تقاييد على هامش المختصر في تفسير القرآن الكريم

إنضم
16/11/2009
المشاركات
1,296
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
العمر
72
الإقامة
تارودانت-المغرب
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فالمختصر في تفسير القرآن الكريم هو عمل تفسيري جماعي ساهم في إخراجه ثلة من الأساتذة العلماء، وبذلوا الجهد على أن يكون في أحسن حلة، موافقا لقواعد علمية دقيقة حتى يكون تفسيرا مختصرا محضا، خالصا من كل ما لا علاقة له بالتفسير. فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وجعله في ميزان حسناتهم.
ولله الحمد والمنة، فقد كنت من خريجي الدفعة الأولى لدبلوم (مدكر) الذين يسر الله لهم دراسة المختصر مدة خمسة عشر شهرا، مما أتاح لي أن أعيش مع هذا التفسير من أوله إلى آخره. هذه التجربة التي أكسبتني علاقة حميمية مع المختصر، فقررت- إن شاء الله- أن ألازم دراسته بطريقة خاصة تتجلى في بعض التقاييد على هامش التفسير من خلال الملتقى العلمي لتكون مجالا مفتوحا ومتسلسلا قابلا للمناقشة والتعليق.
أسأل الله التوفيق والسداد. والحمد لله رب العالمين.
 
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فالمختصر في تفسير القرآن الكريم هو عمل تفسيري جماعي ساهم في إخراجه ثلة من الأساتذة العلماء، وبذلوا الجهد على أن يكون في أحسن حلة، موافقا لقواعد علمية دقيقة حتى يكون تفسيرا مختصرا محضا، خالصا من كل ما لا علاقة له بالتفسير. فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وجعله في ميزان حسناتهم.
ولله الحمد والمنة، فقد كنت من خريجي الدفعة الأولى لدبلوم (مدكر) الذين يسر الله لهم دراسة المختصر مدة خمسة عشر شهرا، مما أتاح لي أن أعيش مع هذا التفسير من أوله إلى آخره. هذه التجربة التي أكسبتني علاقة حميمية مع المختصر، فقررت- إن شاء الله- أن ألازم دراسته بطريقة خاصة تتجلى في بعض التقاييد على هامش التفسير من خلال الملتقى العلمي لتكون مجالا مفتوحا ومتسلسلا قابلا للمناقشة والتعليق.
أسأل الله التوفيق والسداد. والحمد لله رب العالمين.
 
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فالمختصر في تفسير القرآن الكريم هو عمل تفسيري جماعي ساهم في إخراجه ثلة من الأساتذة العلماء، وبذلوا الجهد على أن يكون في أحسن حلة، موافقا لقواعد علمية دقيقة حتى يكون تفسيرا مختصرا محضا، خالصا من كل ما لا علاقة له بالتفسير. فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وجعله في ميزان حسناتهم.
ولله الحمد والمنة، فقد كنت من خريجي الدفعة الأولى لدبلوم (مدكر) الذين يسر الله لهم دراسة المختصر مدة خمسة عشر شهرا، مما أتاح لي أن أعيش مع هذا التفسير من أوله إلى آخره. هذه التجربة التي أكسبتني علاقة حميمية مع المختصر، فقررت- إن شاء الله- أن ألازم دراسته بطريقة خاصة تتجلى في بعض التقاييد على هامش التفسير من خلال الملتقى العلمي لتكون مجالا مفتوحا ومتسلسلا قابلا للمناقشة والتعليق.
أسأل الله التوفيق والسداد. والحمد لله رب العالمين.

هل بامكانك اعطائي هذا التفسير المختصر
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين .
الاستاذ الكريم عبد الكريم عزيز جزاكم الله تعالى خيرا أرجو إعادة النظر في عنوان مشاركتكم النافعة بإذن الله تعالى عن كلمة ( تقاييد ) فقد ذكر في لسان العرب (
قيد : الْقَيْدُ : مَعْرُوفٌ ، وَالْجَمْعُ أَقْيَادٌ وَقُيُودٌ ، وَقَدْ قَيَّدَهُ يُقَيِّدُهُ تَقْيِيدًا ، وَقَيَّدْتُ الدَّابَّةَ . ) 233/12 .
وفقنا الله تعالى واياكم .
 
الفاضل البهيجي،
التقييد هو التسجيل والإثبات في ورقة أو دفتر أو كتاب. يقول الجاحظ: "ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره". الرسائل، ج2 الصفحة 383.
وسأحاول بعون الله تعالى أن تكون التقاييد عبارة عن بعض التعليقات على هامش المختصر. فنسأل الله التوفيق والسداد.
 
سورة البقرة ، الآية: 2، الصفحة 2 من المختصر.
يقول تعالى في سورة البقرة: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[الآية: 2].
نلاحظ أن مستهل سورة البقرة له علاقة بسورة الفاتحة في قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الآية: 6].
فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، أخبرنا أن هذا القرآن هو الهدى. والهداية القرآنية لا ينتفع بها إلا المتقون. والوصول إلى التقوى مرهون بالإيمان.
فالمؤمنون المتقون هم الذين يستفيدون من الهداية القرآنية. وإذا كان الأمر كذلك، فمن باب أولى أن يكون من شروط المفسر لكتاب الله تعالى الإيمان مع صحة المعتقد، حتى يستفيد من هداية القرِآن الكريم. وهذا يبدو جليا فيما يتوصل إليه عدد من المفسرين الذين تسلحوا بالعقلانية وقلوبهم خالية من الإيمان، فكان مآلهم الخسران البين حينما فاتهم ما في القرآن الكريم من الهداية الربانية.
 
أخي الكريم :
أولا: هذا المختصر قد قام عليه نخبة من العلماءمن أهل الاختصاص لعدة سنوات ويأتي من ينتقده ولم يقرأ فيه الا صفحة أو صفحتين في يوم أو يومين هذا لايقبل ..
ثانيا: ماذكرته أخي الفاضل مافيه من الأغلاط والتخاريص ومثلت عليها بأمثلة هي فعلا أمثلة حقيقة دلّ عليها ظاهر القرآن، وقد سلك أصحاب هذا المختصر منهج سلف الأمة باتباع مادلّ عليه القرآن والسنة وقد ذكرها جماهيرالمفسرين.
وأخيرا: ماالغرض من الطعن في هذا المختصر وماهو الا مختصرومنتقى من كتب التفسير المعروفة ؟؟
اطلعت على هذا التفسير ولم أرى فيه شيئا جديدا أو فائدة مرجوة
فهو ينسخ ما نقلته كتب التفسير ويعيد صياغتها بشكل مختصر
ويوجد الكثير من مثله بل أفضل منه
فمن ذلك تفسير الصابوني

وهو لا ينقح ولا يصحح شيء، بل مجرد نقل لنفس الأغلاط والظنون والتخاريص
فما هو الفائدة منه ؟؟؟!!!

ناقة تخرج من صخرة
سليمان يقطع أعناق الأحصنة في مشهد دموي
نساء بهرن بجمال يوسف فيقطعن أيديهن

الذي آسف عليه تلك السنوات التي تضيع في كتابة هذا الكتاب ظناً منهم أنه علم
ويحسبون أنهم مهتدون

المشكلة حين يكون التفسير خاطئا
فأية فوائد ترجوها من الايات
 
عصام
لماذا تصر على أن تفسد رونق هذا الملتقى، ألا يكفيك ما تنشره من السموم، لتحشر نفسك في منشورات غيرك؟؟؟
إن كنت مكذبا لما أخبر الله تعالى به من قصة سليمان عليه السلام وقصة النسوة مع يوسف عليه السلام وغيرها فذاك شأنك، لكن أن تقحم نفسك في كل منشور لمحاولة إفساده فهذا مرفوض مرفوض.
ولا داعي أختي هند للتحاور مع هذا المسمى عصام فإطلالة منك على بعض منشوراته تبين لك حاله-عياذا بالله-.
وما تأسف عليه من ضياع العمر، فاسف على نفسك فأنت الذي ربما ضاع عمره سدى إذ لم تستفد من باعك الطويل مع كتب التفسير سوى التكذيب وإنكار ما أخبر به العزيز الغفار.
ويكفينا كبرهان على هذا الباع تأييدك للقول بأن آدم عليه السلام ليس أبا للبشر.
 
السادة الأفاضل، محمد عصام، هدى بنت محمد، ناصر عبد الغفور، جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
وبعد، لا يخفى على أحد أن الاختلاف في التفسير ظاهرة حقيقية وواقعية، لا يمكن إغفالها أو القفز عليها؛ لأن القرآن الكريم كلام الله المطلق، والتفسير نتاج بشري نسبي. وقد عرفه الزرقاني (ت:1367 هـ) في مناهل العرفان ج2، ص3: بأنه: " علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية". والقرآن الكريم بين لنا كفية الفهم التي تتجلى في التفسير والتأويل:
فالتفسير يتمثل في تفسير القرآن بالقرآن مصداقا لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]. وفي تفسير القرآن بالسنة الصحيحة مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]. وفي اجتهاد العلماء الربانيين المتمسكين بالكتاب والسنة. وفي حال التنازع يستخدم التأويل؛ وذلك برد الأمر إلى الكتاب والسنة مصداقا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].
ونحن في سياق هذه التقاييد على هامش المختصر في التفسير، نلفت النظر إلى أن هذا التفسير يختار من الأقوال قولا واحدا ولا يتعرض إلى نقد ما سواه، كما لا يبين سبب ترجيح قول على قول- وهي حيثيات خاصة بكل المختصرات التفسيرية- مما يتيح لنا مساحة أوسع في البيان والتوضيح أو النقد والتصويب. ومن هذا المنطلق نريد أن ننخرط جميعا في نقاش علمي سديد وفعال في سبيل تثوير القرآن الكريم. والله المستعان.
 
السادة الأفاضل، محمد عصام، هدى بنت محمد، ناصر عبد الغفور، جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
وبعد، لا يخفى على أحد أن الاختلاف في التفسير ظاهرة حقيقية وواقعية، لا يمكن إغفالها أو القفز عليها؛ لأن القرآن الكريم كلام الله المطلق، والتفسير نتاج بشري نسبي. وقد عرفه الزرقاني (ت:1367 هـ) في مناهل العرفان ج2، ص3: بأنه: " علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية". والقرآن الكريم بين لنا كفية الفهم التي تتجلى في التفسير والتأويل:
فالتفسير يتمثل في تفسير القرآن بالقرآن مصداقا لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]. وفي تفسير القرآن بالسنة الصحيحة مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]. وفي اجتهاد العلماء الربانيين المتمسكين بالكتاب والسنة. وفي حال التنازع يستخدم التأويل؛ وذلك برد الأمر إلى الكتاب والسنة مصداقا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].
ونحن في سياق هذه التقاييد على هامش المختصر في التفسير، نلفت النظر إلى أن هذا التفسير يختار من الأقوال قولا واحدا ولا يتعرض إلى نقد ما سواه، كما لا يبين سبب ترجيح قول على قول- وهي حيثيات خاصة بكل المختصرات التفسيرية- مما يتيح لنا مساحة أوسع في البيان والتوضيح أو النقد والتصويب. ومن هذا المنطلق نريد أن ننخرط جميعا في نقاش علمي سديد وفعال في سبيل تثوير القرآن الكريم. والله المستعان.

كلام لطيف اخي عبد الكريم
انا معك
 
سورة البقرة، الآيتان 3و4، الصفحة 2 من المختصر.
يقول تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
 
سورة البقرة، الآيتان 3و4، الصفحة 2 من المختصر.
يقول تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
جاء ذكر المؤمنين مرتين؛ مرة في الآية 3، ومرة في الآية 4. فهل هما صنفان مختلفان أم صنف واحد؟
وقد أورد الطبري (ت:310هـ) في تفسيره اختلاف المفسرين في ذلك على فريقين. قال بعضهم: هم مؤمنو العربِ خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب. وقال البعض الآخر: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم. وقد رجح الطبري الاتجاه الأول بقوله: " وأولى القولين عندي بالصواب وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الأول" وذكر علل أصحابه والتي تتلخص فيما يلي:
- أن العرب لم يكن لهم كتاب قبل القرآن الكريم، فهم (الأميون) فمنهم المؤمنون بالغيب، أي " بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها".
- اليهود والنصارى هم (أهل الكتاب). فمنهم المؤمنون بالكتابين: الأول أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم والثاني أنزل قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
وزاد الطبري دليلا آخر على هذه التعليلات بقوله: " ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول إنه جَنّسَ بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار جِنْسَين، فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه مختوما عليه مأيوسا من إيمانه، والاَخر منافقا يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرّ النفاق في الباطن، فصير الكفار جنسين كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين. ثم عرّف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذمّ أهل الذمّ منهم ، وشكر سعي أهل الطاعة منهم".
إن هذا التفسير الوجيه والذي يعضده واقع السياق، قد غفل عنه عدد من المفسرين، رغم كونه يساعد على فهم بداية سورة البقرة والتي تعد من أوائل ما نزل في المدينة المنورة بعد الهجرة، حيث كان الناس مقسمين إلى عرب وأهل كتاب، فكان المؤمنون تبعا لهذا التقسيم الأولي، الذي سيعلن عن انسجامه في آخر سورة البقرة كوحدة متماسكة ومنسجمة غير قابلة للفصل في قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285].
 
سورة البقرة، الآيتان 6و7، الصفحة 3 من المختصر.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فمن هؤلاء الذين يستوي فيهم الإنذار وعدمه، مما يؤكد أن حالتهم ميؤوس منها؟. قال ابن أبي حاتم (ت:327هـ) في تفسيره: " فهذا في الأحبار من يهود فيما كذبوا به من الحق بعد معرفته".
يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89]. جاء في تفسير الطبري عن أبي العالية، قال: " كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم. فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}".
وهذا التأويل يتماشى مع المثل الذي ضربه الله لهذا الصنف من الناس في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ }[البقرة:17-18].
فهو مثل ينطبق على هؤلاء الكفار؛ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}، أي كالذي طلب أن توقد نار، كما طلبوا من الله أن يبعث فيهم رسولا، {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} أي {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا} أي فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أنه الحق من ربهم، وهو السراج المنير {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي انطفأ نورهم من داخلهم عندما {كَفَرُوا بِهِ} وهم يعلمون أنه رسول الله. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ} فهي ظلمات الكفر. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. بسبب أن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.
فهذا هو المثل الأول وقد ضربه الله لهؤلاء الذين كفروا، وهو خاص بهم، وينطبق عليهم. في حين أن عددا من المفسرين نسب هذا المثل إلى المنافقين وسماه المثل الناري. وقد خص الله المنافقين بالمثل الثاني الذي ينطبق عليهم.
يتبع ...
 
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6-7].
لماذا تساوى الإنذار وعدمه في حق هؤلاء؟ جاء في تفسير السمرقندي (ت:373هـ): " أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت".
ففي بداية هذه السورة المدنية ما زالت تبين لنا الشريحة البشرية التي يتكون منها المجتمع المدني، وموقف كل منها من الدعوة الإسلامية. وها هي تصور لنا هذا الصنف من الناس الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أنه نبي مرسل من الله تعالى، عن طريق ما كان عندهم من العلم. فهم الذين خاطبهم الله تعالى بقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41]. فكانوا أول من كفر في المدينة من أهل الكتاب وأصروا على الكفر والاستمرار فيه، فاستحقوا جزاء كفرهم أن { خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
يتبع ...
 
أخي عبد الكريم، عندي بعض الملاحظات على بعض كلامك السابق ألا وهو قولك:"فالتفسير يتمثل في تفسير القرآن بالقرآن مصداقا لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]. وفي تفسير القرآن بالسنة الصحيحة مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]. وفي اجتهاد العلماء الربانيين المتمسكين بالكتاب والسنة. وفي حال التنازع يستخدم التأويل؛ وذلك برد الأمر إلى الكتاب والسنة مصداقا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59]." اهـــــــ.

- بالنسبة لمراتب التفسير التي ذكرتها فالمعلوم أن القرآن يفسر أولا بالقرآن ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة واجتهاداتهم ثم التابعين ثم بلغة العرب التي نزل بها القرآن، كما قرره شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم.

- نعلم جميعا أن التأويل يأتي بمعنين صحيحين شرعيين: التفسير وحقيقة الشيء وكنهه، وبكل ورد القرآن الكريم وإن كان المعنى الثاني هو الأغلب والأكثر ورودا.
أما المعنى الثالث:أي: صرف عن اللفظ عن الاحتمال المرجوح إلى احتمال راجح لقرينة فهذا معنى اصطلاحي، اعتمده أهل التعطيل في نفي الصفات الإلهية، وهذا ما عابه الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره.

فالتأويل منه ما هو محمود وهو التفسير ومنه ما هو مذموم وهو محاولة اقتحام ما اختص الله تعالى به من حقائق الأشياء كحقائق الصفات واليوم الآخر.
وبعبارة أخرى: التأويل منه ما يعلمه العباد ومنه ما لا يعلمه إلا رب العباد.

لذا فكلامك فيه غموض: كيف نستخدم التأويل عند التنازع في التفسير؟
المعلوم أنه إذا صح في الآية أو اللفظة من القرآن تفسيران أو أكثر لا تعارض بينها فإنها تحمل على الكل، أما إذا امتنع الحمل على الجميع فهنا يستخدم الترجيح بقواعده.
فما دخل التأويل هنا؟
 
بين قوسين:
الفاضل عبد الغفور، جزاك الله خيرا وأحسن إليك.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].
ونحن في علم التفسير يتبين لنا أن الآية تقرر مراتب أخذ أمور ديننا وفهمها بالطريقة الصحيحة والتي تتمثل في : الكتاب والسنة واجتهاد أولي العلم من العلماء والفقهاء في إطار الكتاب والسنة بوسائل الاجتهاد المعمول بها والتي أقروها في مناهجهم أثناء الفهم والاستنباط واستخراج الأحكام. وتبقى الأشياء المتنازع فيها – والخطاب موجه للعلماء- أن يردوها إلى الكتاب والسنة.
فالكتاب والسنة ميزان معنوي ترد إليه كل الأشياء التي وقع فيها التنازع بين العلماء ، أو اختلفوا فيها اختلاف تضاد. فعندما يجتهد العلماء ويعملون كل طاقاتهم في البحث بواسطة هذا الرد إلى الكتاب والسنة مسلحين بالوسائل العلمية المساعدة على ذلك. يهتدون إلى أحسن تأويل. يقول تعالى: {ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. وهذه العملية شبيهة بالتي توزن بها الأشياء المادية بالميزان الحسي، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[الإسراء:35].
والعلماء حين يؤولون بهذه الطريقة يتوصلون إلى أحسن تأويل؛ وهو التأويل المحمود الذي أمرنا الله به. وهو التأويل الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم وعملوا به.
إذن فطرق التفسير هي: القرآن والسنة واجتهاد العلماء الربانيين في إطار الكتاب والسنة ، وفي حالة التنازع ترجع الأمور إلى ميزان الشرع الذي هو الكتاب والسنة؛ هذه العملية التي سماها الله تعالى أحسن تأويل.
 
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6-7].
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ}. فما الفرق بين الختم والطبع؟
جاء في مقاييس اللغة: " (خَتَمَ) الْخَاءُ وَالتَّاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ بُلُوغُ آخِرِ الشَّيْءِ. يُقَالُ خَتَمْتُ الْعَمَلَ، وَخَتمَ الْقَارِئُ السُّورَةَ.
فَأَمَّا الْخَتْمُ، وَهُوَ الطَّبْعُ عَلَى الشَّيْءِ، فَذَلِكَ مِنَ الْبَابِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الطَّبْعَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِ آخِرِهِ، فِي الْأَحْرَازِ. وَالْخَاتَمُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ ; لِأَنَّ بِهِ يُخْتَمُ".
ويقول الراغب الأصفهاني (ت:502هـ) في تفسيره: " الختم، والطبع: الأثر الحاصل على نقش ... ويقال ذلك ونعني به بلوغ آخر الشيء - نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحراز الشيء منه، ومنه قيل: ختمت القرآن. ".
مما سبق يتبين أن الختم هو على معنيين: الأثر الحاصل على نقش، أو بلوغ آخر الشيء. فإذا اعتبرنا المعنى الأول الذي هو الأثر الحاصل على نقش فالختم والطبع سواء.
وإن اعتبرنا المعنى الثاني الذي هو بلوغ آخر الشيء، فالختم شيء والطبع شيء آخر. فالطبع يسبق الختم، وكل مختوم القلب مطبوعه وليس العكس.
ففي تعريف الختم يقول أبو زهرة (ت:1394هـ): "الختم مصدر ختمت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لَا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة".
أما الطبع، فجاء في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ): " الطَّبْعُ: الوسَخُ الشّديد على السَّيف. والرّجُلُ إذا لم يكن له نفاذٌ في مكارِمِ الأُمور، كما يطْبَعُ السيفُ إذا كَثُرَ عليه الصّدأ".
وجاء تعريفه في الصحاح: " والطبع: الدنس ...وطبع السيف، أي: علاه الصدأ".
وجاء في الفروق اللغوية للعسكري: "أَن الطَّبْع أثر يثبت فِي المطبوع وَيلْزمهُ فَهُوَ يُفِيد من معنى الثَّبَات واللزوم مَا لَا يفِيدهُ الْخَتْم".
وفي لسان العرب: " الطبع بالتحريك: الدَّنَسُ، وأَصله من الوَسَخ والدَّنَس يَغْشَيانِ السيف، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأَوْزار والآثامِ وغيرهما من المَقابِحِ".
ونجد في القرآن الكريم من الناس من طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون إلا قليلا ، أو لا يسمعون أو لا يفقهون أو لا يعلمون أو هم غافلون أو متكبرون. منهم الكفار والمنافقون.
وإذا علمنا أن الكفر دركات كما أن الظلمة ظلمات، يتبين لنا أن هذا الصنف من الناس الذين {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} بلغوا الكفر أقصاه، حيث لم يبق ينفع معهم الإنذار أو عدمه. ففي المدينة جماعة من اليهود، وفي مكة جماعة من مشركي العرب الذين قال الله في حقهم: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[الآيات من:7 إلى:10]. يقول الطبري في تفسيره: " يقول تعالى ذكره : وسواء يا محمد على هؤلاء الذين حقّ عليهم القول ، أيّ الأمرين كان منك إليهم الإنذار ، أو ترك الإنذار ، فإنهم لا يؤمنون ، لأن الله قد حكم عليهم بذلك".
فالختم على القلوب والأسماع والغشاوة على الأبصار هي مرحلة أخيرة؛ فهي سد وغلق وانتهاء. وأصحابها ميؤوس من إيمانهم. فهم الذين ماتوا على كفرهم. ورغم أن أصحاب هذه الحالة أناس معينون عايشوا الدعوة الإسلامية في أوائلها، إلا أنها حالة مفتوحة على كل الحالات المشابهة في كل زمان ومكان؛ مع العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23].
 
يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] إلى قوله تعالى: { أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:16].
أخبرنا الله عن فئة أخرى من الناس في المدينة، إنهم المنافقون؛ أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر. يقول البغوي (ت:516هـ) في تفسيره: " نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابن سَلُولٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَأَصْحَابِهِمْ، حَيْثُ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ لِيَسْلَمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهَا، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ". وقد نفى الله عنهم الإيمان وأكد النفي بالباء في قوله تعالى: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. ووصفهم بصفات إجمالية. منها : الكذب والخداع ومرض القلوب والفساد في الأرض والتكبر على المؤمنين والاستهزاء بهم وموالاة الكافرين.
يقول تعالى معقبا على فئتي الكافرين والمنافقين: { أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:16].
جاء في تفسير الطبري: " والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا باكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}[البقرة: 108] وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلا منه، فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق، فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون". فكان المثل المضروب بعد هذا البيان يشمل الكافرين والمنافقين في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ}. الأول خاص بالكافرين والثاني خاص بالمنافقين. وقد سبق توضيح المثل الأول الخاص بالذين كفروا حيث خُتِم بقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}[البقرة:18].
 
يقول تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:19-20].
وهذا هو المثل الثاني فهو خاص بالمنافقين؛ يقول البغوي (ت:516هـ) في تفسيره: "وقيل هذا مثل ضربه الله للإسلام، فالمطر الإسلام، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن، والرعد: ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد {يجعلون أصابعهم في آذانهم} يعني أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذراً من الهلاك، {والله محيط بالكافرين} جامعهم، يعني لا ينفعهم هربهم لأن الله تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم، {يكاد البرق} يعنى دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة، {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة. وقيل معناه كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، {وإذا أظلم عليهم} يعني: رأوا شدة وبلاء تأخروا وقاموا أي وقفوا كما قال الله تعالى {ومن الناس من يعبد الله على حرف} . قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم}. أي بأسماعهم . قوله تعالى: {وأبصارهم}. الظاهرة: كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة، وقيل لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر.".
وهذا المثل كما يتبين من خلاله يصور سلوك المنافقين تجاه الإسلام تصويرا دقيقا يتوافق مع أحوالهم النفسية ومواقفهم السيئة التي فضحها الله في ثنايا كتابه العزيز.
 
استنتاج:
من خلال ما تقدم من الآيات من بداية سورة البقرة إلى الآية 20 منها، يتبين لنا أن التركيبة الاجتماعية المدنية بعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة تنقسم إلى: مؤمني العرب، ومؤمني أهل الكتاب، والكفار، والمنافقين. وكلها تتمحور حول محور واحد هو الإسلام؛ قبولا ورفضا. وهي فئات تتعايش فيما بينها على أساس أنها تنتمي إلى الدولة الإسلامية الجديدة التي يترأسها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤطرها الوحي المنزل من السماء. إن اختلاف الفئات في الدولة الإسلامية الجديدة مبني على موقف الناس من الدعوة الإسلامية، والذي يشكل قاعدة أساسية ونموذجية لكل التكوينات البشرية القادمة في ظل كل دولة إسلامية محتملة. فإذا كانت سورة البقرة ابتدأت بهذه التركيبة البشرية، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، فإن سورة التوبة التي تعتبر من آخر ما نزل بالمدينة أكدت على استمرار هذه التركيبة في كل زمان ومكان. ويكون واهما من يظن أن الدولة الإسلامية دولة مؤمنين خالصين، ليس بينهم مكان لغيرهم من الفئات الأخرى. هذا الاعتقاد الخاطئ والذي ساد في عصرنا الحاضر، والذي كاد أن يقضي على إمكانية التعايش في ظل التعاليم الإسلامية بين مكونات المجتمع الإسلامي الواحد في كثير من الدول الإسلامية. مما حتم علينا أن نراجع عددا من التصورات الدخيلة والرائجة التي علقت بالإسلام، وتسببت في الكارثة الإنسانية التي ما زلنا نعيش أطوارها.
 
يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:30-33].
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. جاءت للمفسرين أقوال في تأويلها:
القول الأول: "أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} فعلى هذا القول: {إني جاعل في الأرض خليفة}، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها".
القول الثاني: " {إني جاعل في الأرض خليفة}"، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله".
القول الثالث: " {إني جاعل في الأرض خليفةً} منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه".
وأصح الأقوال هو ما لخصه القرطبي (ت:671 هـ) في تفسيره: " والمعني بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره".
فالقول الأول عبارة عن سياق لحدث تاريخي لا علاقة له بالتواجد الحقيقي للمهمة التي من أجلها خلق الله الإنسان وأسكنه الأرض. كما أن القول الثاني يشير إلى شيء بديهي، يتساوى فيه الإنسان بغيره من الكائنات التي يخلف بعضها بعضا على وجه الأرض، وكما أشار ابن جزي (ت:741 هـ) بقوله: "ولو أراد الثاني لقال : خلفاء".
أما القول الثالث والذي عليه الاعتماد؛ لأنه يتوافق مع روح القرآن الكريم. إن الخلافة المذكورة في القرآن الكريم هي الأمانة المنوطة بالنبي أو الرسول الذي سيكون نقطة اتصال بين التعاليم الإلهية وعالم الإنس والجن؛ لأن الدعوة الإسلامية دعوة موجهة للثقلين جميعا. فالخلافة في الأرض هي المهمة التي سيقوم بها المصطفون الأخيار، الذين اختارهم الله لمهمة الرسالة وهداية الناس إلى عبادة الواحد الأحد. ابتداء من النبي آدم عليه السلام ومرورا بداود عليه السلام وختاما بمحمد صلى الله عليه وسلم. إنها قافلة الأنبياء والرسل الذين جاءوا تترى؛ مهمتهم الرئيسية هي ربط الإنسان بربهم وخالقهم. يتلقون الرسالات ويخاطبون الناس باسم ربهم مثل قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53].
يتبع ...
 
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم الاستاذ الفاضل ارجو ان تسمح لي بمداخلة بسيطة وهي أن القول الذي رجحته رده بعض اهل العلم ان الله تعالى لا يحتاج خليفة وليس من المناسب اضافة الاستخلاف اليه سبحانه والله تعالى أعلم .
 
الفاضل البهيجي، جزاك الله خيرا وأحسن إليك.
جاء في تفسير الماوردي (ت:450 هـ): "وقال بعض السلف إنما يُستخلف من يغيب أو يموت , والله تعالى لا يغيب ولا يموت". فكيف يُفهم هذا الكلام مع ما جاء به القرآن الكريم، يقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[آل عمران:31]. ما هو دور الأنبياء والرسل؟ ألم يخاطب الله تعالى نبيه داود عليه السلام بقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26]. ألم يرسل سليمان عليه السلام رسالة إلى ملكة سبأ باسم الله؛ فهو خليفة منه. يقول تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:30]. ألم يطلب بنو إسرائيل من موسى رؤية الله جهرة؟ ومن هو موسى الذي طلبوا منه ذلك ألم يكن خليفة الله في كل ما أوحاه الله إليه؟. يقول الزمخشري (ت:538 هـ) في تفسيره: ""خليفة مني، لأنّ آدم كان خليفة اللَّه في أرضه وكذلك كل نبيّ {إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}". ويقول العز بن عبد السلام (ت:660 هـ) في تفسيره: "{خَلِيفَةً} الخليفة من قام مقام غيره، خليفة: يخلفني في الحكم بين الخلق، هو آدم صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ذريته". ويقول كذلك: "قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله , فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك". فالأنبياء والرسل كل منهم خليفة الله في الأرض، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[النحل:36]. فلا غنى عن الرسول لأنه خليفة الله في الأرض أرسله الله ليطبق دينه كما أراده الله لعباده.
 
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
يقول ابن جزي (ت:741 هـ) في تفسيره: "{ أتجعل فيها } الآية: سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس فيه اعتراض؛ لأن الملائكة منزهون عنه وإنما علموا أن بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك".
فالملائكة قارنوا بين الخليفة الذي يستخلفه الله في الأرض وما أخبرهم الله تعالى من صفات ذرية آدم من إفساد وسفك الدماء وبين الخصائص التي يتميزون بها من تسبيح وتقديس لله تعالى. فتساءلوا كيف تكون الخلافة في الأرض بجانب الإفساد وسفك الدماء. إن الخلافة اختيار واصطفاء وتطهير وتشريف وتكريم، والإفساد وسفك الدماء لا يتوافق مع هذه المعاني السامية. والملائكة هم الذين قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. وهم الذين أخبرنا الله تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206]. وهم الذين: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]. وهم الذين يدبرون الأمر المباشر بأمر من الله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[النازعات:5]. ومن هنا يتبين لنا أن تساؤل الملائكة تساؤل مشروع يحتاج إلى توضيح وبيان ليتعرفوا على الحكمة من هذا الجعل. وجواب الله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يحمل معنى من معاني أسماء الله الحسنى لاسم العليم. لقد تفرد الله سبحانه بالعلم، والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28].
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين .
وجزاكم الله تعالى خيرا الاستاذ الكريم ارجو النظر بما يلي:
1- ان كون نبي الله تعالى داود عليه الصلاة والسلام خليفة فهو يخلف من قبله وليس بالضرورة أن يخلف الله تعالى .
2- ارجو ان تذكر دليلاً صريحاً من القرآن او السنة الصحيحة .
وفقنا الله تعالى واياكم .
 
الفاضل البهيجي شكر الله سعيك ووفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه.
يقول أبو حيان (ت:745 هـ) في تفسيره: الخليفة: "عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ". ويقول: "واحتمل لفظ خليفة [في حق داود عليه السلام] أن يكون معناه : تخلف من تقدمك من الأنبياء". فبهذا يكون مصطلح (خليفة الله) خاص بالأنبياء والرسل؛ لأن الله استخلفهم في الأرض بعد اختيار واصطفاء لهذه المهمة. فهم يتكلفون بأمر السماء الخاص بالدعوة الإسلامية من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وسلامه؛ يتلقون الوحي عن الله ليبلغوه إلى الناس ويكونون قدوة لهم. يقول ابن عطية (ت:542 هـ) في تفسيره: "ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء: فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو... ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء". وهذا ما اطمأن له القلب بعد طول نظر. والحمد لله رب العالمين.
 
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
يقول الشعراوي (ت:1419 هـ) في تفسيره: "وليس هذا طعنا في الملائكة. ولكنه تصحيح لهم. وتعريف لنا بأن الملائكة لا يعلمون الغيب... والذي دفع الملائكة إلى أن يقولوا أو يبطنوا هذا الكلام هو حبهم الشديد لله تعالى. وكراهيتهم للإفساد في كونه". فآدم عليه السلام علمه الله الأسماء. وهذا العلم هو من مستلزمات الخلافة، وهذا العلم لا تعلمه الملائكة، لأن الله تعالى علمه لآدم عليه السلام. وبالتالي فالملائكة حين تساءلوا حول جعل آدم خليفة في الأرض، كان ينقصهم ما غاب عنهم من الغيب. لكن بعد ما تأكدوا من ذلك بواسطة الشهادة الواقعية، وعلموا الحكمة من جعل الخليفة في الأرض: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
من خلال هذه المعطيات يتبين أن هناك علاقة وثيقة بين تعليم الأسماء ومهمة الخلافة في الأرض. فما هي هذه العلاقة؟ يقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]. فإذا تتبعنا ما قصه الله علينا في القرآن الكريم من سير الأنبياء والرسل يتبين أن الله تعالى، يختار ويصطفي ثم يعلم. فما من نبي أو رسول إلا وعلمه الله ما لم يعلم. يقول الله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113]. فالحكمة من تعليم الرسول الذي هو خليفة الله في الأرض ظاهرة للعيان، لأن بهذا العلم سيواجه أصنافا من النماذج البشرية الذين منهم من {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:205].
فآدم عليه السلام علمه الله الأسماء، هذا العلم الرباني الذي يحتاجه في الأرض لمواجهة الإفساد وسفك الدماء، وبث التوازن في ظل شريعة الله التي ارتضاها لعباده.
 
مقارنة واستنتاج:
خلق الله كل شيء في الكون وسماه باسمه الحقيقي وعلم آدم أسماء المخلوقات، وأخبر رسله عن طريق الكتب السماوية كما أخبر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بهذه المسميات. وقد يسمي الإنسان بعض الأسماء عن طريق الظن مثل ما سمى المشركون أصنامهم اللات والعزى ومناة آلهة، ولا حجة لهم من الله في ذلك. يقول تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}[النجم:23]. فهذه الأسماء التي اخترعها المشركون عن طريق الظن والهوى والكذب هي أسماء باطلة ولا حقيقة لها، بل هي كلام في الظاهر ولا حقيقة له في الباطن. يقول تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الرعد:33]. فمن خلال هذه الآية ومقارنتها مع قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، يتبين لنا أن الله تعالى علم آدم أسماء الموجودات كلها، تلك التي تتواجد في الأرض؛ لأن خلافته في الأرض تقتضي أن يكون عالما بكل الأشياء المتواجدة فيها وبأسمائها الحقيقية؛ لأن الله تعالى هو الذي سماها. وعندما عُرض أصحاب تلك الأسماء على الملائكة لم يعرفوها لأنهم لا يعلمون بوجودها في الأرض. وآدم عليه السلام عندما أذن الله له أن ينبئ الملائكة بأسماء أولئك، نبأهم بأسمائهم. فتبينت الملائكة أن آدم يستحق الخلافة في الأرض، رغم أن من خصائص ذريته الإفساد وسفك الدماء، وأنها كانت غير صادقة فيما ادعته سابقا.
فآدم عليه السلام نبأ الملائكة بما لا يعلمون في الأرض. قياسا على قوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ}. فالملائكة لا يعلمون أصحاب هذه الأسماء، لذلك عجزوا عن تسميتهم باسمائهم. وأقروا أن الأمر كله للعليم الحكيم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
 
استنتاج:
يقول تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31].
اختلف علماء اللغة حول موضوع نشأتها، ومنهم من استعمل هذه الآية كدليل على أن أسماء الأشياء توقيفية. وما أريد أن أوضحه في هذا الموضوع باستخدام الآية 33 من سورة الرعد، يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الرعد:33]. فمن خلال هذه الآية يتبين أن الاسم له ظاهر وله باطن. يقول الفراء (ت:207 هـ) : " وقوله: {فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} باطل المعنى، أي أنه ظاهر في القول باطل المعنى". ويقول الواحدي (ت:468 هـ) : " {أم بظاهر من القول} يعني أم تقولون مجازا من القول وباطلا لا حقيقة له وهو كلام في الظاهر ولا حقيقة له في الباطن". ويقول الزمخشري (ت:538 هـ): " {أَم بظاهر مّنَ القول} بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم}[التوبة:30]". ويقول الطبرسي (ت:548 هـ): "( أم بظاهر من القول ) أي: أم تقولون مجازا من القول، وباطلا لا حقيقة له، عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، وعلى هذا فالمعنى أنه كلام ظاهر ليس له في الحقيقة باطن ومعنى، فهو كلام فقط". فالأسماء التي علمها الله آدم عليه السلام هي الأسماء الحقيقية، باطن الأسماء، أي معاني الأسماء. أما ظاهر الأسماء فهي تتغير بتغير جغرافيا الإنسان كما هو الحال في ألوان الناس على اختلاف جهات الأرض. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}[الروم:22]. وأضرب مثلا لذلك: (القمر) إذا اعتبرنا أن له اسما ظاهرا واسما باطنا؛ فالباطن هو معنى القمر وحقيقته، أما ظاهر الاسم فيتغير بتغير الألسنة، كلٌّ يسميه بتسمية خاصة باختلاف المناطق والأماكن عبر العالم. وبالتالي فإن الأسماء الحقيقية للأشياء، أي معاني الأشياء هي التي علم الله تعالى آدم عليه السلام. وتبقى ألسنة الناس وألوانهم خاضعة للمناطق التي يتواجدون فيها بواسطة الاختلاط والتمازج والتلاقح؛ فهي قابلة للتغيير. فباطن الأسماء أي حقيقة الأسماء ومعانيها هي التي تكون توقيفية، هي التي لا تتبدل ولا تتغير. وهي التي جاءت من أجلها الكتب السماوية، وعلمها الله رسله صلوات الله عليهم وسلامه. الكتب السماوية فيها حقيقة الأسماء. فالقرآن الكريم هو الأسماء التي علمها الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن الكريم جاء بلسان عربي مبين، يتكون من الجمل التي تتكون من أسماء الحروف والأفعال والأسماء، وهو عبارة عن معاني حقيقية للأشياء التي خلقها الله في الكون. هي بالعربية وقد تُترجم إلى اللغات العالمية على اختلاف أنواعها، لكن معناها يبقى واحدا لا يتبدل ولا يتغير، لأنه الحق المنزل من الله.
 
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6-7].
لماذا تساوى الإنذار وعدمه في حق هؤلاء؟ جاء في تفسير السمرقندي (ت:373هـ): " أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت".
ففي بداية هذه السورة المدنية ما زالت تبين لنا الشريحة البشرية التي يتكون منها المجتمع المدني، وموقف كل منها من الدعوة الإسلامية. وها هي تصور لنا هذا الصنف من الناس الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أنه نبي مرسل من الله تعالى، عن طريق ما كان عندهم من العلم. فهم الذين خاطبهم الله تعالى بقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41]. فكانوا أول من كفر في المدينة من أهل الكتاب وأصروا على الكفر والاستمرار فيه، فاستحقوا جزاء كفرهم أن { خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
يتبع ...



السلام عليكم،
شكرا على مجهودكم الكبير المقدر،
وإن كنت لا أتفق مع هذا التفسير أعلاه ، خاطب القرآن الكريم مجتمع قريش أو مجتمع الرسول (ص) كأى نبى يبدأ بقومه ثم بعدها وجه الدعوة الى أهل الكتاب وبدأها ب "يا بنى إسرائيل" :

مجتمع الدعوة الأول المشركون وأهل الكتاب:

https://vb.tafsir.net/search.php?searchid=1712822
 
الفاضلة الزيتونة، جزاك الله خيرا وأحسن إليك.
في العرض المقدم تناولت فيه ما جاء في بداية سورة البقرة. وكما تعلمين أن بداية سورة البقرة تعتبر من أوائل ما نزل من القرآن الكريم بالمدينة، حيث كانت سورة البقرة مفتوحة، ونزلت سور كثيرة قبل أن تُختم سورة البقرة، وقد كانت آية الدَّيْن من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. لذلك فبداية سورة البقرة بالخصوص بين الله فيها أصناف الناس الذين يتواجدون بالمدينة والذين لهم موقف من الدعوة الإسلامية سلبا أو إيجابا. وهم: مؤمنو العرب، ومؤمنو أهل الكتاب والكفار من أهل الكتاب والمنافقين. وكل هؤلاء كانوا يتواجدون بالمدينة بعد أن هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أدرجت ما قاله الطبري تأكيدا بقوله: " فصيَّر الكفار جنسين كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين. ثم عرّف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذمّ أهل الذمّ منهم ، وشكر سعي أهل الطاعة منهم". وهذا المنهج يأخذ بالاعتبار ترتيب نزول السور حسب كونها مكية أو مدنية. فالمكية تتناول المجتمع المكي والمدنية تتناول المجتمع المدني. أما ما جاء في مداخلتك فهو موضوع الدعوة الإسلامية بصفة عامة. والله الموفق للصواب.
 
استنتاج (تابع):
يقول تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}. أي علم آدم عليه السلام باطن الأسماء، أي حقيقة الأسماء. كما علم الرسل صلوات الله عليهم وسلامه الكتب السماوية، وعلم خاتم رسله محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم. أما ظاهر الأسماء فهي البيان الذين خلقه الله مع الإنسان. يقول تعالى: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:1-4]. يقول البغوي (ت:516 هـ) مفسرا: "{علمه البيان} النطق والكتابة والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول وما يقال له . هذا قول أبي العالية وابن زيد والحسن . وقال السدي : علَّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به". فتعليم البيان له ارتباط بخلق الإنسان. فالله خلق الإنسان وخلق فيه القدرة على البيان، علمه النطق، علمه الإفصاح عما يجول في خاطره. فتعددت الألسن بتعدد الأقوام، كما اختلفت ألوان الناس باختلاف المناطق. أما تعليم القرآن فله ارتباط بالرسالة. الرسالة تحتاج إلى حقيقة الأشياء التي خلقها الله في الكون، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ}. كما احتاج آدم عليه السلام إلى حقيقة الأسماء ليكون خليفة في الأرض. وبهذا يكون البيان الذي ارتبط بخلق الإنسان أسبق من تعليم حقيقة الأشياء الموجودة في العالم. يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4]. اللسان أوَّلاً ثم يأتي الكتاب موافقا للسان الرسول. وهذا مع جميع الأنبياء والرسل الذين أوحى الله إليهم. فالألسنة متعددة وحقيقة الأسماء واحدة. الأسماء الظاهرة للمسميات تعددت بتعدد الألسنة، والأسماء الباطنة أي حقيقة الأشياء واحدة كما بينها الله تعالى في كتبه، وجعلها في القرآن الكريم لتكون خالدة وباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالقرآن الكريم هو العلْم الحق، إنه يفسر الحقيقة الكونية كما خلقها الله تعالى. ويبقى ما يخالف القرآن الكريم هو الظن والكذب والخرص والهوى، مصداقا لقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحج:62].
 
الفاضل البهيجي شكر الله سعيك ووفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه.
يقول أبو حيان (ت:745 هـ) في تفسيره: الخليفة: "عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ". ويقول: "واحتمل لفظ خليفة [في حق داود عليه السلام] أن يكون معناه : تخلف من تقدمك من الأنبياء". فبهذا يكون مصطلح (خليفة الله) خاص بالأنبياء والرسل؛ لأن الله استخلفهم في الأرض بعد اختيار واصطفاء لهذه المهمة. فهم يتكلفون بأمر السماء الخاص بالدعوة الإسلامية من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وسلامه؛ يتلقون الوحي عن الله ليبلغوه إلى الناس ويكونون قدوة لهم. يقول ابن عطية (ت:542 هـ) في تفسيره: "ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء: فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو... ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء". وهذا ما اطمأن له القلب بعد طول نظر. والحمد لله رب العالمين.
بوركتم وجزاكم الله خيراً.
قصر الخليفة على الرسل الكرام هل يتعارض مع قوله تعالى في سورة النور { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ...... الآية}
وفي الحديث في ذم الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها ..... الحديث )
فهل تجدون تعارضاً؟ وكيف توفقون بين هذه النصوص وما خرجتم به ترجيحاً لمعنى قصر مسمى الخليفة على الرسل.
 
الفاضل عاطف رفاعي، جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
ذُكِرتْ مفردة (خليفة) في القرآن الكريم مرتين في حق نبيين من أنبياء الله تعالى هما: آدم عليه السلام وداود عليه السلام.{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30]، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}[ص:26]. فآدم علمه الله الأسماء كلها؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي ذلك، وداود أمره الله أن يحكم بالحق، {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[ص:26]. كما أمر نبيه محمدا بذلك: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة:48].من هنا يتبين لنا أن الخلافة تقتضي الجعل من الله {جعلناك}. وهذا الجعل يقتضي الاصطفاء، مصداقا لقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:75]. يقول الله في حق إبراهيم عليه السلام: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]. فالخلافة كما الإمامة هي خاصة بالأنبياء والرسل، جعلها الله في أنبيائه ورسله الذين اصطفاهم لهذه المهمة. أما (الخلائف) و(الاستخلاف) فهما للكل الناس، يقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[يونس:14]. يقول الطبري: "والله الذي جعلكم، أيها الناس، (خلائفَ الأرض)، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض". وهكذا يستمر الاستخلاف في الأرض إلى قيام الساعة. واستخلاف الناس في الأرض هو مجال وفرصة للاختبار والابتلاء، مصداقا لقوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129]. وكما يُلاحظ فمعنى الاختبار والابتلاء حاضر في كل استخلاف. يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:55]. يقول ابن حاتم (ت:327 هـ) في تفسيره: "فَأَظْهَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمنين فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا وَكَفَرُوا بِالنِّعْمَةِ فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ رُفِعَ عَنْهُمْ، وَاتَّخَذُوا الْحَجَزَةَ، وَالشُّرَطَ وَغَيَّرُوا فَغَيَّرَ مَا بِهِمْ".

{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8].
 
يقول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34].
يقول الطبري (ت:310 هـ) في تفسيره: "{وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ } كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم، فخلقت لكم ما في الأرض جميعا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أُمِرَ بالسجود معهم".
فما هي حقيقة إبليس؟
أصله: يقول تعالى عن أصل إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]. يقول الخازن (ت:741 هـ) في تفسيره: "وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس. وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله سبحانه وتعالى {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} ، وذلك أن قريشاً قالت: الملائكة بنات الله ، فهذا يدل على أن الملك يسمى جناً ويعضده اللغة لأن الجن مأخوذ من الاجتنان ، وهو الستر فعلى هذا تدخل الملائكة فيه فكل الملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة ، ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه وتعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل ويصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة ووجه من قال إنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة قوله كان من الجن والجن جنس مخالف للملائكة قوله: {أفتتخذونه وذريته} فأثبت له ذرية والملائكة لا ذرية لهم".
من خلال ما جاء في القرآن الكريم يتبين أن مفردة (الجِنَّة) لها مدلولان في القرآن الكريم، نتعرف عليهما حسب السياق. فعندما تأتي مفردة (الجنة) دون أن تقابلها مفردة (الناس) تدل على الملائكة، وأصل الجنة الاجتنان. وقد جاءت مرة واحدة في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158].وعندما تأتي مفردة (الجنة) وتقابلها مفردة (الناس) فتدل على الجن، كما في قوله تعالى:{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[هود:119]. وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[السجدة:13]. والدليل على أن الجن هم خلق واحد، وليس كما ادعى بعض المفسرين بأنهم صنفان، الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ ممَّا وُصِفَ لَكُمْ". أما مادة خلق الجن التي ذكرت على نوعين في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ}[الحجر:27]. وقوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}[الرحمن:15]. فهي مراحل الخلق: نار السموم ومارج من نار. كما جاء في مراحل خلق آدم عليه السلام من: التراب والماء والطين اللازب (اللزج) والحمأ المسنون (الحمأ هو الطين الأسود المنتن، والمسنون هو المتغير) والصلصال.
اسمه: الاسم الأصلي هو (إبليس)، واسم (الشيطان) يطلق على إبليس، كما في قوله تعالى: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]. ويطلق على ذريته وجنوده من الإنس والجن. يقول تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:112]. كما يسمى بالغَرور كما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5].
 
يقول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34].
لماذا امتنع إبليس عن السجود؟
إبليس {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ولم يكن من الملائكة؛ لأن الملائكة {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. أما إبليس فكانت له حرية الاختيار في الطاعة أو المعصية، فاختار أن لا يسجد لآدم. وقد أجاب عن اختياره في رده عن سبب الامتناع عن السجود. وقد كان السؤال الموجه إليه في صيغتين:
الصيغة الأولى في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }[الأعراف:12].
والصيغة الثانية في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص:75].
فالصيغة الأولى: تبين أن هناك أمرا بالسجود يقابله عصيان، بينما الصيغة الثانية تبين أن الامتناع عن السجود لا يكون في هذه الحالة إلا إن كان الدافع هو أحد الأمرين: الاستكبار أو التعالي على الله؛ لأن عدم السجود لآدم الذي صنعه الله بيديه هو تعال على صنعة الله، والتعالي على صنعة الله هو تعال على الله. فكان الجواب من إبليس على السؤالين واحداً هو: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[ص:76]. فاستكبار إبليس عن السجود لاَدم بدعواه أنه خير منه، هو ما جعله يظهر على حقيقته الموافقة لعلم الله {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34]. وهو ما سيجعله موافقا لمهمته التي خلق من أجلها والتي هي خدمة آدم من الناحية السلبية، وبهذا يبين الله تعالى لنا كيف يتشكل الكون الروحي والمادي وفق ما أراده الله تعالى طوعا أو كرها، مصداقا لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[الرعد:15].
 
يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34].
مما جاء في تفسير الطبري من قول ابن عباس رضي الله عنه: " وكان [إبليس] مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم، فاستكبر وكان من الكافرين، فذلك قوله للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر". فالله العليم الحكيم يعلم كل شيء في الكون. وصيرورة الكون تخضع وفق علم الله تعالى. فها هو إبليس يتم استخراج ما في قلبه من الكبر بواسطة الأمر الإلهي الذي خالفه بإرادته، وبقضاء الله تعالى استحق أن يتقلد مهمة إغواء ذرية آدم عليه السلام بطلب منه. يقول تعالى عن إبليس: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62].
 
تابع ...
الله تعالى أذن لإبليس أن يؤدي مهمته التي يعلم الله أنه خلقه لأجلها كما يعلم أنه من الكافرين: {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا}[الإسراء:63]. فبعد أن جعله الله من الممهلين الذين لا يموتون حتى النفخة الأولى، مصداقا لقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر:36-38]. سخر الله له أدوات الغواية التي بها يستطيع غواية ذرية آدم عليه السلام في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[الإسراء:64]. يقول ابن جزي (741هـ) في تفسيره: "{واستفزز} أي: اخدع واستخف {بصوتك} قيل: يعني الغناء والمزامير، وقيل: الدعاء إلى المعاصي. {وأجلب عليهم} أي: هول وهو من الجلبة وهي الصياح {بخيلك ورجلك} الخيل هنا يراد بها الفرسان الراكبون على الخيل، والرجل جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه، فقيل : هو مجاز واستعارة بمعنى: افعل جهدك، وقيل: إن له من الشيطان خيلا ورجلا، وقيل: المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر. {وشاركهم في الأموال والأولاد} مشاركته في الأموال بكسبها من الربا وإنفاقها في المعاصي وغير ذلك، ومشاركته في الأولاد هي بالاستيلاد بالزنا وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك {وعدهم} يعني : المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وشبه ذلك". وما كان من إبليس إلا الاستسلام لمهمة الإغواء اعتمادا على ما صار إليه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16]. يقول السمرقندي (ت:373 هـ) في تفسيره: "فبما أغويتني يعني: فبما دعوتني إلى شيء غويت به". وبهذا يتاح لإبليس المجال لغواية بني آدم إلا من رحم الله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:39-40].
 
سورة البقرة، الآيات من 35 إلى 39، الصفحة: 6-7 من المختصر.
يقول تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:35-39].
قصة آدم تكررت في القرآن الكريم، وكانت كل مرة تركز على محور معين. وهنا نجد أن القصة تتناول دخول آدم عليه السلام وزوجه الجنة ليسكنها ويتمتع بخيراتها، إلا شجرة واحدة نهاه الله عن الأكل منها. فأبعدهما الشيطان عن الجنة، وأخرجهما مما كانا فيه من أنواع النعم والملذات بسب إغوائه لهما حتى وقعا في الزلل عندما أكلا من الشجرة الممنوعة. هذا الحادث تسبب في هبوط الكل إلى الأرض لتكون مستقرا ومتاعا لهم إلى حين، ولتُمارَس العداوة التلقائية بين الشيطان وذرية آدم. وفي أثناء هذه المتغيرات تتجلى عناية الله تعالى بآدم عليه السلام حين علمه كلمات التوبة والاستغفار وتاب عليه، وأخبرهم بالهدى الرباني الذي ينتظرهم وبشر من يتبع الهدى وأنذر من يكفر بالآيات.
 
سورة البقرة، الآيات من 35 إلى 39، الصفحة: 6-7 من المختصر.
استنتاج:
الله تعالى خلق آدم عليه السلام ليعيش في الأرض، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...}[البقرة:30]. ووفر له السكن في الجنة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ...}[البقرة:35]. هذا السكن الذي يُعتبر مرحلة انتقالية قبل أن يهبط إلى الأرض التي هي مستقره ومتاعه إلى حين. إنها مرحلة تجريبية ليتعرف آدم عليه السلام وزوجه على حقيقة القدرات التي يتوفران عليها وكيفية التعامل مع الهدى الإلهي سلبا وإيجابا والعواقب المنتظرة من هذا التعامل. يقول سيد قطب (ت:1387هـ): "لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا. كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه. كانت تدريبا له على تلقي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين".
بعد هذه التجربة سينتقلون جميعا إلى الأرض التي هي مكان الاستقرار والمتاع إلى حين، تنتظرهم نفس الحيثيات: الهدى الرباني بأوامره ونواهيه، وعداوة الشيطان، ومواقف الناس تجاه الهدى بين مؤمنين وكافرين، وعواقب ذلك على كل اتجاه. يقول سيد قطب: "إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة .. إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة! لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا، استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا".
 
التجربة الآدمية في الجنة:
خلق الله تعالى آدم عليه السلام في أحسن خلقة، وعلمه الأسماء كلها، وأسكنه الجنة مع زوجه. وكان ذلك كله من العناية الربانية بهذا المخلوق الذي هيأه الله ليكون جديرا بالخلافة في الأرض التي جعلها الله له ولذريته مستقرا ومتاعا إلى حين.
فبعد أن علمه الله الأسماء كلها، زوده بالخبرة التي ستجعله مهيأً لمستوى التلقي الأمثل للهدى الرباني الذي ينتظره طول حياته على الأرض. والتزود بالخبرة يعتبر وسيلة تربوية تعليمية تستهدف آدم وزوجه بطريقة مباشرة ، وهي عملية تأثير بين ما يقوم به آدم وزوجه من تطبيق الأمر الإلهي أو عدمه وما يحصل عليه من نتائج فيستفيد منها في حياته القادمة على الأرض. كما تستهدف كل ذرية آدم بطريقة غير مباشرة حيث يتبين أن إبليس عدو ملازم للإنسان مدة حياته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقا لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[يس:60]. وبهذا يتبين أن الخلافة في الأرض لا تكتمل إلا بالعلم والخبرة.
 
يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40].
سورة البقرة مدنية، تناولت من بين مواضيعها: خبر بني إسرائيل؛ لأن اليهود كانوا من بين ساكنة المدينة عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. يقول الطبري (ت:310هـ) في ذلك: " وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: يا بَنِي إسْرَائِيلَ أحبار اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جلّ ذكره إلى يعقوب". كما أننا نجد هذا الخطاب يستغرق مساحة واسعة في السورة، من الآية: 40 إلى غاية الآية: 147. يقول ابن جزي (ت:741هـ): " دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء، فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها ... وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم".
 
سورة البقرة: الآيتان: 101-102، الصفحة: 15-16 من المختصر.
يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:101-102].
يقول الطبري (ت:310 هـ) في تفسيره: " فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان". أي أنهم اشتغلوا بكتب السحر على عهد سليمان عليه السلام عوض التوراة ليخاصموا بها. ونفى الله أن يكون سليمان عليه السلام قد تأثر بالسحر أو اشتغل به. لأن أصل السحر من الشياطين، وهم الذين علموا الناس السحر؛ فكفروا وكفر من تعلم السحر من الناس. وكما نفى الله أن يكون سليمان عليه السلام ساحرا أو مشتغلا بالسحر، نفى كذلك أن يكون الملكان جبريل وميكائيل قد نزلا بالسحر أو نزل السحر على الملِكين داود وسليمان. وأكد أن السحر من إنتاج الشياطين الذين يعلمونه للناس عن طريق رجلين ببابل وهما: هاروت وماروت. هذان الرجلان اللذان تعلما السحر، وهما يعرفان أن تعلمه كفر. فكانا يصرحان بذلك عندما يعلمان الناس السحر بقولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. ورغم أن السحر له مفعول كالتفريق بين الزوجين إلا أن هذا المفعول لا يكون إلا بإذن الله. وأخبر سبحانه وتعالى أن تعلم السحر ضرر لا نفع فيه، مما يجعل متعلمه لا خلاق له في الآخرة. فكان جديرا بالناس أن يعلموا ذلك ويبتعدوا عن السحر لأنه مسبب للكفر والخسران.
 
قصة هبوط ملكين: هاروت وماروت من السماء إلى الأرض للاختبار، يقول عنها ابن عاشور (ت:1393 هـ) في تفسيره: "ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها؛ منهم ابن عطية والبيضاوي. وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها، وأنها من مرويات كعب الأحبار. وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيء صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية. والعجب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبيء صلى الله عليه وسلم، ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غرَّه فيها ظاهر حال رواتها، مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه. واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه، ورواته صادقون فيما رووا. وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبيء صلى الله عليه وسلم. قال ابن عرفة في «تفسيره» وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة. ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكاً رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت".
 
يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة:101].
نلجأ إلى السياق القرآني للآيات، فنربط الآية 101 من سورة البقرة بالآية 89 قبلها، ليتضح المعنى:
فمن خلال سياق الآيات يتبين أن الآية 101 لها علاقة بالآية 89 من سورة البقرة. يقول تعالى في الآية 89 من سورة البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. أي: ولما جاء أهلَ الكتاب من اليهودِ القرآنُ الكريمُ الذي هو كتابُ الله مصدق لما معهم من التوراة كفروا بالقرآن الكريم.
وفي الآية 101 من سورة البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. أي: ولما جاء أهلَ الكتاب من اليهودِ رسولٌ من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معهم من التوراة، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود كتابَ الله الذي هو التوراة؛ لأنها تدل على أن محمدا رسول الله، كأنهم لا يعلمون في كتابهم أن محمدا رسول الله.
 
يقول تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:102].
استبدل أهلُ الكتاب من اليهود كُتُبَ السحرِ الشيطانية التي ورثوها عن عهد سليمان بالتوراة كتابِ الله المنزلِ على موسى عليه السلام. وقد برَّأَ الله تعالى نبيه سليمان عليه السلام من السحر تعليما وتعلما. كما نفى أن يكون السحر نزل على الملَكين جبريل وميكائيل أو على الملِكين داود وسليمان. وأخبرنا الله تعالى أن السحر أصْلُهُ من الشياطين، وقد علَّموه الناس بمدينة بابل في عهد هاروت وماروت. وهاروت وماروت رجلان تعلَّمَا السحر من الشياطين وعلَّمَاهُ الناسَ. وكانا يَعْرِفان أنهما أصبحا مَثَاراً للفتنة مع كُفْرهما بتعلم السحر وتعليمه. وكانا يصرحان بذلك بقولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. والتفريق بين المرء وزوجه نوع من السحر الذي يتعاطاه اليهود. ضَرَرُهُ لا يلحق بأحد إلا بمشيئة الله. وقد أعلمنا الله تعالى أن من استبدلَ السحرَ بكتابِ الله ما له في الآخرة من حظٍّ ولا نَصيب. فهَلَّا علم هؤلاء اليهودُ مدى خسارتهم بهذا الصنيع.
 
استنتاج وتوضيح:
جملة (وما أنزل على الملكين) إما أن تكون جملة اعتراضية أو تكون جملة معطوفة.
الوجه الأول: أن تكون جملة اعتراضية: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ): الواو للاستئناف وما نافية. وهي جملة اعتراضية تؤكد نفي نزول السحر على الملكين. وهذه الجملة الاعتراضية جاءت بين شيئين متلازمين؛ جاءت بين الفعل وما يتعلق به من الجار والمجرور: {وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (...) بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}.
الوجه الثاني: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أن تكون الواو حرف عطف وما نافية والجملة معطوفة على جملة: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ). ويكون قوله: (ببابل) متعلق بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.
وهذا المعنى ذكره الطبري بقوله: " اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: {وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} فقال بعضهم: معناه الجحد وهي بمعنى «لم»". وقال: " فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله: {وما أنزل على الملكين} إلى: ولم ينزل على الملكين، واتبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: {ببابل هاروت وماروت} من المؤخر الذي معناه التقديم". لكن الطبري لم يأخذ بهذا التوجيه رغم أنه ذكره عن ابن عباس والربيع، وقدم عليه الرواية الإسرائيلية. وهو في ذلك منسجم مع منهجه الذي سار عليه، والذي يعتمد فيه على الأخبار الواردة عن بني إسرائيل؛ لأنه تلقاها بالآثار التي يروي بها عن السلف. كما أنه لا يفرق بين طبقات السلف في الترجيح.
خلاصة القول: إنه يتأكد من خلال الآيتين أن السحر لم ينزل على الملَكين: جبريل وميكائيل كما ادعت اليهود، ولم ينزل على الملِكين داوود وسليمان كما كان في اعتقادهم. فالشياطين هم الذين كفروا؛ لأن السحر من صنيعهم ويعلمونه الناس بمدينة بابل عن طريق هاروت وماروت. وهاروت وماروت رجلان من الناس، كفرا لأنهما تعلما السحر من الشياطين ويعلمانه غيرهم من الناس.
وبهذا يتضح أن الوحي تنزيل من الله، والسحر عمل شيطاني. واليهود اشتغلوا بالسحر ونبذوا كتابهم وكفروا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فحذرهم القرآن الكريم أن من اشترى السحر بالوحي فهو كافر ومآله الخسران في الآخرة.
 
يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:103].
أهل الكتاب من اليهود كفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، ونبذوا التوراة وراء ظهورهم واتبعوا السحر. ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم، واتقوا الكفر والسحر لأُثيبوا، وثواب الله خير لو كانوا يعلمون.
 
يقول تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106].
يقول ابن عثيمن (ت:1421 هـ): " قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} فيها ثلاث قراءات؛ الأولى: بفتح النون الأولى في {نَنسخ}؛ وضمها في { نُنسها } بدون همز؛ والثانية: بفتح النون الأولى في {نَنسخ} ؛ وفتحها في {نَنسأْها} مع الهمز؛ والثالثة بضم النون الأولى في {نُنسخ}؛ وضمها في {نُنسها} بدون همز".
فيكون الفعلان بين: نَنْسَخ أو نُنْسِخ ونُنْسِ أو نَنْسَأْ.
فكيف فهم السلف كلمة (ما ننسخ من آية أو ننسها)؟ جاء في تفسير الطبري من المعاني ما يلي:
نَنْسَخْ: نقبض، نبدل، نثبت خطها ونبدل حكمها، نثبت خطها.
نُنْسِها (من النسيان): تُنسى وتُرفع، كان الله تعالى ذكره يُنْسِي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء، نرفعها من عندكم، إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه، أو تنسها أنت يا محمد، نرفعها وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها.
نُنْسِها (من الترك): نتركها لا نبدلها، نتركها لا ننسخها، نمحها.
ننسأْها (من التأخير): نؤخرها، نرجئْها، نرجئها ونؤخرها، نؤخرها فلا ننسخها.
يقول مقاتل (ت:150 هـ) في تفسيره: "{ما ننسخ من آية أو ننسها}، يعني: نبدل من آية فنحولها- فيها تقديم- يقول: {نأت بخير منها}، يقول: نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم، ثم قال: {أو مثلها} يقول: أو نأت بمثل ما نسخنا. أو ننسها، يقول: أو نتركها كما هي، فلا ننسخها".
والمراد بالآية هنا هو حكمها؛ لأن النسخ يكون في الأحكام ولا يكون في الأخبار. يقول الطبري: "{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها}: ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. قيل: الذي دلّ على أن ذلك كذلك قوله: {نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض". ويقول في تفسير {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}: "ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب".
ويقول في تأويل قوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني جل ثناؤه بقوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم، إما عاجلاً في الدنيا وإما آجلاً في الاَخرة. أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاَخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم. فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير".
وجاء معنى الآية في المختصر: "يبين الله تعالى أنه حين يرفع حكم آية من القرآن أو يرفع لفظها فينساها الناس، فإنه سبحانه يأتي بما هو أنفع منها في العاجل والآجل، أو بما هو مماثل لها. وذلك بعلم الله وحكمته، وأنت تعلم – أيها النبي- أن الله على كل شيء قدير، فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد".
 
عودة
أعلى