ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
كلمة عن محمد أسد :
محمد أسد (1900- 1992م) صحفى نمساوى يهودى وُلِد بإقليم من أقاليم بولندا كان تابعا آنذاك للإمبراطورية النمساوية، وكان يسمى ليوبولد فايس. ثم دخل فى الإسلام سنة 1926م بعد أن رحل إلى الجزيرة العربية أيام الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى شبه القارة الهندية حيث توثقت بينه وبين العلامة إقبال عُرَى الصداقة، وظل يساعد فى إذكاء نهضة الإسلام فى تلك البلاد إلى أن انفصلت الباكستان عنها فانتقل إلى الإقامة فى الدولة المسلمة الجديدة واكتسب جنسيتها وأصبح مندوبها الدائم فى الأمم المتحدة حتى عام 1953م.
وقد تزوج أسد ثلاث مرات: أُولاها بإلزا، التى أسلمت معه ولكنها لم تُعَمَّر طويلا، فاقترن بامرأة عربية رُزِق منها ابنه الوحيد طلال الأستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية ثم انفصل عنها، وأخيرا تزوج بولا حميدة الأمريكية التى أسلمت هى أيضا.
كما ترك أسد عدة كتب تُرْجِم بعضها إلى العربية: "الطريق إلى مكة"، و"الإسلام فى مفترق الطرق"، و"منهاج الحكم فى الإسلام"، وبعضها الآخر لم يترجم بعـــد إلى لغــة الضاد حسب علمى، وهى ترجمته الإنجليزيــة للفرآن الكريم، واسمهــا: "The Message of the Quran"، وترجمته لقسم من "صحيح البخارى" بعنوان "Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam"، وبقية سيرته الذاتية، وعنوانها: "Coming Home of the Heart" ...إلخ.
والذين يعرفون أسد فى العالم العربى إنما يعرفونه فى الغالب من خلال كتبه المترجمة إلى العربية، وهذه الكتب ليس فيها تقريبا ما يمكن الاختلاف معه بسببه، لكن الأمر يختلف بالنسبة لترجمته للقرآن، وإلى حد ما بالنسبة لترجمته لـ"صحيح البخارى"، إذ نراه فى الأولى مثلا ينكر معجزات الأنبياء ويُجَوِّز عليهم الوقوع فى الأخطاء والخطايا، مثلهم فى ذلك مثل أى شخص آخر، كما يؤوّل الجن والشياطين والملائكة ونعيم الجنة وعذاب النار تأويلا رمزيا، فضلا عن أن له فى مجال الفقه آراء غريبة ليس من السهل هضمها أبدا، وهو ما يجهله قراؤه العرب وما يبدو الإسلام معه شيئا آخر غير الذى نعرف.
وكل ما أرجوه ألا أكون قد ظلمت الرجل أو أسأت إليه، فلقد كنت شديد الانبهار بقصة إسلامه وكتاباته المترجمة إلى لغتنا، إلى أن اطَّلَعْتُ على ترجمته للقرآن الكريم ووجدت فيها تلك الآراء الغريبة فخفَّ انبهارى وحَلَّتْ محلَّه نظرة نقدية تريد وضع الأمور فى نصابها الصحيح مبتغية بذلك وجه الله وحده، وهو نعم المولى ونعم النصير! وسوف أبدأ بدراسة هذه الترجمة لأنها تتضمن آراء أسد التى لا يعرفها جمهور قرائه العرب، وستكون أولى خطواتنا فى هذه الدراسة هى تناول الناحية الفنية فى الترجمة، أما آراء كاتبنا الغريبة فيجدها القارئ فى هوامش هذه الترجمة، وسوف نتعرض لها لاحقا بعد الانتهاء من الناحية الفنية.
 
ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم

ترجمة أسد للقرآن الكريم

صدرت ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم كاملة إلى اللغة الإنجليزية عام 1980م (عن دار الأندلس بجبل طارق)، وكانت قد ظهرت طبعةٌ محدودةٌ لجزءٍ منها يضم السُّوَر التسع الأولى فقط قبل ذلك بستة عشر عاما. وهذه الترجمة الكاملة تقع فى ألف صفحة من الصفحات الكبار، ويشغل الجزءَ العلوىَّ من كل صفحةٍ فيها النصُّ القرآنىُّ العربىُّ فى الناحية اليمنى، وترجمتُه الإنجليزية على اليسار، أما الجزء السفلى فيضم الهوامش التفسيرية والتعليقات الفنية الخاصة بعملية الترجمة...إلخ. وفى بداية كل سورة يطالع القارئ تمهيدا يتحدث عن تاريخ نزولها والموضوعات التى تتعرض لها وما إلى ذلك.
ولاشك أن ترجمةً مثل هذه تحتاج إلى دراسة علمية مفصَّلة تليق بها وبصاحبها، ولست أعلم أحدا نهض بهذا العبء قبلا. وكنت قد رأيت نسخة من هذا الكتاب لأول مرة فى لندن عام 1982م فى إحدى المكتبات التى تبيع الكتب العربية والإسلامية، ثم وجدت نسخة أخرى فى مكتبة كلية التربية بالطائف عام 1991م واستعنت بها فى كتابى عن سورة "الرعد". ثم لما عدت إلى مصر شرعت أبحث عنها فعثرت على نسخة فى مكتبة جامعة القاهرة صوَّرْتُها وأنا فى ذروة الانشراح، وهذه الصورة كانت أحد مراجعى فى دراستى لسورة "المائدة" التى خالفتُ فيها أسد فى بعض ما قاله عن عقوبة الحرابة. وهأنذا أجد فى الدوحة نسخة رابعة سهل لى استعارتها الأستاذ أحمد الصِّدّيق الشاعر الإسلامى المعروف وخطيب المسجد المجاور للدارة التى أسكنها فى منطقة الدحيل الجديد. وكان للدكتور حسن على دَبَا، وهو صديق مصرى يعمل فى الصحافة القطرية، دور كبير فى تسريع وصولها إلىَّ، فلكليهما أجزل الشكر على هذه اليد الكريمة.
وقد لاحظتُ أن أسد، على طول ترجمته كلها، لم يُسَمِّ قطّ ربَّ العزة باسم "الله" مُؤْثِرًا استعمال كلمة "God"، ولا أدرى السر فى ذلك[1]. إن كلمة "الله" اسمُ عَلَم، وأسماء الأعلام لا تتغير فى الترجمة، بل تبقى على حالها كما هو معروف. وإذا كان سافارى وجاك بيرك مثلا فى ترجمتيهما للقرآن إلى اللغة الفرنسية قد صنعا مثل هذا فمن السهل أن يفسَّر ذلك بأنه كراهية منهما لهذا الاسم الكريم الذى يُعْرَف به المولى فى دين محمد، لكن ماذا عن أسد، الذى ترك دينه وأسماء الإله فيه إلى الإسلام وإلهه؟ ترى لماذا تخلى بتلك البساطة عن هذه الخصوصية الإسلامية الجميلة؟
كذلك كنت أوثر لو استعمل أسد النطق العربى لأسماء الأنبياء اتباعا لطريقة القرآن، ولا يكتبها كما يكتبها الإنجليز (هكذا: Noah, David, Aaron, Moses, Ishmael, Abraham, Zachariah, Jonas, Elijah, Solomon, John, Jesus)، إذ المقصود بترجمة القرآن، فيما أفهم، هو نقل القارئ الأجنبى إلى جو القرآن بقدر الإمكان لا لَىّ القرآن ليتماشى مع الجو الثقافى، والدينى منه بالذات، لذلك القارئ. وفى الهامش أو بين قوسين، إن كان لابد من ذلك، مندوحة للمترجم بذكر الاسم الذى يألفه من تَرْجَم لهم، فنجمع بذلك بين الحسنيين. ولابد من القول مع ذلك إن ترجمة الأستاذ أسد لا تنفرد بهذا الذى أخذتُه عليها من بين الترجمات التى قام بها مسلمون، لكن أملى الكبير فيه هو الذى بعثنى على قول ما قلت[2].
وبالمثل نراه يترجم "الهجرة" فى الأغلبية الساحقة من المرات بـ "Exodus"، وهى الكلمة التى ارتبطت بتاريخ اليهود وخروجهم جميعا دفعة واحدة من مصر[3]. لقد تحولت اللفظة العربية إلى اسم علم تقريبا، بل لقد دخلت اللغات الأوربية كما هى دون تغيير مع كتابة حرفها الأول "H" بالحجم الكبير دلالة على أنها تعامَل فى تلك اللغات أيضًا معاملة الأعلام. وقد انسلخ كاتبنا، كما قلت، عن يهوديته، فلماذا يهجر الكلمة العربية المسلمة إلى تلك اللفظة الأجنبية ذات الإيحاءات اليهودية؟ وقد سبق أن انتقدتُ بيرك لنفس السبب فى كتابى الذى وقفتُه على دراسة ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، وأحسب أن الأستاذ محمد أسد أولى بالعتب من بيرك لأنه مسلم، أما بيرك فلا. ومما ترجم به كاتبنا مصطلح "الهجرة" أيضا كلمة "Flight: الفرار"، وهى ترجمة خاطئة، بل لا أتجنى عليه إذا قلت إنها مسيئة فى حق الرسول عليه السلام. إن من المقبول أن يقول مترجمنا مثلا فى خروج موسى عليه السلام من مصر، بعد وَكْزه المصرىَّ وقضائه عليه، إنه "فرار"[4] لأن القرآن نفسه يقول على لسان ذلك الرسول فى حديثه إلى فرعون بعد أن عاد إلى أرض الكنانة محملا برسالة السماء: "ففَرَرْتُ منكم لمّا خِفْتُكم"[5]. وفوق ذلك فإن هذا الفرار إنما كان قبل بعثته، ولذلك لم يعقّب الله سبحانه على تصرفه هذا بشىء، على عكس الحال فى قصة يونس عليه السلام حين "أَبَقَ" من قومه ضِيقًا بعنادهم وتصلبهم فى الكفر، فركب سفينة ورست عليه القرعة فألقى بنفسه فى البحر ليبتلعه الحوت ويقاسى فى بطنه الأهوال إلى أن كتب الله له الفرج، أما تسمية الهجرة المحمدية "فرارا" فلا معنى لها، بل هى خطأٌ صراحٌ وإساءةٌ لا تصح. وإذا كان بعض المستشرقين غير المسلمين يستعملون هذه اللفظة لقد كان أقمن بأسد اختطاط سبيل أخرى. وعنده متسع عريض فى كلمة "Hegira"، التى دخلت قاموس اللغة الإنجليزية وأصبحت جزءا لا يتجزأ من تلك اللغة كما أوضحت. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يهاجر من مكة إلا بإذن الله، فكيف تسمَّى هجرته "فرارا"؟ ثم إن أسد نفسه يقول إن لفظة "الهجرة" هى من الألفاظ ذات الإيحاءات الروحية، فكيف طاوعته نفسه إذن لترجمتها بـ"الفرار" منزلا إياها من السماء السابعة إلى الأرض؟
وقد ترجم كاتبنا أيضا عبارة "من خِلاف" فى قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض"[6]،وكذلك فى قوله على لسان فرعون يهدد سَحَرته بعد أن انقلبوا عليه وآمنوا بموسى: "فلأُقَطِّعَنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلاف"[7] بـ"(because of your perversness) of perversness in result"، أى بسبب الخلاف والإفساد، مخالفا بذلك ما قاله علماء المسلمين من أن المقصود هو قطع اليد اليمنى والقدم اليسرى، أى من جهتين مختلفتين.
والحق أن من الصعب جدا موافقة الأستاذ أسد على هذه الترجمة، إذ من غير المعقول أن يفهم، وهو الأجنبى وبعد كل هاتيك القرون، تعبيرا عربيا قديما أفضل مما فهمه كل المفسرين والفقهاء المسلمين تقريبا. وأيضا من الصعب جدا أن تكون عبارة "من خِلاف" إشارة إلى علة تقطيع أيدى هؤلاء وأولئك وأرجلهم، لأن تلك العلة قد نُصَّ عليها قبل ذلك فى كل الآيات المذكورة: ففى آيات "المائدة" نقرأ فى أولها: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا..."، فالعلة إذن هى محاربة الله ورسوله والسعى فى الأرض فسادا، فلماذا يعاد النص على تلك العلة بعد ذلك، وعلى هذا النحو الغامض، بعبارة "من خلاف"؟ أما فى الآية الخاصة بفرعون فإننا نسمعه يقول للسحرة: "آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم؟ إن هذا لَمَكْرٌ مكرتموه فى المدينة لتُخْرِجوا منها أهلها". وواضح أنه يشير إلى العلة التى أوجبت فى نظره تقطيع أيديهم وأرجلهم وتصليبهم فى جذوع النخل. كذلك فلو كانت عبارة "من خلاف" تشير إلى سبب التعذيب فلماذا لم تُذْكَر إلا عقب الصنف الأول منه فقط ولم تؤخَّر إلى ما بعد الفراغ من ذكر كل ألوانه ما دامت هى علة هذه الضروب العقابية جميعا؟ ثم إننا لم نسمع باستخدام هذا التعبير فى المعنى المذكور، ولو كان هناك شاهد من النصوص القديمة عليه فلماذا لم يسقه الأستاذ أسد؟ الواقع أن الذوق العربى لا يرتاح إلى هذا الاستعمال، وأغلب الظن أن الأستاذ أسد قد اعتسف هذا التفسير أوّلاً فى سورة "المائدة" ليَخْلُص منه إلى إلغاء عقوبة الحرابة على ما سوف يأتى بيانه فى فصل لاحق، ثم اضْطُرّ أن يقول به فى آية فرعون والسَّحَرة حتى لا يناقض نفسه. هذا هو تفسيرى للمسألة، والله أعلم.
ومن الألفاظ القرآنية التى يتصرف أسد فى ترجمتها تصرفا واسعا يطمس مفهومها طمسا لفظ "الأعراف". وهذا اللفظ يشير إلى مفهوم قرآنى خاص، فكان ينبغى من ثَمَّ أن يبقى كما هو، ويشرحه أسد فى الهامش على النحو الذى يفهمه، فيجمع بذلك بين وفاء الترجمة للأصل وشرح هذا الأصل بما يعتقد أنه هو المعنى الصحيح. لقد ترجم كاتبنا لفظ "الأعراف" بما يعنى أنه "القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما"، ومن ثم فقوله تعالى: "وعلى الأعراف رجال يعرفون كُلاًّ (أى كُلاًّ من أهل الجنة وأهل النار) بسيماهم" قد صار فى الترجمة الإنجليزية هكذا: "… they who [in life] were endowed with the faculty of discernment [between right and wrong]: أولئك الذين كانوا فى الدنيا يتمتعون بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطإ"، وهو ما يعنى أنه لا "أعراف" فى الآخرة كما يُفْهَم من النص القرآنى. فكيف كان ذلك؟
يوضح أسد الأمر فى الهامش بقوله إن "كلمة "الأعراف" (التى أعطت السورةَ اسمها) قد تكررت فى القرآن مرتين ليس إلا، وذلك فى الآيتين 46 و 48 من هذه السورة. وهى جمع "عُرْف"، التى تعنى فى الأصل "المعرفة" أو "الاستبصار"، كما تستعمل للدلالة على أعلى أو أسمى جزء فى الشىء (لأنه أسهل جزء يمكن رؤيته) مثل "عُرْف الديك" و"عُرْف الحصان"...إلخ. وعلى أساس من هذا الاستعمال الشائع فإن كثيرا من المفسرين قد حسبوا أن "الأعراف" هنا تشير إلى "الأماكن المرتفعة" مثل أعالى جدار أو سور، ومن ثم ربطوا بينه وبين "الحجاب" المذكور فى الجملة السابقة (جملة "وبينهما (أى بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب"). لكن هناك تفسيرا أصوب من ذلك يعتمد على المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" وجمعها، ألا وهو الاستبصار والتمييز أو القدرة عليهما. وقد أخذ بهذا التفسير بعض كبار المفسرين القدماء كالحسن البصرى والزَّجّاج، اللذين يوافقهما الرازى على ما قالاه موافقة صريحة، واللذين يؤكدان أن عبارة "على الأعراف" ترادف قولنا: "على معرفة"، أى أصحاب علم أو ذوو مقدرة على التمييز (بين الحق والباطل)، ومن ثم فالرجال الذين على الأعراف هم الذين كانوا فى دنياهم قادرين على إبصار الحق من الباطل (متعرفين على كل منهما بعلامته المميزة له)، لكنهم فى ذات الوقت لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقف محدد منهما، أى كانوا باختصار أشخاصا غير مبالين. وهذا الموقف الفاتر قد حرمهم من عملِ الكثير من الخير أو الشر بحيث أدى ذلك فى النهاية إلى ما تقوله الآية التالية من أنهم لا يستحقون الجنة ولا النار (وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى أوردها الطبرى وابن كثير فى تفسيرهما لهذه الآية). هذا، ويُقْصَد بكلمة "رجال" فى الآيتين المذكورتين "الأشخاص" من الجنسين: جنس الرجل وجنس المرأة على السواء"[8].
وواضح أن أسد ينطلق من أن المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" هو "المعرفة" وأن دلالتها على أعلى جزء فى الشىء هى دلالة فرعية، لكنه بهذه الطريقة يقلب رأسا على عقب ما نعرفه من أن المعنى المادى للكلمة هو الأساس الذى تتفرع منه المعانى المجردة. وإذن فهذا المعنى الأخير الذى ذكره أسد على أنه المعنى الفرعى هو فى الواقع المعنى الأصلى لا العكس. وثانيا هل يمكن فى العربية أن نقول إن فلانا "على الأعراف" ونحن نقصد أنه على معرفة واسعة وقدرة على التفرقة بين الصواب والخطإ؟ الذى أعرف أننا نقول مثلا: "فلان على معرفة بكذا"، لكن الذى لم أسمع به قط هو القول بأن فلانا "على عُرْف" (أى على معرفة)، بَلْهَ أن نقول" "فلان على أعراف"، فضلا عن "فلان على الأعراف" (بالألف واللام)! ترى هل يصح أن نقول "فلان على المعارف"؟ فما بالنا بـ"على الأعراف"؟ وثالثا فإن الزمن فى قوله تعالى: "وعلى الأعراف..." هو نفس الزمن الذى ينظر فيه هؤلاء الرجال إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، أى فى الآخرة، أما الأستاذ أسد فيقول إنهم "كانوا" يتمتعون "فى الدنيا" بالمقدرة على التمييز بين الحق والباطل. وهذا غير ذلك كما هو واضح. ثم إن العرب إذا وصفوا شخصا بالتمييز بين الحق والباطل فإنهم يقصدون مدحه لا القول بأنه فاتر فى موقفه تجاههما مما يدخل فى باب الذم لا المدح. وهذه هى الملاحظة الرابعة، أما الخامسة فهى أن أصحاب الموقف الفاتر فى هذا الأمر هم عادةً الأشخاص الذين لا يتمتعون بمقدرة على المقاومة ولا يستطيعون، من ثَمَّ، الصمود أمام إغراءات الشهوات والأباطيل. أليس هذا هو ما نشاهده فى الحياة؟ وعلى ذلك كان ينبغى أن يكون مكان هؤلاء مع أهل النار. وسادسا لقد تحدث القرآن كثيرا عن الكافرين الذين يصرون على كفرهم رغم علمهم أنهم على الباطل، وأن النبى والقرآن على الحق، ومع ذلك لم يستعمل كلمة "الأعراف" فى أى موضع من هذه المواضع، بل يستعمل عادةً كلمة "يعرفون" أو "يعلمون". وعلى أية حال لقد كان ينبغى على محمد أسد أن يترجم هذه العبارة ترجمة مباشرة، ثم فليقل فى الهامش ما يشاء، وذلك احتراما للنص القرآنى وحفاظا عليه بدلا من تَحَيُّفه وطمسه قليلا قليلا، مع إسقاط تصوراتنا ومفاهيمنا عليه فى ذات الوقت. إن النص القرآنى شىء، وفهمه وتفسيره شىء آخر. وإن مكان التفسير فى مثل هذه القضية هو الهامش الذى سيُحْسَب حينئذ على المترجم لا على القرآن نفسه.
ومما ينبغى ذكره هنا فى سياق ترجمة الألفاظ والعبارات القرآنية ترجمة كاتبنا لـ"النَّسِىء" الوارد فى قوله تعالى: "إنما النسىء زيادة فى الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا. يُحِلّونه عامًا ويحرِّمونه عامًا ليواطئوا عِدَّة ما حرَّم الله فيُحِلّوا ما حرَّم الله" بـ"the intercalation of months"، بمعنى "إضافة بعض الشهور" ليظل عدد أيام السنة القمرية مساويا لعدد أيام نظيرتها الشمسية، إذ كانوا (كما يقول) يزيدون شهرا فى السنة الثالثة والسادسة والثامنة كل ثمانى سنوات. ويمضى أسد قائلا إن المسلمين لو كانوا جَرَوْا على هذه الطريقة الجاهلية لجاء الصوم والحج دائما فى نفس الموعد من السنة الشمسية كل عام، وفى هذه الحالة يكون أداؤهما إما بالغ السهولة أو شديد الصعوبة عليهم حسب الفصل الذى سيقعان فيه بهذه الطريقة.
والواقع أن هذا أحد معنيى "النَّسِىء" كما ورد فى المعاجم العربية مثل "لسان العرب" و "تاج العروس"، أما معناه الآخر فنَقْل حرمة أحد الشهور الحُرُم (وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم) إلى شهر آخر. ذلك أن العرب كانوا، إذا تقاتلوا وأتى عليهم شهرٌ من تلك الأشهر الحُرُم وأرادوا أن يستمروا فى القتال ولا يتوقفوا طبقا لما تقضى به حرمة تلك الأشهر، ينقلون تلك الحرمة إلى شهر آخر غير محرَّم بعد انتهاء الحرب. فالأستاذ أسد، كما نرى، قد ذكر أحد معنيى "النسىء" وترك المعنى الآخر، وهو المعنى الذى أرى أنه هو الأنسب للسياق. فالآية تتحدث عن "الأشهر الحُرُم" لا عن الحج ولا عن الصيام، وتذكر تحليل النسىء عاما وتحريمه عاما، ولا تشير إلى زيادة أيامٍ كل عام حتى تتوافق السنة القمرية والسنة الشمسية، وتقول إن غاية العرب من ذلك هو مواطأة عِدّة ما حرَّم الله، أى جَعْل الفترة التى يمتنعون فيها عن القتال أربعة أشهر دون أن تكون بالضرورة هى رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم. وليكن المعنى الذى أدار محمد أسد ترجمته عليه بعد ذلك هو المعنى الصحيح، أفلم يكن ينبغى أن يتعرض للمعنى الآخر فى الهامش حتى يعطى القارئ فرصة للاختيار؟ ذلك أنه لا يفسر بل يترجم، وما دامت الآية تحتمل معنيين لقد كان عليه أن يذكر المعنى الثانى فى الهامش ويخرج بذلك من العهدة. أيًّا ما يكن الأمر فقد رأيتُ عددا من المترجمين يترجمون "النسىء" كما ترجمه أسد، ويبدو لى أنه قد تأثر بهم. وقد رددتُ على بعضهم فى كتابى "المستشرقون والقرآن".
ويُبْعِد الأستاذ محمد أسد النُّجْعة فى بَيْداء الظنون والتخمينات فى ترجمته لـ"كذلك" فى قوله سبحانه وتعالى عن رحلة ذى القرنين تجاه المشرق: "حتى إذا بلغ مَطْلِع الشمس وجدها تَطْلُع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِتْرا* كذلك، وقد أحطنا بما لديه خُبْرا"[9] بـ"thus [we had made them and thus he left them]"، ومعناه بالعربية: "كذلك جعلناهم، وكذلك تركهم ذو القرنين"، ويقصد (كما قال فى الهامش) أن ذا القرنين لم يشأ أن يتدخل فى أسلوب حياتهم البدائية الطبيعية فى العيش عراةً حتى لا يسبب لهم الشقاء، إذ هم لا يحتاجون إلى أى نوع من الملابس.
إن ثمة عددا من الأسئلة لا بد من الجواب عليها قبل أن يُقْدِم أىٌّ منا على ترجمة الآية الكريمة: السؤال الأول: هل هناك دليل (أىّ دليل) على أن المقصود بعدم وجود ستر بين أولئك القوم وبين الشمس أنهم كانوا عُرَاة؟ ألا يمكن أن يكون المقصود مثلا أن الجو عندهم ضاحٍ طَوال النهار؟ أو أنهم من أهل الصحراء المنبسطة حيث لا شجر ولا واقٍٍ طبيعى من حرارة الشمس؟ والسؤال الثانى هو: حتى لو كان الأمر فى "الستر" هو ما قاله أسد، فما الدليل على أن كلمة "كذلك" تعنى ما جاء فى ترجمته؟ وثالثا: كيف لا يهتم ذو القرنين، وهو (كما يلُوح بوضوح من الآيات المجيدة) من الحكام الصالحين المؤمنين بالله سبحانه، بأن يخرجهم من حالة العُرْى ويعلِّمهم كرامة الاستتار؟ إن الله سبحانه قد منَّ على عباده بأنه أنزل عليهم لباسا يوارى سوءاتهم وريشا، وهو ما يدل على أن ستر العورات وارتداء الملابس امتثالٌ لمشيئة الله وتقبّلٌ لنعمته الكريمة، فكيف يقول أسد إن ذا القرنين قد آثر تركهم على ما هم عليه من عُرْىٍ وبدائية؟ بل إن آدم وحواء ما إن أكلا من الشجرة المحرمة وبدت لهما سوءاتهما حتى طفِقا يَخْصِفان على عوراتهما من ورق الجنة رغم أنه لم يكن هناك أحد غيرهما، فما بالنا بعُرْى الدنيا الذى يكون عُرْضَة لأنظار الآخرين؟ وفوق ذلك فإنه سبحانه قد نسب نَزْع الملابس عن أبوينا الأولين إلى الشيطان نفسه بما يبرهن أقوى برهان على قبح ذلك وشنعه عند رب العالمين. إن هذا الموقف الذى ينسبه أسد إلى ذى القرنين لهو أشبه بما كان يفعله المستعمرون الأوربيون مع همج القارة الأفريقية، إذ كانوا يجهدون فى إبقائهم فيما هم فيه من جهل وبدائية وتخلف كى يستطيعوا نزح ثروات القارة السوداء دون حسيب أو رقيب.
وثمة أيضا لفظةٌ قد ترجمها الأستاذ أسد بطريقة لا يمكننى هضمها أو إقراره عليها، وهى تأديته الحرفين الأولين (ط. هـ) فى مفتتح سورة "طه" بـ "O man: يا رجل" رغم أنه أحد المعانى التى يذكرها مفسرو القرآن قائلين إن هذا هو معنى "طه" فى النبطية والسريانية وغيرهما. بل إنه قد ترجم اسم السورة بنفس الطريقة أيضا، فأصبحت تعرف عنده بـ "سورة يا رجل"[10].
ولقد سبق فى كتابى: "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة"، فى فصل "ملاحظات فى تفسير السورة"، أن رفضتُ رفضا قاطعا أى تفسير لهذه الكلمة لا يقول إنها حرفان من الحروف المقطَّعة مثل "ألم" و"ألمص" و"طس" و"حم" و"ق". ويجد القارئ هناك بسطا لرأيى وللآراء التى رددتُ عليها. والذى يهمنا هنا هو القول بأن تفسيرها بـ "يا رجل" هو قول غريب عجيب فيه إساءة للنبى عليه السلام، إذ لم يحدث أن ناداه ربه سبحانه بغير النبوة والرسالة: "يا أيها النبى"، "يا أيها الرسول" أو بصفةٍ تدل على حالة خاصة به: "يا أيها المُزَّمِّل"، "يا أيها المُدَّثِّر". فالقول إذن إنه سبحانه قد ناداه هنا بكلمةٍ عامةٍ تصدق على كل البشر هو قول لا يتسق مع الطريقة التى ينادى بها المولى فى القرآن عبده محمدا. ولنلاحظ أيضا أن أسلوب النداء: "يا أيها الـ..." المستعمل فى جميع المرات التى نودى فيها الرسول عليه الصلاة والسلام لا وجود له فى "طه"، فلماذا يشذ القرآن الكريم هنا عن أسلوبه فى مناداة الرسول؟ بل لماذا يا ترى يلجأ إلى النبطية والسريانية فى نداء محمد العربى القرشى؟ أهو ضيق فى اللغة استلزم استعارة هذا اللفظ؟ أم هل هو نوع من استعراض المعرفة باللغات الأخرى؟ حاشا لله! أم ترى من المعقول أن ينادى رب العالمين رسوله الأثير بما يضيق صدر الواحد منا، نحن الذين لا نرتفع إلى عشر معشار مقامه عليه السلام، لو نُودِىَ به لما يراه فيه بحقٍّ من تجهيل واحتقار؟ إن بعضهم يظن أن ورود "كاف الخطاب" فى كلمة "عليك" فى الآية التالية: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" معناه أنه لابد أن تكون "طه" نداء للرسول. لكن ما وجه اللزوم فى ذلك؟ إن هذه الكاف موجودة أيضا فى قوله سبحانه: "ألمص* كتابٌ أُنْزِل إليك ..."، و "كهيعص* ذِكْرُ رحمة ربك عبدَه زكريا"، و "حم* عسق* كذلك يُوحِى إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيزُ الحكيم" وغيرها، فلماذا لم يقل هؤلاء إن الحروف فى هذه المواضع هى أيضا نداء للرسول؟ لكل هذا أرفض بكل قوة أن يكون معنى "طه" هو "يا رجل"!
ومن الألفاظ التى لا أوافق الآستاذ أسد أيضا على ترجمتها كلمة "زُرْقًا" فى قوله عَزَّ مِنْ قائل عن يوم القيامة: "ونَحْشُر المجرمين يؤمئذ زُرْقًا"، إذ يؤديها بالإنجليزية على النحو التالى: "their eyes dimmed [by terror]"، ثم يوضح فى الهامش قائلا إن المعنى الحرفى هو: "[of eye] bleu"، وإن المقصود هو أن أعينهم ستبدو كما لو كانت مغطاة بغشاوة معتمة زرقاء. وواضح أنه يصر على أن الزرقة هنا هى زرقة العيون، مع أنه ليس فى الآية ولا فى السياق ما يدل على هذا أو يُلْمِح إليه مجرد إلماح. وأَرْجَح الرأى أن تكون الزرقة هنا هى زرقة الاختناق والمعاناة الرهيبة التى سيقاسيها المجرمون يوم يُنْفَخ فى الصور. وقريب من ذلك ما جاء فى الآية 106 من "آل عمران": "يوم تبيضُّ وجوهٌ، وتسودُّ وجوه"، وكذلك الآيات 38-42من سورة "عبس": "وجوهٌ يومئذ مُسْفِرة * ضاحكة مستبشرة* ووجوهٌ يومئذ عليها غَبَرَة* ترهقها قَتَرَة* أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة". ولقد شاهدتُ منذ أكثر من عشرين عاما فى أوكسفورد طفلا أصابته حالة اختناق وهو يبكى من الغضب فارتمى على الأرض يرفس الهواء من شدة بُرَحاء الألم وقد ارْبَدَّ وجهه وازْرَقّ، ووقفنا حياله عاجزين لا نستطيع شيئا، وتصورنا أنه سيموت، لكن سرعان ما انجابت الغاشية وعاد إلى حالته الطبيعية فتنفسنا الصُّعَداء ورُدَّتْ لنا أرواحنا. فهذا، فيما أفهم، هو الازرقاق المذكور فى الآية الكريمة، والله أعلم!
وبالمناسبة فقد جاء فى الترجمة الإنجليزية القاديانية التى حررها غلام ملك فريد أن زرقة العيـون هنا إنما تشـير إلى أن هـؤلاء المجرمين هم أمم الغرب النصرانية، وكأن المجرمين يوم القيامة سيكونون كلهم من الأوربيين والأستراليين والأمريكان فقط، فلا مجرمين أفارقة أو آسيويين أو من أمريكا الجنوبية، وكأن الغربيين كلهم أيضا سيدخلون النار، وكأن الغربيين كلهم كذلك أصحاب عيون زرقاء، فليس منهم من هو أخضر العينين أو أسودهما مثلا. أما لماذا انصرف ذهن هذين المترجمين إلى زرقة العيون فسببه أن ذلك هو المذكور فى كتب التفسير، التى تقول إن العرب تتشاءم بصاحب العيون الزرقاء. لكن ينبغى أن نعرف أن أذواق العرب وأوهامهم شىء، وحقائق الدار الآخرة شىء آخر.
أما ترجمة كلمة "أيام" فى "خَلَق السماوات والأرض فى ستة أيام" فتحتاج إلى وقفة خاصة. إن أسد يترجمها بـ "aeons"، أى حِقَب، وهى فى حدود علمى ترجمة جديدة. لكن الإنسان يتساءل: ما السبب يا ترى فى أنه لم يَجْرِ على هذه الخُطّة فى ترجمة كلمة "يوم" فى قوله تعالى: "فى يومٍ كان مقداره ألف سنة مما تَعُدّون" أو "فى يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة"[11]، التى يستخدم إزاءها كلمة "day" رغم أن اليوم هنا أيضا ليس هو اليوم العادى الذى نعرفه على سطح الكرة الأرضية، بل حقبة متطاولة كما هو واضح، وهى الحجة التى استند إليها فى ترجمة لفظة "يوم" فى عبارة "ستة أيام"؟ وبالمثل نراه يترجمها فى عبارة "يوم الحساب" و "يوم الدين" بـ"day"، فلماذا هذه التفرقة غير المفهومة؟ إن هذه نقطة منهجية كان ينبغى أن تحظى من محمد أسد باهتمام أكبر.
كذلك لاحظت أنه أحيانا ما يضيف إلى الترجمة كلمة أو أكثر بين معقوفتين لتوضيح النص. وفى بعض المواضع قد تستدعى الحاجة فعلا هذه الإضافة، لكن فى بعض المواضع الأخرى لا يستطيع الإنسان أن يبصر مثل تلك الحاجة، بل قد تكون الإضافة ذات خطورة على النص كما فى ترجمته لقوله تعالى من سورة "الأحزاب": "النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم"، الذى أضاف إليه فى الترجمة عبارة "فهو أبوهم" قبل جملة "وأزواجه أمهاتهم". وهو يسوّغ هذا الصنيع العجيب فى الهامش قائلا إنه اعتمد فى ذلك على ما يُرْوَى من أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون هذا أثناء قراءتهم على سبيل شرح الآية. لكنى، رغم ذلك، أرى أن هذا خطأ صراح لا سبيل إلى التهوين منه، إذ إن علاقة زوجاته صلى الله عليه وسلم بأتباعه غير علاقته هو بهم، فقد حرم القرآن أن ينكحوا أزواجه من بعده، أما هو فكان يحل له أن يتزوج من نسائهم كما هو مبين فى نفس السورة. ثم إن الله سبحانه يقول فى السورة ذاتها: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم"، فكيف نأتى نحن ونقول إن محمدا لم يكن أبًا لواحد فقط من المسلمين بل أباهم كلهم أجمعين؟ أوَبَعْدَ قول الله قول؟
أما فى عبارة "رب المشارق" فى سورة "الصافات" فإنه يذهب خطوة أبعد، إذ لا يضع ما أضافه من كلمات بين معقوفتين، وهو ما يوهم القارئ الذى لا علم له بالنص القرآنى أن هذا هو ما يقوله القرآن فعلا وليس تفسيرا له من لدن المترجم. وهذا هو ما قاله مترجمنا:"The sustainer of all the points of sunrise"، أى رب مشارق الشمس كلها. لكن من ذا الذى يستطيع أن يقول إن "المشارق" هنا مقصورة على مشارق الشمس وحدها؟ إن نجوم السماء لا أول لها ولا آخر، حتى ليُضْرَب بها المثل فيما يستحيل عَدُّه، ولكل نجم مشرقه ومغربه، وهذا هو الأحجى أن يكون تفسير العبارة القرآنية بدلا من حصرها فى الشمس وحدها دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك. وبمثل هذا أرى أنه ينبغى تفسير عبارة "رب المشرقين ورب المغربين" أى رب مشرقى الشمس والقمر ومغربيهما، بدلا من "رب أبعد مشرقين ومغربين للشمس" حسبما جاء فى ترجمة أسد[12].
أما فى ترجمة جملة "وهو فى الخصام غير مبين" من قوله تعالى عن بعض الآباء فى الجاهلية ممن كانوا يئدون بناتهم الرضيعات: "وإذا بُشِّر أحدهم بما ضَرَب للرحمن مَثَلاً ظلَّ وجهه مسودًّا وهو كظيم* أَوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْيَة وهو فى الخصام غير مُبِين؟" يخطىء أسد خطأ من نوع آخر، إذ يظن أن الكلام فى جملة "وهو فى الخصام غير مبين" مقصود به الأب الذى بُشِّر بالبنت. وأغلب الظن أنه لما رأى أن الضمير المستعمل فى الآية هو ضمير المذكَّر انصرف ذهنه إلى الأب لا إلى البنت، التى وُصِفَتْ فى الجملة التى قبل ذلك بـ"من يُنَشَّأ فى الحلية". وإذا صح تفسيرى لقد كان ينبغى أن يتنبه الأستاذ أسد إلى أن الضمير هنا أيضا هو ضمير مذكر رغم استعماله للبنت. ووجه تذكيره أنه يعود على الاسم الموصول المبهم "مَنْ"، الذى أنت معه بالخيار: فإما أن تذكِّر الضميرَ العائد عليه دائما، وإما أن تطابق بينه وبين ما يدل عليه. فأنت تستطيع أن تقول: "رأيت، من النساء، من أُحِبّه" أو "رأيت،من النساء، من أُحِبّها". أما لو استخدمت كلمة "التى" فلابد من المطابقة فتقول: "رأيت، من النساء، التى أُحِبّها".
إذن فقوله تعالى: "أوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْية وهو فى الخصام غير مُبِين؟" هو كله جملة استفهامية واحدة لا جملتان: إحداهما استفهامية على لسان الأب الساخط، والثانية خبرية داخلة فى السَّرْد كما حسب الأستاذ أسد، الذى فهم هذه الجملة الأخيرة على أن المقصود بها الإشارة إلى الصراع المحتدم فى نفس الأب: أيُبْقِى على حياة ابنته أم يئدها؟ فهذا الصراع، فى ظن المترجم، هو الخصام المذكور فى الآية، أما "غير مبين" فمعناها أنه صراع داخلى لا ينطق به لسان، ومن ثَمَّ فقد ترجم هذه الجملة على النحو التالى: "ومن هنا يجد نفسه وقد مزقه صراع داخلى خفى". والواقع أنها ترجمةٌ جِدُّ غريبة لا يقبلها الذوق العربى ولا الأسلوب القرآنى، الذى استعمل مادة "خ ص م" سبع عشرة مرة لم تأت قط فى أى منها بالمعنى الذى فهمه الأستاذ أسد، بل كلها فى الخصام بين شخصين أو جماعتين لا فى الصراع الباطنى بين رغبات الشخص المتعارضة. وحتى لو أردنا، رغم ذلك كله، أن نستخدم كلمة "خصام" فى هذا المعنى لكان علينا أن نقول: "فلان فى خصام مع نفسه" مثلا بزيادة عبارة "مع نفسه".
وفى قوله جل شأنه عن قوم لوط: "لِنُرْسِلَ عليهم حجارةً من طين* مسوَّمةً عند ربك للمسرفين" يترجم كاتبنا عبارة "حجارة من طين" إلى ما معناه: "ضرباتُ عقابٍ شديدةٌ كالحجارة". ولست أستطيع أن أجد مسوغا لهذا الذى فعله الأستاذ أسد! لقد لاحظت، كما سأوضح فى فصل لاحق، أنه دائما ما يؤوّل عذاب الآخرة ونعيمها، وهذا أمر قد يحتمل الخلاف، أما تأويل مثل هذا العذاب الدنيوى فما وجهه؟ إن حجة القائلين بتأويل الأخرويات هى أنها، بنص القرآن والحديث، شىء مختلف عما نعرفه فى الدنيا، لكن ماذا عن الأحداث الدنيوية؟ إنها وقائع تاريخية لا تقبل التأويل. ومثل هذا التصرف من شأنه أن يزعزع النص القرآنى. فالمرجوّ أن نحترمه، وفى الهوامش متسع لما نريد أن نقول، وذلك بدلا من تثبيت النص المقدس إلى الأبد على فهمنا الذى من المحتمل جدا أن يكون خاطئا، بل هو هنا خطأ بيقين. ثم فلنفترض أن ترجمة الأستاذ أسد صحيحة، فأى عقاب يا ترى ذلك الذى يشبه فى شدته الحجارة والذى أرسله الله على قوم لوط؟ ترى أيصح أن نترك مثل هذا التعبير القرآنى المشمس ونذهب فنضرب فى ظلمات الأوهام الغامضة؟ لقد ذكر أسد فى موضع آخر من ترجمته أن هذه الحجارة الطينية تشير إلى وقوع انفجار بركانى، لكنه للأسف ترك هذا التفسير وجرى وراء الربط بين كلمة "سِجِّيل" (فى قوله تعالى عن نفس الواقعة: "حجارة مِنْ سِجِّيل منضود") وكلمة "سِجِلّ"، وانتهى إلى تلك الترجمة الغربية هنا وفى الآية 82 من سورة "هود". فهو عقاب، لكنه ليس عقابا بالحجارة بل عقابا فى شدة الحجارة، أما "من سجِّيل" فمعناها "مسجلة فى لوح القدر: Pre-ordained"، وتبقى كلمة "منضود" التى جعلها صفة لضربات العقاب، ولا أدرى كيف، فهى مذكر، والضربات (أو فلنقل: "الحجارة") مؤنثة. وهذه هى عبارته فى نصها الإنجليزى: "and rained down upon them stone-hard blows of chastisement pre- ordained, one upon another". وهكذا تمزقت أوصال الآية بلا رحمة أو داع.
ومن ترجمات أسد الغربية التى يصعب جدا إقراره عليها أيضا ترجمته لكلمة "النجم" فى قوله سبحانه: "والنجم إذا هَوَى* ما ضَلَّ صاحبُكم وما غَوَى" بـ"قطعة الوحى الإلهى" على أساس أن القرآن نزل منجَّما، أى على دفعاتٍ، لا جملةً واحدة. ولكن فاته أن القرآن لا يستخدم أيا من "النجم" أو "هَوَى" فى الحديث عن نفسه: فكلمة "النجم" فيه إنما تدل على نجم السماء، اللهم إلا فى موضع واحد يحتمل أن يكون المقصود بها نجم النبات. أما بالنسبة لمجىء الوحى من السماء فيستعمل له فعل من مادة "ن ز ل" لا الفعل "هَوَى".
وأشد غرابة من الترجمة السابقة تأديته لقوله تعالى فى وصف سَقَر: "لوّاحةٌ للبشر" بما معناه أنها "تُلِيح للبشر (أى تُرِيهم) الحقيقة كلها". يقصد (كما وضَّح فى الهامش) أنها تجعلهم يبصرون أخيرا الحقيقة التى لم يكونوا يقرّون بها فى الدنيا وتريهم خطاياهم وشرورهم ومسؤولياتهم عن معاناتهم وآلامهم فى الحجيم، مخالفا بذلك المفسرين كلهم تقريبا، الذين يقولون إن المقصود هو أنها تسفع وجوه الكافرين وتغير شكلهم. وتعليقنا على ذلك أن من معانى الفعل "لاح": "غيَّر وأضمر" كما فى قولنا: "لاح العطشُ أو السفرُ أو الحزنُ فلانا"، ومن ثم فكلمة "لوّاحة" هى صيغة مبالغة من هذا الفعل، الذى ليس من معانيه "أرى فلانٌ فلانًا كذا أو كذا". وحتى لو قلنا إن هذا أحد معانيه، فأين المفعول الثانى لكلمة "لوَّاحة" فى الآية؟
ومما يخطىء فيه أسد كذلك، بل وينفرد بالخطإ فيه، حرف "الواو" فى قوله عز شأنه: "كلا والقمر* والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر"، "والصافّات صَفًّا"، "والذاريات ذَرْوا"، "والطُّور* وكتابٍ مسطور"، "والمرسَلات عُرْفا"...إلخ، إذ يترجمه بمعنى "تأمَّلْ واعتبِرْ". ولا أدرى على أى أساس فعل ذلك، إذ لم يقل بهذا أحد من المفسرين أو علماء النحو أو أصحاب المعاجم. إنه يسويها بقولهم فى الإنجليزية على سبيل التعجب: "by God"، مع أن الأمرين مختلفان. فمن الواضح أن "الواو" فى هذه المواضع وأشباهها للقسم لا للتعجب، والمُقْسَم به موجود بعد "إنّ". ونجتزئ هنا بشاهدين على ما نقول: "والذاريات ذَرْوا* فالحاملات وِقْرا* فالجاريات يُسْرا* فالمقسِّمات أمرا* إنّ ما توعَدون لصادق* وإنّ الدين لواقع"، "كلا والقمر* والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكُبَر* نذيرا للبشر". بل إن القرآن نفسه يصرح بأن هذا قَسَم، إذ جاء فى سورة "الفجر": "والفجر* وليالٍٍ عَشْر* والشفع والوَتْر* والليل إذا يَسْر* هل فى ذلك قَسَمٌ لِذِى حِجْر؟"، ولقد تكرر قسم القرآن بالظواهر الكونية وعناصر الطبيعة بلفظ القسم الصريح أكثر من مرة، مثل: "فلا أُقْسِم بالخُنَّس* الجَوَارِ الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفس* إنه لقول رسول كريم"، "فلا أُقْسِم بالشفَق* والليل وما وسَق* والقمر إذا اتسق* لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عن طبق"، فماذا يبغى الأستاذ أسد أكثر من هذا؟
وهذه النزعة إلى الانفراد بالآراء الغريبة لدى محمد أسد هى المسؤولة أيضا عن تنكُّبه لترجمة "الكواعب الأتراب" فى سورة "النبأ" بالناهدات الصدور المناظرات لأزواجهن فى السن كما تقول كتب التفسير وكما يقول الأسلوب العربى، وتَرْجَمَتها بدلا من ذلك بـ"splendid compagnons well matched: أصحابًا رائعين متوافقين". وهو يوضح السر فى هذه الترجمة العجيبة قائلا إن متع الجنة التى يمثل الكواعبُ الأترابُ لونا من ألوانها ليست حقيقية، إذ لا نساء فى الفردوس، ومن ثَمَّ فـ"الكواعب" هنا هم الأقران البارزون (لأن الفعل "كَعَبَ" يدل على البروز بإطلاق لا بروز النهدين فحسب)، و"الأتراب" هم الذين يكون بينهم وبين أصحابهم توافق وانسجام"[13].
ورأيى أن هذه كلها حجج داحضة: فأولا لو افترضنا أنه ليس هناك نساء فى الفردوس فعلا كما يقول المترجم، فإن هذا لا يسوِّغ ترجمة الآية بالطريقة التى فسرها بها، بل كان ينبغى أن يترجمها كما جاءت، وليقل فى الهامش إن هذا مجاز، وإن المقصود بالإشارة إلى النساء فى الآية هو كذا وكذا. فإن نساء الجنة فى هذه النقطة لا يختلفن فى شىء عن لبنها وعسلها وخمرها وشجرها وأنهارها...إلخ، فسواء قلنا إن فى الجنة عسلا ولبنا مثلا كعسلنا ولبننا، أو عسلا ولبنا من نوع آخر يليق بالآخرة وخلودها، أو قلنا إنهما رمزان لمتع أخرى لا يمكن التعبير عن حقيقتها بلغتنا البشرية، فالواجب فى كل هذه الحالات الإبقاء على ذِكْر اللبن والعسل، ثم إن فى الهامش مندوحة نستغلها فى توضيح رأينا كما نشاء. وقد فعل الكاتب نفسه ذلك مع "الحدائق والأعناب والكأس الدِّهَاق" فى هذه السورة نفسها، فلم لم يتبع هذه الخطة مع "الكواعب الأتراب"؟ وثانيا فإن كلمة "أتراب" فى كل من المرتين الأُخْرَيَيْن اللتين وردتا فى القرآن كانت وصفا لنساء الجنة، فلم تشذ عن ذلك هنا؟ وهاتان هما الآيتان المذكورتان: "وعندهم (أى عند المتقين فى جنات عدن) قاصرات الطرف أتراب" (ص/ 52)، "فجعلناهن (أى نساء الجنة) أبكارا* عُرُبًا أترابا* لأصحاب اليمين" (الواقعة/ 36- 38). وبالمناسبة فقد عمل محمد أسد هنا فى ترجمة "قاصرات الطرف الأتراب" و"الأبكار العُرُب الأتراب" ما اقترحته قبل قليل فى ترجمة صفات نساء الجنة، فلم هذه التفرقة التى لا مسوغ لها؟
يبدو، والله أعلم، أن صيغة جمع المؤنث السالم فى النص الأول من هذين النصين، وضمير جماعة النسوة فى النص الثانى هما اللذان منعاه من التمحل كما فعل مع "الكواعب الأتراب". فما رأيه إذا قلنا له إن كلمة "كواعب" من حيث صيغتها لا تحتمل أيضا إلا أن تكون للنساء، ومن ثم لا تصلح أن يكون معناها "الأصحاب أو الأقران" كما يريد منا الأستاذ أسد أن نفهمها؟ ذلك أن صيغة جمع التكسير "فواعل" لا تستعمل للعقلاء الذكور (إلا فى "فوارس" و "سوابق"، اللتين شذتا عن القاعدة). ثم إن "التِّرْب" هو المساوى فى السن لا المتوافق المنسجم مع رفيقه كما جاء فى ترجمة أسد.

--- الحواشي ----
[1] وهو نفسه ما فعله قبلا فى ترجمته "صحيح البخارى" إلى اللغة الإنجليزية.
[2] بعد كتابة هذا الكلام وقعتْ فى يدى ترجمة القرآن الإنجليزية التى قام بها م. شاكر فوجدته قد صنع ما اقترحتُه هنا من كتابة أسماء الأنبياء حسب النطق القرآنى لها، فرأيت أن أنوه بذلك إعجابا وابتهاجا، كما وجدت الترجمة الإنجليزية لـ"تفسير ماجدى"، الذى وضعه مولانا عبد الماجد دريابادى، تفعل نفس الشىء . أما محمد محسن خان ومحمد تقى الدين الهلالى فلم يكتفيا فى ترجمتهما بكتابة أسماء الأنبياء حسب النطق العربى، بل شفعا كل واحد منها بكتابته حسب النطق الإنجليزى بين قوسين.
[3] وفى بعض المرات القليلة جدا استخدم كلمة "هجرة"، وأقل منها استخدامه كلمة "Emigration". أما فى ترجمته لـ"صحيح البخارى"، التى صدرت فى كتابٍ سنة 1938م، فقد استخدم الكلمة الأولى وكلمة "Migration"، كما استخدم لاسم الفاعل كلمة "Muhajir" (The Early Years of Islam, Dar al- Andalus, - Sahih al- Bukhari (Gibraltar, 1981, PP. 4, 19, 104, 105, 112, 113, 144, 184, 230, 231, 237...etc.
[4] ص 471/ هـ 7، وص 561/ هـ 10.
[5] انظر الآيات 139- 148 من سورة "الصافات". ويجد القارئ كلمة "أَبَقَ" فى الآية 140 منها.
[6] المائدة / 23.
[7] الأعراف/ 124، وطه/ 71، والشعراء/ 49.
[8] ص 210/ هـ 37.
[9] الكهف / 90- 91 .
[10] انظر ص 470 فى عنوان السورة، ومقدمة ترجمتها، وهـ1.
[11] ص 633 فى ترجمة الآية 5 من سورة "السجدة"، وص 892 فى ترجمة الآية 3 من سورة "المعارج".
[12] ص 825 فى ترجمة الآية 17 من سورة "المزمل".
[13] ص 924 فى ترجمة الآية 33 من "الواقعة"، وهـ 16. وللأسف فهذا هو التصور النصرانى، وهو تصور قائم على ظاهر ما ورد فى إنجيل متى منسوبا إلى السيد المسيح من أنهم فى القيامة "لا يزوّجون ولا يتزوجون" (إنجيل متى/ 22/30).
 
موقفه من مسألة عصمة الأنبياء

موقفه من مسألة عصمة الأنبياء

ومن القضايا ذات الأهمية الشديدة التى تناولها أسد فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بشريةُ الرسل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشَاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم بشرا. هكذا تكلم التاريخ، أما إذا قال أصحاب بعض الأديان إن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبه به، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله. كما أن القرآن قد كرر القول مرارا بأن الرسل والأنبياء كانوا جميعا بشرا من البشر، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون وينجبون ويَغْشَوْن الأسواق، ثم فى النهاية يموتون. إذن فلا خلاف مع محمد أسد فى هذا البتة، إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائما ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل والأنبياء منطلقا للقول بأنهم، أيضا مثل سائر البشر، معرضون للخطإ كلما سنحت الفرصة. ويبدو لى بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم مثل أى إنسان آخر.
فعلى سبيل المثال يقول، عند تعليقه على قوله تعالى: "وما أرسلنا مِنْ قَبْلِك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى أَلْقَى الشيطانُ فى أمنيّته، فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياتِه، والله عزيز حكيم"، إن إلقاء الشيطان فى أمنيّة النبى والرسول معناه ألا يكون هدفهما الأخذ بيد أمتهما فى معراج الرقى الروحى، بل إحراز القوة والتأثير الشخصى. ثم يمضى فيستشهد بقوله عز من قائل: "وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا شياطينَ الإنس والجن"[14]دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه. أتُراه يريد أن يقول إن للشياطين من إنس وجن تأثيرا على الرسل والأنبياء حتى إنهم ليَحْرِفونهم عن مسارهم الذى حددته لهم السماء إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكن أىُّ نبى أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه فى القوة والنفوذ الشخصى فوق الغاية النبيلة التى انتدبه لها رب العزة والجلال؟ ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا، وليس فيه شىء من ذلك على الإطلاق، أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها فهذا ليس برهانا على صحة هذه الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرحة تجريحا شديدا حسبما ذكر القرآن فى أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التى تناولتها، سواء تلك التى قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم. وعلى أية حال فالذى يهمنا فى هذا المجال هو القرآن لأنه هو الذى يستند إليه أسد فى تقرير ما قال.
وفى كلمته التمهيدية التى يقدم بها لسورة "القصص" يقول إن "معظم قصة موسى فى تلك السورة تصور الجانب البشرى الخالص فى حياته، أو بتعبير آخر تصور الدوافع وألوان الحيرة والأخطاء التى تشكل جزءا من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازا رغبة منه فى مقاومة أى ميل عند المتدينين إلى عَزْو أية صفات شبه إلهية إلى أحد من رسل الله". وبعد قليل يعقِّب على اقتتال المصرى والإسرائيلى وتدخّل موسى عليه السلام ووَكْزه للمصرى الوكزةَ التى قضت عليه دون قصد منه، فيقول إن "الآيتين 16-17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلى لا المصرى هو المخطئ. والظاهر أن موسى قد تقدم لمساعدة الإسرائيلى بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطإ فى هذه القضية، وإن كان قد تبين له أنه اجترح إثما فظيعا، لا بقتله إنسانا بريئا فقط رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفه كذلك على أساس من التحيز العنصرى"[15].
وفى أحد الهوامش التى خصصها للتعليق على قصة يونس عليه السلام وإبَِاقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذانا صاغية، نراه يختم كلامه بقوله إن الهدف من هذه القصة فى القرآن هو تفهيمنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفا" كما جاء فى سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أى من ألوان الضعف المركوزة فى الفطرة البشرية. وهو ما يعنى بوضوح أنهم عليهم السلام يمكن أن يرتكبوا أى شىء مما يقع فيه البشر هانَ أو عَظُم. وقد كرر المعنى ذاته فى تفسيره لقوله جل جلاله مخاطبا نبيه محمدا عليه السلام: "ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر"، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى فى معراج الخُلُق وكان حميد السجايا فإنه عرضة للوقوع فى الخطإ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طرْفٍ خفىٍّ إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله سبحانه[16].
وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بصدد الحديث عن الخَصْمين اللذين تسوَّرا المحراب على داود عليه السلام وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التى لا يملك سواها كى يضمها إلى قطيعه المكوَّن من تسع وتسعين نعجة...إلخ، إذ تساءل قائلا: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن هؤلاء العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائدة العسكرى أوريا ورسم خطة للتخلص منه لكى يخلو له وجه الزوجه، إذ أمر بأن يوضع فى مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وعندئذ تزوج داود المرأة وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا فى ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكارا شديدا. ومن الواضح هنا أيضا أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
وهو يرى أن قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزْرك* الذى أنقض ظهرك* ...؟" يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التى اقترفها عليه السلام قبل البعثة. ولكن أية أخطاء يا ترى تلك التى اقترفها النبى آنذاك؟ هنا يسكت أسد. ولست أوافقه على أن معنى "الوزر" فى الآيات الكريمة أخطاء ارتكبها الرسول فى الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تُنْقِض هذه الأخطاء ظهره، وهو لم يكن مكلفا آنئذ ولا آخذه الله عليها فى أى موضع من القرآن ولا اتخذها أحد من قومه تُكَأَةً للنيل من سمعته أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أن مَنَّ الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عُسْر إلا ومعه يُسْر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره عليه السلام بشىء من قبيل فتور الوحى عليه فى أول الدعوة أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك. أى أن الوزر هنا وزر نفسى لا أخلاقى. أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقه واستخراج نصيب الشيطان منه وغسله بالثلج أثناء طفولته الأولى فى بادية بنى سعد كما جاء فى بعض الروايات، فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه عليه السلام قد أصبح محميا تماما من الوقوع فى الذنوب والآثام.
وعلى أية حال فإنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحا من أسلحة الحرب النفسية التى شنوها عليه منذ اللحظة الأولى. ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعلمون هم قبل غيرهم أنه باطل، وهو أنه ساحر ومجنون وكذاب ويكتتب قصصه عن الأنبياء السابقين وأممهم من بعض الرقيق المكى من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون فى يد إنسان عُمْلة سليمة فيلقى بها فى عُرْض الطريق ويتخذ بدلا منها نقودا زُيُوفا؟ ترى لو كان النبى عليه السلام قد زنى أو حتى قبَّل امرأة مجرد تقبيل أو شَرِب الخمر أو لَعِب المَيْسِر أو تابع قومه فى عبادة الأصنام أو التضحية لها أو عُرِف عنه الكذب مثلا، أكان قومه يسكتون عن ذلك؟ إن كل ما قالوه فى بشريته لا يتعدى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق وأن له زوجا وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكًا لا بشرا، وهذا كل ما هنالك، فهل يصح أن يقول مسلم فى الرسول ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أننى قد تجنبت الخوض فى الجدال النظرى البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم وسلكتُ، بدلا من ذلك، المنهجَ التاريخى والنفسى واستنطقتُ النصوص ذاتها فلم يصادفنا، لا فيما وصلنا عن سيرته ولا فى الآيات التى تحدثتْ عنه أو إليه، أىٌّ من تلك الذنوب المزعومة. ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بأنه "على خُلُقٍ عظيم" كما جاء فى الآية الخامسة من سورة "القلم"؟
كذلك لو كان داود عليه السلام قد صنع بأوريا هذا الذى ادُّعِىَ عليه أكان الله سبحانه تارِكَه دون مؤاخذة، وهو الذى عرَّض يونسَ عليه السلام لتلك التجربة المرعبة المؤلمة، تجربة ابتلاع الحوت له وبقائه فى بطنه أياما وليالى، لمجرد غضبه من قومه وإباقه إلى الفلك المشحون بسبب صلابة رقابهم ولجاجهم فى الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل إنسان برىء طمعا فى زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذى يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك فى الأمر أن من قبلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى السخيفة بل المجرمة كانوا حرصاء فى ذات الوقت على أن يبرئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدم بارد وتخطيط مسبق ودون خالجة من ضمير ليس بشىء بجانب هذه التهمة!
إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنى لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، وإذن فلو أن هذين الخصمين ملاكان أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى ارتكبها، فأى جدوى من هذا التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد من سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى كان قادرا على أن ينبه نبيه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا يمنع الجريمة قبل وقوعها بدلا من تركه يقترفها ثم عتابه له بعد فوات الأوان؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو، فما الفرق بينهم إذن وبين عتاة المجرمين؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحط إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وجعلهم من الأخيار أُولِى الأيدى والأبصار وزودهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن نفسه يقول عن داود عليه السلام فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتى بعضنا فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذِّب القرآن ونصدق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة الخصمين تحضّه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبع الهوى، وهو ما يرجِّح أن تكون القصة متعلقة بالتسرع فى الحكم لأحد المتخاصمين قبل الاستماع إلى الطرف الآخر، لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع مثلا بجمال زوجة قائده فحدثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فأىُّ خطإٍ ارتكبه حين ضاق صدره بعد إذ رأى من قومه لَدَدًا فى الكفر وتماديا فى العناد والإنكار فتركهم ومضى على وجهه؟ إن هذه ليست سُبَّة أخلاقية، لا ولا هى تهاون فى تأدية الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتى إلى وَكْزَة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وَكْزَة أراد بها عليه السلام أن يدفع العدوان أو ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلدٍ كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائليل فيه لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم آنئذ، لكن كانت للأقدار مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها. وأغلب الظن أنها كانت "القشة التى قصمت ظهر البعير". أى أن أسباب الموت كانت مهيَّأة لطَىّ صفحة ذلك الرجل من الوجود، كأن يكون مصابا بأزمة قلبية مثلا أو تكون الوكزة قد أفقدته توازنه فسقط دماغه على أرض حجرية...إلخ، فجاء وَكْز موسى فى ذلك الوقت مصادفة واتفاقا ليكون هو العامل الظاهرى الذى أودى بحياته. ولنلاحظ أن موسى قد أنَّبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا، فأخذ يستغفر ربه ويبتهل إليه نادما أشد الندم رغم أنها ليست سقطة أخلاقية كما قلنا.
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله بمحاولة إقناع بعض المشركين فى مكة لهدايتهم إلى الإسلام، يقول إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا عظيما يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وهذا هو الذى أتفق فيه مع محمد أسد، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".
هذا، وقد صدرت عن قلم الكاتب عبارة مهمة لا أدرى كيف لم يستصحبها دائما معه بدلا من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقى الذى لا يفلت منه الرسل والأنبياء وإمكان وقوعهم فى أى ذنب من الذنوب التى يقترفها البشر، ألا وهى قوله، بصدد التعليق على الآية التى تقول: "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنَّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قَدَرًا مقدورا"، إن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء الذين تتوافق فيهم جميعا، بما فيهم الرسول عليه السلام، رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسَهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحى والفطرى الذى يميز صفوة خلق الله وقدَرهم المقدور كما تقول خاتمة الآية. ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أَحْجَى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يتمالكون أنفسهم من الوقوع فى أى من الذنوب والآثام بمجرد تهيؤ الدواعى لذلك فلا ينسجم مع القرآن، الذى يرفع الرسل والأنبياء مكانا عَلِيًّا ويُثْنِى عليهم أجزل الثناء ويرى فيهم نموذجا فذا لا يُطال رغم بشريتهم التى يؤكدها فى ذات الوقت، بل ينسجم مع اتجاه العهد القديم، الذى ينسب إليهم الزنا والقتل والدياثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة فى مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان فى بيوتهم...إلى آخر ما سوَّد به اليهودُ الملاعينُ صفحاتِ كتبهم التى يزعمون أنها وحى إلهى، ملطخين بذلك الصورَ النبيلة لتلك الصفوة من عباد الله.
وقد رجعتُ، بعد الفراغ من كتابة ما تقدم، إلى "الفِصَل فى المِلَل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم لأسترجع ما قالت الفرق الإسلامية فى هذا الموضوع، فوجدته يذكر أنهم اختلفوا فى ذلك: فقالت طائفة إن الرسل عليهم السلام يعصون الله فى جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب فى التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضا، كما جوَّزوا أن يكون فى أمة محمد عليه السلام من هو أفضل منه. وفى رأى ابن حزم أن هذا كله كفر وشرك وردة عن الإسلام. وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط بالعمد، أما الكبائر فلا. أما الذى تدين به أمة الإسلام من سنة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية (كما قال العلامة الأندلسى) فهو أنه لا يَجُوز البتةَ أن يقع من نبىٍّ معصيةٌ أصلا لا كبيرة ولا صغيرة. وهذا رأيه هو أيضا، وإن قال إنه قد تقع من الأنبياء الهفوة عن غير قصد، كما قد يقع منهم قَصْدُ الشىء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلافَ مراده عز وجل، إلا أنه تعالى لا يقرّهم على شىء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه. وهذا الذى ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من تحليل النصوص القرآنية تقريبا، ويسعدنى أن ينسجم رأيى مع رأى هذا العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد فى مثل هذا خشية أن يكون مخطئا فى اجتهاده لا يبغى إهانة الأنبياء أو التطاول عليهم والتحقير من شأنهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، ولكنى فى ذات الوقت لا أهضم وقوعه فى هذا الخطإ الأبلق.
وفى النهاية أود أن أضيف أننا لا نجد هذا الرأى الغريب لأسد فى الأنبياء فى الكتب التى تُرْجِمَتْ له إلى العربية. لقد لمس مثلا بشريةَ الرسول عليه الصلاة والسلام فى موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا ما قاله فى الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه (أى الرسول عليه السلام) لم يدَّع يوما إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التى تؤكد إنسانية محمد: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم؟". وكذلك فإن القرآن الكريم قد دلل على عجز النبى المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله تعالى: "قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون". ولا ريب فى أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس: يتمتع بملذات الوجود البشرى ويعانى آلامه". وهو تقريبا نفس ما نقرؤه فى الموضع الثانى حيث يقول إنه عليه السلام كان "كائنا بشريا مليئا بالرغبات والدوافع الإنسانية وبوعى حياته الخاصة، وفى الوقت عينه أداة طيعة لتلقى رسالته"[17]. والنصان، رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لانلمح فى عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف كان يرى أنه عليه السلام عرضة للوقوع فى الذنوب والآثام كأى شخص عادى. فهل هذا دليل على أن فكره قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة من صلب عقيدته أوانذاك لكنها، لسبب أو لآخر، لم تَشُقّ طريقها إلى الظهور فى ذلك الكتاب؟

-- الحواشي --
[14] الأنعام/ 112.
[15] ص 591/ هـ 15.
[16] ص 785/ هـ 2 .
[17] محمد أسد/ الطريق إلى الإسلام/ ترجمة عفيف البعلبكى/ دار العلم للملايين/ 1981م/ 297، 303.
 
تفسيره للمعجزات

تفسيره للمعجزات

فى القرآن نصوص كثيرة تتحدث عن معجزاتٍ وقعت على يد عدد من الأنبياء والرسل، وفيه أيضا آيات أخرى تقول لمشركى مكة، الذين كانوا يتعنتون على الرسول صلى الله عليه وسلم مطالبين إياه أن يأتيهم ببعض المعجزات كما كان يفعل الأنبياء السابقون، إن المعجزات لم تُجْدِ مع الأمم الخالية، إذ ظلوا على كفرهم رغم وقوع ما طلبوه منها. ومع هذا فإن بعض المفسرين فى العصر الحديث قد درجوا على تأويل هذه المعجزات بما يُخْرِجها عن إعجازيتها ويُلْحِقها بالحوادث المعتادة التى تخضع لقوانين الطبيعة المطردة، ومن هؤلاء الأستاذ محمد أسد. وقد سبقه إلى هذه الخطة المفسرون القاديانيون مثل مولاى محمد على وملك غلام فريد فى ترجمتيهما التفسيريتين للقرآن الكريم إلى الإنجليزية. ولعل مولاى محمد على هو الوحيد الذى ورد اسمه فى ترجمة محمد أسد من بين المفسرين غير العرب، ولهذا دلالته، وإن كان الحق يوجب أن نقول إن أسد لا يذهب مذهب القاديانيين فى فتح باب النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يؤكد أنه هو آخر الأنبياء، فلا نبى بعده.
ونبدأ الكلام فى تأويل أسد للمعجزات بما قاله فى معجزة إبراهيم عليه السلام. لقد ذكر القرآن المجيد فى ثلاثة مواضع منه تهديد قومه له بتحريقه فى النار وأن الله أنجاه من كيدهم. وإذا كانت العبارة فى موضعين من هذه الثلاثة لا تحدِّد أَأُلْقِىَ خليلُ الله فى النار فعلا أم لا، فإن الموضع الثالث، وهو الآيتان 68- 69 من سورة "الأنبياء"، واضح الدلالة فى أنه قد أُلْقِىَ فيها لكن الله منعها من إحراقه، وذلك فى قول رب العزة: "قالوا (أى قومه عليه السلام): حَرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين* قلنا:يا نارُ، كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم". بَيْدَ أن محمد أسد يقول تعليقا على هاتين الآيتين إنه "لم يحدث أَنْ ذَكَر القرآن فى أى موضع منه أن إبراهيم قد أُلْقِىَ بجسده فعلا فى النار وبقى حيا فيها، بل إن قوله تعالى فى الآية 24 من "العنكبوت"، على العكس من ذلك، يشير إلى أنه لم يُلْقَ فى النار. وفضلا عن هذا فبمستطاعنا تتبع مصدر القصص الكثيرة المستفيضة والمتعارضة التى طَرَّزَ بها المفسرون القدامى تفسيرهم للآية التى نحن بصددها، فى الخرافات التلمودية، ومن ثم فمن الممكن أن نلقى بها دُبْرَ آذاننا. أما ما يقوله القرآن هنا وكذلك فى آية "العنكبوت" والآية 97 من "الصافات" فلا يزيد، فيما يبدو، عن أن يكون إشارة رمزية إلى نار الاضطهاد التى كان على إبراهيم أن يقاسيها والتى ستصبح بعد ذلك، بسبب عنفوانها، مصدر قوة روحية وسلام باطنى له".
ولنا على هذا الكلام كلام مثله: فأولا ليس فى القرآن البتةَ ما يدل على أن خليل الرحمن لم يُقْذَف به فى النار، وإلا لكذَّب القرآن بعضُه بعضًا، فإن آية "الأنبياء" تقول بصريح العبارة إنه سبحانه قد أمر النار أن تكون "بردا وسلاما على إبراهيم" بما يدل على أنه قد ألقى فيها فعلا، لكنه سبحانه سَلَبَ عنها خاصّية الإحراق. وعلى أية حال فها هى ذى آية "العنكبوت" أضعها مرة أخرى تحت بصر القارئ ليحكم بنفسه، إذ تقول: "فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرِّقوه، فأنجاه الله من النار"، فهل يرى القارئ الكريم فيها أن قومه عليه السلام لم ينفذوا فعلا ما عزموا عليه؟ ألا يوافقنى على أن هذه الآية مظلومة؟ ومثلها آيتا "الصافات"، وهذا نصهما: "قالوا: ابنوا له بنيانا فأَلْقُوه فى الجحيم* فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين". إذن فنحن أمام نصوص قرآنية ثلاثة: اثنان منها لا يقولان إن إبراهيم لم يلق به فى النار، وثالثها يقول، وإن كان بطريق غير مباشر، إنه قد قُذِف به فيها لكن الله جردها من طبيعتها المحرقة.
أما تأويل أسد لهذا النص الأخير بأن المقصود هو نار الاضطهاد فقائم على التكلف العنيف، إذ إنه قد دخل الموضوع وفى ذهنه إنكار المعجزات، وإلا فأين فى الآية ما يدل على أن المراد شىء غير الظاهر؟ الحقّ أنْ ليس فى الآية ما يدل على شىء من ذلك، وإنما اعتقاد بعض الناس، حتى من بين المسلمين أنفسهم، فى أن قوانين الكون لا يمكن إيقافها أبدا هو المسؤول عن الرغبة فى صرف مثل هذه الآيات عن ظاهرها إلى تلك التمحُّلات الغريبة. ولكى يطمئن القارئ إلى ما أقول ألفت نظره إلى أن "نار الاضطهاد" تلك التى يذكرها أسد لم تكن خاصة بإبراهيم وحده، بل كل الأنبياء والرسل قاسَوْا لَظَاها فكانت فى نهاية الأمر بردا وسلاما عليهم، فلماذا يا ترى لم يذكرها القرآن إلا فى حالة إبراهيم وحده دون سائر الرسل والأنبياء؟ وأخيرا فكونها ترجع إلى التلمود ليس بالضرورة برهانا على فسادها، وإلا لكان القرآن أول من يَضْرِب عنها صفحا. أما وقد أوردها مع ذلك فهو دليل على أنها قصة حقيقية.
وبالمثل يصف المؤلف قصة سليمان مع النملة وفهمه عليه السلام لما قالته لزميلاتها من جماعة النمل بأنها قصة خرافية قُصِدَ بها الإشارة إلى إعجاب سليمان بعالم الطبيعة وفهمه له وعطفه على أحقر مخلوقات الله شأنا. كذلك ينظر كاتبنا إلى قصة ذلك النبى الكريم مع الهدهد على أنها مجرد مَثَلٍ ضربه الله ليبين لنا أن سليمان نفسه بكل حكمته يمكن أن يجهل بعض الأشياء، وهو ما من شأنه أن يحذرنا من فتنة الغرور التى تصيب البشر، والعلماء منهم بوجه خاص، مع أن الله قد ذكر بصريح القول أنه سبحانه سخّر لسليمان جنودا من الإنس والجن والطير يأتمرون بأمره مما لم يسخره لأحد غيره، كما شكر سليمان ربه على أنْ علَّمه منطق الطير[18].
وجَرْيًا على نفس النهج يقول كاتبنا عن قصة سليمان وعفريت الجن والذى عنده علم من الكتاب وعرش بلقيس إنها قصة رمزية، فضلا عن أن "الذى عنده علم من الكتاب" هو، كما قال بناء على تفسير الرازى، سليمان نفسه، إذ "الكتاب" هو الوحى حسب ذلك التفسير. والحق إنه لمن الصعب جدا جدا أن نوافق أسد على ما يقول، فسليمان عليه السلام يسأل ملأه أيُّهم يأتيه بعرش ملكة سبإ قبل أن تأتى هى ورجال دولتها مُسْلِمين، فيرد عليه عفريت من الجن بأنه قادر على أن يأتيه به قبل أن يقوم من مكانه. وعندئذ ينبرى الذى عنده علم من الكتاب قائلا إنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يرتدّ إليه طَرْفه، وعلى الفور يجده أمامه فيشكر الله على هذا الفضل. وواضح تماما أن الذى عنده علم من الكتاب شخص آخر غير سليمان، وإلا فإذا كان هو سليمان، وكان كلامه موجها إلى الجنى على سبيل التحدى كأنه يقول له: إذا كنتَ تستطيع أن تُحْضِر العرش لى قبل أن أقوم من مكانى فإن هذا لا يرضينى، فأنا قادر على إحضاره فى مدة أقل من ذلك، فإن السؤال حينئذ هو: ما دام سليمان قادرا على إحضاره بهذه السرعة الفائقة التى لا نظير لها، ففيم كان سؤاله لملئه عمن يستطيع أن يأتيه به قبل أن تأتى الملكة ورجالها مُسْلِمين؟ ولم قال للجنى: "أنا آتيك به...إلخ" ولم يقل: "أنا آتى به..." دون كاف الخطاب ما دام الجنى لم يطلب من أحد أن يأتيه بالعرش، بل سليمان هو الذى طلب ذلك، ومن ثَمَّ فإن العرش سيأتيه هو لا الجنى؟ ولماذا قال القرآن بعد أن عرض الذى عنده علم من الكتاب أن يُحْضِره أسرع من الجنى: "فلما رآه مستقِرًّا عنده قال: هذا من فضل ربى"؟ أترى الرازى والأستاذ أسد يريدان أن يقولا: إن الذى وجده مستقرا عنده وحمد الله على فضله هو العفريت لا سليمان؟ لكن هذا قلب للأمور رأسا على عقب لأن المتفضَّل عليه هنا إنما هو سليمان لا العفريت، وعلى ذلك فهو نفسه الحامد الشاكر. ثم إن الضمير فى الأفعال بناء على تفسيرى سيكون عائدا على شخص واحد بدلا من تشتيته دون داع وتمزيق أوصال الآيات من ثَمّ.
ونفس الشىء يقوله مترجمنا عن قصة يونس والتقام الحوت له كما وردت فى سورة "الصافات"، فهى (حسبما قال) حكاية خرافية ذات دلالة رمزية. وبطن الحوت عنده إشارة إلى العناء الروحى الذى كان يرزح تحته يونس عندما فر من أداء رسالته، واليقطينة استعارةٌ قُصِد بها الإيماء إلى رحمة الله له وعودته إلى طريق النور والحياة الروحية كرة أخرى. وكل هذا تعسف فى التأويل، فليس من المعقول أن يروى القرآن حادثة تاريخية فيحذف بعض تفصيلاتها الحقيقية ويستبدل بها تفصيلات لم تقع دون أن يوضح لنا أننا بصدد سرد حكاية يختلط فيها الواقع بالخيال. ثم لماذا يفعل القرآن ذلك؟ ولماذا يدور تلك الدورة الطويلة فيحكى قصة السفينة والاقتراع وقفز يونس منها وابتلاع الحوت له وابتهاله لربه فى الظلمات أن يغفر له ويرحمه ونبذ الحوت إياه فى العراء ونبت شجرة اليقطين عليه...إلخ؟ وما الدليل على أننا هنا أمام قصة رمزية لا حقيقية؟ وما الذى منع القرآن من رواية ما حدث فعلا؟ إن القرآن عندما يحكى أمثال هذه القصص فإنه عادة ما يمنّ على الرسول محمد عليه السلام بأن الله هو الذى أنبأه نبأ هذه القصص التاريخية دون أن يكون قد شاهد شيئا من أحداثها. أفلو كانت القصة رمزية أكان ثم موضع للمنّ الإلهى بهذا الأسلوب؟
وبالنسبة لعيسى عليه السلام نجد الأستاذ أسد يؤوِّل كلامه فى المهد بأنه إشارة مَجَازيَّة للحكمة النبوية التى كانت تلهم عيسى منذ وقتٍ جِدّ مبكر من حياته. لكننا نعرف أن اليهود، عندما أشارت إليه أمه وهو لا يزال فى المهد كى يسألوه فيما يريدون أن يعرفوه عن السر فى ولادتها إياه دون زواج، كان ردهم عليها: "كيف نكلِّم من كان فى المهد صبيًّا؟"، وحينئذ أجابهم عيسى بقوله: "إنى عبد الله، آتانى الكتاب وجعلنى نبيًّا*..."، فماذا يقول الأستاذ أسد فى هذا؟ إنه يؤوِّل الزمن الماضى هنا فى "آتانى" و"جعلنى" بأنهما يدلان على أن ذلك سوف يحدث فى المستقبل لا أنه حدث فى الماضى. وجوابنا هذا يدل على صحة ما قلناه عن هذه الآية، إذ معنى الكلام حسب تأويله هو أن الله سيؤتينى الكتاب وسيجعلنى نبيا فى المستقبل، ومعنى هذا بدوره أنه عليه السلام لم يكن قد أصبح نبيا بعد، ومعنى هذا ثالثا أنه كان صغيرا حقا، أليس كذلك؟ وإلا فلو لم يكن عيسى قد تكلم فعلا فى المهد فلماذا لم يذكر القرآن ذلك عن غيره من الأنبياء أيضا، وكلهم بحمد الله قد رعا الله خطواتهم منذ بداية حياتهم وصنعهم على عينه؟ ولماذا يوافق القرآن ما جاء فى بعض الأناجيل من أنه عليه السلام قد تكلم فعلا فى المهد؟ أيُعْقَل أن يحكى القرآن القصة كما رواها أحد الأناجيل مما يؤكد وقوعها، ثم ينقلب على نفسه وعلى ذلك الإنجيل مغمغما فى همس لم يسمعه إلا الأستاذ أسد ومن يلفّون لفّه بأن شيئا من ذلك لم يقع، وإنما هو كلام فى الهواء؟ إن هذا لَبسلوك البهلوانات أشبه، وحاشا لله أن يكون هذا هو منهج القرآن فى الشرح والتفهيم! وبالمناسبة فإن القاديانيين هم أيضا ينفون كلام عيسى فى المهد ويؤولونه بما يخرجه عن إعجازيته. وهذا هو ديدنهم مع الآيات الخوارق التى يؤيد الله بها أنبياءه ورسله كما قلنا.
أما نَحْت عيسى عليه السلام طيرا من الطين ونَفْخه فيه فيصير طيرا بإذن الله كما جاء فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع، فإن مترجمنا يؤوّله بـ "الحظ أو المصير"، قائلا إن كلمة "الطائر" أو "الطير" قد تكرر مجيئها فى القرآن بهذا المعنى (فى "الأعراف"/ 13، و"النمل"/ 47، و"يس"/ 19 مثلا)، وهو تعبير عربى قديم. وبناء على هذا التأويل يكون معنى الآية أن عيسى أراد بأسلوبه المعروف أن يضرب لبنى إسرائيل مثلا يبين لهم فيه أنه، من طين حياتهم الحقير، سوف يشكل لهم رؤيا (a vision) مصيرٍ يحلق عاليا فى أجواء الفضاء، وأن هذه الرؤيا التى سوف تتحقق على أرض الواقع بإلهام من ربه ستكون مصيرهم الحقيقى بإذن الله وبقوة إيمانهم.
وهذا كله، فى الواقع، خَبْطٌ على غير هدى. لكن كيف؟ أوَّلاً لم يحدث أن استخدم القرآن الكريم لفظ "الطير" بمعنى "الحظ أو المصير" بل لفظة "الطائر"، أما "الطير" فهو فيه الطيور ذوات الأجنحة، والآيات فى ذلك متعددة. ولم تشذ عن ذلك سورة "النمل"، إذ استخدم فيها القرآن لـ"الحظ والمصير" كلمة "طائر" لا "الطير"، الذى جعله فى نفس السورة جندا من جنود سليمان، ولست أدرى كيف يكون الحظ أو المصير جندا من الجند ولا كيف يُحْشَر مع غيره من جنود الإنس والجن حسبما جاء فى الآية 17، أو كيف يمكن تعلُّم منطقه كما جاء فى الآية التى قبلها. وثانيا لقد تكررت كلمة "الطين" فى القرآن إحدى عشرة مرة، وإذا استثنينا آيَتَىْ "آل عمران" و"المائدة" اللتين يحاول الأستاذ أسد تأويلهما بِلَىّ الرقبة، فلن نجد لهذه الكلمة فى الآيات التسع الأخرى من معنى إلا ذلك الذى نعرفه للطين، فلماذا تشذ هاتان الآيتان بالذات عن سائر الشواهد القرآنية الأخرى؟ وثالثا فإن عيسى عليه السلام كان إذا ضرب مثلا حكاه بلفظ الماضى، ثم يُفْهِم سامعيه أن كلامه معهم هو على سبيل المثل ولا يترك الأمر عائما، أما فى آيتنا هذه فإنه لا يحكى مثلا بل يعدهم أنه سيفعل كذا وكذا مستخدما عبارات واضحة محددة لا تحتمل لبسا مثل " أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، "أنفخ فيه"، "يكون طيرا بإذن الله". ورابعا فقد كان الكلام موجها إلى بنى إسرائيل، الذين كفروا به بنص الآيات نفسها. أى أن كلامه عن تحويل حياتهم من طينٍ حقيرٍ إلى مصيرٍٍ راقٍٍ يحلق فى السماء لم يتحقق منه شىء البتة، فهل يمكن أن يكون هذا هو مصير الآية التى جاءهم بها من ربهم؟ إن هذا لهو العبث بعينه! تعالى الله عن ذلك! إن اللغة بهذه الطريقة تفقد خاصتها، وهى الإبانة والتوضيح، وتتحول وظيفتها إلى التعمية والتضليل! وياليت محمد أسد قد اكتفى بما قاله فى الهامش، بل انعكس ذلك على ترجمته للآية فأصبحت هكذا: "I shall create for you out of clay, as it were, the shape of [your] destiny, and then breathe into it, so that it might become [your] destiny by God’s leave "، ومعناها:"أنى أخلق لكم من الطين كهيئة مصير(كم) فأنفخ فيه لعله يصبح مصير(كم) بإذن الله". وحسبنا الله، ونعم الوكيل!
وعلى ذات النهج يمضى أسد مفسرا معجزة إحياء الموتى التى عضّد الله بها أيضا عيسى عليه السلام بأن من المحتمل أن يكون المقصود بها بث حياة جديدة فى الميتين روحيا. ثم يضيف أنه إذا صح هذا التفسير، وهو صحيح عنده، فحينئذ يكون لإبراء الأكمه والأبرص نفس المعنى، ألا وهو بث الحياة الباطنية من جديد فى مرضى الروح الذين لا يستطيعون إبصار الحقيقة. ونقول فى الرد على هذا ما قلناه فى معجزة خلق الطير من الطين، فضلا عن التساؤل عن الحكمة فى ذكر البَرَص والكَمَه بالذات دون سائر الأمراض، و"البَرَص" ليس من الألفاظ التى تستخدم مجازيا فى التعبير عن مرض الروح، ومثله فى ذلك "الكَمَه"، الذى لا ينبغى الخلط بينه وبين "العمى"، فهذا قد يستعار للعجز عن الوصول إلى الحق أو عن فهمه، أما "الكَمَه" فهو العمى الخِلْقِىّ الذى يولد الإنسان به لا الذى يطرأ عليه بعد ولادته.
هذا ما قاله محمد أسد فى المعجزات التى وقعت لغير موسى من الأنبياء، أما معجزات موسى فيبدو لى، وأرجو ألا أكون مخطئا، أن أسد ينظر إليها نظرة مختلفة بعض الشىء. ذلك أنه يستخدم لها لفظ "المعجزة"، ثم يضيف إليها مع ذلك معنى صوفيا أو رمزيا. وإلى القارئ ما قاله عن معجزة العصا التى ألقاها عليه السلام، فإذا هى ثعبان مُبِين يبتلع حبال السحرة جميعا. قال: "إن التحول الإعجازى لعصا موسى إلى ثعبان له، فيما أعتقد، مغزى صوفى، إذ يبدو أنه إشارة إلى الفارق الجوهرى بين المظهر الخارجى والحقيقة، ومن ثَمَّ فهو إشارة إلى البصيرة الروحية التى يدرك الإنسان بها هذا التميز الذى يختص الله به عباده المصطفَيْن". فهأنتذا، أيها القارئ، ترى أنه قد أثبت أولا إعجازية العصا قبل أن يفسرها تفسيرا صوفيا كما قال. وفوق ذلك فقد جعل الترجمة هنا موافقة للأصل العربى، ولم يحور فيها كما فعل مع آية "آل عمران" التى تتحدث عن معجزة خلق الطير على يد عيسى عليه السلام.
وعلى نفس المنوال فى إثبات إعجازية العصا يمضى أسد فيسمى انفلاق البحر لبنى إسرائيل أيضا "معجزة". وإلى القارئ الكريم كذلك نَصّ ما قاله فى هذا الصدد: "يبدو، من خلال بعض الإشارات المختلفة فى الكتاب المقدس، أن معجزة عبور البحر الأحمر قد وقعت فى الطرف الشمالى الغربى لما نعرفه حاليا باسم "خليج السويس"..."، ثم يستمر فى الكلام قائلا إن "ذلك الموضع لم يكن فى ذلك الزمان البعيد بالعمق الذى هو عليه اليوم، وربما كان يشبه من بعض الجوانب ذلك الجزء الضَّحْل من بحر الشمال الذى يقع بين الجزيرة البريطانية والجُزُر الفرنسية بجَزْرها الشامل الذى يترك أعماقها الرملية عارية ويجعلها صالحة للعبور مؤقتا والذى يعقبه مد عنيف مفاجئ يغمرها تماما". صحيح أنه يريد هنا، فيما يبدو، تعليل هذه المعجزة تعليلا علميا، لكن الشاهد الذى أود ألا يغيب عن عين القارئ هو إقراره بأن عبور بنى إسرائيل البحر كان حادثة إعجازية. وأترك للقارئ مهمة تفسير هذا الاختلاف بين نظرة كاتبنا إلى معجزات موسى ومعجزات غيره من الأنبياء والرسل، حتى لو كان هذا الخلاف ينحصر فى مجرد الإبقاء على لفظة "معجزة" أو "إعجازى" فى حالة موسى ونبذها فى حالة إخوانه الكرام، عليهم جميعا السلام.
هذا، ولا بد من المسارعة إلى القول بأن انفلاق البحر فى حالة موسى لم يكن مسألة جَزْر، وإلا لأخذ وقتا كما يحدث مع ظاهرة الجزر، بل الذى حدث أن موسى، بوحى من الله، ضرب الأرض بعصاه فإذا بالبحر ينفلق فى الحال فلْقين، كل فلق كالجبل الشامخ، علاوة على أن عملية الجزر لا يترتب عليها أن يتكوم الماء على الجانبين بهذا العلوّ المهول. كذلك فالجزر يشمل المنطقة كلها ولا يقتصر على طريق محدود تعبره جماعة من الناس ما إن تتجاوزه حتى تعود المياه إلى وضعها الأول وتغرق الجماعة الأخرى التى تأتى على أعقابها. ولو كان ذلك الموضع ضحلا كما يقول الأستاذ أسد لما غرق فيه فرعون ومَلَؤه وجنوده أجمعون.
وبعد، فإنى لا أستطيع أن أوافق محمد أسد على ذلك المنهج الذى سلكه واتفق فيه مع جماعة القاديانيين التى ظهرت فى الهند فى القرن التاسع عشر، وكان لبعض رجالها صولة فى باكستان إبان نشأتها فى منتصف القرن الماضى، وهو الوقت الذى كان فيه أسد هناك يعمل فى وزارة الخارجية، وبالذات فى الوفد الباكستانى إلى الأمم المتحدة قريبا من ظفر الله خان (القاديانى)، الذى كان وزيرا للخارجية الباكستانية ورئيس وفد الباكستان إلى الأمم المتحدة فى تلك السنين. وسبب مخالفتى لأسد أن القرآن قد أثبت المعجزات لعددمن الرسل والأنبياء بعبارات لا تحتمل تأويلا إلا إذا حطمنا قواعد اللغة والمنطق، فضلا عن أن الآية 59 من سورة "الإسراء" تقول بصريح العبارة ردا على مطالبة مشركى قريش لمحمد عليه السلام بأن يأتيهم بمعجزة كى يصدقوه ويؤمنوا به: "وما مَنَعَنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذَّب بها الأولون"، وهو ما يدل على أنه كانت هناك معجزات يُظْهِرها الله للكفار ثم توقفت بعد مجىء محمد. والآن ما معنى هذا؟ إننا لو جارينا الأستاذ أسد لترتب على ذلك أن القرآن قد اتبع فى الرد على الكفار منهجا عبثيا: فهو قد أثبت المعجزات للرسل السابقين رغم أنه لم تكن هناك معجزات ولا يحزنون، مُطْمِعًا بذلك المشركين فى التعنت على الرسول والإلحاح فى مطالبته أن يأتيهم هو أيضا بمعجزات مثل الأنبياء السابقين عليه الذين أقر هو نفسه أن الله كان يعضدهم بها، ومُوقِعًا نفسه بهذه الطريقة فى مأزق غريب لا يجد مخرجا منه إلا بالقول بأن عصر المعجزات قد ولى. ولقد كان فى غنى عن هذا كله لو قال منذ البداية إنه لم تكن هناك معجزات فى أى وقت، وإنه لم يحدث أنْ أتى أى رسول أو نبى بشىء منها، أو لو أنه على الأقل قد سكت فلم يتعرض لهذه النقطة، حتى إذا طالب المشركون الرسول بمعجزة كان جوابه عليهم: "ومن قال لكم إنه كانت هناك معجزات حتى تطالبوه بمثلها؟". أيُعْقَل أن يضع الله سبحانه رسوله فى هذه الزواية الضيقة الحرجة دون أدنى داع؟ وحتى لو قلنا إن الرسول هو مؤلف القرآن (أستغفر الله!) فإنه لم يكن ليوقع نفسه فى هذه الورطة التى لا يُحْسَد أحد عليها، وهو العبقرى الراجح العقل البعيد النظر. ثم كيف يتفق القرآن الكريم مع ما جاء فى العهدين القديم والجديد عن معجزات موسى وعيسى بالذات رغم تأكيده أنهما قد تعرضا للعبث والتحريف؟
ولقد وقف الأستاذ أسد مَلِيًّا عند آية "الإسراء" السابقة، لكنه كعادته حاول أن يلوى رقبتها إلى غير جهتها، فوصفها أولا بأنها مشحونة بالمعانى والرموز، تريد أن تقول شيئا آخر غير الذى يُفْهَم من ظاهرها (highly elleptic)، ثم أضاف أن القرآن فى عدة مواضع منه يلح على أن الرسول محمدا، رغم كونه آخر المرسلين وأعظمهم، لم يُؤْتَ القدرة على صنع المعجزات، التى يقال إن الأنبياء السابقين كانوا يثبتون بها نبوتهم. وهو ما قد يُفْهَم منه أنه لا يصدِّق بوقوع المعجزات، فإنه لا يقول عنها: "المعجزات التى كان الأنبياء السابقون يثبتون بها نبوتهم" بل "التى يقال إنهم كانوا يثبتون بها نبوتهم"، أى أنها مجرد أقاويل. لكنه، رغم ذلك، يعود فيقول إن القرآن رسالة لكل العصور والأجناس والبيئات الاجتماعية إلى آخر الزمان، على عكس رسالات الأنبياء السابقين الذين كانت أممهم عديمة النضج العقلى، ومن ثَمَّ بحاجة إلى الأعاجيب أو المعجزات الرمزية لكى تساعدها على إبصار الحقيقة الباطنة فى رسالاتهم، أما القرآن فجاء بعد أن نضج الجنس البشرى ولم تعد هناك حاجة لتعضيده بالخوارق أو الوقائع الإعجازية...إلخ[19]. ومن الواضح أن أسد مازال يسلك طريقا روّاغة، فما إن يعطينا باليمين شيئا حتى يسترده بالشِّمال. إنه يذكر "المعجزات"، لكنه سرعان ما يصفها بأنها "معجزات رمزية".
والحق أنى لست بقادر على أن أجد مسوغا لموقفه من المعجزات إلا ما ذكرتُه من قبل من أنها تخرق النواميس الكونية، لكن هل هذا مسوغ كاف لإنكار المعجزات بعد كل تلك الآيات القرآنية التى أوردتُها والتى حاول أسد عبثا أن يَقسِرها على النظر إلى غير جهتها؟ إن الذى خلق هذه النواميس هو الله سبحانه، وليس فيها ولا فى غيرها من أشياء الكون ما يجبره سبحانه على أن يبقيها كما هى فلا يغيرها حين يشاء. ذلك أن الله مطلق القدرة والإرادة، والكون كله خاضع لإرادته المطلقة الشاملة. صحيح أنه أجرى الكون على نظام معين، لكن من قال إن ذلك النظام غير قابل للخرق فى بعض الحالات أو إن الكون سيضطرب إذا انخرق؟
إن الإمام الغزالى مثلا وبعض الفلاسفة الأوربيين المحدثين مثل ديكارت وهيوم ورَسِل يؤكدون أن ما نسميه بـ"قانون السببية" هو أمر لا وجود له، إذ المسألة عندهم لا تخرج عن مجرد تتابع حادثتين، فنظن نحن، لكثرة ما نشاهد هذا التتابع، أن الحادثة الأولى هى السبب فى وقوع الحادثة الثانية كالنار والإحراق، والأكل والشبع...إلخ. يريدون أن يقولوا إنه ليس فى النار حتمية الإحراق، ولا فى الطعام حتمية الإشباع.[20] والإمام الغزالى، وهو أول من قرر هذه الفكرة، يرى أن الله تعالى هو الفعال الحقيقى للإحراق والإشباع وغيرهما، أما النار والطعام فلا يزيدان عن أن يكونا شيئين يقع معهما ذلك دون أن يكونا هما السبب فيه. وهو ما يعنى أن الله لو أراد أن تكون نار ولا إحراق، أو إحراق ولا نار، لكان ما أراد. وهذا، فى الواقع، هو الرأى الذى ينسجم مع الإيمان بالله وقدرته ومشيئته اللتين لا يعجزهما شىء فى الأرض ولا فى السماء. ولا يقولن أحد إن هذا معناه أن الكون، بهذه الطريقة، ستسوده الفوضى بحيث لا تستطيع البشرية أن تتعامل معه. ذلك أن هذا الخرق للنواميس لا يقع إلا بين الحين والحين البعيد وفى أضيق نطاق، وعلى نحو عارض تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه. على ألا يغيب عن بالنا فى ذات الوقت أن إرادة الله هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك. حتى إذا رأت تلك الإرادة فى نهاية المطاف أن هذا النظام الذى يجرى عليه الكون الآن لا بد من هدمه واستبدال نظام آخر به عند مجىء يوم القيامه كان لها ما رأت، ووَقَفَ العمل بهذا النظام، وبدأ نظام آخر يقوم على قوانين أخرى غير التى نعرف فى دنيانا هذه، قوانين ليس فيها مثلا، بالنسبة لأهل الجنة، مكان للموت ولا للمرض أو الملل أو الخوف أو العفن أو النتن أو الحاجة إلى الإخراج...إلخ، وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية وفصّلته أحايث النبى عليه الصلاة والسلام.
إن الأستاذ أسد يصنِّف النصوص القرآنية التى تتحدث عن معجزات الأنبياء ضمن الآيات المسماة بـ "المتشابهات" (حسبما ورد فى الآية السابعة من سورة "آل عمران") وهى الآيات التى تحتاج إلى تأويل[21]. وقد نسى أن القرآن قد قال فى تلك الآية ذاتها: "فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله". وإنى لأتساءل: هل تلك الآيات هى فعلا من متشابهات القرآن؟ فأين الدليل إذن؟ وإذا كانت، فهل تنبه أسد إلى مغزى ما قالته آية "آل عمران"؟ ألا يرى أنها تدين صنيعه إذ يحاول تأويلها؟ إننى أفهم أن تكون آيات الصفات مثلا من المتشابهات، فإنها تتحدث عن جانب من عالم الغيب الذى لا نستطيع الخوض فى مياهه، أما الآيات الخاصة بالمعجزات فتروى حوادث تاريخية لا غيب فيها بهذا المعنى ولا متشابهات.
ولقد أورد علماء القرآن فى تفسير المتشابه من القرآن آراء متعددة ليس من بينها المعجزات، فقالوا:المتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطَّعة فى أوائل السور،أو هو ما لم يتضح معناه، أو ما احتمل من التأويل أوجها متعددة، أو لم يستطع الإنسان أن يصل إلى وجه الحكمة فيه كعدد الصلوات مثلا واختصاص الصوم برمضان، أو ما لا يمكن فهمه إلا بردّه إلى غيره من المُحْكَم المفهوم، أو هو القصص والأمثال، أو هو المنسوخ...وهكذا[22]. فإذا قال القرآن المجيد إن هذا النبى أو ذاك قد جاء بالآية الفلانية، فما الذى فى هذا الخبر مما يمكن أن يكون متشابها لابد من تأويله لأنه لم ينزل ليُفْهَم على ظاهره؟ كما قلت فإن الحجة الوحيدة التى يمكن أن يتحجج بها من يبتغون تأويل تلك الآيات هى خرق المعجزة لنواميس الكون، وهذه مسألة قد فرغنا منها وبينّا أنها ليست بالحجة بأية حال. ثم إننا قد رأينا أيضا التعسف الذى يعالج به الأستاذ أسد الآيات المذكورة كى يُكْرِهها على النطق بما يريده هو لا بما تدل عليه هى. وقد احتكمتُ فى ذلك إلى الأسلوب القرآنى ذاته فتبيَّن لنا، كما رأى القارئ بنفسه، أن ما يقوله المفكر النمساوى لا يتسق مع ذلك الأسلوب، فضلا عن تعارضه مع آيات أخرى تؤكد مبدأ المعجزات النبوية، ودعنا من مناقضة الفكرة التى يستميت فى الدفاع عنها للمنطق السليم.
ورغم ذلك كله فإنه، فى ترجمته لـ "صحيح البخارى" قبل ذلك ببضع عشرات من السنين، قد ترجم كلمة "آية" بـ "a miracle"، وذلك فى حديث انشقاق القمر، بل إنه لم يحاول البتة تأويل هذه المعجزة بما يخرجها عن إعجازيتها كما فعل فى تفسيره لآيات القرآن الكريم[23]، لكنه فى ذات الوقت، عند تناوله لحادثتى الإسراء والمعراج كما وردتا فى "صحيح البخارى"، قد استمات فى إثبات أنهما حادثتان روحيتان لا جسديتان، وإن أكد مع ذلك أنهما حقيقتان موضوعيتان وقعتا فعلا فى العالم الخارجى ولم تكونا وهما من الأوهام أو حلما من الأحلام[24]. وأنا، فى حقيقة الأمر، لا أدرى كيف يكون ذلك!


-- الحواشي--
[18] النمل/ 19.
[19] ص 427- 428، هـ 71.
[20] انظر "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالى/ تحقيق د. سليمان دنيا/ ط 6/ دار المعارف/239-140، وكذلك ص 44-45 من مقدمة المحقق، و"قصة الفلسفة الحديثة" لزكى نجيب محمود وأحمد أمين/ ط 6/ مكتبة النهضة المصرية/ 1403هـ-1983م/ 156- 158، و"أثر العرب فى الحضارة الأوربية" للعقاد / ط 8/ دار المعارف/ 100- 101، و"موسوعة الفلسفة" للدكتور عبد الرحمن بدوى/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1984م/ 2/ 615- 616.
[21] انظر ص 989 وما بعدها تحت عنوان "Symbolism and Allegory in the Qur’an"
[22] انظر "الإتقان فى علوم القرآن" للسيوطى/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ ط 3/ مكتبة دار التراث/ 1404هـ- 1984م/ 3/ 3- 5.
[23]انظر المتن والهامش فى Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam, PP. 172- 173.
[24] المرجع السابق/ ص 184 وما بعدها/ هـ 4.
 
تأويلُ الجنِّ والجزاءِ الأخروى

تأويلُ الجنِّ والجزاءِ الأخروى

فى الفصل الذى عنوانه "Dajjal: الدجال" من كتابه المشهور "The Road to Mecca" يحكى لنا محمد أسد تأويله، فى بدايات تحوله إلى الإسلام وفى حضور ابن بليهد العالم السعودى المعروف فى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، لنبوءة المسيخ الدجال على أساس أن المقصود هو التحذير من الحضارة الغربية: فهى حضارة عوراء تهتم بالجسد فحَسْب ولا تلقى بالا إلى الروح أو الإيمان بالله (مثلما أن الدجال أعور)، وهى قد بلغت من التقدم العلمى والسيطرة على الطبيعة وتوفير مستوًى عالٍ من الرفاهية بحيث فُتِن بها كثير من الناس وعظّموها لدرجة التأليه (وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه سيكون للدجال فى ظاهر الأمر مثل هذه القدرة التى تغريه بدعوة الناس إلى عبادته فيستجيب له ضعفاء الإيمان). ويروى أسد أيضا أن الشيخ ابن بليهد قد أعجب بهذا التأويل، بل تحمس له رغم أنه، كما قال، لم يخطر له من قبل على بال[25].
وفى ترجمته لـ"صحيح البخارى"، التى ظهرت لأول مرة فى كتابٍ سنة 1938م يؤوّل أسد قول الرسول عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن سلام إن أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، بأنه وصف رمزى للجوائح الاجتماعية التى سوف تأتى على قواعد الثقافات المشرقية وتدفع المشارقة دفعا إلى التقليد الأعمى للغرب على أساس أن النار ستلتهم ما تبقَّى من حيوية الثقافة الخاصة بشعوب المشرق، ومن ثم لا يعود هناك اتصال بين ماضيهم وحاضرهم[26]. وهو تأويل فى النفس منه أشياء: فابن سلام قد سأل النبى سؤاله هذا على سبيل الاختبار كى يعرف أهو رسول حقيقى أم لا. ومعنى ذلك أن النبى أجاب ابن سلام وِفَاقَ ما فى نفسه، فهل كان ابن سلام يعرف أن المشرقيين فى عصرنا الحديث سوف يتَخَلَّوْن عن ثقافتهم ويقلدون الغرب تقليدا أعمى؟ ثم إن الصلة لم تنقطع بين حاضر المشرقيين وثقافتهم القديمة، اللهم إلا فى بعض القطاعات الضيقة، بل إن الإسلام قد شرع ينتشر فى الغرب نفسه. كذلك فكلام أسد لا يعنى إلا أنه لا أمل للمسلمين فى الانتصار على الغرب ما دام هذا الوضع هو علامة من علامات الساعة، أى أنه لن يكون هناك وقت لتغييره، وهو ما يدفع إلى اليأس والرضا بالعبودية للغرب. وهذا كله غريب!
والواقع أن التأويل يمثل قَسَمَة بارزة، إن لم تكن أبرز القسمات، فى فكر محمد أسد الإسلامى كما يتبدى فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم. ونبدأ بتأويله لإبليس والشياطين، ويتضح من الهامش رقم 10 و16 من هوامش ترجمته لسورة "الأعراف" مثلا أن قصة آدم وعصيان إبليس للأمر الإلهى بالسجود له هى عنده قصه رمزية للتطورات الروحية والأخلاقية التى طرأت على حياة الجنس البشرى فوق هذه البسيطة، وليست قصة حقيقية حدثت قبلا لآدم فى الجنة[27]. وإبليس، عنده أيضا، "ملاك ساقط"، وتمرده تمرد رمزى، وهو بإغوائه البشر إنما يمثل مهمة كونية محددة هى حَفْزهم على ممارسة ما وهبهم الله من إرادة أخلاقية حرة، أى القدرة على الفعل والترك فى مجال الأخلاق[28]. كما يفسر الشياطين بأنها تعبيرٌ استعارىّ عن الرغبات البشرية الشريرة المضادة لمصالح البشر الروحية[29]. وبالمثل يؤول "القُرَناء" فى قوله عز وجل: "وقَيَّضْنا لهم قُرَناء فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" والآيات التى تشبهه بالنزغات الشريرة التى لا تنفك ملازمة للمجرمين[30].
فأما أن إبليس "ملاك ساقط" فهو يخالف ما جاء فى القرآن الكريم من أنه من الجن: "إلا إبليس، كان من الجن ففسق عن أمر ربه"[31]. ومما يؤكد هذا قول إبليس نفسه فى حواره مع رب العزة إنه خير من آدم لأن آدم مخلوق من طين، أما هو فمن نار[32]، ومعروف أن الجِنّة مخلوقون من النار[33]، فكيف يُقْدِم مسلمٌ بعد ذلك على القول بأن إبليس كان ملاكا عصى الله فهبط من عليائه؟ إن هذا أحد التأثيرات الكتابية لأن أهل الكتاب هم الذين يقولون ذلك، أما المسلمون فيقرأون فى القرآن المجيد قوله جل شأنه فى وصف الملائكة: "يخافون ربهم مِنْ فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون"[34]، فكيف يقال إن مَلَكًا من الملائكة قد جرؤ على عصيان الله، وقد فطرهم الله جميعا على الطاعة المطلقة بحيث لا يُتَصَوَّر وقوع العصيان منهم مجرد تصور؟
أما الاحتجاج بأن إبليس قد استُثْنِىَ من الملائكة فى قوله سبحانه: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبَى واستكبر وكان من الكافرين"[35] وغيره من الآيات التى تتناول نفس الموضوع[36]، فليس باحتجاج سليم، إذ الاستثناء لا يعنى بالضرورة أن المستثنى داخل فى المستثنى منه، وإلا فأين يذهب "الاستثناء المنقطع" فى مثل قولنا: "قام الطلاب إلا حمارا" كما تقول بعض كتب النحو للتدليل على أن المستثنى قد يكون من جنسٍٍ أو نوعٍ أو طائفةٍ أو جماعةٍ غير جماعة المستثنى منه؟ ومن شواهده فى القرآن العظيم قوله عز من قائل يخاطب رسوله محمدا عليه السلام: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى* إلا تذكرةً لمن يخشى"[37]، وقوله سبحانه على لسان إبراهيم عن الأصنام التى كان يعبدها قومه: "فإنهم عدوٌّ لى إلا رب العالمين"[38]، "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى بَرَاءٌ مما تعبدون* إلا الذى فطرنى، فإنه سيهدين"[39]، وقوله عزت قدرته: "بل الذين كفروا يكذّبون* والله أعلم بما يُوعُون* فبشِّرْهم بعذاب أليم* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون"[40]، وغير ذلك كثير. فتذكرةُ من يخشى ليست داخلة فى الشقاء، والله سبحانه ليس من الأصنام وليست هى منه فى شىء، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا ينتمون إلى الكافرين من قريب أو بعيد، وذلك من الوضوح بمكان مكين.
وعلى أية حال فمن غير المفهوم أن يقول أسد عن إبليس إنه "ملاك ساقط" ما دام يرى أنه هو والشياطين لا يَعْدُون أن يكونوا هم الرغبات البشرية، وأن تمردهم إنما هو مسألة رمزية، أى أن الأمر كله عراك فى غير معترك أو كما تقول الكناية الشهيرة: "زوبعة فى فنجان". ومع ذلك كله فإنى أفضل ألا يمضى الواحد منا فى مثل هذه التأويلات لأنه سيجد نفسه وقد سقط فى شبكة من التناقضات يستحيل عليه أن يخلّص نفسه منها كما شاهدنا قبلا ما حدث لكاتبنا. وإن الاعتقاد فى وجود إبليس والشياطين لأقوى فى وَزْع الإنسان عن عمل الشر من القول بأن الأمر ليس إلا رغبات نفسية تريد الإشباع. ولست مع ذلك أشدد النكير على من يريحهم التأويل رغم كثرة الآيات والأحاديث التى تتحدث عن الشيطان بوصفه كائنا ذا شخصية، إذ حددت المادة التى خُلِق منها، وروت لنا ما جرى فى أول الخليقة بينه وبين المولى سبحانه بوقائعه ومشاهده وحواراته، وحذرت آدم وذريته من وساوسه وأكاذيبه وأحقاده، وتوعدت من يُصِيخ إليه بالخسران المبين وأهوال الجحيم.
ولقد غَبَرَ علىَّ فى شبابى زمن كنت أميل فيه إلى القول بمثل ما قال محمد أسد، لكننى كلما تعمقت فى الأمر وجدت أن من الأسلم الإيمان بوجود الشيطان ووسوسته. ومع هذا فلكلِّ وجهةٌ هو مولِّيها، والعقول ووجهات النظر والأمزجة تختلف من إنسان لإنسان، ولكنى لا أستطيع إلا أن أستعجب ممن يقولون بوجود "اللاوعى" مثلا (الشخصى منه والجمعى) وينكرون وجود الشيطان! أَوَعندهم دليل على وجود مثل هذا اللاوعى؟ إنما هو كلام بعض علماء النفس، وكلامهم مجرد تخمينات وافتراضات، أما الشيطان فمعرفتنا به راجعة إلى ما جاء فى القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وأين هذا من ذاك؟ وأيا ما يكن الأمر فإن الإيمان بوجود الشيطان لا يناقض القول بوجود الغرائز البشرية: فالرغبات موجودة، والشيطان ينفخ فيها ويؤججها ويغرى بالارتماء فى نارها. وإن شعور الإنسان فى مثل هذا الموقف بأنه فى صراع مع شىء متميز عنه لمما يؤكد وجود الشيطان.
وبمثل هذه العين ننظر فيما قاله كاتبنا عن أمر الله لملائكته بالسجود لآدم، إذ معناه عنده أن البشر متفوقون عليهم بالتفكير التصورى والقدرة من ثَمَّ على التمييز بين الصواب والخطإ[41]. إننا لا نشاحّ فى شىء من هذا، لكننا لا نجد فيه ما يمنع من الإيمان بوجود الملائكة والشياطين ورضا الأولين بالسجود لآدم، واستكبار إبليس عن ذلك. ترى لماذا لا يسير الأمران جنبا إلى جنب؟ هل فى طبيعتهما ما يمنع من هذا؟ ونفس الشىء نقول فى أجنحة الملائكة المذكورة فى الآية الأولى من سورة "فاطر"، فأسد يراها رمزا يدل على السرعة والقوة التى يتنزل بها الوحى على الأنبياء[42]. إننا لا نرى فيما يقوله أسد هنا عن سرعة الوحى وقوته ما يبعث على الاعتراض عليه، ولكننا أيضا لا نرى فيما جاء به القرآن عن أجنحة الملائكة ما يوجب التأويل. المهم ألا نشبهها بأجنحة الطيور، فالطيور جنس من المخلوقات، والملائكة جنس آخر مختلف تماما.
ثم إن هذه النزعة التأويلية المسرفة من كاتبنا لَتُوقِعه أحيانا فيما لا يقبله العقل. لنأخذ مثلا تفسيره لـ "الجِنّة" فى قوله سبحانه عن المشركين: "وجعلوا بينه (أى بين الله) وبين الجِنَّة نسبا" بأنهم "قوى الطبيعة، إذ إن هذه القوانين لا تظهر للعين ولا تدركها الحواس، فهى تنتمى إذن لعالم الخفاء، و"الجِنَّة" هى كل كائن خفى[43]. يقصد أن مادة "ج ن ن" تعنى الخفاء. ووجه المناقضة للمنطق فى هذا التفسير أن القرآن يشير فى الآية المباركة إلى ما كان العرب يعتقدونه، والعرب (كما هو معلوم) لم يكونوا يعرفون شيئا أى شىء عن قوانين الطبيعة التى يفسر بها أسد كلمة "الجنة". أى أنه ينسب إلى العرب ما لا يمكن نسبته إليهم. إنه، بهذه الطريقة، يدعى على التاريخ ما ليس منه، وهذا هو وجه الخطورة. ثم إن الجن فى القرآن جنس محدد بمعالمه فلا يمكن من ثَمَّ أن يفسَّر بـ "القوانين الطبيعية". كذلك فالآية تنسب إلى الجن "العِلْم"، ولا يمكن أن توصف القوانين الطبيعية بالعلم، إذ ماذا تعلم؟ أو كيف تعلم؟ كما أن الآية تقول عن "الجِنَّة" إنهم لَمُحْضَرون للحساب يوم القيامة، فهل يمكن القول عن قوانين الطبيعة إنها ستُحْضَر يوم القيامة؟ فهذا وغيره هو الذى جعلنى أرجع عما كنت أعتقده فى شبابى الأول من أن الملائكة هى عوامل البناء فى الكون، أما الشياطين فهى عوامل الهدم والتفتيت، بالمعنى الواسع لكلمتى "البناء والهدم"[44]. ويزداد تناقض ما يقوله أسد مع منطق العقل بروزا عندما نراه يقيس ما كانت العرب فى الجاهلية تعتقده من وجود نسب بين الله سبحانه والجن على مفهوم: " l' élan vital: الدفعة الحيوية" فى فكر برجسون الفيلسوف الفرنسى، هذا المفهوم الذى يقوم على إضفاء صفات الألوهية على عناصر الطبيعة[45]، إذ أين اعتقاد العرب فى الجن من الدفعة الحيوية البرجسونية؟
وعلى نفس الوتيرة من الإسراف فى التأويل ومناقضته لمنطق العقل يسير محمد أسد فى تفسير "التسعة عشر" ملَكًا الذين جعلهم الله على "سَقَر" فى الدار الآخرة حسبما جاء فى الآيات 26-31 من سورة "المدَّثِّر": "سأُصْلِيه سَقَر* وما أدراك ما سقر؟* لا تُبْقِى ولا تَذَر* لوّاحةٌ للبشر* عليها تسعةَ عشَر* وما جَعَلْنا أصحابَ النار إلا ملائكة، وما جعلنا عِدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ كذلك يُضِلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء، وما يعلم جنودَ ربك إلا هو، وما هى إلا ذِكْرَى للبشر"، فماذا يقول محمد أسد هنا؟ إن "التسعة عشر" عنده هى قوى الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى، ومن ثم جاءت ترجمته لها على النحو التالى: "عليها تسعة عشر قوة"، ثم علق قائلا إن هذه القوى "التسعة عشر" قوًى ملائكية لأن الإنسان يميز بها بين الخير والشر[46].
ويؤسفنى أن يجنح كاتبنا إلى هذه المغالطات الواهية ويُقْدِم على العبث بنص القرآن الكريم على ذلك النحو مضيفا كلمة "قوة" لتمييز العدد "تسعة عشر" رغم خلو النص القرآنى منها، ورغم أن الآية التالية تقول إن هؤلاء التسعة عشر هم تسعة عشر مَلَكًا يُسَمَّوْن: "أصحاب النار"، ورغم أن الموضع الذى اجْتُلِبَتْ له كلمة "قوة" وزُِرِعَتْ فيه زرعا يرفضها رفضا قاطعا لأنها كلمة مؤنثة، ومن ثَمَّ تصلح أن تكون تمييزا لصيغة "تسع عشرة"، أما "تسعة عشر" فكلا ثم كلا ثم كلا. ومن تمحُّله هنا أيضا أنه، كى تتسق الآية المذكور فيها "أصحاب النار" مع الآية السابقة عليها، يقول إن هذه القوة قوة ملائكية، وهو تلاعب بالألفاظ خطر! ثم كيف تكون قوة الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى قائمة على سَقَر؟ وكيف تكون قوةً ملائكية، وهى كثيرا ما تُغْرِى بالشهوات وتسوق الإنسان إليها وإلى مغامستها سَوْقًا؟ لقد تحدث القرآن الكريم عن هؤلاء التسعة عشر فى عدة مواضع فسمّاهم فى سورتى "غافر" و"المُلْك": "خَزَنة جهنم"[47]، كما وصفهم فى سورة "التحريم" بأنهم "ملائكةٌ غِلاظٌ شِداد"[48]، وها هو ذا يدعوهم هنا: "أصحاب النار". ثم كيف تسمَّى هذه القُوَى: "أصحاب كذا"؟ فضلا عن أن "أصحاب" مفردها "صاحب" (مذكَّر)، ومن ثَمَّ لا يصلح استعمالها لـ"القوة" لأنها مؤنثة، ولو كانت هى المقصودة لاستعمل القرآن لها كلمة "صواحب"، التى مفردها "صاحبة".
الحق أنى أخشى أن تكون هذه التأويلات المسرفة المتعسفة واشيةً بوجود شبهة إنكار، ولو مبطنا، لبعض من جوانب عالم الغيب، وإلا فما معنى أن يَضْرِب الإنسان صَفْحًا عن كل ما يمتّ إلى ما يسمَّى فى القرآن بـ"عالم الغيب" مؤوِّلا إياه كل مرة بشىء من عالم الحس أو مما يتعلق بعالم الحس؟ لطالما نعى محمد أسد على الحضارة الغربية وأبنائها أنهم لا يؤمنون إلا بما يقع عليه الحس، فما السر فى موقفه ذاك إذن؟ وما دام الشىء بالشىء يُذْكَر فينبغى ألا يفوتنى الإيماء هنا إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد أوَّل "التسعة عشر" فى الآية الكريمة تأويلا مشابها، إذ قال إنها الحواس التسع[49] ومقابلاتها الروحية (وهى تسعة أيضا) بالإضافة إلى الشعور بالألم والحرارة[50]. وقد ذكر أسد أن الرازى قد أول "التسعة عشر" هذا التأويل من قبل.
وإذا كان مترجمنا قد أول "الجِنّة" بـ "قوانين الطبيعة"، فها هو ذا فى موضع آخر يؤول الجن (والجنّ والجِنّة شىء واحد كما نعرف) بأنهم "ناسٌ غرباءُ مسافرون لم يُرَوْا من قبل"، وذلك فى قوله تعالى يخاطب الرسول عليه السلام: "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أَنْصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قولهم منذِرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابا أُنْزِل من بعد موسى يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلال مبين"[51]، "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدى إلى الرُّشْد فآمنّا به، ولن نشرك بربنا أحدا*...إلى آخر الآيات"[52]. وهؤلاء الناس الغرباء كانوا، كما يقول، من اليهود، إذ لم يذكروا إلا رسالة موسى مما يدل على أنهم لم يكونوا يؤمنون بعيسى عليه السلام. كما يترجم "نفرا من الجن" فى آيات "الأحقاف" بـ "جماعة من الكائنات الخفية"[53].
وتعليقى على هذا أنه ليس هناك من سبب يجعلنا نصرف لفظ "الجن" عن دلالته المعروفة إلى معنى "الغرباء من البشر"، وإلا فأين الدليل على ذلك؟ صحيح أن القرآن قد استخدم كلمة "شياطين" للبشر، لكنه حين فعل ذلك قال: "شياطين الإنس"، أما هنا فقد استعمل كلمة "الجن" مطلقة دون إضافتها إلى "الإنس" أو "البشر" أو ما إلى ذلك. وعلاوة على هذا فإن القرآن يسمى الغرباء المسافرين: "أبناء السبيل" أو الذين "على سفر"، ولا يسميهم "الجن" أبدا. ثم إننا، على مذهب محمد أسد، ينبغى أن نسمى كل مسافر أو غريب لم نره من قبل: "جِنًّا"! أَوَلَيْسَ هذا كلاما مضحكا؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن سورة "الجن" تذكر "الجن" فى مقابل "الإنس" كما تفعل آيات كثيرة فى القرآن الكريم، ولم يقل أحد إن "الجن" فى غير هذه السورة وسورة "الأحقاف" هم الأغراب الذين لم يسبق لنا أن رأيناهم، فلماذا تشذّ هاتان السورتان؟ وماذا نفعل بقوله عز شأنه فى سورة "الجن" على لسان الطائفة التى تنتمى إلى هذا الجنس: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَسًا شديدا وشُهُبا* وأنا كنا نقعد منها مقاعدَ للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصَدا"؟ أنقول إن هؤلاء الأغراب كانوا يقعدون من السماء مقاعد للسمع، أما الآن فقد تغير الحال ولم يعد يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟ ولكن كيف يا ترى يتسنى للبشر أن يصنعوا هذا؟ أم ترى لابد من التأويل هنا كى نغطى ظهر التأويل السابق؟ إننا، بهذه الطريقة، نضيع معالم الآيات وملامحها، ويلتبس كل شىء فيها بكل شىء!
ولقد تكرر ذكر الجن والشياطين الذين كانوا يسترقُون السمع لأخبار السماء قبل الإسلام والذين باتوا يُرْمَوْن بعده بالشهب المحرقة[54]، لكن أسد يفسر "رُجُوم الشياطين" الواردة فى سورة "المُلْك" بأنها ما يَرْجَُم به شياطين الإنس، وهم المنجمون. يقصد تخميناتهم وظنونهم، ولا أدرى كيف يكون ذلك! لقد بينّا أن القرآن حين يقصد أشرار الإنس فإنه يقول بصريح العبارة: "شياطين الإنس"، أما حين يستعمل كلمة "الشياطين" مطلقة فليس إلا الشياطين المخلوقون من نار. وأىّ قول بغير هذا هو عبث وتدليس فى مواضع لا تقبل شيئا من عبث أو تدليس.
ثم إن القرآن يفسر بعضه بعضا، و"رجوم الشياطين" هى الشهب الراصدة التى يُقْذَف بها من يريدون أن يَسَّمَّعوا من الشياطين إلى الملإ الأعلى. وقد جاء فى الآية 17 من سورة "الحِجْر" أن الله قد حفظ السماء "من كل شيطان رجيم"، فالرَّجْم هنا هو الرجم هناك، أى القذف بالشهب الراصدة والطرد من رحمة الله لا رجم الظنون والتكهنات. وهذا واضح لكل ذى عينين! وهو نفسه ما تقوله آيتا سورة "الجن" المذكورتان آنفا، فلم اللف والدوران؟ كذلك لو كان الجن هنا مجرد جماعة من الغرباء، فما الذى أمسكهم فلم يجعلهم يبرزون من مكامنهم التى تصادف أن استمعوا فيها للرسول عليه السلام وهو يقرأ القرآن فى وادى نخلة؟ إن الآيات واضحة الدلالة على فرحتهم به وبالقرآن الذى سمعوه منه ومسارعتهم إلى الإيمان، أفلم يكن الطبيعى منهم أن يحرصوا على التقدم إليه وتعريفه بأنفسهم وإشهاده على إيمانهم برسالته؟ لكن آيات سورتى "الأحقاف" و"الجن" تنص على أن الرسول لم يعلم بوجود هؤلاء القوم وإيمانهم بدعوته إلا من خلال الوحى الإلهى، مما يدل على أنهم من الجن المعروفين الذين لا يظهرون للبشر. وتبقى مسألة كونهم يهودا أو نصارى، وليست آيات سورة "الأحقاف" قاطعة الدلالة على أنهم يهود، ولقد قال محمد أسد ذاته فى تعليق سابق إن عيسى لم يأت بشريعة جديدة. ومن هنا فإن التوراة من الناحية التشريعية شىء واحد لكل من اليهود والنصارى.
والطريف أن محمد أسد، بعد كل هذا، عاد فترجم "الجن" فى قوله سبحانه فى الآية الرابعة من سورة "الجن": "وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" بـ"القوة الخفية"، وفسرها فى الهامش بأن المقصود بهم "the occult powers"، أى القدرات السحرية الخفية[55]، فأى ارتباك وإرباك هذا؟ أهكذا يُتَناول القرآن الكريم؟ فكيف تقول "القدرات السحرية" على الله الكذب؟ إن هذه القدرات إنما هى مفاهيم مجردة لا أشخاص، فكيف يمكن أن يقع منها قول أو توصَف بالكذب؟
هذا، وأود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد فسر ذلك النفر من الجن بأنهم ناس من اليهود غير العرب، سُمُّوا "جنا" لأنهم كانوا غرباء[56]، تماما كما فعل محمد أسد لَدُنْ تناوله لآيات سورة "الأحقاف"، وإن كان المترجم القاديانى قد ذكر أنهم قابلوا النبى عليه السلام فعلا وأسلموا على يديه[57]، وهو ما لم تقله الآيات القرآنية فى أى موضع، بل من الواضح، حسبما جاء فى مفتتح سورة "الجن"،أنه عليه السلام لم يشعر بهم ولم يعرف بأمرهم إلا من الوحى: "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن...". كذلك أود أن أختتم هذه الملاحظات الخاصة بهؤلاء النفر من الجن بأنهم لو كانوا بشرا لسماهم القرآن بـ"أهل الكتاب" كما يفعل فى الآيات المشابهة. وحتى لو افترضنا أن كلمة "الجن" فى هذا السياق تعنى "الغرباء"، فهل كانوا غرباء فى نظر أنفسهم حتى يُسَمُّوا هم أيضا أنفسهم "جِنًّا" كما فى قوله تعالى: "وأنا ظننّا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا"؟ ثم لو كانوا ناسًا من غير العرب فكيف فهموا لسان القرآن العربى، وهم غرباء لا يعرفون هذا اللسان"؟ أما الجن فلهم وضع آخر، إذ لهم قدرات عجيبة غير متاحة للبشر. ومن التشابهات بين أسد والمترجم القاديانى أيضا تفسير الأخير لـ"الجن" فى السورة المسماة باسمهم بأنهم "العرافون والكهنة"[58]. ترى لو كان هذا التفسير صحيحا فما الذى حجز القرآن عن أن يسميهم بـ"الكهنة"، وقد استخدم كلمة "كاهن" فى أكثر من موضع منه؟
فهذا عن الجن والملائكة ونظرة محمد أسد إليهم. وعلى أساس من التأويل أيضا نراه يتناول الجَنّة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب، فهو يؤكد أن أوصاف الجنة من أكل وشرب ولبس، وكذلك كلّ ما يتعلق باليوم الآخر فى القرآن، إنما هى تعبيرات رمزية لتقريب هذه الأمور، ولا يصح فهمها على ظاهرها بأية حال[59]: فـ"اتكاء أهل الجنة على فُرُشٍٍ بطائنها من إستبرق" كما جاء فى الآية 54 من سورة "الرحمن" معناه عنده الراحة التامة والسلام الشامل لا أكثر ولا أقل[60]، "والرحيق المختوم" المذكور فى الآية 25 من سورة "المطففين" مجرد إشارة رمزية لمشاعر البهجة الأخروية المركزة التى لا تخطر على قلب بشر[61]، و"ضحك الذين آمنوا فى الجَنّة من الكفار" فى نفس السورة هو مجرد معنى مجازى يشير إلى سعادتهم بحظهم الطيب لأن مثل ذلك الضحك مما لا يليق بالمؤمنين[62]، و"أنكال" سورة "المدثر" التى اعدها الله يوم القيامة لأهل الجحيم ليست سوى رمز على بقاء النفس فى العالم الآخر مقيدة بمتعها وشهواتها الجسدية، ومن ثَمَّ لا تستطيع بلوغ عالم الروح والصفاء[63]، و"ضَرِيع" سورة "الغاشية"، وهو فيها طعام أهل النار، إنما هو مشتق من "الضراعة"، وليس إلا تعبيرا مجازيا[64]...وهكذا.
ومن الواضح أنه ينظر إلى متع الجسد نظرة تقززية وأن الحياة الآخرة لديه إنما هى حياة روحية محضة. وهذه نظرة شائعة بين قطاع من المسلمين، ولا أعرف لماذا، ولا على أى أساس من آيات القرآن أو أحاديث النبى يقولون بذلك، ولا لأى سبب يحتقرون الجسد ويعلون من شأن الروح وحدها. إن كلا من الجسد والروح هو صنعة الله، فلماذا نحتقر ذلك ونفضل هذه عليه؟ ألأن الجسد يمرض ويشيخ ويتغضن ويفرز البصاق والعرق والعماص والبلغم والبول والبراز والقيح والصديد وتتغير رائحته مع مرور الوقت؟ سبحان الله! وهل الروح بمنأى عن العيوب والثلمات؟ ألا يشعر الإنسان بالملل والضيق واليأس والشح والحقد والغرور والضعة والأنانية والشك والسهو والنسيان والغباء واشتهاء المحرمات؟ أليست هذه ألوانا من النقص تعترى الروح البشرية، وغيرها كثير؟ إذن فلم تلك النظرة الدونية للجسد؟ ثم من قال إن أجساد أهل الجنة ستكون كأجسادنا هنا على الأرض؟ إن آيات القرآن وأقوال الرسول واضحة الدلالة على أنها ستكون خالية من كل ما يسبب لنا الألم والضيق والتقزز فى الدنيا، فما المشكلة إذن؟ ثم إن حواسنا الجسدية هى نوافذنا على العالم ووسيلتنا إلى الاتصال به، فلم الزعم بأن ذلك الوضع سيتغير فى الآخرة ويُلْغَى الجسد وتلك النوافذ التى تصلنا بالعالم إذا كان القرآن نفسه وحديث الرسول لا يقولان بهذا بل بعكسه؟ هل هناك ما يدل على أن الكلام عن الجنة والنار هو كلام مجازى؟ فأين هذا الدليل؟ الواقع أنه لا يصار إلى القول بالمجاز إلا إذا كان السياق يوجب هذا أو كان من المستحيل وقوع الأمر على ظاهره أو ترتَّب على الفهم الظاهرى للكلام تناقض لا يمكن إزالته...إلخ، ولا شىء من ذلك، والحمد لله، فى النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بذلك الموضوع.
قد يقال: وكيف سنُبْعَث بأجسادنا هذه، وقد كان لكل واحد فى دنياه أجساد بعدد اللُّحَيْظات التى عاشها؟ فبأى جسد من هؤلاء سنُبْعَث؟ وقد أثير سؤال قريب من هذا فى إحدى محاضرات الفلسفة الإسلامية التى كان يعطيناها د. حسن حنفى فى أواخر الستينات من القرن الماضى بآداب القاهرة، وكانت إثارته على سبيل التحدى من جانب أحد الملحدين. وقال الأستاذ الدكتور إن جسد كل منا يعتريه التحلل بعد موته ويصير ترابا يتغذى عليه النبات الذى يأكله إنسان آخر يستحيل جسده بدوره بعد موته ترابا يأكله النبات...وهكذا دواليك، فكيف ستنماز أجساد البشر اللامتناهية يوم القيامة، وكلها فى الأصل راجعة إلى عدد محدودد نسبيا من الأجساد؟ لكنْ نَسِىَ أصحاب هذا الاعتراض أن كل شىء حاضر بجميع أوضاعه وتطوراته فى إدراك الله يبرزه لنا وقتما يشاء. لقد استطاع البشر تسجيل الأشياء والأشخاص بالصوت والصورة، أما الله فكل شىء عنده مخزون بكل أبعاده وعناصره وطبائعه وخصائصه لا مسجَّل فقط صوتا وصورة، ذلك أن علمه سبحانه مطلق بلا حدود، وهو جلَّ شأنه فوق الزمان والمكان، وكل شىء حاضر فى علمه حضورا أبديا مهما تناءى به الزمان والمكان. أما بعد الحساب فكل شىء سوف يتغير، وتجرى الأمور على أوضاع وقوانين جديدة، فأهل الجنة مثلا سيَغْدُون شبابا خالدين لا يعرفون الهَرَم أبدا كما جاءت بذلك نصوص القرآن والحديث. ثم ينبغى ألا ننسى أن كلا منا ليست له فقط روح واحدة، بل أرواح متتابعة بعدد اللحظات التى مرت به مثلما هو الحال فى الأجساد أيضا، إذ إن التغير لا يعترى الأجساد وحدها، بل الأرواح معها.
والواقع إن فى إنكار بعث الأجساد لَصَدًى من إنكار الكافرين بالبعث بوجه عام، فقد كانوا يستغربون أن يبعث الله البشر بعد أن تكون عظامهم قد بَلِيَتْ واختلط رفاتهم بالتراب، ويقولون مستهزئين: "أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟"، "أإذا ضللنا فى الأرض أإنا لفى خلق جديد؟"، "مَنْ يُحْيِى العظام وهى رميم؟". ولقد كان رد القرآن عليهم: "قل: يُحْيِيها (أى يحيى العظام الرميم) الذى أنشأها أول مرة"[65]، "أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟* بَلَى قادرين على أن نُسَوِّىَ بَنَانه"[66].
وإن آيات مثل "منها (أى من الأرض والتربة) خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى"[67]، "ونُفِخَ فى الصُّور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون"[68]، "وإذا القبور بُعْثِرَتْ* علمتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ"[69]، "وقالوا (أى الكافرون): أإذا كنا عظامًا ورُفَاتًا أإنا لمبعوثون خَلْقًا جديدا؟* قل: كونوا حجارة أو حديدا* أو خَلْقًا مما يَكْبُر فى صدوركم. فسيقولون: من يُعِيدنا؟ قل: الذى فطركم أول مرة"[70]، "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون"[71]، "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاسْتَبََقُوا الصراط، فأنَّى يبصرون؟"[72]، "وتَرَى كلَّ أمة جاثية. كلُّ أمة تُدْعَى إلى كتابها: اليوم تُجْزَوْن ما كنتم تعملون"[73] لتبرهن على أن البعث سيكون بالأجساد أيضا. وبالمثل فإن آياتٍ مثل "من ورائه جهنم، ويُسْقَى من ماءٍ صديد * يتجرعه ولا يكاد يُسِيغه"[74]، "ولهم (أى للكافرين) مقامعُ من حديد"[75]، "كلما نضجتْ جلودهم بدَّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب"[76]، "إنها (أى شجرة الزقوم) شجرة تخرج فى أصل الجحيم* طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لَشَوْبًا من حميم"[77] لَتُثْبِت أن للأجساد فى عذاب النار نصيبا. كذلك فإن آياتٍ مثل: "فيها (أى فى الجنة) ما تشتهيه الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ"[78]، "هم وأزواجهم فى ظلال، على الأرائك متكئون"[79]، "لهم جنّاتُ عَدْنٍ تجرى من تحتهم الأنهار يُحَلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابًا خُضْرًا من سندسٍ وإستبرق"، "على سُرُرٍ موضونة* متكئين عليها متقابلين* يطوف عليهم وِلْدَانٌ مخلَّدون* بأكوابٍ وأباريقَ وكأس من مَعِين*...* وفاكهةٍ مما يتخيَّرون* ولحمِ طيٍر مما يشتهون* وحور عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون"[80] وغيرها من الآيات المماثلة لتدل على أن حظوظ الجسد ستكون مَرْعِيَّة ومتاحة فى نعيم الآخرة. ويؤكد ذلك أن القرآن الكريم يذكر إلى جانب هذا أيضا "السلام"[81] و"الرضوان الإلهى"[82] و"خلو القلوب من الغل"[83]...إلخ مما يدل على أنه سيكون هناك هذا وذاك ما دام القرآن قد ميز بين الأمرين، وإلا لَذَكَر هذه المتع الروحية الأخيرة فقط.
إن هذه النزعة المتقززة من لذائذ الجسد هى نزعة غريبة عن الإسلام، وينبغى وضع حد لها[84]. وإنى لأتوجه إلى ضمائر القراء الصادقين سائلا: أيُّكم يجد فى متع الطعام والشراب واللبس واللمس والنظر والشم والجنس ما يبعث فعلاً (لا ادعاءً) على الاشمئزاز؟ فما بالنا إذا صَفَتْ هذه اللذائذ من كل ما يعكرها وأصبحت متاحة لنا دائما دون أن يصحبها شعور بالملل أو الكظّة أو المَغْص، أو يحتاج الإنسان معها إلى جُشَاء أو تبوُّل أو تبرز؟ إن هذا غاية المنى، وهو الذى تَحْفَى أقدام البشر خلف أقل القليل منه هنا على الأرض دون بلوغه! أفإن أتاحه الله لنا ركب بعضَنا شيطانُ العناد السخيف وشَمَخَ بأنفه قائلا: هذه لذاتٌ وضيعة؟ ترى ماذا بالله فى أن يعود الواحد منا شابًّا شبابا دائما فلا يشكو نَصَبًا ولا أَيْنًا ويَلْقَى كل ما كان يشتهيه فى الدنيا بين يديه صافيا نقيا من كل شائبة وعلى أحسن وضع مما لا يمكننا تصوره تماما الآن بعقولنا المحصورة داخل تجارب الدنيا وظروفها؟ ورب الكعبة إن هذا لهو البطر بعينه!
إننى لا أكفِّر أحدا ممن يؤوّل نعيم الجنة مثلا ولا أفسِّقه ولا أضلِّله، ولكنى رغم ذلك أجد أن الرأى الذى أقول به أَوْجَه وأكثر إقناعا وأقرب إلى المنطق والنصوص. وقد ورد فى "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" لابن رشد أن هذه من المسائل المختلف فيها. ورأى هذا الفيلسوف، رضى الله عنه، أن المخطئ من العلماء فى هذا الموضوع معذور، والمصيب مشكور مأجور، والمهم ألا ينكر أحد البعث، وإلا فالإنكار كُفْر لأن البعث أصل من أصول الشريعة[85]. وكان ابن حزم، رحمه الله رحمة واسعة، من القائلين ببعث الأجساد والنفوس معا[86]، ويسعدنى أن أكون فى صفوف الفريق الذى يضم هذا العالمَ العبقرىَّ الجليل.
ومع ذلك كله فإن أسد فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" لم يحاول، فى الأحاديث التى ورد فيها ذكر شىء من نعيم الجنة أو الجن مثلا، تأويل هذا النعيم. لقد أدى مثلا الحديث الذى يقول فيه النبى عليه السلام: "بينما أنا نائم رأيتُنى فى الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر...إلخ" كما هو دون أدنى تغيير، كما أنه لم يعلق عليه فى الهامش بما يخرجه عن معناه الظاهرى[87]. ومثل ذلك ترجمته لكلمة "الجِنّ" بـ"Jinn" دون أن يستبدل بها شيئا آخر أو يجنح إلى تأويلها فى الهامش بما يخرجها عن معناها المعروف. بل إنه فى الحديث الذى وردت فيه إشارة إلى أن العظم والروث هما من طعام الجن لم يعلق ولو بكلمة واحدة تَصْرِف المعنى عن ظاهره[88]. ليس ذلك فقط، بل نراه فى موضعٍ آخرَ من هذا الكتاب يحمل على الاتجاه العصرى الذى ينكر وجود الجن وما أشبه استنادا إلى عدم إدراك الحواس لمثل هذه الأشياء، ثم يستشهد بكلام للفيلسوف برادلى يقرر فيه أن عجزنا عن إدراك شىء ما لا يصلح متكأً البتةَ لإنكار وجوده[89]. كذلك فهو لا يستبعد أن يكون نداء إبليس للرسول عليه السلام أثناء المعراج نداء حقيقيا جسديا[90].
إلا أنه للأسف يفسِّر العذاب الذى ذكرت بعضُ الأحاديث أن أبا طالب سوف يُعَذَّبه فى الآخرة، وهو غليان دماغه من ضحضاح النار الذى سيبلغ كعبيه، بأنه رمز على أن معاناته ستكون معاناة عقلية بسبب تأكده أن ابن أخيه نبى صادق وأن دينه هو الدين الصحيح، ثم عدم إيمانه به رغم ذلك[91]. ولا شك أن القول بالرمز هنا هو تأويل للعذاب الذى ورد فى الحديث النبوى الكريم، وأغلب الظن كذلك أن أسد ينظر إلى ألوان العقوبات التى شاهدها الرسول صلى الله عليه وسلم فى رحلة المعراج على أنها عقوبات غير جسدية، إذ اتخذها دليلا على أن هذا المعراج وكذلك الإسراء كان بالروح لا بالجسد[92].

-- الحواشي--

[25] Muhammad Asad, The Road to Mecca, PP. 292- 295. وهذا الكلام يجده القارئ فى ص 308- 311 من الترجمة العربية لهذا الكتاب.
[26] Muhammad Asad, Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam, P. 241, n. 5.
[27] انظر الهامشين المذكورين فى ص 204، 205 من ترجمته للقرآن الكريم.
[28] انظر ص 5/ هـ 10، وص9/ هـ 26، وص 177/ هـ 34، وص 204/ هـ 10، وص 386/ هـ 31.
[29] انظر ص 206/ هـ 20، وص 375- 376/ هـ 31، 33، وص 384/ هـ 16 مثلا.
[30] انظر ص 733- 734/ هـ 24- 25، وص 752/ هـ 31.
[31] الكهف/ 50.
[32] الأعراف/ 7، وص 76.
[33] الحجر/ 27.
[34] النحل/ 50. ومثله قوله تعالى عنهم أيضا: "لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون" (الأنبياء/ 27)، "لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون" (التحريم/ 6).
[35] البقرة/ 26.
[36] انظر ترجمة أسد للقرآن/ ص 9/ هـ 16.
[37] طه/ 2- 3.
[38] الشعراء/ 77.
[39] الزخرف/ 26- 27.
[40] الانشقاق/ 22- 25.
[41] انظر ص 44/ هـ 52.
[42] ص 666/ هـ 1.
[43] انظر ص 692/ هـ 67.
[44] وهذا الاعتقاد هو مرحلة أخرى من المراحل التى كان يتطور خلالها تصورى للملائكة والشياطين.
[45] الموضع السابق
[46] انظر ص 909/ هـ 16.
[47] غافر/ 49، والملك/ 8.
[48] التحريم/ 6.
[49] وهى الحواس السبع الخارجية، إلى جانب حاسة إدراك المكان وحاسة الجوع والعطش وغيرهما من الإحساسات الداخلية، وهو كلام لا رأس له ولا ذيل كما ترى.
[50] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1281, n. 3169.
[51] الأحقاف/ 29- 32.
[52] الجن/ 1 وما بعدها.
[53] انظر ص 775 فى ترجمة الآية 29 من سورة "الأحقاف"، وهـ 39 الخاص بالآية المذكورة.
[54] الحجر/ 18، والصافات/ 10، والجن/ 8- 9، والملك/ 5.
[55] ص 899 فى ترجمة الآية المذكورة، وهـ 3 فى التعليق عليها. والمراد بـ "القدرات السحرية الخفية" التنجيم والسحر وقراءة الطالع وادعاء معرفة الغيب...إلخ.
[56] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1080, n. 733..
[57] المرجع السابق/ ص 1267/ هـ 3137.
[58] السابق/ ص 1268/ هـ 3142.
[59] انظر مثلا ص 444/ هـ41، وص 686/ هـ 23، وص 972/ هـ 3.
[60] ص827/ هـ 26 .
[61] ص 938/ هـ 8.
[62] ص 939/ هـ 14.
[63] انظر ص 904/ هـ 7.
[64] ص 948/ هـ 2.
[65] يس/ 79.
[66] القيامة/ 3- 4.
[67] طه/ 55.
[68] يس/ 51.
[69] الانفطار/ 4- 5.
[70] الإسراء/ 49- 50.
[71] النور/ 24.
[72] يس/ 66.
[73] الجاثية/ 28.
[74] إبراهيم/ 15- 16.
[75] الحج/ 21.
[76] النساء/ 56.
[77] الصافات/ 64- 67.
[78] الزخرف/ 71.
[79] يس/ 56.
[80] الواقعة/ 15- 23.
[81] كما جاء فى الآية 25 من سورة "يونس"، والآية 46 من سورة الحجر، والآية 34 من سورة "ق".
[82] كما جاء فى الآية 15 من سورة "آل عمران"، والآية 72 من سورة "التوبة"، والآية 20 من سورة "الحديد".
[83] كما جاء فى الآية 43 من سورة "الأعراف"، والآية 47 من سورة "الحجر".
[84] يقول أسد نفسه إن النصرانية تنظر إلى عالم المادة على أنه شيطانى فى أساسه، بينما عالم الروح إلهى خير، أما الإسلام فلا يفرق بين مطالب الجسد ومطالب الروح (محمد أسد/ الإسلام على مفترق الطرق/ ترجمة د. عمر فروخ/ دار العلم للملايين/ 28، 30).
[85] انظر ابن رشد/ فَصْل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال/ تحقيق محمد عمارة/ ط 2/ دار المعارف/ 49- 50.
[86] انظر كتابه "الفِصَل فى الملل والأهوال والنِّحَل"/ 4/ 80- 81.
[87] ص 40. وانظر كذلك الحديث الذى يتحدث عن بيت القصب الذى سيكون لخديجة، رضى الله عنها، فى الجنة (ص129- 130).
[88] ص 163- 164. وهذا الاختلاف هو من الأمور التى تلفت النظر.
[89] ص 163/ هـ 3.
[90] ص 185.
[91] ص 184/ هـ 2.
[92] ص 185.
 
مقارنة محمد أسد بين القرآن والكتاب المقدس

مقارنة محمد أسد بين القرآن والكتاب المقدس

على شاكلة كثير ممن ترجموا القرآن إلى اللغات الأوربية من مسلمين ومستشرقين يُكْثِر محمد أسد من المقارنة بين القرآن المجيد والكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى فى الموضوعات المشتركة بينهما، وأحيانا ما يكتفى بهذه المقارنة لا يتعداها إلى إبداء رأيه فيما يختلف الكتابان فيه، لكنه عادة ما يزيد فينتصر للقرآن. ولقد تكرر عنده الحديث فى مواضع مختلفة عما أصاب الكتاب المقدس من عبث وتحريف طبقا لما قاله القرآن، وكذلك الحديث عن حفظ الله عز شأنه كتابه إلى أبد الآباد من أن تناله يد الإفساد.
ومنذ الصفحات الأولى من الترجمة نراه يتهم اليهود بالعبث بالتوراه وكتمان ما ورد فيها من ذكر نبوة محمد عليه السلام، مؤكدا أن النقد النصوصى للكتاب المقدس قد أثبت صحة التهمة القرآنية لهم بذلك، ومستشهدا على ما يقول بما ورد فى سفر "إرميا" (13/ 26)، ونصه: "أفسدتم كلام الله الحى"، وبما جاء فى مواضع أخرى من العهد القديم من نصوص مختلفة تذكر عنادهم وتمردهم كما فى سفر "الخروج" (32/ 9، و33/ 3، و34/ 9) و"التثنية" (9/ 6- 8، 23- 24،27) مثلا[93].
وانطلاقا من هذه النقطة نجده، فى تعليقه على الآية 101 من سورة "البقرة"، ونَصُّها: "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدِّقٌ لما معهم نَبَذَ فريقٌ من الذين أوتوا الكتابَ كتابَ الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون"، يقول إن "كتاب الله" المذكور هنا هو التوراة، وإن اليهود، بإهمالهم ما جاء فى سفر "التثنية" (18/ 15، 18) من نبوءاتٍ تبشِّر بمجىء النبى العربى، قد نبذوا فعلا كل ما نزل من وحى على موسى طبقا لكلام الزمخشرى ومحمد عبده[94].
أما بالنسبة للنصارى وموقفهم من النبوءة الواردة فى الإنجيل عن محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يؤكد أن قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: "... ومبشِّرًا برسولٍ يأتى من بعدى اسمه أحمد"[95] يجد مصداقه فى ذِكْر إنجيل يوحنا للفارقليط فى عدة مواضع. ثم يوضح قائلا إن كلمة "Parakletos" المشار إليها هى بالتأكيد تحريف لكلمة "Periklytos"، ومعناها "المحمود كثيرا"، وهو ما يساوى كلمة "محمد/ أحمد"، التى هى الترجمة الدقيقة للكلمة الآرامية "Mawhamana"، إذ كانت الآرامية (كما يقول) هى اللغة السائدة فى فلسطين على عهد عيسى عليه السلام وبعده بقرون، كما أن اسم "محمد" قد ورد بنصه العربى فى إنجيل برنابا، الذى ترفضه الكنيسة الآن بعد أن كانت تقرّه حتى عام 496م عندما حرَّمه البابا جلاسيوس، وإن كان من غير المستطاع فى الظروف الراهنة التأكد من صحته بسبب ضياع النص الأصلى، إذ الموجود فى أيدينا حاليا إنما هو ترجمة إيطالية ترجع إلى أواخر القرن السادس عشر الميلادى[96].
وعلى العكس من ذلك نراه، فيما يخص القرآن الكريم، يؤكد أن قوله تعالى: "إنا نحن نزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون"[97] قد تبين صدقه بما لا يدع مجالا للشك، إذ ثبت أن النص القرآنى وصل إلينا عن النبى محمد خاليا من أى تعديل أو إضافة أو حذف، وأنه ما من كتاب آخر، أيًّا كانت صفته، قد بقى سليما طيلة هاتيك القرون جميعا. أما بالنسبة للقراءات المختلفة لبعض ألفاظ القرآن المجيد فهى لا تعدو أن تكون اختلاقا فى ضبط بعض الحروف لا يمس المعنى عادة[98]. وقد كرر هذا الكلام عند تفسيره لـ"الكتاب المكنون" فى سورة "الواقعة"، ولـ"اللوح المحفوظ" فى سورة "البروج"، إذ قال إنهما إشارة إلى حفظ القرآن الكريم من كل عبث، إضافةً كان أو حذفًا أو مسخًا، لأن الله قد تكفل بحفظه إلى الأبد[99].
أما المواضع التى قارن فيها بين ما جاء فى القرآن ونظيره فى الكتاب المقدس فهى كثيرة، ولكننا نجتزئ ببعضها عن سائرها: فمن ذلك تعقيبه على الآية 135 من سورة "البقرة"، التى تذكر "مقام إبراهيم"، بأن رحلة خليل الرحمن إلى الحجاز ليست بالأمر الذى يصعب أن يقوم به بدوى يستعمل البعير فى تنقلاته. ثم يمضى محاولا إثبات أن رواية العهد القديم التى تقول إن البَرِّيَّة التى ترك فيها أبو الأنبياء زوجته وابنه هى بَرِّيّة "بئر سبع"، ورواية القرآن التى تقول إنه إنما ذهب بهما إلى الحجاز، لا تتناقضان، قائلا إن برِّيَّة "بئر سبع" كانت تعنى عند العبرانيين الذين كانوا يسكنون المدن آنئذ أقصى جنوب فلسطين وما وراءها من الصحراء العربية حتى الحجاز نفسه[100].
وبالنسبة لقوله عز من قائل فى آخر آية القصاص من سورة "المائدة": "فمن تصدَّق به (أى تنازل عن القِصَاص تقرُّبًا إلى الله سبحانه) فهو كفارة له"[101] يقول كاتبنا إن النسخة الحالية للعهد القديم تخلو من هذا الحكم، إذ ليس فيها إلا العين بالعين، والسن بالسن...إلخ، أما العفو والتسامح فإنها لا تذكره. وهو لا يستبعد أن هذا الحكم كان موجودا فى التوراه الأصلية، ثم عَفَتْه يد العبث أو الإهمال المتعمد[102]. كذلك من المعروف أن القرآن يسمى والد إبراهيم عليه السلام: "آزَر"، على حين يدعوه العهد القديم: "تارح". وقد حاول محمد أسد أن يجد حلا لهذه المسألة قائلا إن اسم والد إبراهيم فى التلمود هو "Zarah"، وعند المؤرخ الكنسى يوزبيوس بامفلى[103]:"Athar"، ورغم أن أيا من هذا وذاك لا يصلح، كما يقول، أن يكون حجة يعتمد عليها فى تفسير القرآن فمن الممكن القول بأن "آزر" هو تعريب لـ"Zarah" أو "Athar"[104].
وكان محمد لطفى جمعة قد تناول هذا الموضوع فى تفسيره للقرآن الكريم (الذى تركه محفوظا ونشره ابنه الأستاذ رابح لطفى جمعة فى التسعينات من القرن الماضى) وأشار إلى أن الاسم الموجود فى التلمود هو "آثر"، وكان رأيه، مع ذلك، أنه ما دام العهد القديم يقول إنه "تارح"، فإن "آزر" لم يكن أبًا حقيقيا له بل عَمًّا، وبخاصة أن إبراهيم قد دعا ربه أن "اغفر لى ولوالدىَّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"[105] بما يدل على أن ذلك الأب كان مؤمنا ما دام خليل الله قد قرنه مع المؤمنين، بينما كان آزر وثنيا بنص الآية التى ورد فيها اسمه حيث يقول له إبراهيم مستنكرا: "أتتخذ أصناما آلهة؟"[106]. وهذه، فى الواقع، مغالاة من لطفى جمعة بقيمة الكتاب المقدس من ناحية الوثاقة التاريخية التى لا يستحقها، فضلا عن أن ذكر إبراهيم لوالده مع المؤمنين لا يدل على أنه كان مؤمنا مثلهم، بل كل ما فى الأمر أنه عليه السلام، بعد أن بُحَّ صوته فى محاولة هدايته، قال له: "سلام عليك! سأستغفر لك ربى..."[107]، وهو ما أشار إليه القرآن فى قوله جل جلاله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إياه، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرَّأ منه"[108]. ثم إن العهد القديم ليس بالحجة التى يصح الاعتماد عليها، وبخاصة إذا قام تعارض بينه وبين القرآن[109]. وبالمناسبة فقد أشار أيضا كل من سيل ورودويل، وهما من مترجمى القرآن إلى الإنجليزية، إلى أن يوزبيوس يسمى والد إبراهيم: "آثر"، كما ذكر محمد حميد الله العالم الهندى الذى ترجم القرآن إلى الفرنسية أن "تارح" تكتب باليونانية: "Thara"، كما قد تكتب أيضا: "Athar"، وأنه من هنا جاءت "آزر"[110]. وأغلب الظن أن محمد أسد قد رجع إلى هؤلاء وهو يُعِدّ ترجمته التى بين أيدينا.
وفى حادثة الطوفان نجد كاتبنا يعلن موافقته لمولاى محمد على (القاديانى) على أن رواية القرآن التى تقول إن ذلك الطوفان لم يغرق الأرض كلها بل جزءا منها فقط هى الرواية الصحيحة، إذ جاء فيه قول رب الجلال: "وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" بما يعنى أنه لم يشمل كل أرجاء المعمور بل أغرق المكذبين من قوم نوح فحسب، على عكس ما نقرؤه فى العهد القديم من أنه شمل الدنيا جميعا وأهلك كل شىء فيها[111].
ولأسد فى هُود عليه السلام رأىٌ لستُ أستطيع أن أذكر أنى لقِيتُه عند أحد غيره، وهو أن ذلك النبى الكريم قد يكون هو النبى "عابر" المذكور فى سفر "التكوين" وأن أصداء اسمه موجودة فى اسم "يهوذا" ابن يعقوب عليه السلام. ذلك أن من المحتمل عنده أن يكون "هُود" هو الأب الأول للعبرانيين، وأن تكون معظم القبائل السامية، بما فيها العبرانيون أنفسهم، قد نزحت من جنوب الجزيرة العربية[112].
ويكتفى كاتبنا، عند المقارنة بين رواية العهد القديم والقرآن الكريم لموقف هارون من عبادة بنى إسرائيل للعجل، بالإشارة إلى الخلاف الحاد بينهما دون أن يبدى رأيه فى الرواية اليهودية التى تَنْسُب إلى هارون عليه السلام أنه هو الذى صنع العجل لقومه كى يعبدوه وأنه شاركهم أيضا فى هذه العبادة[113]. ونفس الشىء يفعله عند تعليقه على قول القرآن عن موسى، حينما عاد فوجد قومه يعبدون العجل، إنه "ألقى الألواح" (أى ألواح الشريعة التى تلقاها من ربه على الجبل)، وهو القول الذى يخالف ما جاء فى العهد القديم من أن موسى إنما "كسر اللوحين" ولم يرمهما فقط[114]، وكذلك فى معجزة يد موسى إذ وُصِفَتْ يده فى العهد القديم بأنها بيضاء من البَرَص، أما فى القرآن فـهى "بيضاء من غير سوء" كما جاء فى الآية 22 من "طه"[115]. وبالمثل نراه يشير إلى الخلاف بين رواية القرآن الكريم لموقف يعقوب عليه السلام من رؤيا يوسف التى رأى فيها نفسه وقد سجدت له الشمس والقمر وأربعة عشر كوكبا، وبين رواية العهد القديم للموقف ذاته، إذ بينما يذكر القرآن أن يعقوب قد فهم دلالة الحلم على أن يوسف سيصبح ذا سلطان وأن أبويه وإخوته سينحنون له، نرى كِتَاب اليهود، على العكس من ذلك، يُنْطِق الوالدَ بعبارات التوبيخ للابن بما يُفْهَم منه أن الرؤيا لم تكن فى نظره إلا انعكاسات لرغبة يوسف الكامنة فى نفسه فى التسلط عليه وعلى أمه وإخوته. وقد اكتفى أسد بذكر هذا الخلاف دون أن يعقب بشىء[116].
بقيت مسألتان مهمتان تتصلان بهذا الموضوع، وإن لم تدخلا فى صميمه: الأولى قول محمد أسد إن "السامرى" المذكور فى قصة موسى من سورة "طه" قد يكون اسمه مأخوذا من الاسم المصرى القديم: "Shemer" بمعنى "الغريب"، ثم أُخِذ منه اسم طائفة السامرية الذين ظهروا فيما بعد بين بنى إسرائيل. وقد يؤكد مصريةَ السامرى، كما يقول، أنه هو الذى اتخذ العجل لبنى إسرائيل تأثرا بعبادة العجل أبيس فى بلاده التى خرج منها مع اليهود[117]. وهذا النقطة تحتاج إلى فضل بيان لأن أسد قد اكتفى بلمسها لمسا دون أن يطلعنا على الأسباب التى حملته على إثارتها فى ترجمته. وحقيقة الأمر أن المستشرقين والمبشرين، كعادتهم فى المسارعة الفِجَّة إلى اتهام النص القرآنى بأنه من تأليف محمد عليه السلام، قد صوبوا إصبع الإٍتهام إلى قصة السامرىّ كما وردت فى القرآن قائلين إن مدينة السامرة لم تظهر فى التاريخ إلا بعد السامرى بقرون، فكيف يُنْسَب السامرىّ إليها قبل أن توجد؟ وقد قدمت طائفة من المفسرين والمترجمين المسلمين عددا من الردود المفحمة على هذا الاعتراض الأهوج، ومن بينهم أبو الأعلى المودودى ومحمد حميد الله مما يمكن القارئ أن يجده مبسوطا مفصلا فى كتابى "سورة طه - دراسة لغوية أسلوبية مقارنة" فى الفصل الخاص بالمقارنة بين قصة موسى فى القرآن والعهد القديم. والرأى الذى تبناه أسد هنا هو أحد الآراء التى طرحها أولئك المفسرون المسلمون، وبالذات حميد الله.
ومثل ذلك تماما قول أسد إن هامان المذكور فى عدة مواضع من القرآن الكريم بوصفه أقرب مستشارى فرعون إليه ليس هو هامان الذى يتحدث عنه سفر "أستير" فى العهد القديم. وهو يرى أن اسم كبير مستشارى فرعون ليس "اسم علم" بل "اسم جنس" بمعنى "كاهن آمون: Ha-Amen"، إذ كانت عبادة آمون سائدة إبّانئذ فى مصر. ويقوِّى هذا الرأىَ عنده أن فرعون قد طلب منه أن يبنى له صرحا يصعد فيه إلى السماوات ليطَّلع إلى إله موسى، مما يمكن أن يكون إيماء إلى وظيفة كبير الكهنة بوصفه كبير مهندسى المبانى فى ذلك الحين[118]. والملاحظ أن أسد قد اجتزأ هنا أيضا بهذا الذى ذكرناه دون أن يتطرق بشىء إلى خلفية الموضوع. والواقع أنه ليس بين القرآن والعهد القديم تناقض بالضرورة فى هذه المسألة، فوجود "هامان" فى بلاد فارس على أيام الملك أحشويرش لا يمنع من وجود "هامانٍٍ" آخر قبل ذلك فى بلاد الأهرام. من هنا فإن ما قاله أسد فى هذا الموضوع لا يدخل فى باب المقارنة بين الكتابين لأنهما لا يتكلمان عن ذات الشخص، بيد أن فريقا من المستشرقين أَبَوْا كعادتهم إلا أن يثيروها جَذَعَة فيتهموا القرآن الكريم بأنه يخلط بين الفترات والشخصيات التاريخية المختلفة بما يدل على أنه مجرد معلومات استقاها محمد من هنا ومن ههنا ممن لا علم لهم بما يتحدثون عنه، وليس وحيا إلهيا. فإشارة أسد هى رد غير مباشر على أولئك المستشرقين[119].
والمسألة الأخرى هى قوله إن الذبيح فى قصة خليل الرحمن المعروفة هو إسماعيل عليه السلام[120]، وذلك رغم أن القرآن لم يصرح بذلك بل ترك المسألة غُفْلاً، وإن كانت هناك إشارات فى آيات سورة "الصافات" التى تتحدث عن هذه المسألة وفى مواضع أخرى من القرآن تومئ بقوة إلى أن الذبيح هو فعلا إسماعيل، لا إسحاق كما يقول اليهود رغم ما جاء فى كتابهم من أن الله كان قد أمر إبراهيم أن يضحى بابنه الوحيد[121]، وهو ما لا يمكن أن يَصْدُق إلا على إسماعيل، إذ ظَلَّ عليه السلام هو ابن إبراهيم الوحيد عدة سنوات قبل أن يرزقه الله بعد ذلك بإسحاق، الذى لم يكن وحيد أبيه فى يوم من الأيام. على أنه ينبغى المسارعة إلى القول بأن علماء المسلمين غير مُجْمِعين على أنه هو إسماعيل[122]. فنص أسد فى ترجمته إذن، وهو اليهودى الأصل، على أن الابن الذى أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم بالتضحية به هو إسماعيل لا إسحاق هو من الأهمية بمكان وثيق.
وبطبيعة الحال فإن موقف أسد من العهد القديم فى مثل هذه المواضع إنما هو الموقف الطبيعى والمنطقى، إذ هو مسلم، والمسلم يؤمن بأن كتاب اليهود والنصارى قد أصابه التحريف والعبث: يؤمن بذلك من خلال الدراسات التى خضع لها الكتاب المقدس، كما يؤمن به من خلال آيات القرآن المتكررة التى تؤكد وقوع هذا التحريف. وقد تبيَّن ذلك بكل جلاء فى تفسيره لوصف المولى سبحانه لقرآنه بأنه قد أنزله بالحق "مصدِّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه"[123] بأن القرآن هو المعيار الذى تقاس به صحة كتب اليهود والنصارى[124]. ومع ذلك فإن بعض الدارسين يفهم، من إشارة القرآن الكريم إلى هيمنته على الكتب التى قبله، أن المقصود هو شهادة لها بالحفظ من التحريف والتبديل. وقد فسرها د. محمد عمارة بما يعنى أن القرآن مُؤْتَمَن على تلك الكتب أو شاهد على صدقها[125]. وفى "تفسير المنار" نجد محمد رشيد رضا، رحمه الله، ينبه بقوة إلى هذا الخطإ مؤكدا عدم اتساقه مع ما يقوله القرآن المجيد فى هذا الصدد[126].

-- الحواشي--

[93] انظر ص 10/ هـ 33، وص 17- 18/ هـ 62، وص 18/ هـ 66. وانظر أيضا ص 66/ بقية هـ 3 حيث يؤكد أن الكتاب المقدس قد تعرض لعبث هائل متعمد فى أغلب الأحيان مما أثبتته الدراسات الموضوعية، وكذلك ص 479/ هـ 27، وص 488/ هـ 9، وص573/ هـ 85.
[94] ص21/ هـ81. وانظر كذلك ص77/ هـ 53، وص 80/ هـ 70.
[95] الصف/ 6.
[96] ص 816/ هـ 6.
[97] الحجر/ 9.
[98] ص 383/ هـ 10. وانظر أيضا ص 153- 154/ هـ 66 حيث يؤكد استحالة العبث بالنص القرآنى. وهذه الفكرة موجودة فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" (Sahih al- Bukhari-The Early years of Islalm, P. 3, n.3).
[99] انظر ص 834/ هـ 27، وص 943/ هـ 11.
[100] ص 26/ هـ 102.
[101] المائدة/ 45.
[102] ص 153/ هـ 62.
[103] الذى عاش فى القرنين الثالث والرابع للميلاد.
[104] ص 183/ هـ 66.
[105] إبراهيم/ 41.
[106] الأنعام/ 74.
[107] مريم/ 47.
[108] التوبة/ 114.
[109] انظر مناقشتى له فى هذه النقطة فى كتابى "كاتب من جيل العمالقة- د. محمد لطفى جمعة - قراءة فى فكره الإسلامى"/ عالم الكتب/ 1419هـ- 1999م/ 117- 121.
[110] Sale, The Koran, P.95, n.1, Rodwell, The Koran, Dent & Co., London, 1909, P. 323, n. 3, and Muhammad Hamidullah, Le Saint Coran, Beyrouth, 1973, P. 174.
[111] ص 1212/ هـ 47.
[112] ص 213/ هـ 48. والملاحظ أن محمد أسد يجعل اللغات السامية مجرد فروع لغوية عربية قديمة بما فيها العبرية والفينيقية (ص 689/ هـ 49)، وإن كان قد فرق بين العربية واللغات السامية الأخرى فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" (ص 5- 6/ هـ 12).
[113] انظر ص 225/ هـ 117، وص 480/ هـ 76.
[114] انظر ص 225/ هـ121.
[115] انظر ص 472/ هـ 15، وكذلك ص 219/ هـ 85.
[116] انظر ص 337/ هـ 9.
[117] انظر ص 479/ هـ 70.
[118] ص 590/ هـ 6.
[119] يجد القارئ معالجة مستفيضة لهذه القضية فى كتابى "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة" فى الفصل الخاص بـ"قصة موسى بين القرآن الكريم والعهد القديم".
[120] انظر ص 688/ هـ 38، 43.
[121] تكوين / 22/ 2.
[122] ومن الذين يقولون إنه "إسحاق" إمام المفسرين الطبرى. وقد تناولتُ رأيه هذا بالمناقشة المسهبة وانتهيت، من خلال استنطاق ما بين السطور فى القرآن الكريم، إلى أن الذبيح هو إسماعيل (انظر كتابى "من الطبرى إلى سيد قطب-دراسات فى مناهج التفسير ومذاهبه"/ دار الفكر العربى/ 1421هـ- 2000م/ 68- 72).
[123] المائدة/ 48.
[124] ص135/ هـ 64.
[125] انظر كتابه "الإسلام والوحدة الوطنية"/ كتاب الهلال/ العدد 338/ فبراير 1979م/ 45- 46.
[126] انظر "تفسير المنار"/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ سلسلة "التراث للجميع"/ العدد 29/ 340. وقد تناولت هذه النقطة بالتفصيل فى كتابى "سورة المائدة- دراسة أسلوبية فقهية مقارنة"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 2000م/ 106- 107.
 
رأي محمد أسد فى اليهود

رأي محمد أسد فى اليهود

يرى كاتبنا أن العبرانيين عرب هاجروا، كما هاجر سائر الساميين، من جنوب الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين، وأن لغتهم ليست سوى لهجة عربية قديمة[127]. ومن رأيه أيضا أن الوحى الذى نزل على أنبياء بنى إسرائيل يمثل أقدم أشكال التوحيد، ومن ثَمَّ كانت أهميته العقيدية بالنسبة لتاريخ الوحدانية فيما بعد[128]، وأن العبرانيين هم أول أمة تؤمن بالوحدانية فى شكل محدد جعل منهم روادا للنصرانية والإسلام[129]. ويبدو لى أنه قد بنى رأيه هذا على قول القرآن الكريم عن بنى إسرائيل: "ونريد أن نَمُنّ على الذين استُضْعِفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة"[130]. والواقع أن فى كلام أسد مجازفة هائلة لا يستطيع المسلم أن يُغْضِىَ عنها، إذ هى تناقض ما ذكره القرآن مرارا من أنبياءَ سبقوا بنى إسرائيل أوَّلهم آدم أبو البشرية كلها قبل أن يسمع التاريخ ببنى إسرائيل وأنبيائهم ورسلهم بأحقاب وأحقاب، ومنهم أيضا نوح وإبراهيم. وأغلب الظن أن من بينهم كذلك هودا وصالحا، فكيف فات ذلك كله كاتبنا؟ أنقول إنه متأثر بالعهد القديم؟ إن هذا الكتاب، وإن ذكر آدم ونوحا فليس فيه أنهما نبيان، بل كل مارواه عنهما قد رواه بوصفهما مجرد شخصين عاديين. لكنه فى ذات الوقت قد ذكر إبراهيم، وإبراهيم ليس من بنى إسرائيل، بل هو جد أبيهم إسرائيل، فلماذا نسيه أسد أو تناساه؟ هل نقول إن فى الأمر رائحة تحيز لليهود؟ لكن كيف يكون ذلك وقد حمل عليهم فى ترجمته للقرآن التى نحن بصددها حملات عنيفة واتهمهم فى عقيدتهم وأخلاقهم وزَنَّهم بالغرور والكبر؟ فما الأمر إذن؟
كذلك نراه يقول فى موضع آخر إن شريعة موسى هى أول شريعة إلهية وإنه لهذا السبب صار بنو إسرائيل أئمة[131]. وهى دعوى أخف كثيرا من الدعوى السابقة، لكن هل يستطيع أحد الجزم بأن شريعة موسى هى أول شريعة سماوية؟ إن من الصعب جدا الموافقة على أن السماء قد تركت البشر منذ بدء الخليقة حتى عهد موسى دون هداية تشريعية! ثم إن الإمامة المذكورة فى الآيتين السابقتين لا تعنى إمامتهم للبشر فى جميع العصور بل فى عصرهم فقط، وإلا فقد فضلهم الله يوما على العالمين، ولا يقول عاقل إنه تفضيل مطلق يشمل كل زمان ومكان، وهو رأى محمد أسد نفسه كما سيلى بعد قليل.
على أية حال فقد رجم كاتبنا اليهود كثيرا فى هوامش ترجمته للقرآن، فأبرز وصف العهد القديم لهم بالغرور والتمرد والعناد كما فى "خروج"/ 31/9، و33/3، و34/ 9، و"تثنية"/ 9/ 6- 8، 23- 24، 27[132]، وحمل على اعتقادهم المتصلب بأنهم شعب الله المختار وأنهم، بسبب ما فى أيديهم من الكتاب، ليسوا بحاجة إلى أية هداية أخرى، فقلوبهم مفعمة من العلم بما يغنيهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام والقرآن الذى جاء به[133]. ومن هذا المنطلق يعلق على قوله تعالى: "قل: هل أنبّئكم بشَرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله؟ مَنْ لَعَنَه الله وغَضِبَ عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت. أولئك شرٌّ مكانًا وأضلُّ عن سَواء السبيل"[134] بأن المقصود هم المنافقون، وبخاصة منافقو أهل الكتاب من اليهود (وغيرهم) لأن كونهم أهل كتاب قد جعلهم أعرف بالحق من سواهم، وكان المظنون إذن أن يتبعوه ويكونوا أطهر سلوكا[135]، وإن عاد فى موضع آخر فقال، فى تفسير آية "والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزَّل من ربك بالحق"، إنها تشير، فيما يبدو، إلى الإدراك الغريزى الذى لا يتجاوز حد اللاشعور عند بعض أهل الكتاب بأن القرآن هو فعلا وحى إلهى[136]. لقد قال مرارا، حتى فى أثناء كلامه هنا، إنهم حرفوا التوراه وتجاهلوا ما فيها من نبوءات عن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فلماذا إذن هذه النغمة المنخفضة التى قد تبدو وكأنها تبسط لهم العذر؟[137]
وفى مواضع مختلفة من الترجمة نراه يُبْرِز طبيعة اليهود فى التمرد على الله وكفرهم بآياته واعتقادهم أنهم شعب الله المختار لا لشىء إلا لأنهم ذرية إبراهيم بالجسد رغم انحرافهم عن دين إبراهيم الحق، وهو اعتقاد مناقض لأى مبدإ دينى كما يقول. كذلك يُلِحّ على معاقبة الله لهم على هذا الغرور والكبر بالتحريمات والتشريعات القاسية مثل تحريم العمل عليهم يوم السبت مثلا[138]. وهو يشير إلى إجماع القرآن والكتاب المقدس على دينونة عصيانهم المتكرر وتمردهم المستمر على ربهم[139]، كما يهاجمهم قائلا إن الله إذا كان قد اختارهم على العالمين فإنهم لم يصمدوا لهذا الاختيار كما يشهد بذلك تاريخهم المذكور فى الكتاب المقدس نفسه، وإن أغلبية بنى إسرائيل، وعلى رأسهم الصدوقيون الذين يمثلون الأرستقراطية الكهنوتية، صاروا ينكرون البعث والحساب الأخروى ويتمسكون بالنظرة المادية للحياة[140]. وبالمثل يهاجم طائفة الفريسيين مؤكدا أنهم رمز على الغرور الدينى والأخلاقى، إذ لا يستطيعون أن يبصروا فى أنفسهم شيئا من العيوب[141]. وكان قد أشار فى موضع سابق عند شرحه للآية 80 من "البقرة" إلى ما يسود بينهم من اعتقاد شعبى مؤداه أن المذنبين من بنى إسرائيل لن يمكثوا فى النار إلا فترةً جِدِّ محدودة سرعان ما يخرجون بعدها، لا لشىء إلا لأنهم شعب الله المختار، وهو ما ينكره عليهم القرآن الكريم[142]. ومن هذا الوادى تفسيره لـ"الشطط" المذكور فى قوله تعالى على لسان الجن[143] فى السورة الموسومة باسمهم: "وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا" بأنه، فيما يبدو، اعتقاد بنى إسرائيل بأنهم شعب الله المختار[144]. ومنه أيضا قوله إن "الكذب" المشار إليه فى قوله تعالى من نفس السورة: "وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" هو السحر والعرافة والتنجيم وسائر المعارف السرية الغامضة المتعلقة بهذه الأمور[145]. كذلك تكلم عن معاصرى النبى من يهود بنى النَّضِير وبنى قُرَيْظَة وغيرهم وخيانتهم للعهد الذى كان بينهم وبين المسلمين (عهد الصحيفة) وتآمرهم مع المنافقين ضد الإسلام ورسوله واستحقاق الأولين للنفى عقب حصار دام واحدًا وعشرين يوما، وانتهاء أمر القُرَظِيِّين بالقتل والأسر بعد أن وضعوا أيديهم فى أيدى المشركين أثناء غزوة الأحزاب ابتغاء طعن المسلمين فى مقتل[146]. وهو نفسه ما يقوله فى ترجمته لـ"صحيح البخارى، بَيْدَ أننا نجده مع ذلك يقول فى أحد هوامشها، فى معرض تأكيده بأن النبى عليه الصلاة والسلام لم يكن ينطوى تجاه اليهود على أية مشاعر عدائية، إنه على العكس من ذلك كان يعجب بما عندهم من علم دينى[147]. ولقد كنت أتمنى لو أنه ساق لنا الشواهد على هذا الإعجاب النبوى المزعوم، أما إلقاء الكلام على عواهنه فلا يكفى.
على أن ما يسترعى الانتباه بل الاستغراب هو أن محمد أسد، فى المرتين اللتين تعرض فيهما لتفسير العبارة التى كان اليهود يخاطبون بها سيدنا رسول الله ونَهَى القرآنُ المسلمين عن استعمالها فى حديثهم معه صلى الله عليه وسلم، وهى قول سلالة القردة والخنازير: "راعِنا"، لم يشر فى المرة الأولى إلى ما فى تلك العبارة من سفالة يهودية سفيهة، بل اكتفى بالقول بأن القرآن قد نهى المسلمين عن مخاطبته عليه السلام بهذه الكلمة احتراما له وخضوعا لأوامر الوحى النازلة عليه[148]، غير مشير إلى اليهود أثناء ذلك البتة، أما فى تفسير الآية 46 من سورة "النساء"، ونصها: "مِن الذين هادوا يحرِّفون الكَلِم عن مواضعه ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع غير مُسْمَعٍ وراعِنا، لَيًّا بألسنتهم وطَعْنًا فى الدين"، فلا يزيد عن القول بأن عبارة "اسمع غير مُسْمَع"، التى كان اليهود (كما يقول) يتخاطبون بها فيما بينهم، إنما تصف موقفهم من العهد القديم ومن القرآن على السواء، دون أن يتطرق هنا أيضا إلى ما فى الكلام من سفالة وسفاهة يهودية معروفة، إذ إن عبارة :"راعِنا"، كما يوضح العارفون بلغة اليهود، تتطابق من حيث النطق مع اللفظة العبرية ךּ لــاـ (‘ra بالحروف اللاتينية) بمعنى "شرير خبيث، منحط ...إلخ". فهم، عليهم لعائن الله، يتظاهرون بأنهم إنما يلتمسون منه صلى الله عليه وسلم أن يراعيهم، على حين أنهم يقصدون شتمه عليه السلام. وغرابة الأمر تكمن فى أن أسد كان يعرف العبرية والتراث الدينى اليهودى فى لغته الأصلية معرفة واسعة كما يذكر هو عن نفسه[149]، فضلا عن أن المتوقع منه أن يكون على اطلاع كبير على ما كتبه العارفون بتلك اللغة عما فى العبارة من خبث يهودى منحطّ وحقد على النبلاء الأفذاذ من بنى البشر، وبخاصة الرسل الكرام.
وعلى العكس من ذلك فإنه، فى تعليقه على قوله جل جلاله من سورة "المجادلة" مخاطبا رسوله: "وإذا جاؤوك حَيَّوْكَ بما لم يُحَيِّك به الله"، يقول إن هذه إشارة إلى الموقف العدائى الذى اتخذه يهود المدينة من الرسول عليه السلام، إذ كانوا عند تحيتهم له هو وأصحابه، يلوون ألسنتهم ويغمغمون قائلين: "السَّام عليكم"[150] بدلا من "السلام عليكم". وقد وصف أسد هذا التلاعب بالكلمات بالفحش والبذاءة[151].
وأشد من ذلك إمعانا فى الغرابة أن أسد، بعد كل الذى قاله فى اليهود، يعود فيقرر انهم (ومِثْلُهم فى ذلك النصارى والصابئون والمجوس) ناجون يوم القيامة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ما داموا يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا، أى دون أن يدخلوا فى الإسلام وينضووا تحت لواء سيد الرسل والنبيين[152]، رغم ما أكده هو نفسه من أن الإسلام يَعُدّ الكفر بأى من الرسل خطيئة تكاد أن تعدل الكفر بالله ذاته[153]، وكذلك رغم ما كرره مرارا من أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هى رسالة عالمية للبشر جميعا على اختلاف أجناسهم وعصورهم وبلادهم[154]، وثالثا رغم ما أكده من أن العهد القديم قد تنبأ بمجىء محمد صلى الله عليه وسلم وأوجب على اليهود الإيمان به[155]، ورابعا رغم ما فسر به قوله تعالى فى الآية 105 من "النحل": "إنما يَفترى الكذبَ الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون" من أن الكافرين هنا هم كل من يرفض الإيمان بصحة الوحى المحمدى متهمين إياه بأنه مجرد أوهام مَرَضيّة أو اختلاقات متعمَّدة[156]، وخامسا رغم ما قاله من أن الإسلام، وإن كان معناه "إسلام النفس لله"، ومن ثَمَ فكل من يؤمن بالله الواحد الأحد إيمانا سليما ويؤمن برسالاته فهو مسلم، فإنه يقتضى أن يسارع المؤمنون بالله ورسالاته إلى الإيمان بمحمد ما دامت رسالته هى آخر الرسالات السماوية وأكثرها عالمية[157].
صحيح أن بعض علماء المسلمين من العرب أنفسهم يقولون بما قال به محمد أسد، ومنهم الشيخ محمدعبده، مما قد عَرَضْتُه ومحَّصْتُه وفنَّدْتُه فى فصل طويل يقترب من أربعين صفحة بعنوان "أهل الكتاب" فى كتابى "سورة المائدة- دراسة أسلوبية فقهية مقارنة"، بَيْدَ أن الأمر فى حالة محمد أسد يختلف، فقد ترك الرجل يهوديته وأعلن دخوله فى الإسلام. فلو كانت نجاة الإنسان يوم القيامة ممكنة مع بقائه على يهوديته أو نصرانيته...إلخ، فلماذا لم يبق كاتبنا على دينه الأصلى بدلا مما استتبعه دخوله فى دين محمد من رجّ حياته من أساسها والاتجاه بها فى مسار مغاير لمسارها السابق مغايرة تامة؟ ثم إننا قد رأيناه، فى مواضع مختلفة من هوامش ترجمته للقرآن الكريم، يلح على أن دين محمد هو للبشر جميعا وأنه لا يصح إيمانهم إلا إذا استظلوا برايته. كما أنه قد قال بصريح اللفظ إن مجىء الإسلام قد نسخ اليهودية والنصرانية[158]، أى أن هاتين الديانتين قد انتهت صلاحيتهما إلى الأبد.
وبمناسبة الحديث فى هذه المسألة لا بد من الإشارة إلى أنه دائما ما يترجم "الإسلام" بـ "تسليم النفس لله" ، أما "الإسلام" بمعنى "اتّباع دين محمد"، وكذلك اسم الفاعل منه "مُسْلِم"، فهما (حسبما يؤكد) استعمالان اسْتَجَدّا بعد النبى عليه السلام[159]. وأرى أن هذا تمييع للأمور، بل أخشى أن يكون وراءه، ولو بدون قصد، رغبةٌ فى التسوية بين اليهود والنصارى وبين أتباع محمد فى أنهم جميعا مسلمون وناجون يوم القيامة ما داموا جميعا يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا. لقد استخدم القرآن المجيد مرارا فى الحديث عن منهج الرسل جميعا كلمة "الإسلام"، إلا أن هذا هو الاستعمال العام فقط، وسببه أن منهجهم جميعا، عليهم صلوات الله وسلامه، واحد رغم اختلاف شرائعهم فى بعض تفاصيلها، أما المعنى الاصطلاحى لهذه الكلمة فى القرآن وفى الحديث فهو دين محمد.
ونبدأ بالحديث النبوى فنسوق هذه النصوص المشهورة: "بُنِىَ الإسلام على خمس: ...."، "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"، "المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يُسْلِمه ولا يخذله"، "المسلم على المسلم حرام"، "المسلمون على شروطهم"، "المسلمون تتكافأ دماؤهم". أما بالنسبة للقرآن الكريم فإن "الإسلام" فى قوله جل جلاله: "يَمُنّون عليك أن أَسْلَموا. قل: لا تَمُنّوا علىَّ إسلامكم، بل الله يمُنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين"[160] لا يمكن إلا أن يكون الدين الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم. والحمد لله أن أسد نفسه قد فسرها فى الهامش هذا التفسير، وها هى عبارته فى النص الإنجليزى: "by professing to be thyfollowers" رغم أنه فى الترجمة قد استعمل كلمة "to surrender"، وإن لم يَقْنَع هذه المرة بذلك بل جعل الأمر "استسلاما للرسول: "having surrendered [to you]"، مضيفا من عنده بين معقوفتين (كما نرى) كلمة "لك"[161]، وهو ما لا يقبله السياق أبدا، إذ من غير المتصور أن يمنوا على الرسول باستسلامهم له، لأن الاستسلام ليس مما يبعث على الفخر أو يُمَنّ به على أحد.
ومثل ذلك قوله جل شأنه: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقْبَل منه، وهو فى الآخرة من الخاسرين"[162]، الذى أتى عقب قوله مخاطبا رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام: "قل: آمنّا بالله وما أُنْزِل علينا وما أُنْزِل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيّون من ربهم، لا نفرِّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون" مما يدل على أن "الإسلام" فى الآية هو دين محمد، وإلا لكانت محاجته لأهل الكتاب لا معنى لها، إذ لو كان "الإسلام" هنا مستعملا بمعناه العام لكان جوابهم: "ونحن أيضا مسلمون مثلك سواء بسواء". وبمستطاعنا أن نستشهد بالآيات التالية أيضا: "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتى ورَضِيتُ لكم الإسلام دينا"[163]، "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه؟"[164]، "ومن أظلم من افترى على الله الكذب وهو يُدْعَى إلى الإسلام؟"[165]، "فمن يُرِدِ الله أن يهديَه يشرح صدره للإسلام"[166]، "رُبَما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين"[167]، "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات...أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما"[168]. وكثير من هذه الشواهد ينتمى إلى الوحى المكى. أى أن استعمال لفظ "الإسلام" مصطلحا على دين محمد يعود إلى بدايات دعوته عليه السلام فى مكة، فالقول إذن بأنه استعمال متأخر عن ذلك العصر هو قول يتجافى عن الحقيقة ويجافيها بكل يقين[169].
ولعل مما يجرى فى هذا المجرى أيضا قول كاتبنا، تعليقا على قوله تعالى: "مِنْ أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، إن الإشارة هنا إلى هؤلاء المؤمنين الحقيقيين من أتباع الكتاب المقدس[170]. أقول: "لعل ..." لأن الكلام غير واضح تماما. أتراه يقصد أولئك الباقين على يهوديتهم أو نصرانيتهم كما هو ظاهر الكلام؟ أم تراه يقصد ذلك الفريق من أهل الكتاب الذى آمن بدين محمد حسبما يُفْهَم من الآية إذ ذكرتْ أنهم يتلون آيات الله"، أى القرآن[171]، وأنهم يسجدون، أى يصلّون صلاة الإسلام، كما وصفتهم الآية التى تليها بأنهم "يؤمنون بالله واليوم الآخر" مما يدل على أنهم لم يَبْقَوْا على ديانتهم السابقة بل انضوَوْا تحت راية الإسلام؟ ذلك أن القرآن لا يُثْبِت الإيمان بالله واليوم الآخر إلا لمن آمن بمحمد عليه السلام كما فى الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله، ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا"[172]، "والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به (أى القرآن)، وهم على صلاتهم يحافظون"[173]،"قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطُوا الجزية عن يد وهم صاغرون"[174]، "قال (أى موسى): ربِّ، لو شئتَ أهلكتَهم من قبلُ وإياى. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ إن هى إلا فتنتك، تُضِلّ بها من تشاء، وتَهدى من تشاء. أنت وليُّنا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين* واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة، إنا هُدْنا إليك. قال (أى الله): عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كلَّ شىء، فسأكتبها للذين يتَّقون ويُؤْتُون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِلَ معه أولئك هم المفلحون"[175]، وغير ذلك من الآيات.
هذا، ولا بد من التنبيه إلى أن القرآن قد يستخدم لمعاصرى الرسول من أهل الكتاب ممن دخلوا دينه وَصْفَ "أهل الكتاب" أو "الذين آتيناهم الكتاب" أو "الذين أُوتوا العِلْم من قبله" أو ما إلى ذلك، فينبغى ألا يسبق إلى الأوهام أنه حين يُثْنِى عليهم إنما يفعل ذلك رغم بقائهم على ديانتهم السابقة، فإن هذا لا يمكن أن يكون. وإن بقية الكلام فى مثل هذه المواضع لتدل على أن المقصود هم الذين أسلموا منهم. وهأنذا أسوق، إلى جانب آيتَىْ "آل عمران" السابقتين، الآيات التالية كيفما اتفق: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به (أى بالقرآن) يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنا به. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين* أولئك يُؤْتَوْن أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئةَ ومما رزقناهم ينفقون"[176]، "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به (أى بالقرآن)، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون"[177]، "وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم. إن الله سريع الحساب"[178]، "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك"[179]، "وكذلك أنزلنا إليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به (أى بالقرآن)"[180]، "إن الذين أُوتُوا العِلْم من قبله إذا يُتْلَى عليهم (أى القرآن) يَِخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لمفعولا* ويَِخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا"[181]. وهذه مسألة على أكبر قدر من الأهمية لأن بعض الدارسين يظن أن أهل الكتاب فى مثل هذه الآيات هم أهل الكتاب الباقون على دينهم، وهو أمر مستحيل.
فى ضوء هذا نختلف مع الأستاذ أسد فى قوله، تعليقا على آية "لَتَجِدَنّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون"[182]، "إن النصارى (قد وُصِفوا بأنهم أقرب مودةً للذين آمنوا وبأنهم لا يستكبرون لأنهم)[183] لا يعتقدون كاليهود أن الوحى الإلهى مقصور على بنى إسرائيل، ولأن قسيسيهم ورهبانهم يعلِّمونهم أن التواضع هو لب الإيمان الحق". ثم يمضى قائلا: "ومما هو جدير بالذكر أن القرآن فى هذا السياق لا يصنف النصارى ضمن "الذين أشركوا"، لأنهم، وإن كانوا بتأليههم عيسى قد اجترحوا إثم الشرك، لا يعبدون عن وَعْىٍٍٍ آلهة متعددة أو أى إله غير الله، إذ إن عقيدتهم على المستوى النظرى تقرر الإيمان بالإله الواحد الذى يتصورون أنه قد أعلن عن نفسه فى ثلاثة أقانيم أو "ثلاثة أشخاص" يُفْتَرَض أن عيسى واحد منهم. وبرغم ما يمكن أن يكون فى هذه العقيدة مما يبعث على الرفض والنفور بالنسبة لتعاليم القرآن، فإن شركهم غير مبنىّ على الإصرار الواعى بل ينبع بالحَرَى من تجاوزهم حدود الحق فى تعظيمهم لعيسى"[184].
ويبدو لى أن ما قاله أسد فى هذه الفقرة راجع إلى وهمه أن القرآن فى الآية الكريمة يمدح النصارى بوصفهم نصارى. وهذا غير صحيح، إذ المديح فيها وفيما بعدها إنما هو موجه إلى فريق بعينه من النصارى فيهم قساوسة ورهبان كما ينبغى أن يكون القساوسة (أى العلماء) والرهبان (أى العُبّاد) الحقيقيون، سمعوا القرآن الكريم ففاضت أعينهم من الدمع واعلنوا إيمانهم ودَعَوْا ربهم أن يقبلهم فى الإسلام ويُدْخِلهم مع القوم الصالحين. فهل الذى يقول هذا يكون قد بقى على نصرانيته؟ لقد كانوا قبلا نصارى: هذا صحيح، بيد أنهم بمجرد بكائهم عند سماعهم القرآن وإعلانهم الإيمان به لم يعودوا نصارى، بل أَضْحَوْا مسلمين. وهذا من الوضوح بحيث لا يمكن أن يخطئه أحد، فلا أدرى لماذا تُرْبِك هذه الآية الأستاذ أسد وغيره من بعض الكتاب المسلمين؟
كذلك لست أعرف لماذا قال إن النصارى لا يعتقدون أن الوحى الإلهى مقصور على بنى إسرائيل! ترى هل يقبلون نبوة محمد العربى عليه الصلاة والسلام؟ إنهم أولا لا يؤمنون فى الواقع بغير أنبياء بنى إسرائيل، ثم إنهم يزيدون على اليهود اشتراط الإيمان بألوهية المسيح عليه السلام وصَلْبه تكفيرا عن خطايا البشر. فأمرهم إذن أعقد، وإن كان عدد الذين يدخلون منهم فى الإسلام أكبر من عدد اليهود لأنهم ليسوا صلاب الرقبة مثلهم، كما أن عددهم فى العالم أضخم كثيرا جدا جدا جدا من عدد اليهود.
أما قول مترجمنا إن القرآن لا يصف النصارى بـ "الذين أشركوا" فالرد عليه هو أن هذا التعبير نَصًّا مقصور على عبدة الأوثان الحجرية والخشبية من العرب. ومع ذلك فلم يُعْفِ القرآن النصارى من تهمة الشرك والكفر جميعا: "قل:يا أهل الكتاب (المقصود هنا نصارى نجران الذين وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم فى المدينة)، تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابا من دون الله"[185]، "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم. وقال المسيح: يا بنى إسرائيل، اعبدوا الله ربى وربكم. إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار* لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالثُ ثلاثةٍ. وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون لَيَمَسَّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم"[186]...وهكذا. أفبعد هذا كله يقال إن شركهم لا يقوم على الإصرار الواعى؟ أوبعد كل تلك القرون المتطاولة لا يزالون غير واعين بما يعتقدون؟ ترى متى يعود إليهم وعيهم ويفيقون؟
وبعد، فقد وقع فى يدى، بعد كتابتى للفصول الماضية، مقال للكاتب السعودى عبد العزيز الرفاعى فى "المجلة العربية" (عدد رجب 1413هـ) أشار فيه إلى أن محمد أسد كان قد أعد ترجمته تلك لرابطة العالم الإسلامى، إلا أن المسؤولين فى الرابطة راجعوه فى عدد من الأمور التى رَأَوْا أنه خالف فيها ما تعارف عليه معظم المفسرين، وأنه قد وافقهم على بعض ما قالوه وأصرَّ على موقفه فى البعض الآخر. وكان رأيه الذى ذكره للأستاذ الرفاعى أنه إنما "يكتب تفسيرا جديدا لا يريده نسخة من التفاسير المتداولة، وأنه يكتبه للفكر الغربى، بل هو ينظر إليه من خلال فكره الغربى"[187].
وأنا مع مترجمنا فى أن على المفسر، بل وعلى أى كاتب، أن يجتهد محاولا الإتيان بجديد فيما يؤلف، لكن بشرط أن يلتزم بالقواعد التى تحكم موضوعه وألا ينطلق فى الفضاء دون ضابط ولا رابط. لكنى لست أفهم تماما قوله إنما يكتب للقارئ الغربى. ذلك أن القرآن ليس طينة صلصال فى أيدينا نشكلها حسب هوانا. وكان أسد نفسه يعلن نفوره من محاولات الربط بين القرآن والعلوم الطبيعية بحجة أن نتائج هذه العلوم متغيرة، فكيف إذن يُقِيم تفسيره للقرآن الكريم على أساس إرضاء القارئ الغربى، وبخاصة أنه حذر المسلمين فى بعض ما كتب من الركون للأمل فى دخول الأوربيين حظيرة الإسلام، مؤكدا أنه أمل شديد الضرر لأنهم متعصبون لفكرهم ويناصبون الإسلام العداء الشديد؟ فما الذى غيره هذا التغيير الحاد؟ ثم إن أسد قد عاش بين العرب والمسلمين ردحا طويلا من العمر تعرَّب خلاله فى دينه ولغته وطعامه ومسكنه وملابسه وبيئته وأصدقائه...إلخ، ولم ير أثناء ذلك أوربا تقريبا، فلم هذه النغمة الغربية إذن؟ هذا موقف غير مفهوم! ثم هل القارئ الغربى هو الأساس الذى ينبغى أن نضبط القرآن عليه؟ إن أسد مثلا يرى أن من الممكن تفسير تسلق الخصوم سور المحراب وظهورهم لداود وحوارهم معه وقضائه بينهم بأنه قد سمع صوت ضميره الذى تسلق أسوار عاطفته وهواه[188]. وهو كلام لا معنى له إلا أن داود قد أصابه، أستغفر الله، خبل الهلاوس البصرية والسمعية! فهل هذا كلام علمى؟ الواقع أننى أشعر أن أسد قد أشاع الاضطراب فى تفسير القرآن، وأرجو ألا أكون قد ظلمته، وإن كنت لا أستطيع أن أرى أن ظلما قد وقع منى عليه، فـ"ما شَهِدْنا إلا بما عَلِمْنا".

-- الحواشي--

[127] انظر ص 343/ هـ 44، وهى 572/ هـ 82، وص 689/ هـ 49. وانظر أيضا ص 213/ هـ 48، وإن بقى الأصل العربى للعبرانيين هنا فى دائرة الاحتمال.
[128] ص 418/ بقية هـ 3.
[129] انظر ص 589/ هـ 5.
[130] القصص/ 5. ومع ذلك فعند قوله تعالى عن بنى إسرائيل أيضا: "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا" (السجدة/ 24) لم يتطرق كاتبنا بشىء إلى هذه الريادة المزعومة، بل بالعكس هاجمهم واتهم كثيرا من "أئمتهم" بتحريف التوراة.
[131] انظر ص 596/ هـ 43.
[132] ص 18/ هـ 68.
[133] انظر ص 19/ هـ 73، وص 112- 113/ هـ 60، وص 160/ هـ 94، وص 229/ هـ 136، وص 863- 864/ هـ 4.
[134] المائدة/ 60.
[135] انظر ص 156/ هـ 88.
[136] ص 1190/ هـ 101.
[137] كذلك ففى تعقيبه على قوله تعالى: "وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابن الله"، نراه يقول إن اليهود يغالون مغالاة شديدة فى رفع مكانة عزرا ويجعلون أحكامه مثل الشريعة نفسها، ومن هنا استخدم القرآن تعبير "وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابن الله" للدلالة المجازية على موقفهم هذا (انظر ص 262- 263/ هـ 44). وواضح هنا أيضا النغمة التخفيفية، إذ ليس من المعقول أن يكون قولهم: "عزير ابن الله" مجرد تعبير مجازى عن مغالاتهم فى رفع مكانة عزرا.
[138] انظر ص 415/ هـ 144، 147.
[139] انظر ص 418/ بقية هـ 3.
[140] ص 227/ هـ 127، وص 762/ هـ 16، وص 762- 763/ هـ 17.
[141] ص 893- 894/ هـ 11.
[142] ص 17/ هـ 65.
[143] الذين يرى أسد أنهم ليسوا إلا طائفة من يهود الإنس سماهم الله جنا لأنهم كانوا غرباء ولأنهم سمعوا الرسول وهو يقرأ القرآن دون أن يحس بوجودهم، فهم جن بهذا المعنى فقط.
[144] ص 899- 900/ هـ 3.
[145] انظر ص 899- 900/ هـ 3.
[146] انظر ص 640- 641/ هـ 13، وص 643/ هـ 29، وص 849/ مقدمة ترجمة "الحشر".
[147] Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam, P. 244, n.5.
[148] انظر ص22/ 85. ونص الآية هو: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقولوا: راعنا، وقولوا: انظرنا، واسمعوا، وللكافرين عذاب أليم" (البقرة/ 105).
[149] Muhammad Asad, The Road to Mecca, P.55. ويجد القارئ هذا الكلام فى ص 82- 83 من الترجمة العربية الموسومة بـ"الطريق إلى الإسلام" لعفيف البعلبكى.
[150] ومعناها "الهلاك لكم!".
[151] انظر ص 485/ هـ 14.
[152] انظر ص 14/ هـ 50، وص 153-154/ هـ 66، وص 507/ هـ 19-20، وكذلك ترجمة الآيات التى تتعلق بها هذه الهوامش.
[153] ص 133/ هـ 162.
[154] انظر مثلا ص 56/ هـ 243، وص 226/ هـ 126.
[155] ص 226/ هـ 124، فضلا عن المرات الأخرى التى تكررت فيها إشارته إلى هذه النبوءات مما ذكرناه سابقا.
[156] ص 1413/ هـ 132.
[157] انظر ص 518/ هـ 94.
[158] ص 22-23/ هـ 87.
[159] انظر ص 885- 886/ هـ 17.
[160] الحجرات/ 17.
[161] ص 795/ ترجمة الآية وهـ 22.
[162] آل عمران/ 85.
[163] المائدة/ 3.
[164] الزمر/ 22.
[165] الصف/ 7.
[166] الأنعام/ 125.
[167] الحجر/ 2.
[168] الأحزاب/ 35.
[169] مما يلفت النظر هنا أن محمد أسد قد دأب على ترجمة كلمتى "الإسلام" و"مسلم" فى كتابه Sahih al-Bukhari-The Early years of Islam" بـ "Islam" و "Muslim" (ص76، 77، 103، 120، 135، 137، 149، 216، 282... إلخ، وهو كثير جداًً). كان ذلك فى سنة 1938م وما قبلها، فما الذى جعله يترك هذه الترجمة الصحيحة ويلجأ فى ترجمته للقرآن إلى الترجمة الأخرى بكل ما فيها من لف ودوران؟
[170] ص84/ هـ85.
[171] إذا ذُكِرَتْ فى القرآن "تلاوة آيات الله" كان المقصود هو آيات القرآن ليس إلا، وهذا من ملامحه الأسلوبية المهمة.
[172] النساء/ 150- 151.
[173] الأنعام/ 92.
[174] التوبة/ 79.
[175] الأعراف/ 155-157.
[176] القصص/ 52- 54.
[177] البقرة/ 121.
[178] آل عمران/ 199.
[179] الرعد/ 36.
[180] العنكبوت/ 47.
[181] الإسراء/ 107- 109.
[182] المائدة/ 82.
[183] ما بين القوسين من عندى على سبيل الربط والتوضيح.
[184] ص 160/ هـ 97.
[185] آل عمران/ 64.
[186] المائدة/ 72- 73.
[187] عبد العزيز الرفاعى/ أيام حزينة (1) النمساوى المسلم محمد أسد/ المجلة العربية/ العدد 186/ رجب 1413هـ/ 58. وواقع الحال أن هذا رأى قديم لكاتبنا، ففى مقدمة الطبعة الأولى لكتابه "Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam" الصادرة سنة 1938م نراه ينعى على المسلمين الذين يظنون أن القرآن قد فُرِغَ منذ قرون من تفسيره التفسير الصحيح إلى الأبد، والذين لم يعودوا يفكرون تفكيرا مستقلا عن تفكير القدماء رغم أن الكثيرين من أولئك القدماء كانوا (كما يقول) واقعين تحت تأثير الأفلاطونية الجديدة. كما يؤكد أن عظمة القرآن تكمن فى أنه كلما اتسعت آفاق المعارف الدنيوية ظهر له من المعانى الجديدة ما كان خافيا على السابقين، وأن المسلم مطالب بعدم الإصاخة إلا إلى فهمه هو للقرآن وصوت ضميره، وأن باب الاجتهاد لم يغلق، ولا يمكن أن يغلق يوما من الأيام فى وجه أى باحث عن الحقيقة (انظر الطبعة الثانية من الكتاب المذكور الصادرة عام 1981م عن دار الأندلس بجبل طارق/ P. vi vii, ix).
. [188] Muhammad Asad, The Message of the Qur’an, P. 797, n. 22
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الدكتور إبراهيم بارك الله فيك وفيما تكتب وجعلها نوراً لك يوم القيامة ...
كتابتكم ممتعة في رصانتها وأصالتها ...
وأسأل الله عز وجل لكم السداد دائماً ..
والسلام
 
مجهود جيد، لكن لو اقتصر المؤلف على بعض النقاط وأغفل ما فيه تكلف لكان البحث أقوى. فكثير من النقاط أعلاه ممكن غض الطرف عنها فهي مما يقبله الخلاف المحمود.
 
تعريف بالكاتب/ محمد أسد

كتبها
د.سلمان العودة
25/11/1421


محمد أسد، مستشرق نمساوي يهودي الأصل، ولد سنة 1318هـ ،1900م، ودرس الإسلام، ثم زار الجزيرة العربية، وأعلن إسلامه فيها عام 1926م، وبدأ عقله الحر يتفاعل مع الإسلام وتعاليمه، فأفرز كتاباً من أشهر كتبه وأكثرها رواجاً، هو : ( الإسلام على مفترق الطرق)،
ثم سجل قصة رحلته الطويلة إلى الإسلام وإلى الجزيرة بعنوان ( الطريق إلى مكة)، وهو أشهر كتبه حتى قال عنه أحد المسلمين الغربيين :
" إن أحداً لا يعرف عدد من وجدوا الطريق إلى الإسلام عبر هذا الكتاب الصغير "

وله كتاب آخر مفيد اسمه (منهاج الإسلام في الحكم).
له جهاد مشكور في قضايا المسلمين، حيث رافق الشهيد عمر المختار في ليبيا في جهاده ضد الطليان، ثم انتقل إلى الهند والتقى محمد إقبال، وأقام هناك حتى قيام الحرب العالمية الثانية .

وهناك سجنه الإنجليز، وضاع منه في سجنه عمل من أعظم أعماله، وهو: (ترجمة صحيح البخاري) .

وفي عام 1980م صدرت ترجمته لمعاني القرآن الكريم، والتي ظل في إعدادها أكثر من ستة عشر عاماً، وله جهاد ضد اليهود ودولة إسرائيل، والتأكيد على الحقوق الإسلامية في فلسطين وبيت المقدس،
وقد توفي في 20 شباط ( فبراير)، ودفن في مقابر المسلمين في غرناطة بأسبانيا ، سنة 1412هـ الموافق 1992م -رحمه الله رحمة واسعة- .


http://www.islamtoday.net/pen/show_question_content.cfm?id=4239
 
.
[align=justify]مضى زمن حسبت أني لقيت فيه الأسد فحدثني حديثه ، فكم أنست بأخباره وأخبار صاحبه زيد ، وإيقاع حبات البن على النار في هدأة الليل وسكون الصحراء ، وكم تمنى متمن أنه ثالثهما ، لينعم معهما بحديث الصحراء وصدقها ، ويرى فيها الطبيعة في صفائها ونبلها ، قبل أن تلوثها يد الإنسان ، أو تصيبها جراحات الزمان ، أسفار وأسفار في ليال تلتها أيام ، من النمسا إلى فينا إلى ألمانيا إلى مصر، ففلسطين فسوريا والأردن والعراق ثم جزيرة العرب ، بفيافيها الواسعة ، وصحرائها الشاسعة ، مرورا بالنفوذ خلوصا إلى حائل وبلاد نجد فالحرمين ، ثم بلاد فارس والهند فباكستان ، حتى وصل إلى أفق تلاشت معه حدود الزمان والمكان...

لقد قرأت الكثير من كتب التراجم والسير الذاتية ، فما اصطحبني أحدهم كصاحب الطريق إلى مكة ، في سمو مقصده وضخامة معانيه ، آسر بديع في نظمه وعرضه ، ووصفه للمشاهد والأحداث ، بحق إنه من الكتب القلائل التي تتمنى لو أن الكتاب الواحد منها مجلدات ، فما أندر الكتاب الذي هذا وصفه ، والذي يحلق بك في خيال واسع ، ويأسرك معه في أحداثه فلا تستطيع مفارقته حتى نهاية الطريق ، ثم هو لا يفارقك بعدها ، بل يضل شاخصا في عينيك ماثلا في ذهنك ما شاء الله .

مالك يا دكتور إبراهيم وللرجل غفر الله لكما ، ( ...نمساوي يهودي... )! ( ...وما يبدو الإسلام معه شيئا آخر غير الذي نعرف...)! ، فهلا قلت ببعض قولك ، فما أرادنا الرجل بتلك الكتب ، ولا وجهها إلينا ، فهب أنا استننا بسنتك ، وانتهجنا شرعتك ، لما بقي لنا من أهل الفضل إلا القليل .

والنقد كالدواء الذي يتجرعه المرء ولا يكاد يسيغه ، إلا أنه يتصبر رجاء حسن العاقبة ، ومن حسنه وطأته على النفس لأنه يهذبها ويشذبها ، وكأن هذا التشذيب سنة كونية من الله لبعض مخلوقاته تستمد منه ديمومتها ، حتى بعد موتها ليكون لها الذكر الثاني ، فأي ثقل يمكن تصوره للنقد في صورته الثانية ، إلا لدا وسعوطا يلد به من لا يشكي السقام .

والناس عموما في عالمنا العربي لا تعرف الرجل إلا من خلال كتبه التي أشرت إليها ، فماهي الفائدة المرجوة من التصدي لكتب إنما ألفها غالبا لليهود والنصارى ، أو من كان كذلك ، أليس الأجدر أن يشاد به بدلا من جعله غرضا ، وهب أنك مصيب فيما ذهبت إليه ، وأنك محق فيما اتكأت عليه ، فماهي الثمرة والمحصل لهذا التشهير يادكتور عفى الله عنك .

وقعت في أحد المواقع على ثناء عاطر في حق صاحبنا ، وكتابه الطريق إلى مكة ، وتناصحهم بالبحث عن الكتاب والاطلاع عليه ، وكل أخذ يدلي بما لديه وما استفاده من الكتاب ، فقائل : أجمل رواية قرأتها في حياتي ، وقائل : قصة لا كل القصص ، وقائل: عرفني حال الجزيرة العربية في أيام لم أشهدها ، وقائل : رأيت حديثه عن حشمة النساء في ذلك العهد ، والكثير من السجايا والخصال ، وقائل : أنست بشهادته لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحديثه عنها ...
حتى أورد أحدهم مقولتك عن فكر محمد أسد ، فدق بينهم عطر منشم ، وخيمت الخيبة على من تلى حسن الكتاب ، وضرب الصمت بأطنابه ، فقلنا: هذه أول بركات الدكتور عفى الله عنه ، ومن عرف الطريق إلى مكة قبل معرفة المقالة فلا بد أن يعجب .

إننا نغفل كثيرا عن سياسة الصمت ، والتي تكون أحيانا فقها كاملا في التعامل ، بل إن السكوت يكون من العلم أحيانا ، وللأسف ففي الأزمنة المتأخرة أصبحنا أمة لا تحسنه في مواضعه ، وهذا مما بلينا به حيث أصبح الجدل سمة بادية في الزمان ، وهو من الظلم الذي هو وضع الشئ في غير موضعه ، وإنها لمشكلة اجتماعية وفردية نعيشها على جميع المستويات ، وما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا والعياذ بالله ( ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون )

وعموما أنا لست معك فيما كتبت ، وإن كنت معك في الدفاع عن كتاب الله ، فالكثير مما أوردته وأخذته على الرجل :
1ـ إما أن يكون خطأ يغتفر له ويسكت عنه حتى لا تشوه به صورة إحسانه .
2ـ وإما أن يكون مما يسع معه الخلاف فلا وجه إذا لهذا التشويه .
3ـ وإما أن يكون رأيا كان الصواب فيه حليفه .

وختاما لم أتقصد النقاش ، فربما كنت معك من حيث يسري إليك أنني ضدك ، لكن لا يحسن بأقلامنا أن تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ، إنما استوقفني عموم الرد ، وظلم الموقف ، وطغيان العبارة ، فأحببت تسجيل مروري . [/align]
4/4/1430
 
وقد لاحظتُ أن أسد، على طول ترجمته كلها، لم يُسَمِّ قطّ ربَّ العزة باسم "الله" مُؤْثِرًا استعمال كلمة "God"، ولا أدرى السر فى ذلك[1]. إن كلمة "الله" اسمُ عَلَم، وأسماء الأعلام لا تتغير فى الترجمة، بل تبقى على حالها كما هو معروف.
أستاذنا المكرم الدكتور الفاضل إبراهيم عوض حفطه الله ورعاه
لعل السر في ذلك أن كلمة Allah ليست انجليزية , في الإنجليزية يستخدمون الكلمة God
وعذرهم أن سماء الأعلام تنقل كما هي مالم يوجد لها إصطلاح مستخدم في اللغة المترجم إليها
إذ أن المقصود والغاية من الترجمة أن نخاطب القوم بلغتهم وبمصطلحاتهم التي يستخدمونها وقد أجاز أهل العلم ذلك .

كذلك كنت أوثر لو استعمل أسد النطق العربى لأسماء الأنبياء اتباعا لطريقة القرآن، ولا يكتبها كما يكتبها الإنجليز (هكذا: Noah, David, Aaron, Moses, Ishmael, Abraham, Zachariah, Jonas, Elijah, Solomon, John, Jesus)، إذ المقصود بترجمة القرآن، فيما أفهم، هو نقل القارئ الأجنبى إلى جو القرآن بقدر الإمكان لا لَىّ القرآن ليتماشى مع الجو الثقافى، والدينى منه بالذات، لذلك القارئ. وفى الهامش أو بين قوسين، إن كان لابد من ذلك، مندوحة للمترجم بذكر الاسم الذى يألفه من تَرْجَم لهم، فنجمع بذلك بين الحسنيين. ولابد من القول مع ذلك إن ترجمة الأستاذ أسد لا تنفرد بهذا الذى أخذتُه عليها من بين الترجمات التى قام بها مسلمون، لكن أملى الكبير فيه هو الذى بعثنى على قول ما قلت[2].
--- الحواشي ----
[1] وهو نفسه ما فعله قبلا فى ترجمته "صحيح البخارى" إلى اللغة الإنجليزية.
[2] بعد كتابة هذا الكلام وقعتْ فى يدى ترجمة القرآن الإنجليزية التى قام بها م. شاكر فوجدته قد صنع ما اقترحتُه هنا من كتابة أسماء الأنبياء حسب النطق القرآنى لها، فرأيت أن أنوه بذلك إعجابا وابتهاجا، كما وجدت الترجمة الإنجليزية لـ"تفسير ماجدى"، الذى وضعه مولانا عبد الماجد دريابادى، تفعل نفس الشىء . أما محمد محسن خان ومحمد تقى الدين الهلالى فلم يكتفيا فى ترجمتهما بكتابة أسماء الأنبياء حسب النطق العربى، بل شفعا كل واحد منها بكتابته حسب النطق الإنجليزى بين قوسين.
أسماء الأعلام تنقل كما هي مالم يوجد لها إصطلاح مستخدم في اللغة المترجم إليها هذه أهم أسس الترجمات الجيدة , وهذا ما قام به الإنجليزي المسلم مامديوك بكثل و المترجم الهندي خريج اوكسفورد عبدالله يوسف علي في ترجمتهم الأصلية للقرآن الكريم
والأمر الأليم أن هناك بعض الغربيين صاروا يستغلون تغيير الأسماء إلى العربية و فصار أولئك الغربيون يوردون الشبهات المنفرة فيقولون christian jesus is not the muslim isa يقصدون أن عيسى الذي في القرآن ليس عيسى الذي عند النصارى


وإذا كان سافارى وجاك بيرك مثلا فى ترجمتيهما للقرآن إلى اللغة الفرنسية قد صنعا مثل هذا فمن السهل أن يفسَّر ذلك بأنه كراهية منهما لهذا الاسم الكريم الذى يُعْرَف به المولى فى دين محمد، لكن ماذا عن أسد، الذى ترك دينه وأسماء الإله فيه إلى الإسلام وإلهه؟ ترى لماذا تخلى بتلك البساطة عن هذه الخصوصية الإسلامية الجميلة؟
ترجمة سافارى وجاك بيرك لفظ الجلالة إلى لغة الفرنسيين , جعلها أكثر تأثيرا في نفوس الفرنسيين وهذا مسوغ حسن
ولقد رأيت إن النصارى استخدموا كلمة الله للترجمة العربية للإنجيل كما في إنجيل مرقس القديم نسخة 1590 بل ما زالت لفظة الله موجودة في الإنجيل المعرب والتوراة المعربة


كانت ترجمة لفظة الجلالة إلى allah جعلت مترجمين مسلمين رايت أحدهم ووجدتهم اضطروا إلى ترك God وكتبوا Allah مكانها وسألته فقال يقولون أن كلمة God لا تجوز , و سيسقطون ترجمتي كلها لأجل كلمة God
و الأمر الأليم أن من مجرمي الغربيين من يستغل إصرار بعض المسلمين على عدم استعمال God فزعم أن المسلمين لايعبدون رب آدم وإبراهيم بل يعبدون شيطانا اسمه Allah تعالى الله عما قال المجرمون علوا كبيرا
كتبت هذه الأخيرة وأنا كاره جدا لها , ولكن لابد من تبيين الأمر على حقيقته وعواقب ما تفعله بعض الاجتهادات
وأعداء الإسلام متربصين ولانريد أن نعينهم على الطعن في ديننا بأمور لسنا مضطرين إليها
أستاذنا الدكتور الفاضل إبراهيم عوض
بارك الله علمكم الغزير و جهودكم العظيمة و إخلاصكم وغيرتكم على دين الله
كتبت هذا وأنا من أشد المعجبين بما تكتبونه هنا ولطالما استفدت منه كثيرا
واصل ماتتحفنا به من الفوائد البديعة , كثر الله أمثالك من المسلمين الغيورين الطيبين
 
التعديل الأخير:
الدكتور الفاضل إبراهيم عوض أحسن غاية الإحسان في نقده الدقيق الذي يدل على تأمل و حدة ذكاء , وقد استفدت منه كثيرا , و على كثرة مطالعتي وتتبعي لنقد الترجمات لم أر أوسع ولا أشمل ولا أدق مما فعل وهذا من الإنصاف له
وقد فرغت من تأمل بقية الجزء الذي كنت قد نظرت فيه وكتبت ملاحظاتي في المشاركة التي قبل هذه
وبالمثل نراه يترجم "الهجرة" فى الأغلبية الساحقة من المرات بـ "Exodus"، وهى الكلمة التى ارتبطت بتاريخ اليهود وخروجهم جميعا دفعة واحدة من مصر

فقد راجعت قاموس أوكسفورد و كيمبرج و ماكملن و غيرهم فوجدت أن 5 من أشهر القواميس الانكليزية واعرقها تتفق مع محمد أسد في ترجمته لكلمة Exodus
وكونها استخدمت في اللغة الانكليزية للدلالة على نزوح بني إسرائيل من مصر فهذا لا يعيبها ولا يسوغ أن نحارب هذه الكلمة ونسعى لإلغائها
فهي تستخدم في المجالات المالية والقانوية أيضا فيقال هجرة رؤس الأموال وهجرة البنوك وهجرة الموظفين
فأستاذنا الفاضل أخالفه في انتقاده استخدام God لدى الأجانب الذين لغتهم انجليزية
وأخالفه في أسماء الأعلام المشهورين كالأنبياء كما بينت في مشاركتي التي قبل هذا
وقد أعجبني انتقاده لاستخدام الفرار عند حديثه عن نبينا عليه الصلاة والسلام
وأعجبني انتقاده لترجمة الكلمة من خلاف , و الأعراف , و
قوم لم نجعل لهم من دونها سِتْرا , و طه إلى آخر الملاحظات القيمة الكثيرة التي أتحفنا بها
لذلك نشكر أستاذنا الدكتور الفاضل , حفظه الله ورعاه وجزاه عنا أحسن الجزاء
سوف اواصل قرأة بقية الأجزاء , فلابد من قرأتها بتمعن حتى يتم الاستفادة منها وإن وجدت أي ملاحظات فسوف أوردها ههنا

 
يقول فى أحد هوامشها، فى معرض تأكيده بأن النبى عليه الصلاة والسلام لم يكن ينطوى تجاه اليهود على أية مشاعر عدائية، إنه على العكس من ذلك كان يعجب بما عندهم من علم دينى[147]. ولقد كنت أتمنى لو أنه ساق لنا الشواهد على هذا الإعجاب النبوى المزعوم، أما إلقاء الكلام على عواهنه فلا يكفى.
الجواب في صحيح البخاري
( جاء حَبرٌ منَ أحبارِ اليهود إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : يا محمدُ ، إنا نَجِدُ : أنَّ اللهَ يَجعَلُ السماواتِ على إصبَعٍ والأرَضينَ على إصبَعٍ ، والشجرَ على إصبَعٍ ، والماءَ والثَّرى على إصبَعٍ ، وسائرَ الخلائقِ على إصبَعٍ ، فيقولُ أنا المَلِكُ ، فضحِك النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى بدَتْ نَواجِذُه تَصديقًا لقولِ الحَبرِ ، ثم قرَأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : }وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{.)

وبعد، فقد وقع فى يدى، بعد كتابتى للفصول الماضية، مقال للكاتب السعودى عبد العزيز الرفاعى فى "المجلة العربية" (عدد رجب 1413هـ) أشار فيه إلى أن محمد أسد كان قد أعد ترجمته تلك لرابطة العالم الإسلامى، إلا أن المسؤولين فى الرابطة راجعوه فى عدد من الأمور التى رَأَوْا أنه خالف فيها ما تعارف عليه معظم المفسرين، وأنه قد وافقهم على بعض ما قالوه وأصرَّ على موقفه فى البعض الآخر[187].

بما أن محمد اسد تراجع عن بعض ما لاحظته عليه الرابطة فهذه دلالة أخرى على أنه ليس معاندا وإنما يبحث عن الحق فلا يجوز أن ننتقده في الجزء الذي تراجع فيه ,
أما ما ناقشوه فيه ولم يقتنع فليتنا نعرف تفاصيل النقاش , فلعلهم لم يوفقوا في إقناعه فهناك من لايحسن الدفاع عن الحق أو لعله لم يفهم حججهم ,ولا يجب أن يغيب عنا أنه أعجمي وهذا المستشرق المشهور البروفسور ارثر جون اربري فمع تخصصه في العربية , فهناك أيات فهمها فهما خاطئا وترجمها بحسب فهمه القاصر في العربية
الناس عموما في عالمنا العربي لا تعرف الرجل إلا من خلال كتبه التي أشرت إليها ، فما الفائدة المرجوة من التصدي لكتب إنما ألفها غالبا لليهود والنصارى ، أو من كان كذلك ، أليس الأجدر أن يشاد به بدلا من جعله غرضا ، وهب أنك مصيب فيما ذهبت إليه ، وأنك محق فيما اتكأت عليه ، فما الثمرة والمحصل لهذا التشهير يادكتور عفى الله عنك ...
إننا نغفل كثيرا عن سياسة الصمت ، والتي تكون أحيانا فقها كاملا في التعامل ، بل إن السكوت يكون من العلم أحيانا ، وللأسف ففي الأزمنة المتأخرة أصبحنا أمة لا تحسنه في مواضعه ، وهذا مما بلينا به حيث أصبح الجدل سمة بادية في الزمان ، وهو من الظلم الذي هو وضع الشئ في غير موضعه ، وإنها لمشكلة اجتماعية وفردية نعيشها على جميع المستويات ، وما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا والعياذ بالله ( ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون )
4/4/1430

نعم ترجمة محمد أسد ترجمة قديمة ولم تنل عناية القراء العرب حيث أنهم ليسوا أصلا في حاجة لمطالعتها , والملاحظات التي عليها مقاربة للملاحظات التي على ترجمة الهندي عبد الله يوسف علي ومع ذلك فنقول ترجماتهم غير موفقة وفيها ملاحظات كبيرة ثم نسكت عن هؤلاء وندعو لهم بالرحمة والمغفرة
لأن من أراد أن يكتسب التعمق في العلم الشرعي فهو في الغالب سيرجع إلى كتب الأئمة الراسخين في العلم كمثل الإمام الطبري أو كتب العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب البخاري و ابن حنبل و ابن القيم أو ابن كثير وغيرهم ممن لهم إجلال كبير لدى المحققين من أهل العلم وحتى الغربيين الذين يسلمون متى ما أراد أحدهم أن يتعمق في علم الدين بدأ بتعلم العربية حتى يأخذ العلم من مصادره (1)
ذلك أن محمد أسد أو يوسف استس أو يوسف علي ونحوهم فهولاء لا يصنفون أبدا بأنهم من أهل العلم بالشريعة
ويكفينا من محمد أسد ما قاله عنه سلمان العودة : ( ثم سجل قصة رحلته الطويلة إلى الإسلام وإلى الجزيرة بعنوان ( الطريق إلى مكة)، وهو أشهر كتبه حتى قال عنه أحد المسلمين الغربيين : " لا أحد يعرف عدد من وجدوا الطريق إلى الإسلام عبر هذا الكتاب الصغير " ) .
........( حاشية )..........
( 1 ) وقابلت في الرياض الأمريكي المسلم
عثمان عبدالرحمن لولن - أصله من أكلاهوما - وكان يلبس ثوبا عربيا و يتكلم العربية وقال إنه تزوج امرأة من أهل مكة و كتب لي رقم هاتفه واسمه بالعربية ولكن للأسف ضاع مني​

فهولاء الغربيون إذا أرادوا الاستزادة في الدين تعلموا العربية أو سأل أحدا من العلماء المعروفين المشهود لهم ففي عصرنا هذا صار التواصل ميسرا قريبا
 
عودة
أعلى