هذه تعليقات الشيخ على هذا النوع بعد تفريغها ومراجعة الشيخ لها
[align=center]النوع الحادي والأربعون: في معرفة إعرابه[/align]
• قول السيوطي: (أفرده بالتصنيف خلائق، منهم مكي وكتابه في المشكل خاصة، والحوفي وهو أوضحها) نقول: هناك خلاف عند بعض من ترجم للحوفي هل له كتاب مستقل أم هو ضمن كتابه (البرهان في علوم القرآن) وهذا هو الاسم الصحيح للكتاب خلافًا لمن ذكر أنه (البرهان في تفسير القرآن)؛ لأنه ورد بالأسانيد عن الحوفي أنه (البرهان في علوم القرآن)(1) .
• قول السيوطي: (والسمين وهو أجلها على ما فيه من حشو وتطويل): ما ذكره عن السمين الحلبي (أنه أجلها) صحيح وهو عندي أجود كتب الإعراب, والفرق بينه وبين أبي حيان أن كتاب السمين كتاب منظم من حيث المعلومات وليس كما قال السيوطي إن فيه حشواً وتطويلاً؛ لأن قضية الحشو والتطويل نسبية, وهو مركز في النقاشات النحوية وأنصح طالب علم التفسير باقتنائه فهو يفك له مشكلات في المعاني إذا قرأ هذا الكتاب قراءة متأنية, أما كتاب شيخه فقد احتوى على النحو وإن كان في التفسير؛ ولذا جاء كتاب الشيخ غير منظم ومادته أوسع من مادة السمين, ويتميز السمين الحلبي بالاعتدال في موقفه فهو لا ينتصر لشيخه -وإن كان يجله- بل هو ينتصر للحق إذا رآه, فأبو حيان قد يعترض على الزمخشري مع ما بينهما من خلاف في الاعتقاد ولكن السمين أكثر اعتدالا من شيخه في التعامل مع الزمخشري؛ ولذا قد ينتصر للزمخشري على شيخه.
• قول السيوطي: (ولخصه السفاقسي فحرره): استدرك المحققون لكتاب الإتقان ( ط: مجمع الملك فهد) أن السفاقسي لخص كتاب أبي حيان وليس كتاب السمين الحلبي.
• قول السيوطي: (ومن فوائد هذا النوع معرفة المعنى، لأن الإعراب يميز المعاني....): هنا إشكال فقد قال: إن (الإعراب يميز المعاني), ثم قال بعد أسطر إنه (فرع المعنى) فيلحظ أنه في الأولى يرى أنه الأصل ثم قال: إنه فرع فهذا فيه تناقض, ولكن يحسن بنا أن نتنبه إلى أننا إذا استطعنا أن نجد لكلام العالم وجهًا وسبيلًا فإن الأَولى أن نسلكه حفاظًا على رأي العالم خصوصًا إذا كان العالم محررًا فإنه لا يمكن أن يقول هذا في أسطر متقاربة إلا أن يكون قد غفل وذهل عما قاله وهذا قد يقع؛ لأن من عادة البشر النقص, لكننا نجتهد أن نذكر توجيهًا نصحح فيه القولين, فالقول الأول صحيح, وكذا الثاني فكيف يمكن أن نميز بينهما .
سؤال : إذا رجعنا إلى الأصل فأيهما الأصل الإعراب أم المعنى؟
الجواب : الأصل المعنى ، ويكون الإعراب فرعًا عن المعنى ، وعلى هذا جرت تفاسير السلف قاطبة فهم لم يتكلموا عن الإعراب وإنما تكلموا عن المعاني وإن كان الإعراب جبلة لهم؛ لأنهم يفهمون المعاني ولا إشكال عندهم.
لكن لما كان الإعراب صنعة صار يُوصِل إلى المعاني, فنقول بالنسبة لنا نحتاج الإعراب أحيانا لفهم المعنى ونفهم المعنى أحيانا لكي نعرب فنحن ندور بين الأمرين نبحث عن المعنى من جهة الإعراب ونبحث عن الإعراب من جهة المعنى فإذا أخذنا هذا الأمر على هذه الصورة فلا يكون هناك تناقض في الكلام فهذا صحيح في حال وهذا صحيح في حال أخرى ، فلسنا نحتاج إلى الإعراب مطلقًا لكننا نحتاج إلى فهم المعنى مطلقا؛ لأن الإعراب فرع المعنى .
وبناءً على هذا الكلام هل المفسر محتاج إلى الإعراب أو لا؟ وهل الإعراب من علوم التفسير أم من علوم القرآن الذي لا يحتاج إليها التفسير الذي هو فهم المعنى؟
نقول: نعم المفسر محتاج إلى علم الإعراب خاصة المفسرين المتأخرين فهو من الأدوات التي يحتاجها المفسر بلا ريب ولا يفهم من قولنا: إن علم الإعراب مما يحتاج إليه المفسر أن نطالب المفسر أن يكون كأبي حيان عارفا بدقائق علم النحو وإنما المقصود أن يكون عارفا بأصول هذا العلم حتى لا يقع عنده إشكال في فهم المعاني.
قول السيوطي: (أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفرداً أو مركباً قبل الإعراب فإنه فرع المعنى، ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور إذا قلنا بأنها المتشابه الذي استأثر الله بعلمه): نقول: وكذا يضاف إلى عدم جواز إعرابها قول من قال : إنها حروف ؛ لأن الحروف لا معنى لها ولا تعرب, والقول (بأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه) أضعف الأقوال والدليل: أن السلف تكلموا فيها، ولو كانت مما استأثر الله بعلمه لما تكلم فيها الصحابة والتابعون, أما لو قال قائل: أنا بالنسبة لي فأقول الله أعلم بها . فنقول: هذا نظر نسبي, والنظر النسبي لا يخَالف فيه . أما أن يقول: لا يجوز لأحد أن يتكلم فيها ، أو لا يعلم أحد معناها ، أو أن الله استأثر بعلمها = فهذا كأن فيه طعنًا في كلام السلف في هذه كونهم تكلموا فيما استأثر الله بعلم ، وليس الأمر كذلك .
والأقرب عندي أنها حروف لا معنى لها(2) , وأما ما ينسب إلى الخلفاء الأربعة أنه مما استأثر الله بعلمه فهذا لم يثبت ، وليس فيه أثر صحيح عنهم أبدًا, وكذلك يحمل كلام الشعبي وغيره ممن قال أنها مما استأثر الله بعلمه فيحمل مراده على أن وجود هذه الأحرف في هذه السورة على هذه الصورة ، ولا شك أن هذا من العلم الذي استأثر الله بعلمه لكن لا علاقة له بالمعنى ، وفرق بين الحِكمة من الشيء وبين معناه فنحن نتكلم عن المعاني ولسنا نتكلم عن الحِكَم, وإن جئنا إلى الحِكَم لقلنا: من الحِكَم التي تكاد تتواطأ عليها أقوال العلماء أن هذه الأحرف جيء بها للإعجاز والتنبيه على التحدي من الله, ولا يمكن القول إن لها معاني مخصوصة؛ لأن هذا سيفتح لنا باباً يستحيل معه أن يوصل إلى المعنى الصحيح.
• قال السيوطي: (الخامس: أن يستوفي جميع ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة فتقول في نحو ((سبح اسم ربك الأعلى)) ....) نقول: كما قررنا سابقًا أن المعرب ينطلق من المعنى فننظر الآن هل المراد هنا تسبيح الاسم أم تسبيح الرب؟ أي : هل المراد سبح ربك الأعلى أو سبح الاسم وهو الأعلى؟
الصواب أن المراد تسبيح الرب؛ والقول الثاني الذي ذكره ـ كون الاعلى صفة للاسم ـ أضعف من القول الأول ، والمراد سبح ربك الموصوف بالأعلى, ولا يمكن تسبيح الرب بدون ذكر اسمه ؛ لذا جاء النظم بهذه الصورة ( سبح اسم ربك الأعلى ) .
و(الأعلى) هو الذي بلغ الكمال في العلو و(أفعل) في هذا المقام لا يلزم منها التفضيل, وإنما للدلالة على بلوغ الكمال في العلو, والعلو يشمل كما ذكر أهل السنة علو المكان لأن الله فوق العالم, وعلو القدر وعلو القهر.
• قال السيوطي: (السابع: أن يراعي في كل ترتيب ما يشاكله، فربما خرج كلاماً على شيء ويشهد استعمال آخر في نظير ذلك الموضع بخلافه...) هذا القول عند التأمل يندرج تحت تفسير القرآن بالقرآن أو النظائر القرآنية؛ لأن مراده هنا حينما نفسر كلمة أو لفظة ننظر إلى ورود هذه الأسلوب في مكان آخر في القرآن ، فقد يدلنا على صحة أحد الأعاريب المختلَف فيها, ثم قال السيوطي –رحمه الله-: (ومن ثم خطئ من قال في ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) أن الوقف على (ريب) و(فيه) خبر (هدى)....) هذا الإعراب ضعيف ، ولا يمكن أن تفصل (فيه) عن (لا ريب) ، وإذا كان عندنا شبهة في الفصل في هذا الموضع ، فإن الموطن الآخر من قوله تعالي في سورة السجدة: ((تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) ليس فيه شبهة؛ لأنه لا يمكن أن تفصل (فيه) عن (لا ريب) في هذا السياق فدل على أن (فيه) من قوله: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) صلة لـ (لا ريب) أي خبرٌ له, وبناء على هذا التضعيف هنا يضعف ما يحكى في هذا الموطن من وقف التعانق, وإنما الصواب أن يجعل الوقف على (فيه), والمعنى هو هدى للمتقين, ومن أسباب ضعف هذا القول أنه إذا احتمل الكلام التقدير والإثبات فيقدم الإثبات على التقدير, فكون (فيه) الظاهرة هي خبر (لا) أولى من تقدير خبر لها؛ لأنه ينبني عليه أن نقدر (فيه) مرة أخرى قبل (هدى) , ويكون تقدير الكلام : (ذلك الكتاب لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين ) .
وكذلك يُضعفه كون الوقف على (لا ريب) مشعرًا بأن الكتاب فيه هدى بخلاف الوقف على (فيه) فهو مشعر بأن الكتاب كله هدى, إذن نقول (لا ريب فيه) ثم نقول (هدى للمتقين) فهذا يشمل المعنى المذكور في الإعراب الأول على أن (فيه) الظاهرة خبر فهو أولى.
• قال السيوطي: (الثامن: أنه يراعي الرسم) الرسم محكَّم في الاختلاف؛ ولهذا قال: (ومن ثم خطئ من قال في (سلسبيلاً) إنها جملة أمرية: أي سل طريقاً موصلة إليها، لأنها لكانت كذلك لكتبت مفصولة) فتقول: ((عينا فيها تسمى)) ثم تقف, ثم تقول: (سلسبيلا) يعني: (سل) من السؤال, وخطأنا هذا القائل؛ لأن قوله تعالى: (سلسبيلا) كلمة واحدة, ولو كانت كما قال لكانت (سل) منفصلة ومنفردة عن (سبيلا).
مثال آخر لم يذكره السيوطي لكن نضيفه لوضوحه: ((سنقرئك فلا تنسى)) بعض المفسرين قال: إن (لا) هنا ناهية, والفاصل بين أن تكون نافية وناهية النظر في الرسم, فهل الصحابة أثبتوا ألفا مقصورة أم حذفوها, فلو رجعنا إلى المصحف نجد أنهم اثبتوا الألف المقصورة , فلو كانت كتابتهم (فلا تنس) لقلنا: أن (لا) ناهية, فدل الرسم على أن (لا) هنا نافية لإثباتهم الألف المقصورة في ( تنسى ) .
قال السيوطي: (الثاني عشر: أن يجتنب إطلاق لفظ الزائد في كتاب الله تعالى)
طرح السيوطي قضية الزائد طرحاً موفقاً ، فمن كره التعبير بالزائد من باب التأدب مع كتاب الله سبحانه وتعالى= فإنه يُحمد له هذا التأدب , لكن من أطلق من العلماء الزيادة فنقول: لا يخلو كلامه من احتمالين:
1 ـ أن يريد أنها زائدة في المبنى والمعنى أي زيادة لا يحتاج إليها المعنى, وهذا وقع فيه أبو عبيدة في (مجاز القرآن) في أمثلة قليلة كما في قوله: ((وإذ قال ربك)) مجازه (قال ربك) و (إذ) زائدة, وكذلك في قوله: ((كما أخرجك ربك)) وغيرها من الأمثلة, وهذا غير سديد إطلاقا, وإطلاق الزيادة في المعنى في مثل هذه الأمثلة محال في كتاب الله ، فلا يمكن أن يوجد شيء في كتاب الله زائد في المبنى وليس له معنى.
2 ـ أما من قال بالزيادة ، فهو ينظر أحيانا إلى الإعراب, وأحيانا إلى المعنى العام, وأحيانا يشترك الإعراب والمعنى العام, مثاله قوله تعالى : ((هل من خالق غير الله)) عندما نرجع إلى جملة ما قاله المعربون وأن (من) زائدة للتوكيد أو يقولون: مقحمة أو صلة وهو من باب تلطيف العبارة, فما الفرق بينها وبين (هل خالق غير الله) من جهة المعنى العام نقول: المؤدى واحد في المعنى العام ، لكن (هل من خالق) أقوى في النفي فـ(من) صار لها دلالة, فمنهم من نظر إلى الزيادة من جهة الإعراب أو من جهة المعنى العام فعبر بالزيادة ، ولا يصح أن يُعترض عليه ما دام يثبت معنى لما يقول بأنه زائد . ونقول إن كان هناك مصطلح يعبر عن الزيادة غير هذا اللفظ فهو أولى وأحب؛ ولهذا كان الطبري يذهب إلى معنى الصلة فيقول: صلة في الكلام ويبتعد عن لفظ الزيادة, وبعض المعاصرين -حفظهم الله- شنعوا على موضوع الزيادة وشددوا فيه من حيث اللفظ, وأقول هنا: يحسن أن ننتبه دائما عندما نناقش مثل هذه القضايا أن أمامنا كتاب الله فنحن حريصون جدا على أن ننفي عنه كل شيء يدل على ما لا يحسن مثل لفظ الزيادة, وعندنا عقول علماء سبقونا نطقوا بهذا الكلام ونحن نعلم ما عندهم من الورع والتقى والحرص على صيانة كتاب الله, فنحن أمام جانبين: جانب التأدب مع العلماء من جهة وجانب التأدب مع كتاب الله, ولا شك أن كتاب الله أولى ومقدم لكن إن استطعنا تخريج كلام العلماء فهو أولى, ونقول قد عبَّر فلان بهذا والأولى لو عبر بكذا, فنكون قد حفظنا حق علمائنا من جهة وتأدبنا معهم, وكذلك حفظنا حق كتاب ربنا وتأدبنا معه, فأرى أن هذا أولى من التشنيع إلا إذا وقع العلماء في خطأ كأن يرى أنها زائدة معنى فلا شك أن هذا خطأ لا يغتفر ويرد على صاحبه, ويغفر الله لمن قاله, هذا باختصار فيما يتعلق بمصطلح الزيادة.
ومثل هذا مصطلح السجع هل يقع في القرآن أم لا؟ نقول: السجع مصطلح حسنه حسن وقبيحه قبيح فإذا كان السجع الحسن واردا في الكلام ويسمى سجعا فما المانع أن يقال إن في كتاب الله سجعا, فلا أرى أن هناك أي مانع ولا خلل وهو السجع المحمود, لكن إن كان السجع المذموم كما في سجع الكهان الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا قطعا لا يوجد في كتاب الله ولا في كلام الرسول ولا كلام الصحابة والتابعين ولا كلام البلغاء ، فالسجع الذي هو حشو في الكلام لا يوجد إلا عند العيي الذي لا يستطيع أن يفصح ، فيحتاج إلى أن يرتب هذه السجعات مثل ما يقع من الكهان فالكاهن يريد أن يلبس على الناس وأن يعطيهم بعض الألفاظ التي تشدهم ولكن في الحقيقة ليس تحتها أي معنى ، فالمعنى تابع للسجع عندهم ، أما إذا جاء السجع تابعا للمعنى ، فهذا قمة البلاغة فلماذا ننفيه عن القرآن, هذا باختصار فيما يتعلق بمصطلح السجع, وفي هذا وغيره من المصطلحات الكثيرة ترد في علوم القرآن وكتب البلاغة إذا استطعنا أن نوجد لها مصطلحات موازية وحسنة فلا بأس لكن لا ننكر أمرا استعمله العلماء وله وجه صحيح معروف عندهم.
• هذان مثالان لاعتراض ابن كثير على ابن جرير الطبري –رحمهما الله- فيما يتعلق بقضية الإعراب في فهم المعنى أو ردِّه.
المثال الأول: وفيه قاعدة وهي (ليس كل ما صح إعرابا صح معنى وتفسيرا), وهذا يعني أننا لو نزلنا محتملات الإعراب على جملة قرآنية قد نخرج بجملة من الأعاريب لكن أيها الصحيح والذي تحتمله الآية؟ هو ما يصح من جهة المعنى والتفسير كما في قوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)) الضمير في قوله: ((وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى)) قال ابن كثير: (قد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله: أنه ذهب إلى أن المعنى: (فَاسْتَوَى) أي: هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم (بِالأفُقِ الأعْلَى) أي: استويا جميعا بالأفق، وذلك ليلة الإسراء كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك).
المثال الآخر: في كون الإعراب يدل على الخطأ الذي قد يقع, وهو أيضا استدراك من ابن كثير على ابن جرير, قال تعالى: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)) قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله عز وجل: إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، -إلى أن قال- وقوله: ((آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)): قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض ((إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)) أي: قبل أن يفرض عليهم الفرائض, كانوا محسنين في الأعمال أيضا, ثم روى عن ابن حميد، حدثنا مهْرَان، عن سفيان، عن أبي عمر، عن مسلم البطين، عن ابن عباس في قوله: ((آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)) قال: من الفرائض، ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )): قبل الفرائض يعملون. وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس) ثم قال: (والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله: (آَخِذِينَ) حال من قوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ): فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم، أي: من النعيم والسرور والغبطة) انتهى كلامه رحمه الله, فاختلف إذن المعنى مع أن الإعراب واحد, فهذان مثالان للعمل بالإعراب في بيان المعاني سواء أكان بيان المعنى الصحيح أو الخطأ الذي قد وقع من المفسر.
• قال السيوطي –رحمه الله-: (الثالث: قال أبو عبيد: .....شرعا وعادة) هذه الأسئلة وغيرها قد يستدل بها بعض المستشرقين والملاحدة وبعض النصارى لنقض القرآن أو رسمه, وعندنا في مثل هذه الأمور قضية مهمة جدا أحب أن يُتنبه لها في عموم المناقشات مع هؤلاء وهي ألا نكون إن استطعنا في حالة دفاع بل نكون في حالة هجوم ، فلماذا نتلقى هذه الشبه ونرد عليها؟ فهذه النظرة خطأ وفيها إشكال, وإنما الصواب أن نبين الصواب وأن نكون في حالة هجوم لكن بما أن هذا في مقام علمي فنحتاج أن نناقش هذه القضية نقاشاً علمياً, والسؤال المهم الآن مع ما ذكره السيوطي, وما ذكره محققو كتاب الإتقان -حفظهم الله- فقد ذكروا نصوصاً أخرى عن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وهي مهمة جدا حتى في قضية الهجوم مثل ما ذكر شيخ الإسلام (أنه قد كتب كل مصحف جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يصل التواتر بأقل منهم فكيف يتفقون على أن يكتبوا ((إن هذان لساحران)) وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من كلامهم أو ((المقيمين الصلاة)) وهم يعلمون أن ذلك لحن, ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطاً منكراً؛ فإن المصحف منقول بالتواتر, وقد كتب في عدة مصاحف, وكلها مكتوبة بالألف فكيف يحصل هذا الغلط), وكذلك ذكر ابن هشام نحوه.
فلو كان هذا خطأ كيف يسكت عنه هؤلاء, ولو فرضنا صحة هذه الآثار فإننا نقول:
أولاً : هل الرسم يصيبه التنوع في الخط أي هل الكتابة يصيبها التنوع أو لا؟ نقول: قطعا يصيبها التنوع فمثلا (إبراهيم) إذا نظرنا في المصحف وجدنا أنها في مواطن مكتوبة (إبراهيم) بدون نقط, وبعضها كتب (إبراهم) لتوافق قراءة (إبراهام) فهذا تنوع في رسم الكلمة الواحدة, فإذا أثبتنا أصل التنوع فهل يلزم على من يعرف الكتابة أن يعرف أنواع رسم هذه الكلمة نقول: لا يلزم, فكما أن الواحد من الصحابة لا يلزم أن يعرف جميع معاني القرآن فكذلك نقول : لا يلزم أن يكون الصحابي عالماً بجميع أنواع الرسم ، فنحمل من خطَّأ في هذا الباب على أنه علم نوعا من الرسم فحكم به , وجهل النوع الذي كَتب به غيره فخطأه , وهذه قاعدة كلية يمكن أن يقال فيها : إن من خطَّأ رسمًا فإنه علم نوعا من الرسم وجهل ما كتب به كاتب المصحف ، فتخطئته من الجهة العلمية صحيحة؛ لأنه حَكَم بما يعلم لكن لما اطلعنا على تنوع الرسم فإننا نخالفه في النتيجة ، ونقول : إن قوله غير صحيح ؛ لأن فيه تنوعاً في الرسم .
ثانيًا : نأتي إلى قضية أخرى وهي التي أشار إليها عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه عنه عكرمة ـ وإن كان فيها انقطاع في السند ـ فإنها مفيدة في مقام اختلاف المرسوم مع الملفوظ ؛ لما قال ( ... فإن العرب ستعربه بألسنتها) ، ويمكن صياغة السؤال الآتي : هل العرب ـ إذا قرأت ـ تعتمد على المكتوب أم على المقروء؟
نقول: إنها تعتمد على المقروء أي: على ما تقرأ ، وهذه قاعدة يحسن استصحابها في الكلام في موضوع الرسم .
ويمكن صياغتها بصورة أخرى : أيهما أسبق القراءة أم الرسم؟ وإذا وقع خلاف بين المرسوم والمقروء فأيهما يقدم؟
لا شكَّ أن الذي يُقدم هو المقروء, إذن القراءة حاكمة على الرسم ، فيحمل كلام عثمان على مثل هذه الزوائد فالعرب تعرف كيف تتكلم بها ؛ مثل ((لا أذبحنه)) كتبت بزيادة ألف بعد اللام ولم يقرأ أحد بتلك الزيادة أي بالنفي , فالعرب تعرف كيف تتكلم بها وتصحح هذا النوع بقراءتها وليس المقصود أن هذا خطأ لكن المقصود أن هناك أناسا ستقرأه على الصواب.
وأخيرًا عندنا قضية أخرى مرتبطة بهذا الجانب ، وهي المناقشة العلمية مع هؤلاء المستشرقين نقول له: إذا كنت تعرف لغة قومك –لا نقول غيرهم- فستجد عندهم أشياء مرتبطة بالرسم فيها زيادة أو نقص وأنت تقرأها خلاف الرسم؛ ولذا لا توجد لغة إلا وهي تشتمل على مثل هذا الشيء لماذا؟ لأن الرسم إنما هو تقريب لصورة المقروء ولا يلزم منه المطابقة التامة في أي لغة من لغات العالم ، فالذي يزعم المطابقة يدل على أنه يخالف إجماع البشر في الرسم .
فمن المستحسن في مناقشة هؤلاء أن نناقشهم بهذا ، ونرجعهم للغتهم ورسومها ، فإنهم سيرون ما ينقدونه علينا موجودًا عندهم وعند غيرهم ، فالمسألة في هذا متساوية.
لكن المشكلة عندنا أن ننطلق دائما في مثل هذا من الدفاع ونغفل أحيانا عن مثل هذه الأمور التي يشترك فيها الجميع ، فإذا أخدنا بالأمر الكلي الأول ـ وهو التنوع ـ والأمر الكلي الثاني ـ وهو أن الرسم إنما هو تصويرـ , والأمر الكلي الثالث ـ وهو أن ما يُدَّعى على رسم القرآن موجود في كل اللغات ورسومها ـ فإنه لا يكون عندنا مشكلة في هذا الباب ، فمن علِم حكَم بما يعلم ، كمثل ما قالت عائشة أو عثمان أو غيرهم, ولا يلزم منه عدم وجود علم آخر .
لذا فإن الصواب أن نقول : إن جملة من هذا الرسم جاءت من باب اختلاف التنوع ، فلو ناقشنا هذه القضية بهذا الأسلوب ارتحنا من عناء كبير فيما يتعلق بهذه القضية ، مع ملاحظة أن عندنا من تقييم الآثار ما ليس عند النصارى أو الملاحدة ، وهو قضية النكارة ، فهي من موجبات ردِّ الأثر .
ولا شك أن كلام علماء الإسلام ـ الذي ذكرنا بعضه ـ يدل على أن هذه الآثار ـ لو صحت ـ فيها نكارة؛ لأنها مرتبطة بإجماع المسلمين ، فكيف يتفق المسلمون على الخطأ ، إنَّ هذا لا يمكن ، وعدم إمكانه من الأمور المتفق عليها ، والله الموفق.
ـــــــــــــ
(1)انظر هذه المقالة المتعلقة باسم كتاب الحوفي: http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=10540&highlight=%C7%E1%CD%E6%DD%ED)
(2) انظر في تفصيل مسألة الحروف المقطعة كتاب مفهوم التفسير والتأويل ، لمعلق هذه السطور .
[align=center]النوع الحادي والأربعون: في معرفة إعرابه[/align]
• قول السيوطي: (أفرده بالتصنيف خلائق، منهم مكي وكتابه في المشكل خاصة، والحوفي وهو أوضحها) نقول: هناك خلاف عند بعض من ترجم للحوفي هل له كتاب مستقل أم هو ضمن كتابه (البرهان في علوم القرآن) وهذا هو الاسم الصحيح للكتاب خلافًا لمن ذكر أنه (البرهان في تفسير القرآن)؛ لأنه ورد بالأسانيد عن الحوفي أنه (البرهان في علوم القرآن)(1) .
• قول السيوطي: (والسمين وهو أجلها على ما فيه من حشو وتطويل): ما ذكره عن السمين الحلبي (أنه أجلها) صحيح وهو عندي أجود كتب الإعراب, والفرق بينه وبين أبي حيان أن كتاب السمين كتاب منظم من حيث المعلومات وليس كما قال السيوطي إن فيه حشواً وتطويلاً؛ لأن قضية الحشو والتطويل نسبية, وهو مركز في النقاشات النحوية وأنصح طالب علم التفسير باقتنائه فهو يفك له مشكلات في المعاني إذا قرأ هذا الكتاب قراءة متأنية, أما كتاب شيخه فقد احتوى على النحو وإن كان في التفسير؛ ولذا جاء كتاب الشيخ غير منظم ومادته أوسع من مادة السمين, ويتميز السمين الحلبي بالاعتدال في موقفه فهو لا ينتصر لشيخه -وإن كان يجله- بل هو ينتصر للحق إذا رآه, فأبو حيان قد يعترض على الزمخشري مع ما بينهما من خلاف في الاعتقاد ولكن السمين أكثر اعتدالا من شيخه في التعامل مع الزمخشري؛ ولذا قد ينتصر للزمخشري على شيخه.
• قول السيوطي: (ولخصه السفاقسي فحرره): استدرك المحققون لكتاب الإتقان ( ط: مجمع الملك فهد) أن السفاقسي لخص كتاب أبي حيان وليس كتاب السمين الحلبي.
• قول السيوطي: (ومن فوائد هذا النوع معرفة المعنى، لأن الإعراب يميز المعاني....): هنا إشكال فقد قال: إن (الإعراب يميز المعاني), ثم قال بعد أسطر إنه (فرع المعنى) فيلحظ أنه في الأولى يرى أنه الأصل ثم قال: إنه فرع فهذا فيه تناقض, ولكن يحسن بنا أن نتنبه إلى أننا إذا استطعنا أن نجد لكلام العالم وجهًا وسبيلًا فإن الأَولى أن نسلكه حفاظًا على رأي العالم خصوصًا إذا كان العالم محررًا فإنه لا يمكن أن يقول هذا في أسطر متقاربة إلا أن يكون قد غفل وذهل عما قاله وهذا قد يقع؛ لأن من عادة البشر النقص, لكننا نجتهد أن نذكر توجيهًا نصحح فيه القولين, فالقول الأول صحيح, وكذا الثاني فكيف يمكن أن نميز بينهما .
سؤال : إذا رجعنا إلى الأصل فأيهما الأصل الإعراب أم المعنى؟
الجواب : الأصل المعنى ، ويكون الإعراب فرعًا عن المعنى ، وعلى هذا جرت تفاسير السلف قاطبة فهم لم يتكلموا عن الإعراب وإنما تكلموا عن المعاني وإن كان الإعراب جبلة لهم؛ لأنهم يفهمون المعاني ولا إشكال عندهم.
لكن لما كان الإعراب صنعة صار يُوصِل إلى المعاني, فنقول بالنسبة لنا نحتاج الإعراب أحيانا لفهم المعنى ونفهم المعنى أحيانا لكي نعرب فنحن ندور بين الأمرين نبحث عن المعنى من جهة الإعراب ونبحث عن الإعراب من جهة المعنى فإذا أخذنا هذا الأمر على هذه الصورة فلا يكون هناك تناقض في الكلام فهذا صحيح في حال وهذا صحيح في حال أخرى ، فلسنا نحتاج إلى الإعراب مطلقًا لكننا نحتاج إلى فهم المعنى مطلقا؛ لأن الإعراب فرع المعنى .
وبناءً على هذا الكلام هل المفسر محتاج إلى الإعراب أو لا؟ وهل الإعراب من علوم التفسير أم من علوم القرآن الذي لا يحتاج إليها التفسير الذي هو فهم المعنى؟
نقول: نعم المفسر محتاج إلى علم الإعراب خاصة المفسرين المتأخرين فهو من الأدوات التي يحتاجها المفسر بلا ريب ولا يفهم من قولنا: إن علم الإعراب مما يحتاج إليه المفسر أن نطالب المفسر أن يكون كأبي حيان عارفا بدقائق علم النحو وإنما المقصود أن يكون عارفا بأصول هذا العلم حتى لا يقع عنده إشكال في فهم المعاني.
قول السيوطي: (أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفرداً أو مركباً قبل الإعراب فإنه فرع المعنى، ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور إذا قلنا بأنها المتشابه الذي استأثر الله بعلمه): نقول: وكذا يضاف إلى عدم جواز إعرابها قول من قال : إنها حروف ؛ لأن الحروف لا معنى لها ولا تعرب, والقول (بأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه) أضعف الأقوال والدليل: أن السلف تكلموا فيها، ولو كانت مما استأثر الله بعلمه لما تكلم فيها الصحابة والتابعون, أما لو قال قائل: أنا بالنسبة لي فأقول الله أعلم بها . فنقول: هذا نظر نسبي, والنظر النسبي لا يخَالف فيه . أما أن يقول: لا يجوز لأحد أن يتكلم فيها ، أو لا يعلم أحد معناها ، أو أن الله استأثر بعلمها = فهذا كأن فيه طعنًا في كلام السلف في هذه كونهم تكلموا فيما استأثر الله بعلم ، وليس الأمر كذلك .
والأقرب عندي أنها حروف لا معنى لها(2) , وأما ما ينسب إلى الخلفاء الأربعة أنه مما استأثر الله بعلمه فهذا لم يثبت ، وليس فيه أثر صحيح عنهم أبدًا, وكذلك يحمل كلام الشعبي وغيره ممن قال أنها مما استأثر الله بعلمه فيحمل مراده على أن وجود هذه الأحرف في هذه السورة على هذه الصورة ، ولا شك أن هذا من العلم الذي استأثر الله بعلمه لكن لا علاقة له بالمعنى ، وفرق بين الحِكمة من الشيء وبين معناه فنحن نتكلم عن المعاني ولسنا نتكلم عن الحِكَم, وإن جئنا إلى الحِكَم لقلنا: من الحِكَم التي تكاد تتواطأ عليها أقوال العلماء أن هذه الأحرف جيء بها للإعجاز والتنبيه على التحدي من الله, ولا يمكن القول إن لها معاني مخصوصة؛ لأن هذا سيفتح لنا باباً يستحيل معه أن يوصل إلى المعنى الصحيح.
• قال السيوطي: (الخامس: أن يستوفي جميع ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة فتقول في نحو ((سبح اسم ربك الأعلى)) ....) نقول: كما قررنا سابقًا أن المعرب ينطلق من المعنى فننظر الآن هل المراد هنا تسبيح الاسم أم تسبيح الرب؟ أي : هل المراد سبح ربك الأعلى أو سبح الاسم وهو الأعلى؟
الصواب أن المراد تسبيح الرب؛ والقول الثاني الذي ذكره ـ كون الاعلى صفة للاسم ـ أضعف من القول الأول ، والمراد سبح ربك الموصوف بالأعلى, ولا يمكن تسبيح الرب بدون ذكر اسمه ؛ لذا جاء النظم بهذه الصورة ( سبح اسم ربك الأعلى ) .
و(الأعلى) هو الذي بلغ الكمال في العلو و(أفعل) في هذا المقام لا يلزم منها التفضيل, وإنما للدلالة على بلوغ الكمال في العلو, والعلو يشمل كما ذكر أهل السنة علو المكان لأن الله فوق العالم, وعلو القدر وعلو القهر.
• قال السيوطي: (السابع: أن يراعي في كل ترتيب ما يشاكله، فربما خرج كلاماً على شيء ويشهد استعمال آخر في نظير ذلك الموضع بخلافه...) هذا القول عند التأمل يندرج تحت تفسير القرآن بالقرآن أو النظائر القرآنية؛ لأن مراده هنا حينما نفسر كلمة أو لفظة ننظر إلى ورود هذه الأسلوب في مكان آخر في القرآن ، فقد يدلنا على صحة أحد الأعاريب المختلَف فيها, ثم قال السيوطي –رحمه الله-: (ومن ثم خطئ من قال في ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) أن الوقف على (ريب) و(فيه) خبر (هدى)....) هذا الإعراب ضعيف ، ولا يمكن أن تفصل (فيه) عن (لا ريب) ، وإذا كان عندنا شبهة في الفصل في هذا الموضع ، فإن الموطن الآخر من قوله تعالي في سورة السجدة: ((تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) ليس فيه شبهة؛ لأنه لا يمكن أن تفصل (فيه) عن (لا ريب) في هذا السياق فدل على أن (فيه) من قوله: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) صلة لـ (لا ريب) أي خبرٌ له, وبناء على هذا التضعيف هنا يضعف ما يحكى في هذا الموطن من وقف التعانق, وإنما الصواب أن يجعل الوقف على (فيه), والمعنى هو هدى للمتقين, ومن أسباب ضعف هذا القول أنه إذا احتمل الكلام التقدير والإثبات فيقدم الإثبات على التقدير, فكون (فيه) الظاهرة هي خبر (لا) أولى من تقدير خبر لها؛ لأنه ينبني عليه أن نقدر (فيه) مرة أخرى قبل (هدى) , ويكون تقدير الكلام : (ذلك الكتاب لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين ) .
وكذلك يُضعفه كون الوقف على (لا ريب) مشعرًا بأن الكتاب فيه هدى بخلاف الوقف على (فيه) فهو مشعر بأن الكتاب كله هدى, إذن نقول (لا ريب فيه) ثم نقول (هدى للمتقين) فهذا يشمل المعنى المذكور في الإعراب الأول على أن (فيه) الظاهرة خبر فهو أولى.
• قال السيوطي: (الثامن: أنه يراعي الرسم) الرسم محكَّم في الاختلاف؛ ولهذا قال: (ومن ثم خطئ من قال في (سلسبيلاً) إنها جملة أمرية: أي سل طريقاً موصلة إليها، لأنها لكانت كذلك لكتبت مفصولة) فتقول: ((عينا فيها تسمى)) ثم تقف, ثم تقول: (سلسبيلا) يعني: (سل) من السؤال, وخطأنا هذا القائل؛ لأن قوله تعالى: (سلسبيلا) كلمة واحدة, ولو كانت كما قال لكانت (سل) منفصلة ومنفردة عن (سبيلا).
مثال آخر لم يذكره السيوطي لكن نضيفه لوضوحه: ((سنقرئك فلا تنسى)) بعض المفسرين قال: إن (لا) هنا ناهية, والفاصل بين أن تكون نافية وناهية النظر في الرسم, فهل الصحابة أثبتوا ألفا مقصورة أم حذفوها, فلو رجعنا إلى المصحف نجد أنهم اثبتوا الألف المقصورة , فلو كانت كتابتهم (فلا تنس) لقلنا: أن (لا) ناهية, فدل الرسم على أن (لا) هنا نافية لإثباتهم الألف المقصورة في ( تنسى ) .
قال السيوطي: (الثاني عشر: أن يجتنب إطلاق لفظ الزائد في كتاب الله تعالى)
طرح السيوطي قضية الزائد طرحاً موفقاً ، فمن كره التعبير بالزائد من باب التأدب مع كتاب الله سبحانه وتعالى= فإنه يُحمد له هذا التأدب , لكن من أطلق من العلماء الزيادة فنقول: لا يخلو كلامه من احتمالين:
1 ـ أن يريد أنها زائدة في المبنى والمعنى أي زيادة لا يحتاج إليها المعنى, وهذا وقع فيه أبو عبيدة في (مجاز القرآن) في أمثلة قليلة كما في قوله: ((وإذ قال ربك)) مجازه (قال ربك) و (إذ) زائدة, وكذلك في قوله: ((كما أخرجك ربك)) وغيرها من الأمثلة, وهذا غير سديد إطلاقا, وإطلاق الزيادة في المعنى في مثل هذه الأمثلة محال في كتاب الله ، فلا يمكن أن يوجد شيء في كتاب الله زائد في المبنى وليس له معنى.
2 ـ أما من قال بالزيادة ، فهو ينظر أحيانا إلى الإعراب, وأحيانا إلى المعنى العام, وأحيانا يشترك الإعراب والمعنى العام, مثاله قوله تعالى : ((هل من خالق غير الله)) عندما نرجع إلى جملة ما قاله المعربون وأن (من) زائدة للتوكيد أو يقولون: مقحمة أو صلة وهو من باب تلطيف العبارة, فما الفرق بينها وبين (هل خالق غير الله) من جهة المعنى العام نقول: المؤدى واحد في المعنى العام ، لكن (هل من خالق) أقوى في النفي فـ(من) صار لها دلالة, فمنهم من نظر إلى الزيادة من جهة الإعراب أو من جهة المعنى العام فعبر بالزيادة ، ولا يصح أن يُعترض عليه ما دام يثبت معنى لما يقول بأنه زائد . ونقول إن كان هناك مصطلح يعبر عن الزيادة غير هذا اللفظ فهو أولى وأحب؛ ولهذا كان الطبري يذهب إلى معنى الصلة فيقول: صلة في الكلام ويبتعد عن لفظ الزيادة, وبعض المعاصرين -حفظهم الله- شنعوا على موضوع الزيادة وشددوا فيه من حيث اللفظ, وأقول هنا: يحسن أن ننتبه دائما عندما نناقش مثل هذه القضايا أن أمامنا كتاب الله فنحن حريصون جدا على أن ننفي عنه كل شيء يدل على ما لا يحسن مثل لفظ الزيادة, وعندنا عقول علماء سبقونا نطقوا بهذا الكلام ونحن نعلم ما عندهم من الورع والتقى والحرص على صيانة كتاب الله, فنحن أمام جانبين: جانب التأدب مع العلماء من جهة وجانب التأدب مع كتاب الله, ولا شك أن كتاب الله أولى ومقدم لكن إن استطعنا تخريج كلام العلماء فهو أولى, ونقول قد عبَّر فلان بهذا والأولى لو عبر بكذا, فنكون قد حفظنا حق علمائنا من جهة وتأدبنا معهم, وكذلك حفظنا حق كتاب ربنا وتأدبنا معه, فأرى أن هذا أولى من التشنيع إلا إذا وقع العلماء في خطأ كأن يرى أنها زائدة معنى فلا شك أن هذا خطأ لا يغتفر ويرد على صاحبه, ويغفر الله لمن قاله, هذا باختصار فيما يتعلق بمصطلح الزيادة.
ومثل هذا مصطلح السجع هل يقع في القرآن أم لا؟ نقول: السجع مصطلح حسنه حسن وقبيحه قبيح فإذا كان السجع الحسن واردا في الكلام ويسمى سجعا فما المانع أن يقال إن في كتاب الله سجعا, فلا أرى أن هناك أي مانع ولا خلل وهو السجع المحمود, لكن إن كان السجع المذموم كما في سجع الكهان الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا قطعا لا يوجد في كتاب الله ولا في كلام الرسول ولا كلام الصحابة والتابعين ولا كلام البلغاء ، فالسجع الذي هو حشو في الكلام لا يوجد إلا عند العيي الذي لا يستطيع أن يفصح ، فيحتاج إلى أن يرتب هذه السجعات مثل ما يقع من الكهان فالكاهن يريد أن يلبس على الناس وأن يعطيهم بعض الألفاظ التي تشدهم ولكن في الحقيقة ليس تحتها أي معنى ، فالمعنى تابع للسجع عندهم ، أما إذا جاء السجع تابعا للمعنى ، فهذا قمة البلاغة فلماذا ننفيه عن القرآن, هذا باختصار فيما يتعلق بمصطلح السجع, وفي هذا وغيره من المصطلحات الكثيرة ترد في علوم القرآن وكتب البلاغة إذا استطعنا أن نوجد لها مصطلحات موازية وحسنة فلا بأس لكن لا ننكر أمرا استعمله العلماء وله وجه صحيح معروف عندهم.
• هذان مثالان لاعتراض ابن كثير على ابن جرير الطبري –رحمهما الله- فيما يتعلق بقضية الإعراب في فهم المعنى أو ردِّه.
المثال الأول: وفيه قاعدة وهي (ليس كل ما صح إعرابا صح معنى وتفسيرا), وهذا يعني أننا لو نزلنا محتملات الإعراب على جملة قرآنية قد نخرج بجملة من الأعاريب لكن أيها الصحيح والذي تحتمله الآية؟ هو ما يصح من جهة المعنى والتفسير كما في قوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)) الضمير في قوله: ((وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى)) قال ابن كثير: (قد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله: أنه ذهب إلى أن المعنى: (فَاسْتَوَى) أي: هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم (بِالأفُقِ الأعْلَى) أي: استويا جميعا بالأفق، وذلك ليلة الإسراء كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك).
المثال الآخر: في كون الإعراب يدل على الخطأ الذي قد يقع, وهو أيضا استدراك من ابن كثير على ابن جرير, قال تعالى: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)) قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله عز وجل: إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، -إلى أن قال- وقوله: ((آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)): قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض ((إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)) أي: قبل أن يفرض عليهم الفرائض, كانوا محسنين في الأعمال أيضا, ثم روى عن ابن حميد، حدثنا مهْرَان، عن سفيان، عن أبي عمر، عن مسلم البطين، عن ابن عباس في قوله: ((آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)) قال: من الفرائض، ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )): قبل الفرائض يعملون. وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس) ثم قال: (والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله: (آَخِذِينَ) حال من قوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ): فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم، أي: من النعيم والسرور والغبطة) انتهى كلامه رحمه الله, فاختلف إذن المعنى مع أن الإعراب واحد, فهذان مثالان للعمل بالإعراب في بيان المعاني سواء أكان بيان المعنى الصحيح أو الخطأ الذي قد وقع من المفسر.
• قال السيوطي –رحمه الله-: (الثالث: قال أبو عبيد: .....شرعا وعادة) هذه الأسئلة وغيرها قد يستدل بها بعض المستشرقين والملاحدة وبعض النصارى لنقض القرآن أو رسمه, وعندنا في مثل هذه الأمور قضية مهمة جدا أحب أن يُتنبه لها في عموم المناقشات مع هؤلاء وهي ألا نكون إن استطعنا في حالة دفاع بل نكون في حالة هجوم ، فلماذا نتلقى هذه الشبه ونرد عليها؟ فهذه النظرة خطأ وفيها إشكال, وإنما الصواب أن نبين الصواب وأن نكون في حالة هجوم لكن بما أن هذا في مقام علمي فنحتاج أن نناقش هذه القضية نقاشاً علمياً, والسؤال المهم الآن مع ما ذكره السيوطي, وما ذكره محققو كتاب الإتقان -حفظهم الله- فقد ذكروا نصوصاً أخرى عن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وهي مهمة جدا حتى في قضية الهجوم مثل ما ذكر شيخ الإسلام (أنه قد كتب كل مصحف جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يصل التواتر بأقل منهم فكيف يتفقون على أن يكتبوا ((إن هذان لساحران)) وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من كلامهم أو ((المقيمين الصلاة)) وهم يعلمون أن ذلك لحن, ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطاً منكراً؛ فإن المصحف منقول بالتواتر, وقد كتب في عدة مصاحف, وكلها مكتوبة بالألف فكيف يحصل هذا الغلط), وكذلك ذكر ابن هشام نحوه.
فلو كان هذا خطأ كيف يسكت عنه هؤلاء, ولو فرضنا صحة هذه الآثار فإننا نقول:
أولاً : هل الرسم يصيبه التنوع في الخط أي هل الكتابة يصيبها التنوع أو لا؟ نقول: قطعا يصيبها التنوع فمثلا (إبراهيم) إذا نظرنا في المصحف وجدنا أنها في مواطن مكتوبة (إبراهيم) بدون نقط, وبعضها كتب (إبراهم) لتوافق قراءة (إبراهام) فهذا تنوع في رسم الكلمة الواحدة, فإذا أثبتنا أصل التنوع فهل يلزم على من يعرف الكتابة أن يعرف أنواع رسم هذه الكلمة نقول: لا يلزم, فكما أن الواحد من الصحابة لا يلزم أن يعرف جميع معاني القرآن فكذلك نقول : لا يلزم أن يكون الصحابي عالماً بجميع أنواع الرسم ، فنحمل من خطَّأ في هذا الباب على أنه علم نوعا من الرسم فحكم به , وجهل النوع الذي كَتب به غيره فخطأه , وهذه قاعدة كلية يمكن أن يقال فيها : إن من خطَّأ رسمًا فإنه علم نوعا من الرسم وجهل ما كتب به كاتب المصحف ، فتخطئته من الجهة العلمية صحيحة؛ لأنه حَكَم بما يعلم لكن لما اطلعنا على تنوع الرسم فإننا نخالفه في النتيجة ، ونقول : إن قوله غير صحيح ؛ لأن فيه تنوعاً في الرسم .
ثانيًا : نأتي إلى قضية أخرى وهي التي أشار إليها عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه عنه عكرمة ـ وإن كان فيها انقطاع في السند ـ فإنها مفيدة في مقام اختلاف المرسوم مع الملفوظ ؛ لما قال ( ... فإن العرب ستعربه بألسنتها) ، ويمكن صياغة السؤال الآتي : هل العرب ـ إذا قرأت ـ تعتمد على المكتوب أم على المقروء؟
نقول: إنها تعتمد على المقروء أي: على ما تقرأ ، وهذه قاعدة يحسن استصحابها في الكلام في موضوع الرسم .
ويمكن صياغتها بصورة أخرى : أيهما أسبق القراءة أم الرسم؟ وإذا وقع خلاف بين المرسوم والمقروء فأيهما يقدم؟
لا شكَّ أن الذي يُقدم هو المقروء, إذن القراءة حاكمة على الرسم ، فيحمل كلام عثمان على مثل هذه الزوائد فالعرب تعرف كيف تتكلم بها ؛ مثل ((لا أذبحنه)) كتبت بزيادة ألف بعد اللام ولم يقرأ أحد بتلك الزيادة أي بالنفي , فالعرب تعرف كيف تتكلم بها وتصحح هذا النوع بقراءتها وليس المقصود أن هذا خطأ لكن المقصود أن هناك أناسا ستقرأه على الصواب.
وأخيرًا عندنا قضية أخرى مرتبطة بهذا الجانب ، وهي المناقشة العلمية مع هؤلاء المستشرقين نقول له: إذا كنت تعرف لغة قومك –لا نقول غيرهم- فستجد عندهم أشياء مرتبطة بالرسم فيها زيادة أو نقص وأنت تقرأها خلاف الرسم؛ ولذا لا توجد لغة إلا وهي تشتمل على مثل هذا الشيء لماذا؟ لأن الرسم إنما هو تقريب لصورة المقروء ولا يلزم منه المطابقة التامة في أي لغة من لغات العالم ، فالذي يزعم المطابقة يدل على أنه يخالف إجماع البشر في الرسم .
فمن المستحسن في مناقشة هؤلاء أن نناقشهم بهذا ، ونرجعهم للغتهم ورسومها ، فإنهم سيرون ما ينقدونه علينا موجودًا عندهم وعند غيرهم ، فالمسألة في هذا متساوية.
لكن المشكلة عندنا أن ننطلق دائما في مثل هذا من الدفاع ونغفل أحيانا عن مثل هذه الأمور التي يشترك فيها الجميع ، فإذا أخدنا بالأمر الكلي الأول ـ وهو التنوع ـ والأمر الكلي الثاني ـ وهو أن الرسم إنما هو تصويرـ , والأمر الكلي الثالث ـ وهو أن ما يُدَّعى على رسم القرآن موجود في كل اللغات ورسومها ـ فإنه لا يكون عندنا مشكلة في هذا الباب ، فمن علِم حكَم بما يعلم ، كمثل ما قالت عائشة أو عثمان أو غيرهم, ولا يلزم منه عدم وجود علم آخر .
لذا فإن الصواب أن نقول : إن جملة من هذا الرسم جاءت من باب اختلاف التنوع ، فلو ناقشنا هذه القضية بهذا الأسلوب ارتحنا من عناء كبير فيما يتعلق بهذه القضية ، مع ملاحظة أن عندنا من تقييم الآثار ما ليس عند النصارى أو الملاحدة ، وهو قضية النكارة ، فهي من موجبات ردِّ الأثر .
ولا شك أن كلام علماء الإسلام ـ الذي ذكرنا بعضه ـ يدل على أن هذه الآثار ـ لو صحت ـ فيها نكارة؛ لأنها مرتبطة بإجماع المسلمين ، فكيف يتفق المسلمون على الخطأ ، إنَّ هذا لا يمكن ، وعدم إمكانه من الأمور المتفق عليها ، والله الموفق.
ـــــــــــــ
(1)انظر هذه المقالة المتعلقة باسم كتاب الحوفي: http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=10540&highlight=%C7%E1%CD%E6%DD%ED)
(2) انظر في تفصيل مسألة الحروف المقطعة كتاب مفهوم التفسير والتأويل ، لمعلق هذه السطور .