجاهل التجارب الإنسانية الطويلة الفاشلة في هذا المجال، ومهمتنا نحن المسلمين ليس في دفعه إلى الهاوية، وإنما في انتشاله منها كما علمنا نبينا المصطفى الرحمة المهداة للعالمين صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
انتهى تلخيص الكتاب والحمد لله رب العالمين .