تعريف (سبب النزول) ورأي الشيخ عبدالحميد الفراهي في ذلك .

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29 مارس 2003
المشاركات
19,306
مستوى التفاعل
124
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

قال الإمام السيوطي : (والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة فإنَّ ذلك ليس من أسباب النزول في شئ ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك ، وكذلك ذكره في قوله :(واتخذ الله إبراهيم خليلا) سبب اتخاذه خليلا ، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى)(1)
وفي هذا التعريف قصرٌ للمقصود بأسباب النزول على ما نزل القرآن بشأنه وقت وقوعه لحادثة حدثت ، أو سؤال يسأله أحدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
وقد تعقب الشيخ عبدالحميد الفراهي(2) كلام الإمام السيوطي رحمه الله فقال :
(ليس المراد من سبب النـزول ما لأجله نزل الوحي. إنما هو شأن الناس وأمرهم والحالات والواقعات التي بينها وبين ما نزل نسبة وهذا هو معنى السبب في الصحيح من كلام العرب. ولذلك كانت القدماء يذكرون كل ما يتعلق بمضمون الآية، ولكن المتأخرين لم يفهموا منه إلا معناه المولد فضاق عندهم فحواه) .
ثم أورد عبارة السيوطي السابقة ، وعلق عليها قائلاً :(فأراد السيوطي رحمه الله أن لا يذكر من الأسباب إلا ما لأجله نزل الوحي. وأراد الواحدى أن يوسع السبب فيُدخلُ فيه كلَّ ما كان محلاً ومطمحاً للوحى .
وهذا الاختلاف إنما نشأ لاختلافهم في مراد لفظ السبب وإني أرى الصواب مع السلف؛ فإن المقصود من هذا العلم إنما هو فهم الكلام وتأويل مجمله، فإن القصة ربما لا تفصل تفصيلا لعلم المخاطبين بها. فلا بد للمتأخرين أن يعلموا شيئا من تفصيله، كما ترى في قصة أصحاب الفيل إنما ألمع إليها إلماعا، وهذا كثير في القرآن. ثم لما غيَّر المتأخرون معنى السبب وقعوا في إشكال، فانهم وجدوا الصحابة والتابعين كثُر اختلافهم في بيان أسباب النـزول ، ولا بأس به إذا كان المراد منه معناه الوسيع. ولكن المتأخرين لما وجدوهم يذكرون أمورا متباعدة في الزمان والمكان، والشيء الواحد لا يكون معلولا لعلل مختلفة لا سيما بهذا الاختلاف المتباعد لم يمكنهم الخروج عن الإشكال إلا بأحد الطريقين:
- إما بتعدد النـزول .
- وإما بإجراء الجرح والتعديل في روايات صحيحة مسلمة.
وكلا الطريقين بادي الخلل، وفطن به بعض العلماء فاجتهد في إزاحة الاختلاف بقول متين يدل على دقة نظره وسلامة ذوقه. وهو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي رحمهم الله. فقال في كتابه المسمى بالبرهان في علوم القرآن كما نقله العلامة السيوطي رحمه الله في الإتقان: "قد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع" .
فرفع بهذا القول الاختلافَ فيما يذكرون من أسباب النـزول. ولكنه رحمه الله لم يتعرض لما لا اختلاف فيه، والمسألة مهمة لأمر أرفع من ذلك، وهو فهم القرآن وتعيين مراده. ومداره على معرفة أسباب النـزول، فإنها تبين المجمل، وتعين بعض المحتمل. ومن نظر في كتب التفسير علم أن كثيرا ممّا يذكرون في الأسباب يبدل المعنى الظاهر، فكأن أسباب النـزول ملكت أزمة التأويل فتصرفه حيث تشاء.
والعاقل المتقى الذي يرى القرآن أوثق عراه ويفر إليه عما سواه يرجف فؤاده أن يعدل عن ظاهر الكتاب وواضح معناه، فيترك ما أقام الله به حجته وأبان محجته إلى أمر مشتبه وروايات ضعيفة. وقال الله تعالى:( إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) [سورة النجم /28] فإن الحق أبلج والباطل لجلج.
فلزم الاعتناء البليغ بالبحث والتنقيب في هذا العلم العزيز، ووجب أن تؤسس أصوله وتشيد قواعده، فيجمع من الأسباب ما كان حقا ويبطل ما كان باطلا.
فنقول أولا ما هو المراد من أسباب النـزول، ونعود إلى تفسير معناها وتحديدها، لتتضح شدة الحاجة إليها.


(تعريف أسباب النـزول)
(1) إنما أنزل الله القرآن نجما نجما ليطابق حالهم، فيكون أقرب إليهم فهما وأبلغ فيهم تأثيرا. فإن القول كالمطر والبذر له وقت وموسم. بل للقول مناسبة بالمخاطبين. فإن شئت فاسأل الحراث والخطباء وشاهد حالهم. وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أن هذا كتاب عنده مكتوب مجموع قديم في لوح محفوظ، وإنما نزله حسب مقتضيات الوقت. وقد حكى القرآن قيل الكفار:(لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) [سورة الفرقان /32]فجاء جوابهم من الله تعالى:(كذلك لنثبت به فؤادك)[سورة الفرقان /32] فكما أن الشجر يسقى بالماء حينا بعد حين ليثبت به أصله ويغلظ ويرسخ تحت الثرى فينمو وينتشر. فإن أكثر السقي فسد الأصل وربما يجعل الأرض رخصا فيسقط الشجر. وأي تعليم أو تربية تاتي جملة واحدة، فكذلك الأمر في الوحي للنبي وأمته التي تستقى بماء الوحي. وهذا مثل المطر للوحي جاء في القرآن والكتب المقدسة.
فمن آمن بأن هذا الكتاب قديم، كما قال تعالى:(وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم)سورة الزخرف /4]وقال تعالى:(وقرآنا فرقناه)[سورة الإسراء /106] وإنما نُزل حسب المواقع التمس المواقع وصورها في ذهنه ليعلم المراد ووجهة القول.
ولذلك اعتنى العلماء بهذا العلم وسموه علم أسباب النـزول ، ولم يريدوا بالأسباب العلة فإنه معنى مولد ، والسبب عند العرب ما يتعلق بالشئ ويهدى إليه ويتصل به. في سورة الكهف :(وآتيناه من كل شئ سببا فأتبع سببا)[84-85]وفي سورة المؤمن:(لعلى أبلغ الأسباب أسباب السماوات)[36-37 ] وهذا كثير في كلام العرب.
فذكروا في هذا الفن كل ما يتعلق بالكلام.

وأشهر الكتب في أسباب النـزول كتاب الشيخ الإمام أبى الحسن علي بن أحمد الواحدى المفسر المتوفى 468هـ وقد طبع، ورأيته. فقد جمع فيه الأقوال ولم يشدد في النقد وتركه للناظر فيه ، وهذا أحوط للمؤرخ .
(2) ولما أنه تتضح وجهة الكلام من علم موقعه ومحله وما ينطبق عليه جمع العلماء ما وصل إليهم من جماعة الصحابة الذين شاهدوا نزول القرآن من قولهم نزل كذا في كذا. أي هذا هو محل هذه الآية. وإذ قد اختلفت الروايات في هذا الباب اختلافا كثيرا أشكل على العلماء التوفيق بينها. وأكبر الإشكال أنه سبق إلى أكثر الظنون أن واقعة خاصة كانت علة لنـزول آية خاصة، ويضيق في ذلك نطاق التوفيق. فبعض الروايات تذكر أمرا وقع بمكة وبعضها يذكر ما وقع بالمدينة بعد زمان. فأزاح هذا الإشكال الإمام بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي الشافعي المتوفى 794هـ في كتابه: البرهان، فقال: "قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع".
فجلى بهذا البيان المحكم شبهات كثيرة نشأت من الظن بأن قولهم نزلت كذا في كذا نقل واقعة وشهادة حادثة لابد أن يقبلوا الرواية فيها. فتلقى العلماء هذا القول البين بالقبول وعولوا عليه عند اختلاف الروايات.

(3) كان في قول الزركشي كفاية للماهر، ولكن صاحب الإتقان أحب أن يفصل الأمر، فذكر سبعة وجوه لرفع الاختلاف في ذكر الأسباب . والآن نوردها، ثم نبحث عن مدار الأمر ومركزه:
(1) كونها من جنس الاستدلال، وهو ما قال الزركشي رحمه الله.
(2) ترجيح المصرح على المجمل. فإن الذي يصرح فعلمه أتم وأحفظ.
(3) ترجيح الأصح على الأضعف صحة.
(4) ترجيح ما كان راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيح، وهذا علته كما ذكرنا في الوجه الثاني.
(5) توفيق بين الأسباب بنـزول الآية عقيبها، وذلك حين يحتمل قرب الأزمنة.
(6) تعدد النـزول إذا تباعدت أوقات الواقعات.
(7) رد بعض الروايات إلى أن الراوي إنما سمع النبي أنه تلا وظن أنه نزل حينئذ.

وذكر صاحب الإتقان هذا الوجه السابع تحت تنبيه ولم يجعله وجها برأسه، لما أنه رحمه الله عول في ذلك على رواية ذكرت أنه تلا، ومثل هذه الرواية قليل جدا. ولا يخفى عليك أنه حينئذ يدخل في التصريح. وجعل آخر الوجوه تعدد النـزول، فإنه لبعده كما تعلم لا يصار إليه إلا بعد ما انسدت جميع الأبواب. فإن أمعنت النظر في الروايات كنت في مندوحة عن هذا أضعف الوجوه ورددته إلى وجوه أخر. والآن نذكر ما يدور عليه الأمر في هذا البحث.

(4) فاعلم أن صاحب الإتقان نظر في هذه المسألة من جهة رفع الاختلاف إذا وقع في روايات سبب النـزول. ولكن هذه المسألة في غاية الأهمية سواء وقع الاختلاف في سبب النـزول أم لم يقع، لأن بيده زمام التأويل. ومعنى القرآن لابد أن يكون مأخوذا من مآخذ مسلمة وإلا كيف يصح الاعتصام به وكيف تتفق كلمة الأمة في مدار أمرهم. ألا ترى الناس لم يختلفوا في شئ كاختلافهم في تأويل القرآن، أفليس هذا داءاً عظيماً. فإن كان داءا فماذا دواؤه؟ ولا أرى ذلك إلا شدة الاحتياط في ذلك، فليكن الاعتماد على أصلين:-
(أ) لا يعتمد إلا على رواية صحيحة.
(ب) يستخرج شأن النـزول من سياق الكلام ونظمه…

وإذ قد علمنا أن الروايات في هذا الباب أكثرها من جنس الاستدلال رددنا الأمر إلى هذين الأصلين سواء كان هناك اختلاف في الروايات أو لم يكن، وسواء كان في الباب رواية أو لم يكن. فإن قلت كيف بك حين تجد التصريح بواقعة مع بيان أن الآية نزلت حينئذ. قلنا إذا كانت الرواية ثابتة أخذنا بها، وهذا هو الأصل الأول وذلك لا يخالف الأصل الثاني أبدا. وعلى فرض خلافه للأصل الثاني فإن وجد فذلك ربما يؤول إلى ظن من سمع النبي يتلو الآية فظن نزولها في ذلك الوقت، لما أنه سمعها أول مرة. وذلك هو الوجه السابع الذي ذكره السيوطي رحمه الله وعول فيه على الرواية. ولكنك إن تأملت في أكثر الأمثلة علمت أنها منه وإن لم تصرح به رواية. وها أنا أورد بعض الأمثلة مما ذكره السيوطي رحمه الله تحت وجوه أخر، ونشير إلى كونها من باب ما يرفع فيه الاختلاف بالوجه السابع.

أنهم حاولوا رفع الاختلاف بين روايات تبين أسباب النـزول وإنّا نريد ان نرفع الاختلاف بينما يظهر من نظم القرآن وبينما روى في الاخبار ونريد أن نعتصم بنظم القرآن ونرد الرواية إليه لا نؤوّل القرآن إليها.
المثال الأول - قال السيوطي رحمه الله: "الحال الرابع أن يستوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات.
مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشى مع النبي بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لو سألتموه، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحى ثم قال:(قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلا) [سورة الإسراء /85].
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح فسألوه، فأنزل الله :(ويسألونك عن الروح) الآية.[سورة الإسراء /85]
فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة، والأول خلافه.
وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة. انتهى قول السيوطي رحمه الله.

فاعلم أن سورة بني إسرائيل مكية رواية وشهادة بينة من نفس آياتها، وإنما رأى ابن مسعود أن النبي قام ساعة وأطرق رأسه متذكراً لآية فيها جواب السائل، فإذا تذكر رفع رأسه وتلا الآية، فظن ابن مسعود أنه أوحى إليه.
وإن شئت قلت إن الله تعالى ذكره تلك الآية بالوحى. ولكن البحث في أن الآية هل نزلت أول مرة عند سؤال هؤلاء اليهود. فكون ابن مسعود حاضر القصة لم يزد شيئا خلاف ما روى عن ابن عباس.
ثم ليس في قول ابن عباس ما يدل على أنه علم بطريق السمع أن قريشا سألوا اليهود، بل أقرب الأمر أنه استنباط منه . فإن السورة مكية ولم يكن اليهود كثيرا في مكة بيد أنهم كانوا يحضرون موسم الحج وأن قريشا كانت تلاقيهم في تقلبهم في الشام واليمن. وكانت من عادة اليهود الولوع بما لا طائل تحته من المسائل الخارجة عن مدارك العلماء، كما صار ذلك من عادة المسلمين بعد خلاطهم بهم وبأمثالهم.
وأما قريش فكانوا أصحاب الأعمال النافعة لا الأقوال الفارغة. فظن ظنا صائبا ان قريشا أخذوا هذا السؤال عن اليهود.
ولا شك في أن النبي سئل به قبل نزول هذه السورة.
وأما أن هذه الآية نزلت حين ما سألوه فلا حجة على ذلك كما أنه لا حجة على أن السائل قريش أو اليهود، ولا حاجة إلى القطع بذلك. ولكن ترى أن تصريح ابن مسعود لا يرجح على استنباط ابن عباس لمحض كونه حاضر القصة.
ثم ههنا ليس الإسنادان على درجة واحدة من الصحة. وإذ ليس لتأويل الآية حاجة إلى تعيين السائل والوقت فأي داعية إلى الاشتغال به.

المثال الثاني قال السيوطي رحمه الله: "الحال السادس أن لا يمكن ذلك (أي نزول الآية عقيب الأسباب المختلفة إذا لم يكن بينها تباعد) فيحمل على تعدد النـزول.
مثاله ما أخرجه الشيخان عن المسيب، قال لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال: أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال هو على ملة عبد المطلب. فقال النبي لأستغفرن لك ما لم أنه عنه، فنـزلت :(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية [سورة التوبة/113] وأخرج الترمذي وحسنه عن على قال سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت تستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله فنـزلت.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال خرج النبي الوقت. ذكر السيوطي رحمه الله الأمر الأول فقال: "قد يكون في إحدى القصتين فتلاقيهم الراوي فيقول فنـزل. مثاله ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال مر يهودي بالنبي فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه فانزل الله:(وما قدروا الله حق قدره)[ سورة الزمر/67] والحديث في الصحيح بلفظ: "فتلا رسول الله " وهو الصواب، فإن الآية مكية".

وأما الأمر الثاني فهو أكثر مما يرى بادي الرأي ونذكر له مثالا. ذهب فيه السيوطي

وهذا الذي أثاره الفراهي في أول كلامه مخالف لما اعتاد عليه المـتأخرون في تعريف سبب النزول ، وقصره على ما نزل القرآن بشأنه وقت وقوعه خصوصاً ، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في رأي جمهورهم .
وهذا الكلام الذي أشار إليه الفراهي جدير بالنقاش والتأمل ، ولذلك طرحته هنا للمدراسة فيما بيننا لعلنا نصل إلى رأي علمي يطمئن إليه في التعريف الصحيح لسبب النزول .


ــــــــــــــــ
(1) لباب النقول في أسباب النزول ، والإتقان في علوم القرآن .
(2) من مذكرة له في أسباب النزول تجدها على موقعه الإلكتروني رحمه الله .
 
[ وهذا الذي أثاره الفراهي في أول كلامه مخالف لما اعتاد عليه المـتأخرون في تعريف سبب النزول ، وقصره على ما نزل القرآن بشأنه وقت وقوعه خصوصاً ، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في رأي جمهورهم .
وهذا الكلام الذي أشار إليه الفراهي جدير بالنقاش والتأمل ، ولذلك طرحته هنا للمدراسة فيما بيننا لعلنا نصل إلى رأي علمي يطمئن إليه في التعريف الصحيح لسبب النزول .]
 
أما كلام الفراهي - رحمه الله - فهو كلام مهم ، وهو كلام من عانى كلام السلف الكثير في ذلك الجانب ، والقضية عند السلف كان مدارها على الاتساع والتعبير بالنزول في كل ما يندرج تحت نطاق المعنى العام للآية سواء نزل قبل الآية أو بعدها ، وسواء كان مقصودا بها قصدا أوليا أو غير مقصود .
أما المتأخرون ( بتعبير الفراهي ) فقد حصل منهم نوع تضييق لهذا الاتساع كالشأن في كثير من مصطلحات العلوم المختلفة ، وهذا التضييق صادق على بعض تعبيرات السلف عن النزول وهو ما نزل بشأنه قرآن في واقعة حصلت في زمن النزول ، وهو إطلاق صحيح في ذاته ، لكن الإشكال كامن في جعل هذا المصطلح الضيق سيفا على الاستعمالات الأخرى للنزول الخارجة عن نطاقه ، بحيث تهدر كل تلك الأقوال الوارد فيها لفظ النزول مما لا يدخل في نطاق المتأخرين بدعوى أنها ضعيفة السند أو حصلت قبل الآية أو بعدها بزمن طويل ، وهذا الرد لها منتقد بكونها لا يشترط في مثلها صحة السند إذ هي من قبيل التفسير وبيان صدق معنى الآية على تلك الأحداث و لا علاقة لها من قريب أو بعيد بواقعة النزول ولا زمانه إلا اشتراكهما في المعنى العام أو الجزئي للآية
وقد ذكر ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير كلاما مهما نفيسا في هذا الجانب قريب مما ذكره الفراهي حيث قال ( وقد ينقل المتقدمون من المفسرين في مثل هذه المواضع أمثال هذه القصص والحوادث بغية استيعاب الآثار المناسبة الواردة حول تلك الآية ، أو لبيان ما يصدق عليه العموم اللفظي من المعاني ، وليس من الضروري ذكر هذه القصص والحوادث كأسباب النزول ؛ لأن فهم معنى الآية لا يتوقف عليها .
وقد تحقق لدى الفقير أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كثيرا ما يقولون : نزلت الآية في كذا ، ولا يكون غرضهم إلا تصوير ما تصدق عليه الآية من الأحداث والمعاني ، وذكر بعض القصص والوقائع التي تشملها الآية الكريمة لعموم لفظها ، سواء كانت القصة متقدمة على نزول الآية أو متأخرة عنها ، إسرائيلية كانت أو جاهلية أو إسلامية ، تنطبق على جميع قيود الآية أو بعضها .
وقد تبين من هنا أن للاجتهاد مدخلا في هذا القسم الثاني من أسباب النزول ، وأنه يتسع لإيراد القصص المتعددة ، فكل من يستحضر هذه النكتة ، يستطيع أن يعالج اختلافات أسباب النزول بأدنى نظرة وتأمل " الفوز الكبير في أصول التفسير لولي الله الدهلوي ص: 175: 176 .
وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة الجديرة بالبحث ولعل الله ييسر طرح مقالة خاصة به قريبا
 
وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة الجديرة بالبحث ولعل الله ييسر طرح مقالة خاصة به قريبا
بارك الله فيك يا أبا صفوت فقد أحسنت التعقيب . وهناك كلام قيم للدكتور محمد عبدالله دراز يوافق ما ذكره الفراهي، موجود في مقالاته التي طبعت مؤخراً لعلي أنقله يوماً هنا فهو يقوي ما ذهب إليه الفراهي رحمه الله .
 
جزاكم الله خيرا أجمعين.
وكتب الإمام الفراهي في غاية النفاسة، وفيها نظرات يحق لمن تأملها تذكر قول القائل: (كم ترك الأول للآخر) كما قال الدكتور محمد أجمل الإصلاحي في مقدمة تحقيقه لمفردات القرآن.

مما سبق نستفيد أيضا أن توسيع معنى الآية عند السلف هو من الموضوعات الجديرة بالنظر وتتبع الأمثلة، فقد كانت لهم -رحمهم الله- إطلاقات عديدة، وأمثلة متكاثرة تدل على توسعهم فيما يمكن إدخاله في معنى الآية وما تدل عليه.. والله أعلم.
 
في أثناء بحث الدكتوراه في تفسير القرآن بالقرآن، قرأت كثيراً من تفسير الفراهي: "نظام القرآن تأويل الفرقان بالفرقان" ووجدته من المحققين المدققين، صاحب نفس طويل في تحقيق اللفظ القرآني، وتجد لديه من الفوائد والوقفات لا تكاد أن تجدها في تفسير آخر، وتفسيره هذا مما يحتاج إلى دراسة من ناحية المنهج، والأسلوب الذي انتهجه فيه أسلوب فريد بين المفسرين، والحديث يطول عن هذا التفسير لعلي أفرده في مقال مستقل.
 
شكر الله لكم رفع هذا الموضوع للنقاش، وقد أثرت هذا التساؤل مسبقاً مع أساتذتي ولا شك أن كلام الفراهي يحل إشكالات عدة في علم أسباب النزول من هذه الإشكالات قول العلماء :(الصيغة المحتملة لسبب النزول (أنزلت في)والصيغة المؤكدة(فأنزل))وباستقراء روايات أسباب النزول نجد انه قد ترد روايتان صحيحتان بصيغة مؤكدة متباعدتان في الزمن مما دفع البعض بالقول بتعدد النزول وهو عبث ننزه الخالق عنه ،أو برد رواية صحيحة وهذا خلل،ولم يتبق لدينا إلا القول بأن الصحابة لم يفرقوا في الصيغة بين ما ما هو داخل في حكم الآية وبين سبب النزول ،مما يجعل التفريق بين تفسير الصحابي للآية بوقائع وأحداث زمانه وبين سبب النزول غير ممكناً إلا بملاحظة سياق الآيات وصيغة النصوص ولهذا جعل ابن دقيق العيد طريق معرفة سبب النزول عند الصحابة هو القرائن التي تحتف بالقضايا،بقي سؤال أخير دار في ذهني أثناء دراستي لعلم أسباب النزول ولم أتجرأ بطرحه حتى الآن هل هناك حقاً سبب نزول بالمعنى الاصطلاحي الحادث؟ولا شك أن كلام الفراهي فيه الإجابة على تساؤلي.
 
بقي سؤال أخير دار في ذهني أثناء دراستي لعلم أسباب النزول ولم أتجرأ بطرحه حتى الآن هل هناك حقاً سبب نزول بالمعنى الاصطلاحي الحادث؟ ولا شك أن كلام الفراهي فيه الإجابة على تساؤلي.
الأمثلة عليه كثيرة في القرآن ، ومنها الآيات التي نزلت بشأن قصة الإفك ، فهي نزلت لسبب مباشر وقت نزول الوحي ، وينطبق عليها تعريف السبب عند المتأخرين كالسيوطي . والآيات التي نزلت في قصة الثلاثة الذين خلفوا وغيرها من الأمثلة التي نزل الوحي بشأنها وقت نزول الوحي .
ولكن حديث الفراهي عن الآيات التي نزلت بشأن بعض القصص المتقدمة الوقوع عن نزول الوحي كالقصص المشهورة عند العرب قبل الوحي كقصة أصحاب الفيل ونحوها ، هل تدخل ضمن أسباب النزول أم لا . فهو يرى أنها تدخل لاتساع دلالة السبب اللغوية على هذه القصة ونحوها .
 
مستويات دراسة "أسباب النزول"

مستويات دراسة "أسباب النزول"

موضوع "سبب النزول" يحتاج إلى درس، على عدة مستويات:
- على مستوى تحرير مفهومه،
- وعلى مستوى تمحيص رواياته من حيث الأسانيد،
- وعلى مستوى دراسة متونه ومضامينه ومدى أثرها في توجيه معاني الآيات.
ولعل المستوى الثالث هو أكثرها تعقيدا، وهو للأسف لم يحظ باهتمام العلماء في دراستهم لأسباب النزول، وتفرضه اليوم بعض المواقف من أسباب النزول التي ضخمت من حجم هذه الأسباب، ومن طبيعة الموضوعات التي ارتبطت بها، فحصرتها في الأحكام، بغية الوصول إلى فكرة تاريخية القرآن الكريم، وارتباط أحكامه بوقائع تاريخية مضت.
ودراسة علاقة السبب بالنزول، أي الواقعة التاريخية بالنص القرآني، من جهة المضمون، له أهمية مرتبطة بفهم النص من جهة، إذ يعتبر السبب جزءا من السياق المقامي للنص، وهذا يعني أنه لا بد من وجود مؤشرات في النص نفسه على ما تشير إليه تلك الأسباب، كما له أهمية مرتبطة بفهم طبيعة أسباب النزول من جهة ثانية: ما الموضوعات التي تغلب عليها، وما تأثير ذلك في بيان أهمية هذا العلم وقيمته في التفسير ؟.
وتجدر الإشارة أن توسيع مفهوم سبب النزول بحسب رأي الفراهي يضاعف من الإشكالات المرتبطة به، بحيث تتسع دائرة الروايات المعدودة سببا، وتتنوع طرق تأويلها في علاقتها بالآيات، وهو ما يتطلب جهودا مضاعفة لدراسة هذه الأسباب...

فريدة زمرد
أستاذ التفسير وعلوم القرآن بدار الحديث الحسنية بالرباط
 
مرحباً بالدكتورة فريدة في ملتقى أهل التفسير مشاركةً ومفيدة بارك الله فيها .
أما تحرير مفهوم أسباب النزول فالأمر فيه قريب ، والخلاف فيه ليس كبيراً ، وغاية ما أثير - حسب علمي القاصر - هو ما أشار إليه الفراهي في هذا الموضوع وشاركه عددٌ من العلماء قبله وبعده في ضرورة توسيع مفهوم السببية في نزول القرآن لتشمل بعض الحوادث التي نزل القرآن بشأنها ولو تقدم وقوعها على النزول بمدة طويلة ، وقد تتبع زميلنا الدكتور خالد المزيني في بحثه (أسباب نزول القرآن في الكتب التسعة) فلم يعثر إلا على ست حالات من هذا النوع كان الحدث الذي تناولته الآيات قد وقع قبل البعثة النبوية . وهو العدد الذي يُراد توسيع تعريف سبب النزول ليشمله فالأمر في هذا قريب كما ترون ، ثم إن بعض أسباب النزول قديمة جديدة، مثل السؤال عن السعي بين الصفا والمروة ، فقد كان السؤال بعد الإسلام عن الحرج الذي يجده المسلمون في السعي بين الصفا والمروة مع وجود الأصنام في تلك المواضع وهو أمرٌ قديم فبل البعثة النبوية ، فلما جاء الإسلام جاء السؤال عن مشروعية هذا السعي مع وجود ذلك الحرج . فالقصة قديمة ، والسؤال جديد وقد يكون لهذا السبب نظائر .

وأمَّا دراسة هذه الأسباب من حيث الأسانيد فقد خُدمت هذه المسألة بدراسات جيدة ، مثل كتاب العلامة ابن حجر العسقلاني (العجاب في بيان الأسباب) ولم يتمه ، وقد أجاد فيه وأفاد ، ولو وفق لإكماله لكان مفيداً جداً للباحثين بعده ، وقد حاول الباحثون المعاصرون سد هذه الثغرة وقدموا في ذلك المفيد مثل ما قدمه الشيخ مقبل الوادعي في اقتصاره على الصحيح المسند من أسباب النزول ، وما قام به الهلالي وزميله في محاولة استيعاب الأسباب في كتاب والحكم على أحاديثه ، وما قام به الأخ ماهر الفحل في تحقيقه لكتاب أسباب النزول للواحدي ، ومثل دراسة الأخ خالد المزيني التي طعت باسم (المحرر في أسباب نزول القرآن في الكتب التسعة) وأكمل مشروعه الأخ الدكتور جلول سالمي بتتبع أسباب النزول في بقية كتب السنة والتفسير المسندة ، وعدد أسباب النزول محصور وليس كبيراً ، ومعظم آيات القرآن الكريم نزل ابتداءً دون أسباب نزول مباشرة .
وأما دراسة متونه ومضامينه ومدى أثرها في توجيه معاني الآيات فقد بذل الباحثان في دراستهما ما يشكران عليه ، ويبقى مجال القول ذا سعة أمام الباحثين في هذه المسألة لتفاوت الأنظار والعقول .
وفقكم الله لكل خير .
 
د. عبدالرحمن، أشكرك على هذه المعلومات، و لي اسفساران:
1) رسالة الشيخ جلول سالمي فيما أعلم غير مطبوعة إلى الآن، أو طبعت؟ في أية الجامعات تقدم بها الباحث؟
2) هل اقتصر الشيخ جلول سالمي على الأحاديث المرفوعة المتصلة أم تناول جميعَ ما ذُكر فيه أنه سبب النزول و إن كانت مقطوعةً مرسلةً؟ و يا حبذا لو أطلعتَنا على خطة بحثه!
 
موضوع "سبب النزول" يحتاج إلى درس، على عدة مستويات:
- على مستوى تحرير مفهومه،
- وعلى مستوى تمحيص رواياته من حيث الأسانيد،
- وعلى مستوى دراسة متونه ومضامينه ومدى أثرها في توجيه معاني الآيات.
الدكتورة فريدة جزاك الله خيراً وقد أصبت بأننا نحتاج إلى هذه المستويات الثلاثة من الدراسة ،لكن المشكلة أن الإشكالات في المستويات الثلاثة موجودة فعلى مستوى المفهوم بين مضيق وموسع ،وعلى مستوى تمحيص رواياته من حيث الأسانيد فمعلوم ان أسباب النزول ليست احاديثاً وإنما هي روايات تاريخية ولا يتشدد في أسانيدها مثل الأحاديث ،أما على مستوى دراسة المتون والمضامين ومدى أثرها في توجيه معاني الآيات ،فعلم نقد المتن في الحديث لا زال قاصراً ولم يرق لمستوى التفعيل ،وعليه ستبقى عملية نقد المتون وأثرها في توجيه المعاني قضية اجتهادية ظنية .
 
شكرا دكتور عبد الرحمن على تعليقك المفيد، وما ذكرته صحيح، والشكر موصول للأخت سهاد.
نعم تحتاج مرويات أسباب النزول إلى دراسة متونها لاعتبارات كثيرة، من بينها رد شبهة تاريخية القرآن الكريم، ولقد قمت بدراسة صغيرة في نموذج من مصادر أسباب النزول وهو كتاب الواحدي، حيث لاحظت من خلال أسباب النزول المتعلقة بسورة البقرة فقط، أن عدد الآيات التي نزلت لأسباب معينة تمثل نسبة 27.97 % من مجموع الآيات، وأن هذه الآيات الواردة لأسباب معينة تمثل فيها آيات الأحكام نسبة 28.75 % من مجموع الآيات، وباقي الآيات الأخرى موضوعاتها إخبارية. وهذا يشير إلى أن هذه الأسباب ترتبط في مجملها بجانب الأخبار أكثر من الأحكام، وهذا يحدد لنا ـ على وجه الإجمال ـ طبيعة أسباب النزول من حيث علاقتها بموضوعات القرآن، أما على وجه التفصيل، فإن يقتضي دراسة وصفية لكل ما جمع من روايات أسباب النزول، سواء في المؤلفات الخاصة بها، أو في كتب التفسير، ثم ـ بعد تمحيصها من حيث صحة السند ـ ينظر في موضوعاتها، وهذه العملية تحتاج إلى جهود متفرغة ...
 
السلام عليكم ورحمة الله
عدنا والعود أحمد بعد غياب طويل
أجيب الأخ أبا إبراهيم عن رسالتي
1/ هي لم تطبع
2/ هناك أخوان اثنان يكملان المشروع علة نفس المنهج
3/ لم أدرس إلا الروايات المرفوعة فقط، ولم تدخل معي مرويات التابعين إلا في الاستشهاد ونحوه
4/ سأرفع لا حقا إن شاء الله الخطة، بل حتى البحث، بل حتى المناقشة
والله أعلم
 
سؤال: هل يظهر الخط العثماني في الموقع؟

سؤال: هل يظهر الخط العثماني في الموقع؟

حاولت أرفع مقتطفات من رسالتي لكن خط المصحف يظهر مربعات في الموقع، فما الحل؟
 
طبعاً الونشريسي = د. جلول سالمي .
ليتك تتكرم بكتابة الاسم كاملاً في التوقيع وفقك الله حتى يعرف الإخوة القراء ذلك مستقبلاً .
بالنسبة للبحث يمكن جعله ملفاً مرفقاً .
 
فضيلة الشيخ الونشريسي جلول سالمي:
ما زلتُ أنتظرُ بفارغِ الصبرِ رسالتَكم في المرفقات، و شيئاً من أخبارِ الزميلين الكريمين المُكملين للمشروع المبارك!
 
شكر الله للدكتور عبدالرحمن إثارة هذا الموضوع المهم الذي يعود إلى مشكلة ( المصطلحات ) ، وشكر الله المداخلين معه الذين أثروا هذا النقاش.
وأقول: إن ملاحظة المعلم الفراهي رحمه الله وجيهة جدًا، ويبدو لي أن سبب المشكلة هو اصطلاح ( المتأخرين ) ، حيث اصطلحوا على لفظة ( أسباب، وسبب ) ، وهو مصطلح لا أذكر أنه استُخدم في طبقة الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهم المصدر الأول في التفسير وعلوم القرآن، بل كانوا يعبرون بألفاظ ( النزول ) دون ذكر كلمة ( سبب ) التي دخل الفراهي من خلالها للنقد والتقويم.
وعبارة ( النزول ) عند السلف بجميع تصرفاتها ( فنزلت، فأنزل الله ، نزلت في كذا ، نزلت في فلان ) قد يراد بها السبب المباشر، وقد يراد بها التفسير، بل قد يراد بها غير ذلك، ولا تعدو هذه العبارات أن تكون من القرائن الكبيرة في كونها تدل على سبب النزول من عدمه.
وقد أشرت إلى هذا في كتابي ( أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم / 1422) وكتابي ( شرح مقدمة في أصول التفسير / 1427).
وقد لفت انتباهي التعليق على الواحدي في كتابه أسباب النزول، وما مراده من هذا المصطلح؟
إذ قد وُجِّه إليه نقد في جعله بعض القصص القديم ضمن كتابه ( أسباب النزول) كما فعل في سورة الفيل، حيث أورد قصة حادثة الفيل.
وهذا التعليق يدعونا إلى إعادة النظر في مراد الواحدي بأسباب النزول، وأن لا نحكِّمه إلى غير مصطلحه.
تنبيه:
من مشكلاتنا ـ نحن المعاصرين ـ عدم التنبه لبعض ما يرد في كتب علوم القرآن المعاصرة، ونأخذها كأنها مسلمة مجمع عليها، ومن ذلك:
قول الزرقاني في مناهل العرفان:
((التعبير عن سبب النزول:
تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال: سبب نزول الآية كذا ، وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها)).
والقوم هم الصحابة على وجه الخصوص، ثم التابعون الناقلون عنهم، ثم أتباع التابعين الذين توقف نقل المفسرين الجامعين للمأثور عليهم، وقلَّما يتجاوزونهم إلى الطبقة التي تليهم.
والقوم لم يرد عنهم البتة هذه العبارة التي حكاها الزرقاني رحمه الله تعالى.
 
صدقتَ يا أبا عبد المالك! و قد أشار إلى هذا صاحب "المحرر في أسباب النزول" في مقدمة رسالته و أنه مع معايشته لهذا الموضوع لم يجد مثالاً واحداً تُثبت ما افترضه الزرقاني -رحمه الله تعالى- . فالتقرير لا بد له من الأمثلة.
و التنبيه الثاني الذي أشرتم إليه مهم أيضاً و هو أننا قد يستقر في أذهاننا مفهوم مصطلح معين فنريد أن نحاكم عليه كل ما لا يتناسب معه! و معرفة مصطلح المؤلف إنما يقوم على استقراء كتابه كاملاً.
أسأل الله تعالى أن يبارك في علمكم و مؤلفاتكم.
 
حياك الله د فريدة في الملتقى
وقد ذكرتِ ملاحظات في موضوع ( أسباب النزول)، وهي تحتاج إلى توضيحات أذكر منها :
قولك :
(ودراسة علاقة السبب بالنزول، أي الواقعة التاريخية بالنص القرآني، من جهة المضمون، له أهمية مرتبطة بفهم النص من جهة، إذ يعتبر السبب جزءا من السياق المقامي للنص، وهذا يعني أنه لا بد من وجود مؤشرات في النص نفسه على ما تشير إليه تلك الأسباب، كما له أهمية مرتبطة بفهم طبيعة أسباب النزول من جهة ثانية: ما الموضوعات التي تغلب عليها، وما تأثير ذلك في بيان أهمية هذا العلم وقيمته في التفسير ؟).
يمكن تقسيم هذا الأمر إلى ثلاثة أقسام:
الأول: النص الذي يتوقف فهمه على سبب النزول الصريح.
الثاني: النص الذي يكون له سبب نص صريح، لكن يمكن فهمه، وإن لم نعرف السبب ؛ كأول سورة الممتحنة :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)).
الثالث: النص الذي تذكر له أسباب نزول غير صريحة، وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون السبب غير الصريح فيه بيان للمعنى، أو فيه تقوية لمعنى من المعاني.
القسم الثاني: أن يكون السبب غير الصريح من باب الاستنباط، وليس من باب بيان المعاني، وتمييز هذا القسم سيفيد في الفكرة التي تطرحينها، ومن أهم أمثلتها ( تنزيل الآيات على الوقائع) ، وقد ينزلون الآية المتقدمة على حدث متأخر عنها كثيرًا، أو العكس، وهذا باب واسع عندهم.
وأما ما أشرت له في قولك: (وهذا يعني أنه لا بد من وجود مؤشرات في النص نفسه على ما تشير إليه تلك الأسباب )، فقد اعتنى الدكتور خالد المزيني بهذا الجانب أثناء دراسته المفيدة، وجعل هذا أحد المرجحات.
والموضوع فيه قضايا كثيرة، ولعله يتيسر متابعة المباحثة فيها.
 
سلام الله عليك دكتور مساعد ورحمة منه وبركات،
ما قصدتُه بقولي: (وهذا يعني أنه لا بد من وجود مؤشرات في النص نفسه على ما تشير إليه تلك الأسباب ) يدخل ضمن دراسة أسباب النزول من جهة علاقة السبب بمعنى الآية ولفظها، سواء كان السبب صريحا أو غير صريح، وما قام به د. المزيني في هذا الباب مهم، وتبقى الحاجة إلى مزيد من العناية بهذا الموضوع، أي بالقيمة الدلالية لسبب النزول بوصفه أحد مكونات السياق المتحكم في معنى الآية، ولعل من فروع هذا الموضوع: بيان حقيقة قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وإلى أي حد هي دقيقة بالنسبة للمفسر، وأقول المفسر وليس الأصولي ...وللحديث بقية إن شاء الله عز وجل.
وفقكم الله
 
جزى الله خيرا فضيلة الدكتور عبد الرحمن حفظه الله ورعاه على اهتمامه بالكتاب المذكور، وفي رأيي المتواضع أن النقاش يجب أن يركز أكثر على المقال التالي للفراهي في موضوع أسباب النزول:

فاعلم أن صاحب الإتقان نظر في هذه المسألة من جهة رفع الاختلاف إذا وقع في روايات سبب النـزول. ولكن هذه المسألة في غاية الأهمية سواء وقع الاختلاف في سبب النـزول أم لم يقع، لأن بيده زمام التأويل. ومعنى القرآن لابد أن يكون مأخوذا من مآخذ مسلمة وإلا كيف يصح الاعتصام به وكيف تتفق كلمة الأمة في مدار أمرهم. ألا ترى الناس لم يختلفوا في شئ كاختلافهم في تأويل القرآن، أفليس هذا داءاً عظيماً. فإن كان داءا فماذا دواؤه؟ ولا أرى ذلك إلا شدة الاحتياط في ذلك، فليكن الاعتماد على أصلين:-
(أ) لا يعتمد إلا على رواية صحيحة.
(ب) يستخرج شأن النـزول من سياق الكلام ونظمه…

وإذ قد علمنا أن الروايات في هذا الباب أكثرها من جنس الاستدلال رددنا الأمر إلى هذين الأصلين سواء كان هناك اختلاف في الروايات أو لم يكن، وسواء كان في الباب رواية أو لم يكن. فإن قلت كيف بك حين تجد التصريح بواقعة مع بيان أن الآية نزلت حينئذ. قلنا إذا كانت الرواية ثابتة أخذنا بها، وهذا هو الأصل الأول وذلك لا يخالف الأصل الثاني أبدا. وعلى فرض خلافه للأصل الثاني فإن وجد فذلك ربما يؤول إلى ظن من سمع النبي يتلو الآية فظن نزولها في ذلك الوقت، لما أنه سمعها أول مرة. وذلك هو الوجه السابع الذي ذكره السيوطي رحمه الله وعول فيه على الرواية. ولكنك إن تأملت في أكثر الأمثلة علمت أنها منه وإن لم تصرح به رواية. وها أنا أورد بعض الأمثلة مما ذكره السيوطي رحمه الله تحت وجوه أخر، ونشير إلى كونها من باب ما يرفع فيه الاختلاف بالوجه السابع.
إنهم حاولوا رفع الاختلاف بين روايات تبين أسباب النـزول وإنّا نريد ان نرفع الاختلاف بينما يظهر من نظم القرآن وبينما روي في الاخبار ونريد أن نعتصم بنظم القرآن ونرد الرواية إليه لا نؤوّل القرآن إليها.
 
يرفع مجددا للمدارسة من طرف المتخصص و الباحث و القارئ.

سؤالات:
هل يجب إعادة النظر في مفهوم (السبب) عند علماء التفسير و "علوم القرآن" إن نحن قمنا بمحاولة الكشف عن العلاقة بين المباحث القرآنية الثلاثة: تثبيت الفؤاد (نزول منجم) و أسباب النزول و النسخ؟

ألا نفهم من تثبيت الفؤاد انه لا معنى لتقسيم نزول القرآن إلى قسم نزل ابتدا من غير ""سبب"" و قسم نزل عقب حدث فعلي/فكري؟.
 
جزاكم الله خيراً و نفع الله بكم
هل من الممكن أن نعتبر الآيات التي نزلت في العادات الجاهليه التي كانت سائده في العصر الجاهلي من وأد البنات و الخمر و عبادة الأوثان و بنزولها إرتفعت هذه العادات سبب نزول ؟!
أعلم أنَّ الطرح قديم و لكنني أرجو أن أجد جواباً لديكم نفع الله بكم و زآدكم علماً ..
 
للمناقشة وإحياء الموضوع:
هل من الممكن أن نعتبر الآيات التي نزلت في العادات الجاهليه التي كانت سائده في العصر الجاهلي من وأد البنات و الخمر و عبادة الأوثان و بنزولها إرتفعت هذه العادات سبب نزول ؟!
أظن أن القول بالسببية في نزول آيات القرآن قول خطير جدا، ولا يعقل تجويزها إلا بإجتهاد علمي محقق في فهم النص من داخله، وليس من خارجه بالنصوص الثانوية من آحاديث وآثار (ونستثني التفسير النبوي إن وجد أي الحديث النبوي الصحيح الذي فيه تنصيص على السببية)، وهكذا يمكن أن تقول أن سبب نزول {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} هو السؤال: {يسألونك عن الخمر والميسر} فهذا السؤال من نفس الآية وليس من روايات .. بل حتى هذه لا تخلو من إشكالات، وبالتالي أرى أن السؤال الأصح هو: ما سبب ورود {قل} في الآية، وليس لماذا نزلت هذه الآية. ولهذا أفضّل حصر "السبب" في اللفظ دون المعنى، أما في المعنى فنبحث عن مناسبات / ملابسات النزول، أو ما يسمى أحيانا بـ "شأن النزول" (في الدراسات القرآنية الشيعية مثلا)، والمناسبة ضرورية بدليل قوله تعالى {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} ولا يمكن تعقّل اللامعقول، وما المعقول؟ الوعي يربط بين مجموعة من المناسبات الذهنية والواقعية؛ هذا هو. والمناسبة القرآنية لا تختلف لكن قد تتعدد، وبالمثال: نحن نقرأ {يسألونك عن الخمر والميسر. قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} ولو كنا نقرأ (في الخمر والميسر إثم كبير ومنافع للناس) لما اختلفت المناسبة.

أنظر هذا الموضوع: http://vb.tafsir.net/tafsir8975/#.WHJ1hn0Qtdg
 
عودة
أعلى