تفسير قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

إنضم
10/05/2012
المشاركات
1,360
مستوى التفاعل
37
النقاط
48
الإقامة
جدة
الموقع الالكتروني
tafaser.com
بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول الحق تبارك وتعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور:35]​



اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: يراد بالنور هنا الهداية والدلالة للحق واتباع الشريعة المنجية من الهلاك في الدنيا والآخرة.

ودلالة النور في كتاب الله دائما ما تشير لنور هدايته جل وعلا فيقول تعالت ذاته : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:257].

ويقول واصفاً كتابه وشرعه المطهر : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) [النساء:174] ، وقد شبه حرب أهل الكفر لدين الله بالسعي في إطفاء نور الله بأفواههم أي بكلامهم وافترائهم فيقول (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [التوبة:32] .

فالكتاب والإيمان هما نور الله في السموات والأرض : (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52].

فكان مَثَلُ الله لنورهِ تمثيلاً لتنزيلهِ وكلماته وهديهِ ِجلّ وعلا : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [التغابن:8].

مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ: المشكاة كُوَّةً في جدار يوضع فيها مشعل الضياء (المصباح) الذي يُهتدى به في الظُّلمة ، والمِصباح هو (مثلٌ) لمصدر الوحي الذي يُنتجُ ضوءَ العلم اللدني بحقيقة الخلق وطريق السداد وهداية الناس للحق.

ولمّا أراد الله ضرب مثل لمن يَتِّخذُ نوراً غير نور الله مثَّل حالهم بقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ]البقرة[

فجعل من اتخاذهم لآلهة غير الله كمن استوقد ناراً ليستهدي بضوءها فبعث الله نبيه الذي ذهب بهذا النور وأبطله وأطفأ ضوء باطلهم بالحق المبين وأقام عليهم الحجة فرضوا بالبقاء في الظلمة وأنِفُوا من إجابة دعوة الهدى والنور الإلهي.

ثم يضرب مثل لهم مثلا في اتخاذهم لنور آلهتهم كمن يتخذ من ضوء البرق الخاطف نوراً يُهتدى به في الظلمات الحالكة فإذا أضاء البرق بلمحة بصر سريعة مشوا فيه وساروا في طريقهم على قدر مدة الإضاءة ، فإن أظلم توقفوا عن السير لوعورة الطريق وخطورته فلن يتمكنوا من بلوغ وجهتهم ولا وصول هدفهم بضوءِ برقٍ يظهرُ لوهلةٍ ثم يغيب ويعم الظلام الدامس ، فكما أنه لا يعتمد على البرق كوسيلة يستهدي بها السائرون في الظلمة الحالكة إلى وجهتهم ، فلا يعتمد على منهج الكفر في عبور مرحلة الحياة للوصول لثواب الفردوس والجنة.

الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ: مادة شفافة محيطة بالمصباح ناثرة للضوء المنبثق منها فالنور من جانبٍ محفوظ من العبث ومن جانب يشع من خلال الزجاجة ليهدي في الظلمة وكذلك كتاب الله وهديه ، فهو مرئي يهتدى به من جانب ، عزيز على يد السوء أن تمتد إليه بالتحريف فهو محفوظ بحفظ الله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9] كما تحفظ الزجاجة ضوء المصباح.

الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ: الدُّرّ هو الألماس ، وقد شبه الكرة الزجاجية المحيطة بالمصباح بكوكب من الألماس يشع ضوءاً ، والألماس من أنقى المعادن وأثمنها ، وعندما يحيط بالمصباح فإنه يعظِّم الضوء وينشره بلمعان وتوهج شديد فيكون نوره الذي هو نور العلم والهداية شاقَّاً للظَّلام مبدِّداً للعَتْمَة بِفِعل توهجه من هذا الزجاج المحيط به فكان حقاً مبيناً لا يشوه نوره غبش ولا قتر ولا يسمح بامتداد يد العبث لمصدر النور.
يوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ: أي هذا المصباح المنير يستمد وقوده الذي يضيء به من شجرة (كناية عن ابراهيم عليه السلام الذي تناسل من ذريته شجرة الأنبياء يضيئون بالوحي والهداية لأقوامهم) .والتعبير بالشجرة دالٌّ على الديمومة والاتصال ، والزيتونة دلالة على البركة وقد وصفها بالبركة وكذلك ذرية إبراهيم ممن أنعم الله عليهم بالنبوة والاصطفاء.

لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ: فضوء الشرق لا يلبث أن يتحول ويتغير ، وضوء الغرب لا يلبث أن يغيب أما ضوء الهداية لا ينضبُ ولا يخبو أبداً.

يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ: إن الزيت هو مادة الضوء كما هي أنفس الأنبياء مادة الدعوة فهم يحملون نور ربهم وهديه بين أضلعهم ، وهم أنقى الخلق معدناً وأحاسنهم خلقاً ولو تُرِكوا بدون وحي وبعث لكانوا من أفاضل الخلق وأنصحهم للناس ، ولو لم ينزل إليهم وحي يشع منهم إلى الخلق فهم في مقام الثقة والاستقامة عند أقوامهم ، كما كان نبينا صلى الله عليه قبل البعثة طيباً مطيباً صادقاً أميناً فكانت فطرة الهداية فيهم كالزيت الذي يضيء ولو لم تمسسه نار ، فلما مسته النار أضاء بنورٍ حادث على نور سابق ، فكادوا أن يكونوا أنبياء ولو لم يمسسهم الوحي ولم يبلغهم التكليف من شدة استقامتهم.

نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ: أي هداية الله لأنبيائه واصطفائه لهم نورٌ أتى على نورٍ في أصل خلقتهم وحقيقة معادنهم.

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ: فالله يصطفي لحمل هذا النور من يشاء من الأنبياء والرسل، ويهدي لاتِّباعِهِ من يشاء أن يتبعه وييسر لبلوغِ مُرادِ الله من يشاء الله له الهداية.

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: ويشير في ختام هذه الآية العظيمة بأن ما تقدم مثل ضربه الله للناس ولو لاحظنا لوجدا الآية استهلت بالإشارة للمثل عندما قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) وختمت بالإشارة لما ضرب الله من الأمثال فكانت تذكير بأن ما بين الاستهلال والختام كان مثل مثله الله لعباده لتقريب صورة الهداية العظمى التي تترى إلى خلقه.
والله تعالى أعلم​




مشاهدة المقالة في المدونة
 
جزاك الله خيرا أستاذ عدنان ..

ولعلّي أضيف على ما ذكرت :

أن هذه الآية دلت على تسمية الله جلا وعلا (بالنور) ،وبأن له نورا مضافا إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وسائر صفاته ، وبإضافة نوره للسماوات والأرض ،وبأن حجابه نور ،فهذه أربعة أنواع ..

ولما كان النور من اسمائه وصفاته كان دينه نورا ،ورسوله نورا، وكلامه نورا، ودار كرامته لعباده نورا ....

من فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبدالرزاق البدر...
 
بارك الله فيكم وفتح علينا وعليكم اختي الاستاذ هدى
 
عودة
أعلى