يقول تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106].
تحقيق المصطلح القرآني
(نسخ الآية) ورد في القرآن الكريم مرة واحدة، وهو ما جاء في الآية 106 من سورة البقرة. وذكر النسخ مع النسيان أو النسيئة. فحصل عن ذلك ثلاث حالات:
الأولى (النسخ): تغيير حكم آية فيتبدل الحكم.
الثانية: (النسيان): رفع حكم آية فينساه الناس.
الثالثة: (النسء): ترك العمل بحكم آية مؤقتا لانتفاء العلة. يقول الزركشي (ت:794 هـ) في البرهان: " مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجابٌ لذلك".
فعن الأولى والثانية يقول الطبري: " فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك ، أو مُحي أثرها ، فُعفّي ونُسي ، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخة".
وعن الثالثة يقول ابن الجوزي (ت:597 هـ) في نواسخ القرآن: " عن قتادة قال: كل شيء في القرآن فأعرض عنهم وانتظر منسوخ نسخته براءة والقتال".
من خلال الآية 106 من سورة البقرة التي جمعت بين الحالات الثلاثة التي هي: تغيير حكم آية فيتبدل الحكم، أو رفع حكم آية فينساه الناس، أو ترك العمل بحكم آية مؤقتا لانتفاء العلة، يتبين لنا سر اختلاف المفسرين في تحديد الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم. وذلك تبعا لاعتبار أن الناسخ والمنسوخ منحصر في الحالات الثلاثة السابقة أو في بعضها، أو في الزيادة على ذلك- توسعا ومجازا- من بيان القرآن؛ كتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل؛ فَتَبَاينَ العددُ الإجمالي للآيات المنسوخة بين القلة القليلة من الآيات والكثرة الكثيرة منها. وكل ذلك تبعا لاجتهاد المفسرين.
ادعى بعض الذين أنكروا جواز النسخ، أنه يستحيل في حق الله تعالى. معللين إنكارهم بأن النسخ فيه تبديل وتغيير، وهذا التبديل والتغيير لا يتوافق مع كون علم الله شاملا ومطلقا. وهم محجوجون في ذلك؛ فإذا كان الناسخ الحقيقي هو الله تعالى، وهو رب العباد، العليم ذو العلم المطلق والشامل، فالله تعالى يربي عباده ويواكب تربيتهم بالتدرج في التشريع رحمة بهم، ومراعاة لمصالحهم. فعِلْمُ الله مطلقٌ وشاملٌ، وحياة الناس في ظل التوجيه الإلهي في تغيير مستمر؛ يرتقون من عبادة إلى عبادة أرقى وأصلح، بهدف الوصول إلى الكمال التشريعي الذي يريده الله ويرضاه لعباده. يقول تعالى: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ...}[المائدة:3].
إننا أمام ظاهرة قرآنية جديدة هي الناسخ والمنسوخ في الأحكام الشرعية. هذه الظاهرة التي أخبرنا الله عنها في بداية سورة البقرة؛ هذه السورة التي هي بناء للمرحلة المدنية مع بداية تكوين الدولة الإسلامية، بعد أن كان المسلمون أقلية مستضعفة في المرحلة المكية. مرحلة جديدة وأحكام تشريعية جديدة تواكب تغيير المجتمع الجديد. إن الآية 109 من سورة البقرة هي تمهيد لكل ما سيأتي من تشريعات ناسخة من خلال السور المدنية، وأَقْرَبُها قضيةُ تحويلِ القبلة. يقول ابن كثير (ت:774 هـ) في تفسيره: " قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلُها اليهودَ - أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قِبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة: 144] إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:142]، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:115]".
ادعى بعضهم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ليس بنسخ؛ لأنه لم تسبق آيةَ النسخِ آيةٌ من القرآن تدل على الاتجاه إلى بيت المقدس.
فإذا علمنا أن الوحي من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تم بطرق مختلفة، منها: الرؤيا الصالحة والإلقاء في الروع والوحي مثل صلصلة الجرس وأن يتمثل له الملك رجلا وأن يرى الملك على صورته وأن يكون الوحي من الله مباشرة. واشتمل على أصناف متنوعة منها: القرآن الكريم والسنة القولية والسنة الفعلية والسنة التقريرية، ومنها: الأحاديث القدسية. يتبين بعدها أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعم بالوحي في سائر أمور الدعوة الإسلامية، وأن الإسلام يتمثل في القرآن والسنة، ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأن السنة وحي كذلك، مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النجم:3-4]. وأمر الصلاة كما يعلم الجميع أوحاه الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم عندما عرج به. ومما أوحى الله إليه أنه فرض على هذه الأمة خمسين صلاة في اليوم والليلة ثم ردت إلى الخمس. وأن كل ما هو عملي ويتعلق بأمر الصلوات الخمس قد علَّمَهُ الملك جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم، والاتجاه إلى بيت المقدس من هذا القبيل. وأكده القرآن الكريم بقوله تعالى: {...وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ...}[البقرة:143]. يقول حسنين مخلوف (ت:1410 هـ) في تفسيره: "{ وما جعلنا القبلة }بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة له ثم صرفه عنها إلى الكعبة. أي أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك لبيت المقدس هذه المدة ثم صرفك عنه، إنما كان ليظهر حال من يتبعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه مرتدا عن دينه، فنجازي كلا بعمله". فالله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل. وهو الذي نسخ ذلك بقوله: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144].
يقول تعالى: {وَدَّ كَثيرٌ مِن أَهلِ الكِتابِ لَو يَرُدّونَكُم مِن بَعدِ إيمانِكُم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعفوا وَاصفَحوا حَتّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ}[البقرة:109].
جاء في المختصر في تفسير القرآن الكريم: "تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يردُّوكم من بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم تعبدون الأوثان، بسبب الحسد الذي في أنفسهم، يتمنون ذلك بعدما تبين لهم أن الذي جاء به النبي حق من الله، فاعفوا - أيها المؤمنون - عن أفعالهم، وتجاوزوا عن جهلهم وسوء ما في نفوسهم، حتى يأتي حكم الله فيهم - وقد أتى أمر الله هذا وحكمه، فكان الكافر يخيَّر بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتال - إن الله على كل شيء قدير، فلا يعجزونه".
الآية الدالة على النسخ في القرآن الكريم هي الآية 106 من سورة البقرة. ذكر فيها النسخ والإنساء والنسء. وكلها جاءت مجتمعة في آية واحدة، ولها جواب واحد هو: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. لذلك فكل حالة من هذه الحالات الثلاثة هي واردة في باب النسخ. ونجد في الآية 109 من سورة البقرة التي بين أيدينا أن الله أمر المؤمنين بالعفو والصفح تجاه أهل الكتاب؛ لأنهم يتسمون بالضعف والقلة حتى يأتي أمر الله. وأمر الله هو الأمر بالقتال. وهذا نوع من النسخ الذي أشار إليه القرآن الكريم. ويسمى نسأً. والْمُنْسَأُ هو الأمر بالقتال. لذلك نجد التّابعيّ قتادة بن دعامة السّدوسيّ يقول: "كلّ شيء في القرآن فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ منسوخ، نسخته براءة والقتال". وهذا بالطبع خلاف ما يقول به أصحاب النسخ بمعناه الاصطلاحي. فهم لا يعتبرون هذا النوع نسخا.
أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ
فهم القرآن الكريم يستلزم أن يكون في إطاره الحقيقي. هذا الإطار الذي عبر عنه المفسرون بطرق التفسير وهي: القرآن والسنة وأقوال السلف من الصحابة والتابعين.
فالقرآن الكريم ببيانه المعجز وتشريعاته الربانية جعل الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يتمثل الوحي كما أراده الله، نموذجا حيا لكل المسلمين مصداقا لقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. والسلف الصالح من الصحابة ومن عاصرهم واحْتكَّ بهم من أهل الكتاب والأميين وغيرهم من سكان الأرض، كانوا شريحة بشرية أرادها الله أن تكون عينة للدراسة التي واكبها الوحي عبر الزمن المكي والمدني بالتربية والتوجيه في جميع مراحلها، وجعلها ميزانا تشريعيا لكل مسلمي الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
من هذا المنظور تتجلى أهمية دراسة الناسخ والمنسوخ. فهي من مستلزمات فهم القرآن الكريم. يقول القرطبي (ت:671 هـ): " معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام".
إن معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام هو الحصن التشريعي الحصين للمسلمين في كل زمان ومكان. وذلك لتعدد المجتمعات الاسلامية بعد زمن الوحي، واختلاف ظروفها الاجتماعية والسياسية، ومدى حاجتها إلى الميزان الرباني في كل حين. وبهذا يكون تنزيل الأحكام التشريعية على واقع المسلمين تنزيلا سليما كما يحبه الله ويرضاه.
يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:48].
ويقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:123].
يقول الشعراوي عن الآيتين: "نقول إن هذا التشابه ظاهري. . ولكن كل آية تؤدي معنى مستقلا. . ففي الآية 48 قال الحق سبحانه: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. . وفي الآية 123 قال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}. . لماذا؟ لأن قوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا}. . لو أردنا النفس الأولى فالسياق يناسبها في الآية الأولى. . ولو أردنا النفس الثانية فالسياق يناسبها في الآية الثانية التي نحن بصددها. . فكأن مَعَنَا نفسين إحداهما جازية والثانية مجزي عنها. . الجازية هي التي تشفع. . فأول شيء يُقبل منها هو الشفاعة. . فإن لم تُقبل شفاعتُها تقول أنا أتحمل العدل. . أي أَخْذُ الفدية أو ما يقابل الذنب. . ولكن النفس المجزي عنها أول ما تقدم هو العدل أو الفداء. . فإذا لم يُقبل منها تبحث عن شفيع".
ومن خلال النظر يتبين لنا عاملا آخر هو السياق السابق لكل آية على حدة. فإذا كان الخطاب موجها إلى بني إسرائيل في الآيتين جميعا، فإن السياق السابق للآية 48 هو قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:46]. جاء في المختصر: "وذلك لأنهم هم الذين يوقنون أنهم واردون على ربهم وملاقوه يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليجازيهم على أعمالهم". فكل نفس من هؤلاء لا تستطيع أن تشفع لنفس أخرى ولا أن تقدم عنها عدلا لفدائها.
أما السياق السابق للآية 123 هو قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:121]. جاء في المختصر: " يتحدث القرآن الكريم عن طائفة من أهل الكتاب يعملون بما في أيديهم من كتب منزلة ويتبعونها حق اتباعها، هؤلاء يجدون في هذه الكتب علامات دالة على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا سارعوا إلى الإيمان به، وطائفة أخرى أصرت على كفرها فكان لها الخسران". فكل نفس من هؤلاء الذين كفروا بالكتاب، لا تستطيع أن تقدم عدلا لفداء نفسها ولا تجد من يشفع لها، ولا هم ينصرون". يقول السمين الحلبي (ت:756 هـ): " والضميرُ في قوله «ولا هُمْ» يعود على النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس، وإنما عادَ الضميرُ [هم] مذَكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ المراد بها العِبادُ والأناسيُّ". والنفس التي لا ناصر لها في الآية 48 هي النفس الثانية، وفي الآية 123 هي النفس الأولى.
ومن هذا النموذج من الآيات الكريمة يتضح أن لا تكرار في القرآن الكريم، وأن كل تركيب قرآني يؤدي إلى معناه الخاص به. وكما يقال: إن أفضل كتاب في ضبط المتشابهات اللفظية للقرآن هو القرآن نفسه.
من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]. إلى قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:141].
هذه الآيات جاءت لتبين أصل الملة الصحيحة التي زاغ عنها اليهود والنصارى، وادعوا الصلاح بدونها. يقول تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[البقرة:120]. فهُدى الله هو الهُدى أما غير ذلك فهي أهواء يتبعها اليهود والنصارى ما أنزل الله بها من سلطان. وقد أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يذكر ابتلاء إبراهيم عليه السلام من لدن ربه بما أمره به ونهاه، وما يتميز به من عزم وثبات في تطبيق كل ما كلفه الله به، حيث أداه أحسن أداء، مما جعله الله إماما للناس، وجعل في ذريته الصالحة النبوة والكتاب، واستثنى الظالمين من ذريته؛ لأنهم لا يستحقون ذلك. ومما جاء في هذا التذكير أيضا: أن الله جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وجعل مقام إبراهيم مصلى، وجعل شرف بناء البيت لإبراهيم وابنه إسماعيل، وجعل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. فإبراهيم هو صاحب الملة التي ابتغاها الله لكل الأنبياء والرسل ولكل المؤمنين بالأنبياء جميعا من إبراهيم مرورا بإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى إلى محمد صلوات الله عليهم جميعا، لا تفريق بين أحد منهم. وهنا تتجلى حجية ملة إبراهيم الذي مال عن كل شرك، ضد كل ما يدعيه اليهود والنصارى من شرعية ملتهم التي يشوبها الشرك والضلال.