تقرير عن رسالتي الإمامين الخطابي والجرجاني في إعجاز القرآن

إنضم
30/04/2011
المشاركات
60
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
المدينة النبوية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أحبتي في الله
هذا بحيث متواضع أحببت نشره ورمت وضعه في هذا الملتقى المبارك
سائلاً الله الإخلاص في القول والعمل.
 
بارك الله فيك أخي سعيد وجزاك خيراً .
ليتك تعرض التقرير في الملتقى وتنسقه بشكل جيد ، وترفقه فوق ذلك بالموضوع. حيث إن الكثير من القراء اليوم يقرأون في الملتقى بواسطة الهواتف المحمولة ، وبواسطة أجهزة الآي باد ونحوها ، وأكثرها لا تتصفح ملفات الوورد إلا بصعوبة قد لا يهتدي لها إلا القليل.
 
( 1 )

( 1 )

01.png



الحمد لله فاتح البركات لمن انخفض لجلاله، ومنزل الخيرات لمن انتصب لشكر أفضاله، والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الهادي النبيل، وعلى أصحابه الذين شادوا الدين، وآله الطاهرين، وعنا بمنّك وكرمك يا رب العالمين وبعد: فإن لله الأمرَ من قبل ومن بعد..
إن من أكبر النعم، وأجل الإلى التي منّ الله بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وثيقة السماء الخالدة ألا وهي القرآن العظيم؛ فإن به سعادةَ الأمة، وعزها، ونصرها في الدارين والحياتين، وقد جعل الله القرآن الكريم المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم على مر العصور, ومجرى الدهور، وتحدى به الإنس والجان على أن يأتوا بمثله؛ فلم يجدوا لذلك سبيلاً؛ بل إنهم وقفوا أمامه مبهورين مذعنين، مخبتين مقهورين؛ فعجزوا عن الإتيان بمثله، والمجيء بنحوه، وإن المرء اللبيب، الفطن الأريب ليجد في القرآن من البراعة والفصاحة والجمال، والإتقان والدقة والجلال ما لا يستطيع أكابر البلغاء، وأعالي الفصحاء أن يصفوه فضلاً على أن يأتوا مثله، ولا يملك المرء إلا أن يقول: سبحان منزل القرآن، وجاعله في أحسن نظام، وأجمل لفظ ومعان جسام؛ فالله جعل القرآن في أحسن الحروف، في أحسن الألفاظ، في أحسن المعاني، في أحسن المباني (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
وقد اعتنى الأئمة الماضون، والعلماء السالفون في قضية إعجاز القرآن، وبيان وجه ذلك، فألفوا في ذلك المصنفات، وصنفوا المؤلفات؛ وإن من المصنفات الماتعة، والمختصرات الناجعة رسالتين جميلتين جليلتين رقيقتين: الأولى: القول في بيان إعجاز القرآن للإمام الهمام الخطابي، والثانية: الرسالة الشافية للإمام الجرجاني؛ وإنني في هذا البحيث المتواضع، القليل البضاعة؛ قد كتبت تقريراً عن هاتين الرسالتين؛ وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث كالتالي:
• المبحث الأول: تقرير عن رسالة الخطابي -رحمه الله-، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ترجمة موجزة للمؤلف.
المطلب الثاني: إلماحة يسيرة عن الرسالة.
المطلب الثالث: تحليل الرسالة وبيان منهج المؤلف فيها.
المطلب الرابع: قيمة الرسالة العلمية (المميزات والمآخذ).
• المبحث الثاني: تقرير عن رسالة الجرجاني -رحمه الله-, وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ترجمة موجزة للمؤلف.
المطلب الثاني: إلماحة يسيرة عن الرسالة.
المطلب الثالث: تحليل الرسالة وبيان منهج المؤلف فيها.
المطلب الرابع: قيمة الرسالة العلمية (المميزات والمآخذ).
• المبحث الثالث: ترشيح رسالة منهما.
والآن أوان الشروع بالمقصود طالباً الرشد من المعبود ..
 
( 2 )

( 2 )

المبحث الأول: رسالة الخطابي -رحمه الله-، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ترجمة موجزة للمؤلف
اسمه: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، وكنيته: أبو سليمان الخطابي البستي.
وقد اختلف في اسمه؛ فمن قائل: اسمه أحمد وهو قول أبي منصور الثعالبي، وأبي عبيد الهروي، ومن قائل: اسمه حمد وهو القول الراجح؛ لأن الخطابي نفسه سُمع قائلاً عن اسمه: "اسمي الذي سميت به حمد؛ ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه"، ولأن الجم الغفير، والعدد الكثير ممن ترجم له سماه ب (حمد) وغلّط وسمه ب (أحمد).
مولده: ولد في بست في شهر رجب سنة تسع عشرة وثلاثمئة، وقيل سنة سبع عشرة وثلاثمئة من الهجرة.
نسبته: (الخطابي) بفتح الخاء وتشديد الطاء: قد ورد فيها قولان:
الأول: أنه من سلالة زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي.
الثاني: نسبة لجده المذكور (الخطاب).
(البستي) بضم الباء وسكون السين: هذه نسبة لبست من بلاد كابل.
مكانته العلمية: كان إماماً فقيهاً، محدثاً أديباً، نهل من برك العلم الوسعة؛ فأجنى ثروة علمية أعلته قدراً، ورفعته ذكراً؛ حتى إن أهل عصره، وأناس دهره شبهوه بالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام في العلم، والورع، والتأليف، والتدريس... وكفى بهذا مكانة ومنزلة!.
ثناء العلماء عليه: إن العالم ليستبين علمه، ويظهر شأنه بثناء العلماء عليه؛ وقد أثنى العلماء على الخطابي ثناءاً يفوح عطراً، ويدوم ذخراً؛ وسأذكر بعضاً من أقوالهم نقلها بعض من ترجم للخطابي:
قال عنه أبو المظفر بن السمعانى: "قد كان من العلم بمكان عظيم، وهو إمام من أئمة السنة، صالح للاقتداء به، والإصدار عنه". انتهى
وقال عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ: "أقام عندنا بنيسابور سنتين وحدث بها، وكثرت الفوائد من علومه".
ورثاه أبو بكر عبد الله بن إبراهيم الحنبلي ببست في شعر، فقال:
وقد كان حمداً كاسمه حمد الورى شمائل فيها للثناء ممادح
خلائق ما فيها معاب لعائب إذا ذكرت يوماً فهن مدائح
تغمده الله الكريم بعفوه ورحمته والله عاف وصافح
لازال ريحان الإله وروحه قرى روحه ما حن في الأيك صادح​
رحلاته: طاف ببعض البلاد ليحوز العلم؛ ومن هذه البلاد: العراق، والحجاز، وخراسان، وخرج إلى ما وراء النهر.
شيوخه: أبوبكر القفال، أبو علي بن أبي هريرة، أبو سعيد بن الأعرابي، أبو بكر بن داسة، إسماعيل الصفار، أبو العباس الأصم، أبو جعفر الرزاز، أبو عمر الزاهد، أحمد النجار، مكرم القاضي وغيرهم كثير.
تلاميذه: أبو حامد الإسفراييني، أبو عبد الله الحاكم، أبو نصر البلخي، أبو مسعود الكراييسي، أبو عبيد الهروي وغيرهم كثير.
وفاته: توفي - رحمه الله - عن إحدى وستين سنة في بست في رباط على شاطىء هندمند، واختلف في سنة وفاته على ثلاثة أقوال:
قيل سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة، ومعظم من ترجم له ذكر هذا، وقيل سنة ستة وثمانين وثلاثمئة، وقيل سنة تسع وأربعين وثلاثمئة وهذا قول ابن الجوزي؛ وقد وصف السيوطي، وياقوت الحموي قول ابن الجوزي فقالوا عنه: "ليس بشيء".
مؤلفاته: له مؤلفات كثيرة، ومصنفات وفيرة في عدد من العلوم والمعارف منها: أعلام السنن وهو شرح للبخاري، ومعالم السنن وهو شرح لسنن أبي داود، وكتاب العزلة، وغريب الحديث، وشرح الأسماء الحسنى، وكتاب العزلة، وشأن الدعاء، والقول في بيان إعجاز القرآن وغير ذلك.

المطلب الثاني: إلماحة يسيرة عن الرسالة
إن رسالة الإمام الخطابي رسالة صغيرة الحجم؛ لكنها عظيمة الفائدة، ومنهجه رحمه الله راق ورائق، وأسلوبه جياش رقراق، وقد أتحفنا في هذه الرسالة بتحف نبيلة، ودرر جليلة، وتحدث عن أمور كثيرة؛ فتحدث عن وجوه الإعجاز، وناقشها، وبيّن الصحيح منها، وأطنب وأسهب في وجه كون القرآن معجزاً ببلاغته، وذكر أوجه ذلك، وبين أهمية الرجوع إلى الكلام العربي الأصيل الأول دون الرجوع إلى المتأخر؛ فقد دخله الخلل، وصرعه الزلل، ثم ذكر شبه المنكرين لإعجاز القرآن، وأخذ ينقضها شبهة شبهة بأسلوب علمي فياض، ثم بين شروط وطرق المعارضة، إلى غير ذلك من الأمور الناجعة في بابها، النافعة في مضمونها.
والرسالة بعنوان:القول في بيان إعجاز القرآن، والطبعة التي بين يدي طبعة دار المعارف، تحقيق وتعليق: محمد خلف الله أحمد، و د. محمد زغلول سلام، وهي غلاف، ومعنون لها بعنوان: "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي"، ورسالة الخطابي تتكون من خمسين صفحة.
 
( 3 )

( 3 )

المطلب الثالث: تحليل الرسالة وبيان منهج المؤلف فيها
ذكر –رحمه الله- أولاً سبب تأليفه الكتاب وهو إكثار الناس في الحديث عن الإعجاز دون صدورهم عن ري؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، وتعذر معرفة كيفيته؛ وكأنه يقول: سأتكلم عن وجه الإعجاز في القرآن وكيفيته.
ثم شرع في بيان وجوه إعجاز القرآن بأسلوب علمي جميل، وذكر أن من أوجه الإعجاز: وجود الداعي إلى محاكاة القرآن؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحداهم؛ فلم يجدوا سبيلاً إلى ذلك، وهم أفصح الناس، وأوفرهم عقلاً، واضطرهم عدم قدرتهم إلى أن يناصبوه العداء، وأن يمسهم اللأواء في معاركهم معه، ثم بين -رحمه الله- أن هذا من أبين وجوه الإعجاز.
ثم ذكر أن قوماً جعلوا الصرفة وجهاً من وجوه الإعجاز، ثم عرّف الصرفة، وذكر وجه الاستدلال بها، ثم رد على القائلين بها.
ثم ذكر أن من أوجه الإعجاز إخبار القرآن عن المغيبات، وما يستقبل من الزمان، ثم جاء بأمثلة، وعقّب بتعقيب جليل وهو أن الله جعل الإعجاز صفة لكل سورة، وأن هذا الوجه متعذر حصوله في كل سور القرآن.
ثم دلف وتكلم عن وجه قوي من وجوه الإعجاز؛ ألا وهو: إعجازه من جهة البلاغة، وذكر أن هذا قول الأكثرين، ثم أورد إشكالاً؛ وهو معرفة كيفية الإعجاز البلاغي عندهم، وذكر أن أكثرهم قلّد في هذا الأمر؛ فإذا سُئل عن تحديد هذا الوجه؛ قال: قد يخفى سببه لكن يظهر تأثيره في النفوس، وبيّن –رحمه الله- أن هذا غير مقنع، وأنه إشكال أحيل على إبهام؛ فسبحان الملك العلام.
ثم ذكر -رحمه الله- أوجه كونه معجزاً ببلاغته؛ فذكر أنه بعد السبر والغربلة للكلام وأساليبه يتبين ثلاثة أمور:
1) أن أجناس الكلام متفاوتة ومتفاضلة من حيث البلاغةُ؛ فمنها المحمود ومنها والمذموم، والمحمود متباين؛ فمنه: الجائز الطلق الرسل، ومنه البليغ الرصين الجزل، ومنه الفصيح القريب السهل؛ والقرآن جمع أجناس الكلام المحمود وامتلكها؛ فجمع صفتي الفخامة والسهولة، وهاتان الصفتان متعذرتان في غير القرآن.
2) احتواء القرآن على أجمل الألفاظ، وأسهلها، وأقواها.
3) أن القرآن اشتمل أجمل المعاني، وأصحها.
فالقرآن جاء بأفصح الألفاظ وأحسن النظوم، وتضمن أحسن المعاني
وبين –رحمه الله- أن عمود هذه البلاغة وضع كل نوع من الألفاظ في محله وموقعه؛ بحيث لو أبدلت كلمة، وزحزحت عن مكانها، فإن المعنى سيتبدل، والنتيجة فساد الكلام، أو يذهب رونق الكلام بهجته، والنتيجة سقوط البلاغة؛ ثم ذكر أمثلة على الألفاظ المترادفة المتقاربة؛ كالعلم والمعرفة، واقعد واجلس، وغير ذلك؛ وبين اختلاف المعاني فيها، وأنه لو أبدلت لفظة بلفظة لاختل المعنى ولفسد الأسلوب، واستطرد، وذكر أمثلة من القرآن والسنة والآثار والقصص واللغة، وبين أن هذا سبب تهيب العلماء من الولوج في تفسير القرآن، وأن هذا إن دل على شيء؛ فإنه يدل على إعجاز القرآن فالقرآن جاء باللفظ، والنظم المناسب في موضعه الأخص به، والأنسب.
ثم ذكر سبب تعذر البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن القوم كاعوا وجبنوا فتركوا المعارضة لعجزهم وأقبلوا على المحاربة لجهلهم!.
ثم دلف إلى موضوع مهم، تجلى فيه علمه الواسع، كعبه الشاسع؛ وهو موضوع شبه المنكرين لإعجاز القرآن؛ فذكرها شبهة شبهة، ثم نقضها واحدة تلو الأخرى؛ بأسلوب علمي قوي، وفكر مقنع شذي لا يقدر عليه إلا ذوو العلم والتحصيل، والمعرفة والتحليل!، وأنا سأذكر الشبهة واحدة تلو الأخرى والرد عليها مختصراً:
الشبهة الأولى: أن القوم لم يعارضوه لعجزهم؛ فهم عرب فصحاء، والمعارضة سهلة عليهم، ولكنهم كرهوا التطويل، وأرادوا معاجلته بالهلاك.
الرد: أنه قد تبين مما سبق أن ما اجتمع في القرآن من أجناس الكلام المحمود؛ لا يمكن أن يحيط به بشر، وإذا كانت الأسماء اللغوية لا يجوز أن يحيط بها إلا نبي، وقد كان ابن الخطاب لا يعرف (الأب)؛ فكيف بالمعاني التي تحملها الألفاظ فهي أشد، وكيف بالنظم فالحاجة لحذفه أصعب وأدق.
الشبهة الثانية: أن الغريب المشكل في القرآن بالنسبة للكثير منه قليل.
الرد: أنه ليس من شرط البلاغة وجود الغريب، ووحشي الغريب لا يكثر إلا في الأجلاف الأوحاش، ثم بين ذلك، وذكر عدة أمثلة.
الشبهة الثالثة: عدم تسليمهم، وإذعانهم ببلاغة القرآن، وذلك بقولهم: إن ثمة كلمات ووجوه في القرآن غير فصيحة، وإن إيراد غيرها أفصح، وجاؤوا بأمثلة كثيرة؛ ككقولهم: (فأكله الذئب) الأفصح (افترسه)، وككقولهم: (أن امشوا) الأفصح (امضوا)، إلى غير ذلك من الأمثلة التي قالوا بها.
الرد عليهم: أن أمثلتهم حجة عليهم لا لهم، وقد أفرد الإمام الخطابي على كل مثال أتوا به رداً لاكعاً؛ يصمت الخصم، ويلجمه، ويدل على بلاغة القرآن اللا محدودة، وهذا يدل على غزارة علمه، وعلو كعبه في البلاغة، واللغة، والتفسير، وعلم المعاني، ومعرفة السياق القرآني، وأكتفي هنا بذكر رده على أحد الأمثلة:
(فأكله الذئب) قالوا الأفصح: (افترسه الذئب) وعللوا ذلك؛ بأن فعل الذئب الافتراس، وليس الأكل.
الرد عليهم: الافتراس يدل على القتل فقط، لكن إخوة يوسف أرادوا أن الذئب أكله كاملاً؛ حتى لا يطالبوا بأثره.
قلت: انظر رحمك الله إلى براعة القرآن وروعته، وسموه ورفعته، فهو خير الكتب وأبلغها، وأحسن الأسفار وأصحها؛ فقد قال الله عنه وفيه: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
الشبهة الرابعة: قالوا: إنا نجد في القرآن حذفاً واختصاراً، وهذا معيب، وذكروا قوله سبحانه: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) وقالوا إن الجواب محذوف.
الرد عليهم: معروف عند أرباب البلاغة؛ أن الإيجاز، وحذف ما يستغني عنه الكلام هو عين البلاغة؛ فالجواب حُذف في الآية السابقة؛ لأن المذكور يدل عليه؛ فاستغني به، والتقدير: لكان هذا القرآن، وأيضا لايشك ذو مسكة عقل أن الحذف هنا أبلغ؛ كي تذهب النفس في تقديره كل مذهب.
الشبهة السادسة: أن التكرار معيب، وإنا نجد في القرآن التكرار الوفير في بعض السور.
الرد عليهم: أن التكرار لما تدعو الحاجة إليه للترغيب به، أو الترهيب منه، أو الحث عليه هو عين البلاغة، وقد أكثر العرب من ذلك في أساليبهم وأشعارهم؛ وأيضا ًقد بين الله سبب تكرار القصص في القرآن حيث قال سبحانه: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون).
الشبهة السابعة: أن من الممكن أن العرب قد عارضت القرآن، ولم ينقل ذلك إلينا.
الرد عليهم: أن هذا محال، فإن من أغرب القول وأعجبه أن يحدث هذا الحدث الجلل، ولم ينقل إلينا، وقياساً على ذلك ما يدرينا لعل هناك نبي بُعث ولم ينقل إلينا ذلك، وهذا كما ترى من السخافة بمكان!.
الشبهة الثامنة: أن المعارضة قد حصلت من بعضهم كمسيلمة الكذاب وأشكاله.
الرد عليهم: قد رد رحمه الله بكلام ممتع، واستطرد في ذلك، وبين عوار كلام مسيلمة في الفيل وغيره، وعوار كلام غيره في الحبلى، ونسف ذلك كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، فبان علم الخطابي الشاسع باللغة، وبأساليب القرآن، وبعلم الطبيعة، والتشريح ما يندر عند غيره، وخلاصة رده: أن معارضتهم ساقطة لا تحمل أي معنى، ولا فائدة، وأن اللفظ ممزوج، والأسلوب متكلف غث؛ لا يمت إلى البلاغة بأي صلة، وإن معارضتهم لم تلتزم شروط المعارضة، ولم تحو طرقها، ويكفي أن كل من سمع معارضة مسيلمة وغيره يجزم بأنه كذاب.
ثم بين –رحمه الله- طرق المعارضة السليمة، والمماثلة المستقيمة، وشروطهما، فذكر أربعة طرق، ثم مثل لها بعدة أمثلة من معارضات، ومباريات الشعراء الأقحاح، وكان يعلق على كل معارضة تعليقاً تتجلى فيه قدرته على النقد.
ثم ذكر أن من أوجه الإعجاز العجيبة تأثيره في النفوس، وصنيعه في القلوب، ثم ذكر أمثلة على ذلك.
ثم ختم رسالته الماتعة بذكر عدة آيات في وصف القرآن، وعظمته، ومكانته وقوته، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على الرسول الكريم.

منهجه في وجوه الإعجاز:
ذكر -رحمه الله- في رسالته خمسة أوجه من وجوه الإعجاز؛ وهي كالتالي:
1) وجود الداعي إلى محاكاة القرآن؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحداهم فلم يجدوا سبيلاً إلى ذلك وهم أفصح الناس، وأوفرهم عقلاً، واضطرهم عدم قدرتهم على المعارضة إلى أن يناصبوه العداء، وأن يمسهم اللأواء في معاركهم معه، ثم بين أن هذا من أبين وجوه الإعجاز.
2) ذكر الصرفة، وضعف القول بها.
3) إخبار القرآن عن المغيبات، وما يستقبل من الزمان، وجاء بأمثلة، وعقب بتعقيب جليل؛ وهو أن الله جعل الإعجاز صفة لكل سورة، وأن هذا الوجه متعذر حصوله في كل سور القرآن.
4) كونه معجزاً ببلاغته.
5) ثم ذكر أن من أوجه الإعجاز تأثيره في النفوس، وصنيعه في القلوب، ثم ذكر أمثلة على ذلك.
وإن منهجه في ذكر هذه الأوجه من الرقي بمكان؛ فإنه يذكر الوجه، ويوضحه، ويبينه، ثم يفنده، ويعقب ويعلق عليه إما إقراراً وتصويباً، وإما رداً وتخطيئاً؛ مبيناً علة ووجه التخطئة أوالتصويب، ونلاحظ تزيينه ذكر هذه الوجوه بجزالة ألفاظه، وبكثرة استشاهده بالآيات، والآثار، والأشعار، وأحوال الشعراء، وبضرب الأمثلة الكثيرة الوفيرة، ونلاحظ أنه أخرّ الوجه الأخير لآخر الرسالة؛ والأولى أن يرتب الأوجه، ويذكرها تباعاً؛ حتى لا يشوش على القارىء أفكاره، ومن الملاحظ أنه أطال، وأخذ يجول ويصول في مسألة كون القرآن معجزا ببلاغته، وعالج الموضوع بإبداعن وذكر أقسام الكلام المحمود، وقرر أن القرآن يجمع صفتي الضخامة والعذوبة، ثم بين عمود البلاغة، إلى غير ذلك من الفوائد والمسائل.

منهجه في الصرفة:
يعتبر الخطابي -رحمه الله- من أوائل الذين نقضوا فكرة الصرفة، وقد ذكر الخطابي في رسالته أن قوماً قالوا: بأن الصرفة من وجوه الإعجاز، ثم عرفها، وبين وجهها عند القائلين بها، ثم دحضها وقال : " إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه وهي قوله سبحانه: (قل لإن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) فأشار في ذلك إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التي وصفوه بها لا يلائم هذه الصفة"، فما دام العرب قد صرفوا عن المعارضة؛ فما الفائدة من احتشادهم، وجمعهم الإنس والجن؛ ولا شك أن هذا رد عميق، ودحض دقيق من الخطابي -رحمه الله-.
لكن يبقى إشكال في كلام الخطابي حين قال عن الصرفة: "وهذا وجه قريب إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه.."
فما المقصود بقوله: "وجه قريب" ؟
أقول: قد شفى الغليل، وأجاب عن هذا الشيخ عبد الرحمن الشهري –حفظه الله- حيث قال: "وكأن الخطابي عندما وصف وجه القول بالصرفة بأنه وجه قريب، يعني أنه قريب فهمه للعقول التي لا تطلب التعمق في الأدلة" .
وأثناء قرائتي للرسالة كتبت عدة نقاط في منهج الخطابي -رحمه الله- في رسالته وهي كالتالي:
1) من منهجه التعقيب والتعليق، وأنه يكثر من قول (قلت)، (وجدت)؛ وهذا يدل على امتلاكه شخصية علمية قوية .
2) ومن منهجه أنه يرجح عند ذكره الأقوال، ويبين الصحيح من غيره .
3) أنه يذكر حجة الخصم، ثم ينسفها نسفاً، ويتدرج في رده على الخصم بهدوء وقوة في نفس الوقت .
4) أن عنده منهجية التقسيم .
5) من منهجه أنه يُجمل، ثم يفصل، ومثال ذلك قوله عن أمر أجمله: "مما سنذكر تفصيله" .
6) من منهجه أنه ببين أهمية الموضوع؛ فمثلاً قوله عن أحد المواضيع المهمة:"وهذا الباب عظيم الخطر" .
7) من منهجه أنه يسرد الأسانيد للأحاديث، والآثار، وبعض القصص؛ وهذا أوثق وأصدق.
8) عنده أسلوب المخاطبة للقارىء؛ كقوله: اعلم، تأمل.. ؛ وهذا يشعر القارىء بكبر حجمه، ويؤثر في نفسه؛ فيكون أدعى للقبول، وأحرى للوصول .
9) يكثر في خلال النقاش من قوله: فإن قلت: قلت، وهذا دأب كثير من العلماء، فالزمخشري يُكثر من هذا، ويسموها العلماء بفنقلات الزمخشري .
10) عنده منهجية المناظرة؛ فعند إيراده للشبهة ورده عليها؛ تشعر وكأنه يناظر خصماً له يقول بهذه الشبهة .
11) ضرب الأمثال التوضيحية الرائعة؛ مثلاً قوله " ومعلوم أن رجلاً عاقلاً لوعطش عطشاً شديداً ."
12) من منهجه ذكره لعدة أقوال في معنى الكلمة الواحدة؛ مثل الكيل، والمشي، وغير ذلك.
13) من أساليبه مع الخصم أسلوب السخرية الممزوجة بالأدب؛ مثال ذلك قوله "فإنهم ما زادوا على أن عابوا أفصح الكلام" .
14) من أساليبه الجميلة الاستعانة بالله، واللجوء إليه؛ فكثيراً ما يقول : ولا قوة إلا بالله، استعن بالله، وهكذا.
15) من منهجه أنه يمثل بأمثلة واقعية، وهذا يقرب الصورة، ويوقع الخصم في أمر لا مجال لإنكاره، ولا مفر من إقراره .
16) نلاحظ أن عنده منهج القياس .
17) أنه يلقي شبهاً موافقة لقول الخصم لم تخطر على بال الخصم، ثم ينسفها حتى لا يبقي للخصم أي شبهة يتشبث بها، وهذا يدل على دهاء وفطنة .
18) من منهجه ذكر بعض الشخصيات؛ كذكره أبو الينبعي وغيره.
 
( 4 )

( 4 )

المطلب الرابع: قيمة الرسالة العلمية (المميزات والمآخذ)
إن لرسالة الخطابي قيمة علمية بالغة؛ فهي رسالة نفسية نادرة في بابها، وقد اشتملت على توجيهات علمية، وفوائد نادرة تكشف عن كثير من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم؛ وقد اتضحت قيمة الرسالة العلمية في مميزاتها التالي ذكرها.

المميزات التي تميزت بها الرسالة، وتميز بها مؤلفها:
1) جزالة ألفاظه، وجزالة كلامه، وإيجازه، وامتلاكه الروح الأدبية الجياشة!.
2) نلاحظ قوته في علم البلاغة، والتكلم فيه بإسهاب وإطلاق؛ مما يعضد به الموضوع، ويقويه، ويسنده، ويزينه، ويشيده.
3) يستشهد كثيراً بالآيات القرآنية، بل إنه في بعض المواطن يجمع كثيراً من الآيات ذات الموضوع الواحد؛ وهذا يسمى بالتفسير الموضوعي .
4) يُدخل اللغة العربية كثيراً، ويأتي بالفوائد اللغوية، والفرائد النحوية، ويدخلك بساتين اللغة، ويجني لك أحلى الثمار الطيبة، وأزكاها.
5) قوته في علم اللغة، والنحو، والصرف،وعلمه الغزير بأساليب القرآن؛ ويتبين هذا من ذكره الأمثلة، وتوضيحها، وبيان وجه الاستشهاد منها .
6) يستشهد بالقرآن على الأمور اللغوية والنحوية؛ وهذا هو الصحيح؛ فاللغة تقاس على القرآن ولا عكس .
7) ذكره لقواعد وضوابط ناجعة جداً .
8) ذكره لبعض المناظرات؛ كمناظرة أبي العلية والحسن، وذكره لبعض القصص.
9) تحليله لبعض المعارضات الشعرية .
10) قدرته على الرد، وعلو كعبه فيه؛ حتى إن المرء لا يقرأ كلامه؛ إلا وهو مقتنع به أشد الاقتناع، وأقواه.
11) امتلاكه شخصية علمية، وآراء شخصية.
12) استشهاده بالأشعار، وبأقوال أرباب البلاغة؛ ولا شك أن هذا يعطي البحث، ويكسبه قوة نارية! .
13) الترتيب الواضح في كتابه
14) ينقل كثيراً عن العلماء كالفراء، والقتبي، وغيرهما.
15) يمدح الصحابة كعمر بن الخطاب، وابن عباس وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة .
16) الاستشهاد بالقراءات، والاحتجاج بها على صحة اللغة .
17) سعة اجتهاده، وقوة الدهاء عنده؛ ويظهر هذا في استنباطه أجوبة وردوداً قد لا يسبق إليها؛ وهذا من توفيق الله تعالى .
18) يلاحظ أنه ثاقب النظر، قوي النقد، كبير الانتباه؛ وذلك أثناء تفكيكه، وتحليله للمعارضات الشعرية بيتاً بيتًا، وتمييزه الحسن من القبح، وذا الرونق من ذي الركاكة .
19) ذكره لبعض العلوم الأخرى؛كما قال: قال أهل التشريح:...، ويلاحظ ثقافته الجميلة في علم الأحياء، والطبيعة، وأجسام الحيوانات، وذلك في معرض حديثه عن الفيل والبعوضة.
20) استعماله الجناس كثيراً، واستخدامه أسلوب مخاطبة الغائب كقوله: "يا صاحب الفيل.."، وغير ذلك.
21) ختمه الكتاب بخاتمة طيبة ذات صلة بالموضوع.

المآخذ:
مع هذه القيمة العلمية الوافرة للرسالة؛ إلا أنها لات خلو من بعض المآخذ، وقد أبى الله إلا أن يتم كتابه فقط.
والمآخذ كالتالي:
1) لم يذكر مقدمة لرسالته، وإنما نجده بدأ مباشرة في صلب الموضوع.
2) عدم نسبته لكثير من الأقوال؛ فتجده كثيراً ما يقول: قال آخرون، زعم آخرون، قال بعض العلماء، قال الشاعر، كما في قول الشاعر، إلى غير ذلك دون أن ينسب، ويذكر القائل .
3) نجده لم يمش على منهجية واحدة في أمر الإسناد؛ فتارة يسند وتارة لا يسند .
4) يوجد بعض الاستطرادات، وفي المقابل يوجد بعض الاختصارات .
5) استشهاده وذكره لبعض الأحاديث الضعيفة؛ كذكره قصة إسلام عمر، وقد حكم بعض أهل العلم على عدم صحتها .
6) يوجد في رسالته بعض التكرار؛ فمثلاً ذكر ما يقوم به الكلام، ثم كرر ذلك بعدها بصفحات.
7) أنه استدل بالشعر ثم بالحديث، والأولى العكس .
8) نلاحظ ذبذبته في ذكر وجه الاستشهاد من البيت؛ فتارة يذكر تارة لا يذكر، ولعله يعذر في ذلك؛ فلا يذكر وجه الاستشهاد لوضوحه .
9) إقراره بوجود الاستعارة في القرآن أو المجاز؛ وكما هو معلوم أن كثيراً من الأئمة أنكروا وجود المجاز في القرآن؛ كابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما .
10) عدم توضيحه الأمر في مسألة زيادة الباء، ولو بين أن الزيادة زيادة إعرابية؛ لكنها لها معنى للتوكيد، أو غير ذلك؛ فلا زيادة في القرآن .
11) عدم الترتيب في بعض المواطن؛ مثال ذلك: أنه بدأ بتفصيل مسألة الكاف في قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) ثم ذكر مسألة الكاف في قوله تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين) ثم رجع للكلام على الكاف في قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون)
12) عدم ذكره لجميع الجوانب في مسألة الصرفة.
13) أنه استطرد في بيان أوجه المعارضة، وذكر أوجهاً لا تتصل بالمعارضة .
14) اختصاره وعدم تفصيله في ذكر أوجه الكاف في قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون)​
 
( 5 )

( 5 )

المبحث الثاني: تقرير عن رسالة الجرجاني -رحمه الله-, وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ترجمة موجزة للمؤلف .
اسمه: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني.
نسبته: هو فارسي الأصل جرجاني الدار؛ (والجرجاني) نسبة إلى جرجان، وهي في بلاد فارس.
مولده: في مطلع القرن الخامس.
نشأته: نشأ من صغره متشوقاً للعلم، شغوفاً به؛ فأقبل على الكتب؛ كإقبال الظمآن على الماء الزلال!؛ فقرأ كل ما وصل إليه من كتب خاصةً لأئمة اللغة، وأرباب الصناعة النحوية كسيبويه، والجاحظ، وغيرهما، وألمّ بعلوم القرآن، وأتقن الفقه الشافعي، وكان بارعاً في عدة لغات في الهندية، والتركية، والفارسية؛ وهذا ينمّ على عقلية فذة؛ ثم انطوت الأيام، وحملت؛ فوضعت عالماً نحريراً؛ ألا وهو الجرجاني.
مكانته العلمية: هو إمام بليغ باتفاق، ونحوي لغوي على الإطلاق، وحيد دهره، وفريد عصره، قد ذاع صيته، وبرز ذكره، وأصبح طلاب العلم يزحفون إليه من كل فج؛ لكن هناك سبباً جعل الجرجاني يكتسب هذه الشهرة العظيمة ألا وهو: قوة كتاباته، وعلو كعبه في علم البلاغة؛ حيث يعده المختصون شيخ البلاغيين، ومؤسس علم البلاغة؛ ومن الكتب التي ألفها في البلاغة، وسارت بها الركبان: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز.
ثناء العلماء عليه: قد أثنى عليه العلماء، وذكره بالخير الأجلاء؛ وأذكر بعضاً من أقوالهم التي نقلها من ترجم له:
قال عنه ابن قاضي شبهة: "كان شافعي المذهب، متكلماً على طريقة الأشعري، وفيه دين، وله فضيلة تامة في النحو، وصار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات مع الدين المتين والورع والسكون".
وقال عنه السلفي: "كان ورعاً قانعاً دخل عليه لص وهو في الصلاة؛ فأخذ ما وجد، وعبد القاهر ينظر، ولم يقطع صلاته".
وقال أبو محمد الأبيوردي: "ما مقلت عيني لغوياً، وأما في النحو فعبد القاهر".
شيوخه: أبو الحسين بن عبد الوارث، ابن أخت أبي علي الفارسي واسمه: محمد بن الحسن الفارسي، وغيرهما.
تلاميذه: علي بن زيد الفصيحي، أبو زكريا التبريزي، الإمام أبو عامر الفضل بن إسماعيل التميمي، أبو النصر أحمد بن محمد الشجري، وغيرهم.
وفاته: توفي - رحمه الله - في جرجان سنة إحدى وسبعين وأربعمئة، وقيل سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
مؤلفاته: المغني، المقتصد، التكملة، الجمل، المختار، دلائل الإعجاز، شرح الفاتحة، الرسالة الشافية، وغير ذلك.

المطلب الثاني: إلماحة يسيرة عن الرسالة
إن العاقل الحصيف ليحكم على هذه الرسالة؛ بأنها رسالة جامعة ناجعةح فهي مشبعة بالفوائد، والملح، والنكات البلاغية، والدرر الأدبية، وقد كتبها الإمام الجرجاني ليثبت فيها حقيقة الإعجاز، وقد اشتملت الرسالة على عدة فصول، وقد ناقش فيها قضية الصرفة، وذكر عدة مسائل في باب الإعجاز، وجعل الرسالة بعنوان:الرسالة الشافية، والطبعة التي بين يدي طبعة دار المعارف، تحقيق وتعليق: محمد خلف الله أحمد، و د. محمد زغلول سلام، وهي غلاف، ومعنون لها بعنوان: "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي"، ورسالة الجرجاني تتكون من إحدى وأربعين صفحة.
 
( 6 )

( 6 )

المطلب الثالث: تحليل الرسالة وبيان منهج مؤلفها
قدم الجرجاني لكتابه بمقدمة، ثم مهد بتمهيد بين فيه أن لكل معنىً لفظاً يخصه، ويلصق به أكثر، وأن المعاني، والألفاظ، والعبارات لا بد أن تكون في نسق واحد، ثم تحدث عن موضوع كتابه؛ وأنه يكمن في ثلاث نقاط: في بيان عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، وما يتصل بذلك من علم أحوال الشعراء والبلغاء، وما يتصل بذلك من علم الأدب عامة، ثم بين منهجه فقال: "قد تحريت فيها الإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذواً هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم اذهبن وإلى الأفهام أقرب... " ، ثم بين أن الكلام يتباين ويتفاضل، وأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب؛ فلابد من الرجوع لكلام العرب، والفيء إليه، والوقوف على أساليب العرب، وطرائقهم؛ حتى يتبين لنا سر اعجاز القرآن.
وقد بين وقرر الجرجاني أن المعتبر عجز العرب المعاصرين دون المتأخرين منهم وبناءاً على هذا الأصل الذي أصله؛ بين دلائل أحوال العرب، ودلائل أقوالهم حين تُلي عليهم القرآن، وفصل في ذلك، وأسهب؛ وخلاصة كلامه في دلالة الأحوال: أن من الأمر المتعارف عليه الذي يعرفه الصغير والكبير؛ أن من عادات الناس ألا يسلموا لخصومهم مزية وفضيلة، وهم يجدون سبيلاً لدفعها، وقد أطال في هذه القضية، ودعم كلامه بذكر أحوال الشعراء؛ فذكر قصة جرير والفرزدق، وأنهما كانا في عصر واحد، وقد عرض بينهما ما يهيج على المقاولة؛ فشرع كل واحد منهما يغالب الآخر، ويطارده، وجعل ذلك أكبر همه، وغاية أمره.
ثم دلف إلى قضية دلائل الأقوال، وصرّح بأنها كثيرة، ثم ذكر حديث ابن المغيرة، وحديث عتبة، وحديث أبي ذر، وقصة الوليد إلى غير ذلك، ثم ذكر أن عجزهم عن المعارضة يفيء لأحد أمرين: "إما أن يكونوا قد علموا المزية التي ذكرنا أنهم علموها على الصحة، وإما أن يكونوا توهموها في نظم القرآن، وليست هي فيه لغلط دخل عليهم.." ص126، ثم أصل نتيجة ذهبية؛ وهي أنه يجب القطع بأن القرآن معجز ناقض للعادة، وأنه على معنى قلب العصا حية، وإحياء الموتى.
ثم انتقل -رحمه الله- إلى ذكر بعض شبه المنكرين للإعجاز، وشرع يفندها، ويرد عليها، وينسفها نسفاً، ويحلها عقدة عقدة، وأنا أذكرها، وردَه عليها مختصراً:
- من الشبه قولهم: إن العرب كانوا مأخوذين ببلاغة القرآن الكريم متوهمين لها وليست هي فيه، وإنما هو لغلط دخل عليهم.
الرد: أن قولهم هذا أقل ما يقال فيه أنه سخف وخبل! فقل لي بالله كيف يدخل الغلط على العرب؛ وهم من هم في الفصاحة، والبيان، والدهاء، والفطنة، ورقي الذوق، فهم إذا سمع أحدهم مقالة عرف قائلها بشدة ذوقه، وعلو فصاحته.
- ومن هذه الشبه - وقد عقد فصلاً كاملاً لدحض هذه الشبهة المزلة- قول بعضهم: أنه يوجد في كل زمان الفرد الذي لا يُبارى، ولايُجارى، وذكروا بعض الشعراء والناثرين كامرىء القيس، والجاحظ، وغيرهما.
الرد عليهم: قد رد عليهم رداً لاكعاً رصيناً، وبين أن هذا القول من نزغات الشيطان، ونفثه، وأثبت رداءة هذا القول، وخفته، وأجاب عن ذكرهم امرأ القيس؛ أنه قد وُجد في عصره من يباريه، ويماتنه، وأن الناس اختلفوا في أشعر الناس، ولم يجمعوا على قول، واستدل بقصة المنصور، واستدل أيضاً أنهم عندما طبقوا الشعراء لم يفضلوا شاعراً بعينه، وإنما وضعوا امرأ القيس، وزهيراً، والنابغة، والأعشى في طبقة ،وبين أنه ما من شاعر، ولا ناثر إلا ودخله الخلل، واعتوره الزلل، وصاده النقد؛ فلا يوجد أحد سلم له ذلك سواء امرأ القيس، أو غيره، ثم استشهد بقصة امرىء القيس وعلقمة، وقصة علقمة والحارث، وبين أن الشرط في نقض العادة أن تعم الأزمان كلها، وعدم اقتصارها على زمن واحد، وبين أن العلماء الذين تميزوا إنما استقوا، ونهلوا من الأولين، وإلا لم يكن لهم ميزة، وكبير شأن.
- ومن هذه الشبه: زعمهم أن عجز العرب لم يكن لأجل أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل نظم القرآن، ولكن العجز الذي ظهر فيهم؛ لأنهم تحدوا بأن يأتوا بنظم في مثل معاني القرآن، ومن المعلوم أن معاني القرآن مُحال الإتيان بها، وأن التحدي لا يصح بما لا يتصور وجوده؛ ثم أتى بكلام مشابه لشبهتهم، وأتى بأمثلة شعرية من أحوال الشعراء.
الرد: قال -رحمه الله-: " واعلم أنهم في هذا كرامٍ أضل الهدف، وبانٍ قد زال عن القاعدة، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها؛ بلفظ يشبه لفظه، ونظم يوازي نظمه، وهذا تقدير باطل؛ فان التحدي كان إلى أن يجيئوا في أي معنى شاؤوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف، أو يقرب منه؛ يدل على ذلك قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات واعدوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترى لما قلتم؛ فلا إلى المعنى دعيتم ولكن إلى النظم وإذا كان كذلك كان بيناً أنه بناء على غير أساس" .
- ثم بين شبهة أخرى فقال: فإن قالوا: "إن المعاني لا تكون مؤثرة، وقوية إلا بالألفاظ، والنظم"؛ فإنا نقول لهم: أخبرونا عن معاني القرآن؛ أهي صنف أم أصناف؟ فإن قالوا صنف فهذا جهل أعمى، وإن قالوا أصناف؛ نقول لهم: اجعلوا كل شاعر يعارض القرآن في الصنف الذي تعلو فيه قريحته، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وقد رد -رحمه الله- على قولهم: "أن التحدي لا يصح بما لا يتصور وجوده" بما معناه: أن العرب تعرف المعنى الحقيقي للمعارضة، وشروطها فلو كان النبي طلب منهم ما لا يُعارض، ويُطالب بمثله لاعتذروا عن ذلك، ولقالوا لقد ظلمتنا في المعارضة، ونريد أن تعطينا شيئاً نعارضه حق المعارضة؛ فدع هذا الشرط ثم اطلب.
ثم دلف لموضوع مهم؛ فذكر فكرة الصرفة، وشرع يناقش فيها، ويرد، ويدحض، ويفند وجهة القائلين بها، وينقض رأيهم، وقد استطرد في ذلك، وبين أنهم ما داموا صُرفوا عن المعارضة؛ فلماذا أدهشهم، وأبهرهم القرآن؟ أوليست الدهشة ألجمتهم؛ لأنهم وجدوا في القرآن الشيء العجيب، والقدر الغريب الذي يفوق طاقتهم، فلا يبلغون شأوه، ولا يستطيعون كنهه، وأتى بالأدلة على بطلان الصرفة، واستدل بدليل عقلي مقنع؛ وهو أنه ما ذُكر عنهم أبداً أنهم قالوا: قد صُرفنا عن المعارضة، وإنما الذي ذكر قولهم عن القرآن: هو سحر، أو شعر، إلى غير ذلك، ثم ختم كلامه عن الصرفة بذكر فصل سأل فيه سؤالاً، وهو ما الذي دعاهم للقول بالصرفة؟ وأجاب جواباً شافياً.
ثم ذكر فصلاً آخر خطّأ فيه قول القائلين بأنه يجوز أن يستطيع الواحد أن يأتي بشبه القرآن بعد زمن النبوة، وبين أنه إن نُقر عن هذا الأمر انكشفَ عن أمر منكر؛ وهو الذهاب أن القرآن جاء عن طريق الإلهام لا الوحي -نعوذ بالله من الضلال-
ثم قرر الجرجاني أن القرآن معجز في نفسه، وأن إعجازه في نظمه وتأليفه على وصف لا يهتدي الخلق إلى الإتيان بكلام وهو في نظمه وتأليفه على ذلك الوصف؛ وهذا هو الإعجاز (بالنظم).
وبين الجرجاني بأنه لا ميزة للعبارة على أختها إلا بقوة نظمها؛ أي: أن يُختار للمعنى اللفظ الذي هو به أخص وأليق، وأن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته؛ لذلك فإن سر إعجاز القرآن يكمن في معرفة أسرار النظم، ثم ختم بفصل عظيم بين فيه أن علم الفصاحة والبيان أمر لا تستطيع أن تفهمه من شئت متى شئت، وبين أنه لا يستطيع أن يفهم هذا الباب -أي باب الإعجاز- من لم يؤت الآلة التي بها يفهم، وبين أن من أشد البلوى أن يظن فاقد البيان والفصاحة أنه قد أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم، ويصح منه القضاء .

منهجه في الصرفة:
جعل الإمام الجرجاني القول بالصرفة في فصل كامل أسهب فيه وتوسع، وطول وأنجع وأمتع، وقد بين عوار هذا القول، وتتبعه، وصرح بأنه قول في غاية البعد والتساقط، وبين أن في نفس آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول؛ وذلك أنه لا يقال عن الشيء يمنعه الانسان بعد القدرة عليه، وبعد أن كان يكثر منه؛ إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتم له. ووصف القائل بالصرفة بأنه: "قاله متسرع أوقعته شهوة الإغراب فيما لا يعذر العاقل في اعتقاده ولو كان الناس إذا عن لهم القول...الخ"
وقد ذكر اللوازم الباطلة التي تلزم القائلين بها؛ فمن الللوازم الذي ذكرها:أن القول بالصرفة يلزم منه أن العرب قد رجعت القهقرى في بلاغتها، وفصاحتها بعد نزول القرآن، ومن اللوازم أن كلام العرب قبل القرآن كان موازياًُ للقرآن من حيث نظمه، وفصاحته، وأن التعجب كان من المنع من المعارضة لا من بلوغ القرآن مرتبة عالية في الفصاحة، والبيان، ومن اللوازم أن أقوال العرب بعد نزول القرآن لا يُستشهد بها؛ لأنها ناقصة في البلاغة والبيان عن كلام العرب قبل نزول القرآن، ومن اللوازم أن يقضوا للنبي بما قضوا للعرب من دخول النقص على فصاحتهم، وأن تكون النبوة قد أوجبت أن يمنع شطراً من بيانه، ومن اللوازم أنه إن كانت العرب منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها فيلزم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم، ولكانوا قالوا للنبي: إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا بهن ولكنك قد سحرتنا، وصرفتنا...
ثم ختم كلامه عن الصرفة بفصل تساءل فيه عن الداعي الذي دعا القائلين بالصرفة إلى القول بها، وأجاب عن ذلك إجابة ممتعة نافعة؛ فقال: نسألهم إن كنتم تصدرون عن علم؛ فمن أين أتاكم هاذا العلم؟ أمن نظر أم من خبر؟ ورد على كلا الأمرين، ودحض قولهم - رحمه الله -.

منهجه في أوجه الإعجاز:
تبين لي أن وجه الإعجاز عند الجرجاني هو النظم، وأنه يرى أن إعجاز القرآن يؤول إلى نظمه، وتأليفه، وتركيبه؛ فقد عكف -رحمه الله- يناقش، ويفند أسباب عجز العرب عن معارضة القرآن، وأن ذلك أمر متعذر عليهم، وأن هذا كله يعود إلى نظمه المعجز المبهر!.
وأثناء قرائتي للرسالة كتبت عدة نقاط في منهج الجرجاني -رحمه الله- في رسالته وهي كالتالي:
1) بين –رحمه الله- منهجه في بداية رسالته فقال: "قد تحريت فيها الإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذواً هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم أذهب، وإلى الأفهام أقرب... "
2) أنه يُكثر من الأمثال، ويأتي بالصور الفنية، والتشبيهات الاستعارية .
3) من منهجه أسلوب المخاطبة للقارىء؛ كقوله اعلم، تأمل، وغير ذلك، وهذا يوصل المعلومة لقلب القارىء .
4) يُكثر من قوله (فبنا) وهذا أسلوب جميل؛ يجعل القارىء شريكاً له في الموضوع .
5) يستخدم أسلوب الإجمال ثم التفصيل .
6) من منهجه أسلوب القياس، أو التمثيل .
7) من منهجه أنه يناقش مناقشة عقلية، ويستدل بأدلة عقلية كثيراً، ولا جرم أن هذا الذي ينفع مع المتكلمين، وأرباب المنطق .
8) عنده أسلوب السؤال في المناقشة؛ كمثل قوله: "هل سمع، أم هل عرف، وغير لك" .
9) من أسلوبه الإكثار أثناء المناظرة من قوله: "فإن قالوا: قيل لهم:"
10) أنه يحيل على شيء مضى، وتقدم الكلام عليه .
11) ذكره لبعض المصطلحات الأدبية؛ كذكره الإخوانيات، والسلطانيات .​
 
( 7 )

( 7 )

المطلب الرابع: قيمة الرسالة العلمية (المميزات والمآخذ)
إن لرسالة الجرجاني قيمة علمية وافرة؛ خاصة لأرباب البلاغة؛ فهو شيخ البلاغيين، وإمامهم؛ وإن قيمة الرسالة العلمية تتجلى بما سأذكره من مميزات.

المميزات التي تميزت بها الرسالة ومؤلفها:
1)استشهاده بالآيات القرآنية ، والأحاديث،وأشعار العرب؛ ولا شك أن هذا يثري الكتاب ويدعمه.
2) الترتيب الواضح لكتابه، وتقسيمه لفصول.
3) يملك مهارة في أسلوب المناظرة تربك الخصم، وتضطره للإذعان، ونقضه شبه الخصم من جميع الجوانب؛ حيث إنه لا يترك للقبيل شيئاً يتشبث به .
4)نقله عن أكابر الصحابة بعض أحوال الشعراء .
ذو علم بالغ بأحوال الشعراء، وتاريخهم، وطبقاتهم، وأفضلهم .
5) إيراده الحكم والآثار الموجزة الناجعة .
6) نقله عن العلماء كالجاحظ وغيره، واستشهاده بأقوال العرب الأقحاح كخالد بن صفوان وغيره .
7) نلاحظ قوته العلمية الدفاقة، وامتلاكه شخصية علمية، وثقته بنفسه كالفارس المقدام الذي يصول ويجول، ولا يلتفت لأحد مهما كان!! .
8) ذكره ونسبته البيت لقائله خلافاً للخطابي.

المآخذ:
مع هذه القيمة العلمية الوافرة للرسالة؛ إلا أنها لات خلو من بعض المآخذ، وقد أبى الله إلا أن يتم كتابه فقط.
والمآخذ كالتالي:
1) عدم ذكره الأسانيد في إيراده الآثار والقصص.
2) لم يتكلم عن تعريف الصرفة، ولم يرتب كلامه عنها
3) طغيان الجانب الأدبي، والكلام عن أحوال الشعراء في الرسالة؛ وكأنها رسالة في الأدب.
4) عدم نسبته لمن طبق الشعراء؛ حين قوله: "حين طبقوا الشعراء... "

المبحث الثالث: ترشيح رسالة منهما.
لا شك ولا ريب أن لكل رسالة ميزة التصقت بها، قد حرمت منها أختها، وإن أمر تفضيل رسالة على أخرى محالٌ أن يتفق عليه جميع الناس والنقاد؛ فكلٌ له ذوقه، وكلٌ له رونقه، ولكل وجهة هو مولاها!!
لكني إن سألت نفسي: أي الرسالتين ترشح -دون مجاملة ولا انحياز-؟
فإني سأضطر إلى الجواب بلسان طلق؛ أني أرشح رسالة الخطابي –رحمه الله-؛ وذلك لأمور كثيرة أذكر منها:
- أن الخطابي متقدم على الجرجاني، فهو من أوائل من ألف في الإعجاز، ومن الملاحظ أن الجرجاني قد استفاد من رسالة الخطابي، واستقى منها بعض الأمور؛ فتجده ذكر خبر الوليد، وابن المغيرة، وغيرهما، وتجد الخطابي ذكر ذلك، وتجده أيضاً ذكر بعض أحوال الشعراء التي ذكرها الخطابي، إلى غير ذلك.
- اتصاف الخطابي بجزالة ألفاظه، وجزالة كلامه، وإيجازه، وامتلاكه الروح الأدبية الجياشة؛ ومع ذلك فإن رسالته عذبة، سهلة الفهم، دانية التناول؛ بخلاف رسالة الجرجاني فإنها من الصعوبة بمكان، وفهمها شائك يحتاج ويحتاج، فأسلوبه صعب، ومن الملاحظ استطراده الواضح، ومن المعلوم أن الكلام العذب السهل أقرب للنفس من ضده.
- اتصاف الخطابي بالنفَس الحديثي؛ وكأنك تعيش مع المتقدمين؛ وذلك بذكره الأسانيد بخلاف الجرجاني.
- استيفاء الخطابي لمسائل عديدة في الإعجاز؛ فقد ذكر عدة أوجه لإعجاز القرآن، وذكر شبهاً كثيرة للمنكرين، ودحضها، وذكر المعارضة وشروطها، وملأ رسالته بالملح والنكات إلى غير ذلك؛ خلافاً للجرجاني فإنه اقتصر على ذكر أمور معينة في باب الإعجاز.
إلى غير ذلك من الأمور التي تجعلك تصوت لرسالة الخطابي، وتنادي بأعلى صوتك: الشعب يريد رسالة الخطابي!!!!!

وختاماً: إني لأرجو من الله تعالى عظيم الأجر، وجزيل الثواب يوم الحشر، وأن يجعله لوجهه الكريم من خالص الأعمال، وأن لا يجعل حظ جمعي أن يقال ، وأن يعصمني في القول والعمل من زيغ الزلل وخطأ الخطل .
 
أولاً: بارك الله فيك شيخنا فضيلةَ الشيخ عبد الرحمن الشهري، وجزيت خيراً على تواضعك واهتمامك؛ كما إني أشكرك على تشكرك لي، وعلى نصيحتك الناجعة، وآرائك النافعة.
ثانياً: أشكر أخي الشيخ محمد العبادي على هذا الجهد الذي قام به، وأسأل الله أن يجعله في موازين حسناته، وصحائف أعماله.
ثالثاً: أنبه على أن الهوامش لم توضع في الملتقى لصعوبة ذلك، ومن رامها فهي موجودة في ملف الوورد.
أسأل الله الإخلاص في القول والعمل؛ فإنه أصل الأصول، وينبوع القبول.
أخوكم: سعيد بن إبراهيم النمارنة.
 
لم أطّلع أخي على مراجعكم وددت فقط الإشارة إلى بحوث علميّة رفيعة تناول فيها فضيلة العلاّمة الراحل د.فضل حسن عباس رسالتي الخطابي والرمّاني وكتاب الباقلاني بالنقد والتحليل ، أما الرسالة الشافية للجرجاني فرغم صغر حجمها النسبي إلا أن فيها من الفوائد والملح وتشابك الشبه والردود فيها ما يجعل الوقوف معها طويل النفس..وآمل ان تكونوا قد وفقتم في ذلك.
إلا أن الدراس لرسائل العلماء السابقين لا يجدها متغايرة في باب المفاضلة قدر ما هي متغايرة في ملحها وفوائدها واختلاف نظرات العلماء في معنى الإعجاز ورده إلى أي فرع من الفروع هل هي الصرفة أم هل يرجع ذلك إلى أبواب المعاني والبلاغة أم إلى ماذا، ربما كانت رسالة الخطابي أيسر درساً وأوضح في بيان ما يعتقد أن الإعجاز يتمثل به إلا ان الرسائل الثلاثة فعلاً تكمل بعضها البعض، وأظن أن تفضيل رسالة الخطابي على الجرجاني فيها شيء من الظلم ..والله أعلم!
 
ماشاء الله تبارك الرحمن
خطوة مباركة وموفقة
وبداية جيدة
وأشكر المشايخ الفضلاء على هذا الاهتمام

وأنبه على مسألتين على عجل:
1- التفضيل والترجيح نسبي ، ويختلف باختلاف المعايير ، والنظر إلى هدف الترشيح لأي منهما. ولا لوم على من فضل كتابا أو رسالة أو دراسة على أخرى فالباب واسع، ونحن في مقام طلب العلم ومدارسته.
2- مسألة المجاز ينبغي عدم محاكمة المتقدم لقول متأخر عنه، ولم يكن القول بالمجاز معروفا قبل المائة الثالثة.
- ومسألة قول الخطابي ( قريب) لاتعني قوله بالصرفة، ويخطئ من يفهم هذا الفهم، ولذا نسب القول بها لعدد من العلماء من هذه الجهة، والصواب أن معنى القول: أنها تصلح دليلا "فالمنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد" لكن لما جاء نص الآية صريحا، والواقع يشهد لذلك أبطل العلماء القول بها. وقالوا: "لايقال به إلا على سبيل التقدير والتزيل". وهذا باب من الحجاج آخر.
- كنت أمنى أن تستمر لغة البحث علمية مجردة عن المشاعر " الشعب يريد..." فأراها أفسدت جمال النص، مع أخوات لها.

عموما خطوة مباركة وفقكم الله وأعانكم
 
عودة
أعلى