الصحابي عديّ بن حاتم إنما حمَل اللفظ على حقيقته و ظاهره قبل نزول البيان
الصحابي عديّ بن حاتم إنما حمَل اللفظ على حقيقته و ظاهره قبل نزول البيان
الأخ ( أبي حسان )
بعدَ أن بيّنتُ لك حقيقة ما ادعيته - أنت - أخطاءً للصحابة في تفسير آيات القرآن ، و أنها مِن شُبَه نُفاة اِتِباع أقوال الصحابة ؛ كما حكاه ابن القيم في " إعلام الموقعين " ، و كما أقمتُ الدليل على موافقة مثالٍ منها للحديث الصحيح المتفق عليه ، و أنك تلتقط الكلام بغير تبَصّرٍ بموضعه - عُدْتَ تسأل ، و تقول :
(
حسنا يا دكتور أبا بكر:
ما رأيك بهذا الفهم من عدي بن حاتم رضي الله عنه حيث قال : « لما أنزلت هذه الآية { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بالذي صنعت فقال : إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل » .
ما توجيهك له؟ ) . أهـ [ المشاركة رقم 18 ]
و سألتك عنه ؛ فقلتْ :
الحديث أصله في البخاري ، واللفظ الذي ذكرته من مسند الإمام أحمد!!!!!!!
و هو كذلك - أخي - و لم يكن خافياً عليّ ، و لكني أردتُ سماع جوابه منك ؛ لإقامة الحجّة عليك في تتبعك للمشتبهات هاهنا ، و للشبهات هناك ، و البحث في الأقوال والأدلة بغرض الاستظهار لقولٍ قِيل ، لا بغرض الاستبصار بالدليل !
-------------------
- و بيان ذلك :
قولك إن ذلك الحديث أصله في البخاري : لا خلاف فيه
و قد استشهدتَ أنت به في التدليل على أخطاء الصحابة رضوان الله عليه في التفسير ،
و سألتني عن رأيي بذلك الذي فهمه الصحابي عدي بن حاتم من الحديث ؟
- و أقول : و مَن أكون حتي يكون لي حكمٌ في تفاسير الصحابة للقرآن الكريم ؟!
، و هم الذين عايشوا و صاحبوا النبي صلى الله عليه و سلم ، و شهدوا و عاصروا التنزيل ، فضلاً عما تميّزوا به عنا بأشياء كثيرة ، ذكرها ابن القيم في " إعلام الموقعين "
و تسأل عن توجيه ما فهمه عديّ رضي الله عنه ؟
، و الجواب موجودٌ في " صحيح البخاري " ، الذي ذكرتً أنت أن لذلك الحديث أصلاً فيه ، و هذا صحيحٌ لا نزاع فيه .
و العجب منك أن توجيهه موجودٌ في نفس الباب الذي فيه ذلك الحديث الأصل ، بَعْدَه مباشرة ، في ( كتاب الصوم )
و كذا بعده بحديث ، في ( كتاب التفسير ) ؛ كلاهما : ( باب قول الله تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] )
- و توجيهه فيه : أن الصحابي عديّ بن حاتم فهمَ أن المراد بـ { الخيط الأبيض } ، و { الخيط الأسود } : حقيقته و ظاهره ؛ إذ لم يكن قد نزل قوله تعالى : { من الفجر } بعْدْ
أخرج الإمام البخاري في " صحيحه " ، في كتاب الصوم :
1917 - ( حدثنا سعيد بن أبى مريم ، حدثنا ابن أبى حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد ح . حدثنى سعيد بن أبى مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، قال : حدثنى أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : أُنزِلتْ : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ،
ولم ينزل :
{ من الفجر } ، فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : { من الفجر } . فعلموا أنه إنما يعنى الليل والنهار ) . أهـ
و أخرجه في كتاب التفسير من " صحيحه " ؛ قال :
4511 - ( حدثنا ابن أبى مريم حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف حدثنى أبو حازم عن سهل بن سعد قال : وأُنزِلتْ : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ،
ولم ينزل : (
من الفجر ) ، وكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعده ( من الفجر ) فعلموا أنما يعنى الليل من النهار ) . أهـ
- و الحديث أخرجه مسلم في " صحيحه " أيضا ؛ فهو حديث صحيحٌ أخرجه الشيخان ، و تلقّته الأُمة بالقبول .
* * *
-
و في تفصيل ذلك ؛ قال الإمام أبو بكر الجصاص ( 370 هـ ) - في " أحكام القرآن " - :
(( وأما قوله : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } : قال أبو بكر [ الجصاص ] : قد اقتضت الآية إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، روي أن رجالا منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود وتبين أحدهما من الآخر ، منهم عدي بن حاتم ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن إدريس المعني عن حصين عن الشعبي عن { عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } قال : أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي ، فنظرت فلم أتبين ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : إن وسادك إذا لعريض طويل إنما هو الليل والنهار } . قال عثمان : إنما هو سواد الليل وبياض النهار " .
قال : وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد اليماني قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن أبي مريم عن أبي غسان محمد بن مطرف قال : أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال : لما نزل قوله : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فأنزل الله بعد ذلك : { من الفجر
} فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار .
قال أبو بكر [ الجصاص ] : إذا كان قوله { من الفجر } مبينا فيه فلا إلباس على أحد في أنه لم يرد به حقيقة الخيط ، لقوله : { من الفجر } ، ويشبه أن يكون إنما اشتبه على عدي وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله { من الفجر } ، وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة ، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار ، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية ، وأن عدي بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة ؛ لأنه ليس كل العرب تعرف سائر لغاتها .
وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة ، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك : { من الفجر } فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار ، وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية ، قبل الإسلام مشهورا ذلك عندهم ؛ قال أبو داود الإيادي : ولما أضاءت لنا ظلمة ولاح من الصبح خيط أنارا ، وقال آخر في الخيط الأسود : قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الخيط البهيم ساتره ؛ فقد كان ذلك مشهورا في اللسان قبل نزول القرآن به ، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل ؛ قال : والخيط هو اللون )) . انتهى ، من كلام الجصاص
* * *
و عليه ، فالثابت بالحديث الصحيح المتفق عليه أن الصحابي عدي بن حاتم إنما حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله قوله تعالى : { من الفجر } ، وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة ، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار
و أنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن المراد بقوله تعالى هذا ؛ فأخبرهم به ؛ أخرج البخاري :
4510 - ( حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبى عن عدى بن حاتم - رضى الله عنه - قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان قال « إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين » . ثم قال « لا بل هو سواد الليل وبياض النهار » ) . أهـ
* * *
و الغرض : أنه لا يمتنع في شأن الصحابة رضوان الله عليهم أن يفهم البعض منهم ما هو غير مُرادٍ بآية من القرآن ، قبل نزول بيانها
و لكن المتنع - في شأن الصحابة - أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به ، والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطقٍٍ بالصواب ، من النبي صلى الله عليه و سلم في حياته ، أو مِن بقية الصحابة بعد وفاته .
و هذا مُستفادٌ مما ذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين "
و بهذا بطلَ الزعمُ بوجود أخطاء للصحابة في تفاسير القرآن ، تستدعي المراجعة و التصحيح
رضي الله عنهم أجمعين
و كتبه
د . أبو بكر عبد الستار خليل
عفا الله عنه و عافاه في الداريْن
اللهم آمين