أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} 1- السورة ذات ضربة سريعة وشديدة: -أما السرعة فلأنها أقصر سورة في القرآن ( باعتبار البنية التر كيبية..) فسورة الكوثر وإن جاءت أقل منها في عدد الآيات والكلمات، إلا أنها زادت عليها في عدد التراكيب فقد انتظمت في جمل أربع فيما سورة العصرلا تشتمل إلا على جملة واحدة مسورة بقسم ومذيلة باستثناء.. -أما الشدة فملحوظة في مضمونها عبر لحظاتها الثلاث: 1-لحظة تيئيس:"إن الإنسان لفي خسر" 2-فسحة تنفيس::إلا الذين... 3-بيد أن هذه الفسحة سرعان ما تضيق عن تراكم في القيود والشروط: أ-آمنوا ب-عملوا الصالحات ج-تواصوا بالحق د-تواصوا بالصبر. وقد جاء جرس السورة دالا على هذه الشدة خاصة في مواقع الفاصلة..فالمقاطع مقفلة، خالية من أي مد،( العصر-خسر-الصبر..)والوقوف عند رؤوس الآي يوجب اجتماع ساكنين وهو شاق على الناطق العربي...فاتسقت السورة شكلا ومضمونا كأن غياب فسحة المد وانغلاق المقاطع إيماء إلى ما قررته السورة عن الوضع الوجودي للإنسان.. وهنا كلمة تنبيه عن مفهوم الفصاحة اقتضاها السياق: فهي في تصورنا أعم من سهولة النطق وتناسب الأصوات..والسيادة في القرآن العظيم للمعنى لا للفظ ..فقد يعدل التعبير عن اللفظ الأسهل في النطق إلى اللفظ الأشق لنكتة دلالية كما في قوله تعالى:
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء : 72] ثقل العبارة على اللسان واضح..لكنه غير قادح.. فالعبارة ترمي إلى تصوير المعنى باللفظ، فثقل جريان العبارة على اللسان وعدم انسيابها محاكاة لتثاقل بعض المخاطبين في السلوك. فتكون الدلالة في قمة البيان لأنها مزدوجة: أولا، هي دلالة بالمواضعة (دلالة اعتباطية) ثانيا، هي دلالة بالجرس(دلالة ايقونية)
وقد عقد ابنُ جنِّي في الخصائص بابا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال: هذا مَوْضع شريف نبَّه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول.
2- وَالْعَصْرِ (1) نريد، أولا، أن نختبر هنا قاعدة جزئية من قواعد التفسير: قاعدة "اعتبار عادة القرآن" وهي صحيحة بلا شك، لأن اطراد الأمر أو تكراره يكسبه قوة معادلة لقوة التواتر في علم الأخبار..ومن ثم كان لهذه القاعدة فائدة كبيرة في ترجيح تفسير على تفسير ( على نحو ما ترجح المتواترات على الآحاد..). والقسم ب"العصر" مناسبة لتجلية هذه المسألة : اعلم أن كلمة عصر(مطلقة من أي سياق) تحتمل أن تكون : 1-اسم ذات أو 2-اسم معنى ويتفرع على الاحتمال الأول تعيينان اثنان: أ-أن تكون الذات هي الصلاة (على تسمية المظروف بظرفه كما هو سائغ في اللسان العربي ) ب-أن تكون الذات هي الزمن، وفي هذه الحالة أيضا تعيينان : - أن يكون هذا الزمن خاصا ( جزءا من النهار محصورا بين الزوال والغروب) ج-أن يكون الزمن عاما ومبهما (كما تقول "عصر الجليد" أو"عصر النهضة "...) كل هذه المعاني مشهورة عند المفسرين..إلا إنه لم يحم أحد منهم –حسب علمي- حول الصيغة الأخرى للعصر (صيغة المصدر أو الحدث كما تقول "عصر الزيت" و"عصر العنب"...) إلا ما كان من إشارة وردت عند الفاضلة بنت الشاطيء في تفسيرها البياني لهذه السورة الكريمة، وسيأتي تفصيل ذلك... (لا يؤخذ من هذا الكلام أنه ينبغي في التفسير أن تستعرض كل الدلالات في الكلمة، فهذا مخالف -في الواقع- للمنهج العلمي لأنه أمارة على عشوائية واتفاقية ،وغياب نظرية ،ينتج عنه في الغالب ضياع جهد ووقت..فليس الشأن في الفرضيات الممكنة إنما الشأن في الفرضيات الملائمة.) هل القسم بالعصر -مصدرا –ملائم ؟ الجواب :نعم. بيانه ،أن "العصر" -بمعناه المصدري الواسع -يتضمن دلالتين: -دلالة علاجية -دلالة تقييمية العصر كفعل علاجي هو ضغط على جسم صلب حاو لاستخلاص ما فيه من سائل أو غيره.. وقد يرتبط هذا الفعل بمقصد تقييمي لنتائج العصر : فالعصارة جوهرنفيس للحفظ، وما عداها شوائب للطرح. والسورة عند تأملها تدور حول هذا المعنى: الإنسان "يعصر" ليتميز جوهره عن غثائه ،والإنسانية" تعصر" ليستبان مفلحها من خاسرها. فالملاءمة بين المقسم به والمقسم عليه بيانية كما ترى.
لكن قاعدة" عادة القرآن" تعكر على هذا التوجيه: فأقسام القرآن تكون بأسماء الذوات لا بأسماء المعاني! والسبب واضح: أسماء المعاني "باهتة" في الذهن عكس أسماء الذوات، ومن ثم لا تصلح لغرض تقرير المعاني وتوكيدها..وصفة "باهتة " هنا ليست درجة على سلم الوضوح والخفاء في الدلالة بل على سلم الحضور والغياب في الذهن..فقد يكون اسم الذات المقسم به غائبا أو غيبيا لكنه متمكن في الذهن ف"النازعات" مثلا قد لا يدرك المرء معناها تحديدا لكن النفس تمتليء بحزم من معاني الشدة والرهبة فتذهب النفس فيها مذاهب..وأسماء المعاني بحكم تجردها لا تفي بهذه المقاصد النفسية. إذا صح هذا التقرير انتقلنا إلى فرض آخر: إذاكان العصر - مصدرا- مرجوحا ،فلم لا يكون مقصودا لا في ذاته ولكن مشربا في اسم الذات ،كأن يقال أقسم الله بالزمن ملحوظا فيه ضغطه للإنسان وعصره بالبلاء.. هذا مذهب عائشة عبد الرحمن، وهذا بيانه:
قالت الاستاذة: "المعنى الأصلي للعصر لغة: الضغط لاستخلاص العصارة. استعملته العربية حسياً في عصر العنب ونحوه لاعتصار خلاصته. ومنه المعصرة آلة العصر، والمعصرة مكانه. والعواصر ثلاثة أحجار كانوا يعصرون بها(.....) ومن هذه الدلالة اللغوية الأصلية على الضغط والاعتصار، سمي الدهر عصراً، بملحظ من استخلاصه عصارة الإنسان بالضغط والتجربة والمعاناة".
بصرف النظر عن صحة ثبوت هذه الأصالة أو عدمها ،فإن إشارة الاستاذة إلى المعنى المصدري كانت مترتبة عن إسناد وظيفة بيانية- جمالية- للقسم يقتضيها قانون الاتساق والتشاكل...وقبل تفصيل هذا المعنى نحب أن نتفحص الوجهين الدلاليين للقسم: -للقسم وجه حجاجي ،وهو بلا ريب الغرض المتأصل فيه، فالسليقة ترشح أن يكون القسم وسيلة للإقناع( ومازالت المحاكمات قديما وحديثا تعتبر اليمين دليلا بل قسيما للبينة ..)ومن هنا اقتضاء المقسم به أن يكون مستعظما عند المتكلم ليكسب قوله القوة الحجاجية المطلوبة.. -للقسم وجه بياني تكون الغاية منه "الإفهام" لا "الإقناع" ،فلا يكون "التعظيم" هو الحامل على اختيار القسم وإنما "التناسب" بين عناصر الخطاب القسمي..وترى الأستاذة أن جل المفسرين انساقوا وراء استكناه واستقراء معاني التعظيم وأهملوا في المقابل الكشف عن اسرار التلاؤم بين القسم وموضوعه... العلاقة بين المقسم به(العصر، بالمعنى المصدري) والمقسم عليه ( خسران الإنسان) مبنية على التشاكل...وفي وسعنا أن نخصص هذه المشاكلة في معنى "المماثلة" أوفي معنى"التمثيل"...فعلى التخصيص الأول يكون في القسم "وجه من البديع"، وعلى الثاني يكون فيه "وجه من البيان": فأما المماثلة فإنها ل"تحسين" المعنى، على اعتبار استئناس الذهن بالتناسب..فالأمر شبيه بالجناس حيث يتحرى فيه التشاكلات الصوتية بغية إمتاع السمع.... إلا أن التشاكل هنا معنوى لا حسي، والمتعة ذهنية لا سمعية.. وأما التمثيل ،فلأن القصد البلاغي فيه هو تقرير المعنى وترسيخه في النفسن على أسلوب تقديم المعنوي في لباس من الحسي وتشبيه الأول بالثاني..فتتحقق المشاكلة بين الطرفين لكن لغرض الإفهام والبيان لا لغرض التزيين والإمتاع ...وهذا تقرير للتمثيل البياني : -العصر يفترض -في مقوماته الدلالية العامة- أمرين: فعلا حسيا هو ممارسة الضغط على شيء صلب فيكون القصد إلى استخراج السائل الكامن فيه.. فعلا معنويا أو حكميا يتعلق بالتقويم أو التقدير.فالعصارة "أشرف" وما عداها "أخس" ..فيكون العصر آلية للتمييز تفضي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين: ما هو جوهري في الشيء فيجب الاحتفاظ به والاحتفاء به، وما هو من الشوائب فيجب طرحه ونبذه.. هذه المعاني في المقسم به لها نظيرات في المقسم عليه: فلك أن تتمثل الإنسانية في شكل الشيء الذي سيعصر،وتتمثل ابتلاء الإنسانية وفتنتها من خلال إيقاعها تحت التكليف في شكل ضغط عليها... -نلحظ اتفاق" العصر"و"الفتنة" في الأمرين السابق ذكرهما فالفتنة تفترض أيضا فعلا شديدا هو العرض على النار وفعلا نهائيا هو التمييز بين المعدن النفيس والشائب الخسيس فيحفظ الأول ويطرح الثاني- ولك أن تتمثل أخيرا الإنسانية في حصيلة الفتنة والاختبار : فقد استخلص منها أشرف ما فيها وهم : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.. وبقي من الإنسانية حثالتها وهي جديرة بالطرح في جهنم كما تطرح الشوائب والقشور في موقد النار!! فقد ثبت، إذن ، التمثيل البياني بين طرفي القسم...فهل يجوز لنا ،تبعا لذلك، أن نصحح القسم بالمصدر ؟؟ هذا مستبعد في نظرنا -رغم المسوغ البياني الذي شرحناه- وسبب الاستبعاد ننيطه بالخصائص الأسلوبية العامة للقرآن أو ما يسميه المفسرون "عادة القرآن"...فليس من عادة القرآن القسم بالمصادر وإنما يطرد فيه القسم بالذوات..سواء أكانت هذه الذوات من عالم الشهادة أم من عالم الغيب..وسواء أكانت دلالاتها قطعية أم احتمالية ... ثم من عادة القرآن القسم بالزمن وأجزائه من الليل والنهار والفجر والضحى..فيكون القسم بالعصر متسقا مع هذه المعاني..فلا جرم أن يكون العصر مرادا به الذات لا المصدر.
ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت عن عبد الله بن حصن [ أبي مدينة ] ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا ، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر " سورة العصر " إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر .
وقال الشافعي رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة ، لوسعتهم .
لعل السر في قراءة الصحابة لهذه السورة أنهم كانوا يتأولونها: فالسورة تدعو إلى التواصي بالحق، وهي نفسها حق، فاتحد الدال والمدلول... واختيار لحظة الفراق لقراءتها تأول آخر لمعنى "التواصي" لأن خطاب الوصية يتلبس دائما بالفراق( مادي أو معنوي، بالموت أو غيره...) فناسبت قراءة السورة المعنى والظرف معا.. وهذا يدلك على منهج الصحابة في تدبر القرآن: الفهم العميق والمبادرة إلى التطبيق.! وفي قول الشافعي الإشارة إلى شمولية السورة رغم قصرها...وهذا بيان لبعض وجوه تلك الشمولية:
1-الشروط الأربعة للنجاة -مثل الجهات الأربع- محيطة بالإنسان..فما من ملكة في الإنسان إلا وقد دخلت في وطيس الاختبار: ف"الإيمان "اختبار للقلب و"العمل" اختبار للجسد و"الحق" اختبار للعقل و"الصبر" اختبار للنفس.
2-الشروط واقعة على كل المجالات: المجال الباطني والظاهري المجال العلمي والعملي المجال الفردي والجماعي..
3-ولنلحظ بصفة خاصة ذلك الغور المعجز لصيغة" تواصوا": فهي لوحدها تؤسس مذهبا في الحياة ونظاما فيها..فصيغة "تفاعل " دالة على المشاركة ،لا يصح مجيء الفعل إلا من اثنين فأكثر..ومعنى هذا أن نجاة الإنسان لا يمكن أن تتحقق خارج المجتمع أو بعيدا عنه.. فلو افترضنا إنسانا منعزلا في جزيرة وأراد أن يأتي بشروط سورة العصر كلها فلن يستطيع إلى ذلك سبيلا: قد يحقق الإيمان، وبعض العمل الصالح ،لكن شطر التواصي محكوم بالانخراط في جماعة..!! ومن هنا يظهر فساد بعض المذاهب التي تزعم أن النجاة تتحقق بفرار المرء بجلده من منافذ العزلة والسياحة والخلوة..
ولنلحظ ثانية أن صيغة "تواصوا" تلغي كل تراتبية في هذا الشأن :فليس ثمة طبقة "فاعلة" للوصية وطبقة "منفعلة" بها" بل إن كل فرد فاعل ومنفعل في وقت واحد..
تتحقق الشمولية أيضا في استيعاب السورة للوضع الإنساني العام : فهي تجيب على السؤالين الجذريين: الأنطلوجي والخلقي. السؤال الأول:ماوضع الإنسان؟ الجواب:إن الإنسان لفي خسر السؤال الثاني :ما السلوك الذي ينبغي أن يصدر عنهم في هذه الحال؟ الجواب:يؤمنون ويعملون صالحا ويتواصىون بالحق ويتواصون بالصبر.... فإذا أدرك الإنسان وضعه، وعلم ما يتعين عليه فعله ، فقد أحاط إجمالا بكل شيء يتعلق به... ولعل هذا المعنى هو الذي خطر ببال الشافعي عندما قال رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة ، لوسعتهم...
لنشرع الآن ،بعون الله ،في التفسير التحليلي ،مفصلين في البنود التي أشرنا إليها في المقدمات السالفة:
أ- في السورة ثلاث علامات أسلوبية: 1- التوكيد 2- الاستثناء 3- التنسيق التوكيد مقوى بتضافرمن القسم وأداتي التوكيد "إن" و "اللام": القسم مسور للجملة ، "إن" داخلة على المبتدأ ، و "اللام" على الخبر.. بيد أن مناط التوكيد –كما هو متقرر في علم المعاني- الاسناد لا طرفاه،ف"إن" لم تؤكد طرف "الإنسان" كما أن " اللام" لم تؤكد طرف الخسران ...بل التأكيد حاصل للنسبة بين الطرفين وهي مستهدف التوكيد المعنوي..إذ لو كان الخيار مستقرا على توكيد أحد الطرفين- أو هما معا- لجيء بالآلية المختصة وهو التوكيد اللفظي: الانسان الانسان في خسر... الانسان في خسر في خسر.. وقد نلحظ في الآية تقوية معنى المسند إليه من خلال التعبير بالظرفية بدلا من الوصفية :ف" في خسر " أقوى بكثير من"خاسر" على اعتبار أن الظرفية تشعر بالإحاطة من جميع الجهات ،فالإنسان حيثما اتجه تكون الخسارة أمامه ...أما صفة خاسر فقد يتصور الذهن أن تضمحل شيئا فشيئا، أو تزول ليحل محلها ضدها! وبمعنى آخر يمكن تصور الشيء على صفة تارة، وعلى صفة مضادة تارة..ولكن لا يمكن تصوره مجردا من المكان .ومن ثم كانت" الاستعارة الفضائية" في التعبير عن الخسران أقوى لتأكيد تلازم الإنسانية والخسرانية... حاصل الأمر أن المؤكدات الثلاث مجتمعة على توكيد نسبة الخسران للإنسان. ...مما يضفي على مطلع السورة ظلالا من معاني الشدة والهول، يتلقاها المرء بكثير من الوجوم والإحباط...
يأتي أسلوب الاستثناء بعدها مؤذنا ب "الروْح" بعد الشدة...فدائرة الخسران ليست موصدة تماما :توجد فجوة يمكن أن ينسل منها بعض الناجين..
لكن يأتي أسلوب التنسيق في مقطع السورة ليعيد السورة إلى دائرة الشدة من جديد...فالنجاة الممكنة التي بشر بها الاستثناء مقيدة الآن بكثير من الشروط : -آمنوا -عملوات الصالحات -تواصوا بالحق -تواصوا بالصبر. النجاة ممكنة ولكنها عزيزة!! بيد أن مصدر القلق الحقيقي في السورة هو تجريد الإنسان المحكوم عليه بالخسران من كل وصف: "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر" إشعارا بأن علة الخسران هو الإنسانية نفسها..فلو قيل، مثلا ،" إن الانسان الكافر في خسر" لانتزع الذهن أن مناط الخسارة هي صفة الكفر...لكن الآية في تركيبها تشعر أن علة الخسارة كامنة في" الجوهر" الإنساني ذاته لا في" أعراضها" عكس النجاة المؤسسة على الأعراض... الخسارة أصلية جوهرية ،والنجاة فرعية عرضية... هذه هي الحقيقة التي يتعين على الإنسان أن يتجرعها استساغها أم لا!!!
المختار أن يكون القسم بجزء الزمن،مستأنسين في هذا الاختيار بأمرين: أولا: موقع القَسَم على المحور العمودي، بوضع "العصر" ضمن جملة الأقسام الأخرى التي افتتحت بها بعض السور المكية. ثانيا: وظيفة القَسَم على المحور الأفقي ،بملاحظة علاقة "العصر" بما تضمنته السورة من معان وأحكام. 1. احتل "الزمن" مكانة متميزة بين الأقسام الاستهلالية ، فرب العزة أقسم بكل مراحل الوحدة الزمنية : فقد أقسم بالفجر: {وَالْفَجْرِ (1)} [الفجر : 1]
وأقسم بالليل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل : 1] وأقسم بالضحى: {وَالضُّحَى (1)} [الضحى : 1] وأقسم بالعصر: {وَالْعَصْرِ (1)} [العصر : 1]
جاءت هذه الأقسام لاستغراق الزمن كله بالتنبيه على تمفصلاته ومنعرجاته الأساسية: فالفجر بداية، والليل نهاية، والضحى نهاية البداية، والعصر بداية النهاية.
قال في اللسان: الضُّحى من طلوعِ الشمس إِلى أَنَ يَرْتَفِعَ النهارُ وتَبْيَضَّ الشمس جدّاً ثم بعد ذلك الضَّحاءُ إِلى قَريب من نِصْفِ النهار. العَصْرُ : العَشِىُّ إِلى احْمِرارِ الشَّمْسِ..
فيكون الفجر مقابلا لليل باعتبار البدئية والانتهائية،والضحى مقابلا للعصر باعتبار الأول يمثل نهاية ارتفاع الشمس وتمام انتشار الضوء التدريجي، والثاني يمثل بداية نزول الشمس نحو المغيب وتغير لون الأشعة نحو الاصفرار ثم الاحمرار. والزمن المقسم به في هذه السور مرتبط بحياة الإنسان وسيرورته،بحيث يؤذن تحول الزمن وتغير موضع الشمس في السماء بتحول وتغير في نشاط الإنسان وبرنامج عمله...ومن ثم كانت الصلاة موقوتة بحسب منعرجات الزمن مما يكشف عن تناغم بديع بين الإنسان والطبيعة... وللمعنى نفسه جاء تعدد أجزاء النهارواختلافها:فجر/ضحى/عصر...في موازاة مع تعدد أنشطة الإنسان واختلافها في النهار..بينما الليل لم يقع فيه تقسيم فجاء لفظا عاما واحدا( "الليل") لقلة نشاط الإنسان فيه ،فهو سبات ونوم في الغالب، لا يحتاج معه إلى تمييز. .. 2. إن وقت العصر مناسب بيانيا لموضوع السورة لذلك اختاره العليم الحكيم قسما في مطلعها، السورة يغلب عليها طابع الإنذار.. صحيح لقد فتحت بابا للأمل لكن ليس على مصراعيه فلا بد من اختبار...ومن محاسبة. ولا شك أن وقت العصر هو الملائم لهذه المعاني: -فهو بداية النهاية..فالشمس التي كانت تتوسط السماء في كامل قوتها هي الآن تضعف وتتجه في مسارها إلى مغيبها في نهاية الأفق...
العصر حاك عن الرحيل..! ويبدأ الإنسان عندئذ في التفكير في الرواح...!! يصفي ما تبقى من تجارته ،أو يستجمع إبله وغنمه ،فلا يفكر ابتداء من اللحظة إلا في طريق العودة..فلا يكون عنده –مثلا-هاجس الربح في التجارة فبعد العصر قد يبيع ما عنده بأقل من ثمنه...لأن همه ليس في درهم يستزيده بل في طريق لا بد أن يقطعها في سباق مع الزمن.. فتهديد الليل أكبر بكثير من حصول الدرهم أو الدينار...فمن الحصافة أن يتنازل عن وعد الغنم لوعيد الغرم!! طريفة: من الطرائف المناسبة للمقام ما تزعمه العامة في المغرب من أن "السلاويين"-وهم سكان مدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط لا يفصلهما غير مصب نهر أبي رقراق- يعتريهم المس عند كل عصر، ولما سألت أحد السلاويين عن منشإ هذا الزعم قال إن مدينة "سلا "ذات أسوار وأبواب ،وأن الأبواب كانت تغلق جميعا مع غروب الشمس فلا تفتح إلا في الصباح ،فمن سدت دونه قضي عليه بالمكوث خارجا.. فكان السلاويون أصحاب الحرف والتجارة المنتشرون خارج سلا- في الرباط خاصة - يتخلون عن هدوئهم بعد العصر فينتابهم هاجس الأبواب التي ستغلق فربما أظهروا شيئا من العصبية، والقلق ،وتسارع في وتيرة الحركات في جمع متاعهم وغيره...فقد يطلب السلاوي مثلا ثمنا بالغ الارتفاع، قبل العصر، حتى إذا حل العصر وفكر في العودة إلى مدينته قبل إغلاق الأبواب قنع بثمن زهيد فيتعجب المشتري كيف لم يقبل السلاوي عرضا هو أقل بكثيرمما يقبله الآن...! فقال عنهم الرباطيون "إن السلاويين يحمقون مع العصر" !!
الظاهرأن اللام للاستغراق بدليل الاستثناء بعدها... وتجرد" الإنسان" من كل قيد يشعر أن ماهية الإنسانية نفسها علة الخسران.. نستأنس في المقام بعدد من الآيات التي تشير إلى تأصل عوامل الخسران في تركيبة الإنسان:
جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا...
هذه النصوص متفقة على قدر الخسران للإنسان ، بيد أن التعليل في الآيات من داخل الإنسان، وفي الحديث من خارجه.. أو لنقل علة الخسارة في الآيات من الماهية وعلتها في الحديث من الصيرورة.. ولا نرى تعارضا بين النصوص... ففي الحديث: أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، .. فيؤول تعليل استجابة الإنسان للشياطين إلى ما ركب فيه من "ضعف" و"عجل" و"ظلم" كما قررته الآيات...والمقام لا يتسع لتفصيل هذه المسألة...
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر : 2] القوة البيانية للآية مبنية على إسقاطين: - إسقاط التجارة على العبادة -إسقاط الفضاء على المجرد
1- المراد بالإسقاط بيان أمر متوسلين بأمر آخر.. .فتفهم العبادة مثلا من خلال التجارة على اعتبار أن مجال التجارة أكثر ألفة عند الملتقي وأوضح في ذهنه فتسقط عناصر هذا المجال على المجال الآخر...فالنجاة في الآخرة -مثلا-وهو أمر غيبي ، مستقبلي، يسقط عليها الربح في التجارة وهو أمر مشاهد ، آني ،ومتكرر في التجربة الإنسانية.. فيعبر عن الغيبي بالتجريبي وعن المعنوي بالحسي وعن النادر بالمألوف فينشأ عن ذلك مقصد البيان.
والأصل في الخسارة متجذر في المجال التجاري. قال في التاج: (و) خَسِرَ (التَّاجِر) فِي بَيْعِه خُسْرَاناً: (وُضِعَ فِي تِجَارَتهِ أَوْ غُبِن) ، والأَوَّل هُوَ الأَصْل. وَفِي البَصَائِر للمُصَنِّف: الخُسْرانُ فِي البَيْع: انتِقَاصُ رَأْ س المَالِ، وقَوْلُه تَعالى: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر: 15 والشورى: 45) وفي الصحاح: [خسر] خَسِرَ في البَيْع خُسْراً وخسرانا، وهو مثل الفرق والفرقان. وخسرت الشئ بالفتح وأخسرته: نَقَصْتُهُ. وقوله تعالى: (هل نُنَبِّئُكُمْ بالأَخْسَرَيْنِ أَعْمالاً) *، قال الأخفش: واحدهم الاخسر مثل الاكبر.
إسقاط (استعارة) التجارة على الدين مألوف في القرآن ومنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة : 16] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر : 29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف : 10] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف : 9]
2- التعبير بالظرفية في الآية (في خسر) إسقاط للمكان على المعنى...فيتصور المتلقي الخسارة لا كحالة أو صفة بل كفضاء يتحرك فيه.. فالخسارة ليست في الإنسان بل إن الإنسان هو الذي في الخسارة.. وفائدة الإسقاط بيان الإحاطة وعدم الانفكاك... والتعبير ب(في) يكسب الفضاء دلالة إيحائية انقباضية فهي دالة على الانغلاق والانحباس والاختناق.. عكس( على ) ذات الدالالة الانبساطية ..وتجد ،مثلا ،إسقاط الاستعارة الفضائية بالدلالتين في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24] فالهدى فضاء بهيج دلت عليه (على) والضلال فضاء غير مريح دلت عليه (في)
(لمزيد تفصيل في الدلالة الانقباضية والانبساطية نحيل على تفسيرنا لسورة الضحى في هذا المنتدى نفسه)
العطف يقتضي المغايرة، لكن يكفي في المغايرة الاعتبار، فيصح عطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام.. نعم، إن الخاص متضمن في العام وعطف أحدهما على الآخر يؤول إلى عطف الشيء على نفسه، وهو ممنوع قطعا ، لكن اختلاف الاعتبار يصحح العطف ،فاعتبار الشيء بخصوصه يختلف عن اعتباره ضمن عمومه...وفائدة العطف هنا الإشادة بفضل الخاص مثلا أو التنبيه عليه وتأكيده... وغير ذلك من الأغراض التي تحوم على الكيف لا الكم... وهكذا يصح عطف النوع على الجنس، وعطف الفرد على النوع ،وعطف الفرد على الجنس، وهلم جرا... وقد جاء النسق في الآية الشريفة على هذه القاعدة...فنلحظ ترتيب العناصر الأربعة تدريجيا على سلم العموم والخصوص ،بحيث يكون المذكور المتأخر متضمنا في المذكور قبله: فالعمل الصالح نوع متضمن في جنس الإيمان، والتواصي بالحق فرد من أفراد العمل الصالح، والتواصي بالصبر صورة من صور التواصي بالحق.
هذا، وسبْحانَك اللَّهُمّ وبحَمْدكَ أشْهدُ أنْ لا إله إلا أنْت أسْتغْفِركَ وَأتَوبُ إليْك.
السلام عليكم أخي عبد المعز السلام عليكم، وبعد أتوجه لكم بجزيل الشكر والتقدير على هذا التفسير البياني لسورة العصر والذي استفدت منه أيما استفادة في كتابة تفسيري لسورة العصر بارك الله فيكم وكنت أود معرفة اسمكم الكامل لنسبة القول لأهله ورد الفضل لأصحابه.