تحقيق المجازات والتشبيهات في آيات من القرآن الكريم مع ذكر خلاف البلاغيين فيها

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
بسم الله الرحمن الرحيم
قد من الله تعالى علي تدريس متن السمرقندية في علم البيان ، بشرح الملوي والدمنهوري والعصام وحاشية الباجوري والخضري والصبان ، ولما كان فيها شيء من الصعب وضعت أمثلة من القرآن وتدريبات للطلاب مستخلصة من كتب التفسير وحواشي البيضاوي والزمخشري ، وقد كنت أنوي أن أتم القرآن الكريم على هذه الطريقة لكن الوقت لم يساعدني فآثرت أن أنشر ما كتبته لعل الله يقيض من يكمل هذا الموضوع من إخوتنا الأفاضل :
أولا: الاستعارة التبعية في الحرف:
الاستعارة التبعية في الحرف:
أما الاستعارة في الحرف ففي جعلها تبعية أقوال:
القول الأول قول الجمهور: لأن الاستعارة تجرى في متعلق الحرف ثم تجرى في الحرف ، لأن معنى الحرف النسبة الجزئية يتوقف فهمها على ذكر طرفيها كالسير والبصرة في نحو سرت من البصرة وكل ما هو كذلك لا تجري فيه الاستعارة أصالة.
فعلى مذهب الجمهور، في الرأي الراجح منه [1]، يقدر التشبيه، "أولا" في متعلق معنى الحرف, ثم يقدر "ثانيا" من طريق السراية, في جزئية, ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لتشبيهين: أحدهما في متعلق معنى الحرف، والثاني في جزئيه.وفي مذهبهم تكلف كثير.
القول الثاني:مذهب الخطيب في الإيضاح والسيالكوتي واستحسنه الصبان
يقدر التشبيه في المجرور بالحرف -أولا- ثم في معنى الحرف -ثانيا- من طريق السراية، ثم ينقل الحرف إلى المعنى المراد، فتكون الاستعارة حينئذ تابعة للتشبيه الذي في المجرور
تقول : في إجراء الاستعارة فيه:
1) شبهت الجذوع المستعلى عليها بالظروف الحقيقية بجامع التمكن في كل،
2) فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الجذوع بالمصلوبين بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء
3) ثم استعيرت {فِي} الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس الجذوع المستعلى عليها بالمستعلي، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
فالاستعارة في الحرف لا بد فيها من تشبيهين يسبقانها؛ أحدهما في مدخول الحرف، والثاني في معناه, فالتشبيه في آية {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} جرى -أولا- في مدخول الحرف، وهو "الجذوع" في جانب المشبه، والظروف الحقيقية في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى الحرف، وهو "تلبس الظرف بالمظروف".
وكذلك يقال في : محمود في غبطة
وتقرير الاستعار:
1) فتشبه الغبطة بالظرف الحقيقي بجامع التمكن في كل.
2) فيسري هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الغبطة بمحمود بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء.
3) ثم تستعار "في" الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين؛ لتلبس الغبطة بمحمود, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية, وهكذا يقال في أمثال ما ذكر.
فالتشبيه في المثال الأخير جرى -أولا- في مجرور الحرف، وهو "الغبطة" في جانب المشبه، والظرف الحقيقي في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى الحرف، وهو "تلبس الظرف بالمظروف" وعلى هذا فقس.
وكذلك في فالتشبيه في آية {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ}
تقرير الاستعارة :
1) شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط بالعلة الحقيقية التي هي المحبة والسرور بجامع الترتب على الالتقاط في كل.
2) فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب العلة الحقيقية عليه, بجامع مطلق ترتب شيء على الشيء.
3) ثم استعيرت اللام الموضوعة لترتب العلة الحقيقية على الالتقاط؛ لترتب غير العلة الحقيقية عليه على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
نلاحظ أن الاستعارة جرت -أولا- في مدخول لام العلة، وهو "العداوة والحزن" في جانب المشبه، "والمحبة والسرور" في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى اللام، وهو ترتب العلة على المعلول
هذا هو مذهب الخطيب ةوعبد الحكيم السيالكوتي في استعارة الحرف -على ما يفهم من كلامه في كتابه الإيضاح- فهو -كما رأيت- لا يجري استعارة في مجرور الحرف ويعقد التشبيه فيه كما يفعل السكاكي، لا في معنى كلي كما ذهب إليه الجمهور –
القول الثالث: للسكاكي قال مكنية لأنه أنكر التبعية : شبه ترتب الجذوع بالظرف والسحرة بالمظروف تشبيها مضمرا في النفس بجامع التمكن والحرف قرينة (تخييل)
*************
أمثلة للاستعارة التبعية في الحرف:
مثاله قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
اعلم أن لام العلة موضوعة لترتب ما بعدها على ما قبلها, ترتب العلة على المعلول, كما تقول: اشتريت هذا الكتاب لأقرأ فيه؛ فإن القراءة مترتبة على الاشتراء, وعلة باعثة عليه.
إذا علمت هذا, فاعلم أن "اللام" في الآية المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبًا على ما قبلها- ليس علة باعثة عليه؛ ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى -عليه السلام- ليكون لهم عدوًّا وحزنًا, وإنما التقطوه ليكون حبيبًا لهم وسرورًا, لكن لما كانت النتيجة المترتبة على التقاطهم هي العداوة والحزن لا المحبة والسرور, شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط في الواقع بالمحبة والسرور اللذين كانا ينبغي أن يترتبا عليه، ثم استعملت اللام فيه تجوزًا.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه مطلق ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بمطلق ترتب العلة الغائية كالمحبة والتبني بجامع مطلق الترتب فاستعير الترتب الكلي المشبه به ، للترتب الكلي المشبه فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات فاستعير لفظ اللام واستعمل في الترتب الجزئي ، والعداوة والحزن قرينة . على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
************
ومثله قوله تعالى: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فلفظ {فِي} موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين، كما تقول: الماء في الكوز, فإن الماء مظروف في الكوز, والكوز ظرف له, وحينئذ فكلمة {فِي} في الآية مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها لا يصلح أن يكون ظرفًا لما قبلها على الحقيقة, لكن لما كانت الجذوع متمكنة من المصلوبين تمكن الظرف من المظروف, شبهت الجذوع بالظرف الحقيقي في التمكن, ثم استعير لها لفظ {فِي} تجوزًا في التعبير.
وإجراء الاستعارة على مذهب الجمهور أن يقال:شبه الاستعلاء المطلق بالظرفية المطلقة بجامع التمكن ، واستعيرت الظرفية المطلقة للاستعلاء المطلق ، فسرى التشبيه للاستعلاء الخاص (الذي هو الارتفاع على الجذوع المعينة ) الذي هو معنى على ، للظرفية الخاصة(حلول شيء مخصوص في شيء مخصوص كالماء في الكوز) ، التي هي معنى في ، فاستعير لفظ في الموضوعة لكل جزئي من جزئيات الظرفية للاستعلاء الخاص .
وعلى الخطيب في الإيضاح وعبد الحكيم السيالكوتي واستحسنه الصبان:
شبهت الجذوع المستعلى عليها بالظروف الحقيقية بجامع التمكن في كل, فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الجذوع بالمصلوبين بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, ثم استعيرت {فِي} الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس الجذوع المستعلى عليها بالمستعلى, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
وعلى مذهب السكاكي: شبه الجذوع بالظروف تشبيها مضمرا في النفس بجامع التمكن ، وحذف المشبه وترك شيه من لوازمه وهو الحرف في.
عبارة المفسرين:
قال أبو السعود: { وَلأصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل } أي عليها ، وإيثارُ كلمةِ ( في ) للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه قال الزمخشري: شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه ، فلذلك قيل : { فِى جُذُوعِ النخل }
قال ابن عاشور: والتصليب : مبالغة في الصلب . والصلب : ربط الجسم على عود مُنتصب أو دَقُّهُ عليه بمسامير ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) . والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضاً بشدّة الدقّ على الأعواد .
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيهاً لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه .
والجذوع : جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة } [ مريم : 25 ] . وتعدية فعل { ولأُصلّبَنَّكُم } بحرف ( في ) مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يُشبه حصول المظروف في الظرف ، فحرف ( في ) استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلَّق معنى ( في ) لمتعلَّق معنى ( على ) .
***************
ومثله قولهم: "زيد في نعمة" فلفظ "في" كما علمت موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما في المثال السابق، وحينئذ فلفظ "في" في المثال المذكور مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن ما بعده لا يصلح للظرفية الحقيقية "كما ترى" لكن لما كانت النعمة متمكنة من "محمود" تمكن الظرف من المظروف, شبهت النعمة بالظرف الحقيقي واستعمل فيها لفظ "في" تجوزًا.
تقرير الاستعارة على مذهب الجمهور:
: شبه مطلق تلبس شيء لا يصلح للظرفية -كالغبطة في المثال المذكور- بشيء آخر، بمطلق تلبس ظرف بمظروف, بجامع مطلق تلبس شيء بشيء، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات ثم استعير لفظ {فِي} من أحد جزئيات المشبه به (كزيد في المسجد)، للمشبه , استعارة تصريحية تبعية.
وتقرير الاستعارة فيه على مذهب السيالكوتي والخطيب في الإيضاح واستحسنه الصبان :
علي رأي الخطيب في الإيضاح: فتشبه النعمة بالظرف الحقيقي بجامع التمكن في كل، ثم يسري هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس النعمة بمحمود بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين, بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, ثم تستعار "في" الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس النعمة بمحمود على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في أمثال ما ذكر.
************
ثانيا : أمثلة للاستعارة التصريحية التبعية في الفعل والمشتق وأمثلة لمجاز والتشبيه بأنواعه:
الفعل له "مادة" هي حروفه الدالة على الحدث، وله "صيغة" وهي الهيئة الدالة على الزمان كما في صيغتي الماضي والمضارع، والاستعارة في الفعل، باعتبار مادته غيرها، باعتبار صيغته.
************
"زارني بحر في منزلي".
شبهنا الجواد بالبحر في الإمداد, ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو "بحر" للمشبه ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية .
************
"هالني قتلُ عباس خصمه" تريد الضرب المبرح
شبه الضرب الأليم بالقتل في قسوة الألم، ثم استعير لفظ "القتل" للضرب الأليم ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " قتل" للمشبه ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية .
************
"رأيت اليوم مادرًا" تريد رجلًا بخيلًا.
شبه الرجل البخيل "بمادر" في البخل،ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " مادر" للمشبه ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية لأن اللفظ المستعار فيه اسم جنس تأويلًا, وسميت أصلية؛ نسبة إلى الأصل بمعنى الكثير الغالب، ولا شك أنها أكثر وجودًا في الكلام من التبعية الآتية بعد فهي أفرادها أكثر ويدلك على ذلك أن كل استعارة تبعية معها أصلية ، أو نسبة إلى الأصل بمعنى ما كان مستقلا وليس مبنيا على غيره ولا شك أن هذه الاستعارة تعتبر أولا من غير توقف على تقدم أخرى تنبني عليها بخلاف التبعية .
نطقت الحال بكذا,
تقريرها أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " النطق" للمشبه ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتقننا من النطق بهذا المعنى الدلالة الواضحة، "نطقت" بمعنى "دلت دلالة واضحة " على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، هذا مثال التبعية في الفعل من حيث مادته.
*************
"من غرس الجميل محبوب"
ففي غرس استعارة تصريحية تبعية، إجراؤها:
شبه الفعل الجميل بالغرس بجامع انتظار الثمرة في كل ، ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " الغرس " للمشبه وهو الفعل الجميل ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتقننا من الغرس بمعنى الفعل الجميل غرس بمعنى فعل فعلا جميلا " على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، هذا مثال على التبعية في الفعل من حيث المادة .
************
قوله تعالى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
فالإحياء وهو إيجاد الروح إنما يناسب الحيوان لا الأرض, والذي يناسب الأرض إنما هو "التزيين"
شبه "تزين الأرض بالنبات ذي الخضرة والنضرة "بالإحياء" في الحسن والنفع، ثم ادعي أنه فرد من افراده ثم استعير لفظ "الإحياء" للتزيين، ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ثم اشتق من الإحياء بمعنى التزيين "يحيي" بمعنى "يزين" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، وهذا مثال التبعية في الفعل من حيث مادته .
************
قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
من المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد وإنما سيأتي، بدليل قوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان سياق الكلام أن يقول: يأتي أمر الله، ولكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا في التعبير مبالغة؛ لأن أمر الله آتٍ لا محالة.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقيق الوقوع، ثم ادعي أنه فرد من أفراده، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" للإتيان في المستقبل، ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية , ثم اشتق من الإتيان في الماضي {أَتَى} بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، وهذا مثال للتبعية في هيئة الفعل (زمنه)
هناك إجراء مختصر: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي واستعير الإتيان في الماضي للإتيان في المستقبل واشتق منه (أتى) بمعنى (يأتي) ، هذا مثال للتبعية في هيئة الفعل أي زمنه.
************
قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}
مما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما يكون في الدار الأخرى, فكان سياق الكلام أن يقول: وينادي أصحاب الجنة، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزًا.
وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما سبق في {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فيقال:
شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي في تحقق الوقوع، ثم ادعينا أنه فرد من أفراده ثم استعير "لفظ النداء في الماضي" للنداء في المستقبل، ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة الأصلية ، ثم اشتق من النداء في الماضي "نادى" بمعنى ينادي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.وهذا مثال للتبعية في هيئة الفعل.
************
قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
كما تستعمل صيغة الماضي في المستقبل تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في فالرؤيا المذكورة وقعت "بالفعل" فكان سياق الكلام أن يقول: "إني رأيت" لكنه عبر بـ {أَرَى} تجوزًا في العبارة.
وتقرير الاستعارة فيها أن يقال: شبهت الرؤيا الماضية بالرؤيا الحاضرة في استحضار الصورة الغريبة, وهي صورة ذبح إبراهيم -عليه السلام- لابنه, ثم ادعي أنه فرد من أفراده ثم استعير لفظ الرؤيا في الحاضر للرؤيا في الماضي، ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتق من الرؤيا في الحاضر {أَرَى} بمعنى "رأيت" على سبيل الاستعارة التبعية، هذا مثال للتبعية في هيئة الفعل أي زمنه .
************
"إنما أصادق الأعمى عن العورات" الأعمى: صفة مشبهة .
شبه غضّ البصر عن العورات بالعمى في عدم الرؤية، ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعير لفظ "العمى" لغض البصر، ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتق من العمى بمعنى غض البصر "أعمى" بمعنى غاضّ البصر, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، وهذا مثال للتبعية في الصفة المشبهة .
************
قال الشاعر:
ولئن نطقتُ بشكر برك مفصحًا ... فلسان حالي بالشكاية أنْطَقُ
شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو "لنطق" للمشبه وهو الدلالة الواضحة ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتققنا من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" بمعنى "أدل" على طريق الاستعارة التبعية، وهذا مثال التبعية في "أفعل التفضيل".
************
قولك: "هذا مَقْتَل فلان" مشيرًا إلى مكان ضربه، أو زمانه ، فـ(مقتل) إما اسم زمان أواسم مكان .
شبه الضرب الشديد بالقتل في قسوة الألم ثم استعير لفظ "القتل" للضرب الشديد ثم ادعي أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " قتل" للمشبه ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، ثم اشتققنا من القتل بمعنى الضرب الشديد "مقتل" بمعنى مكان أو زمان الضرب الشديد على سبيل الاستعارة التبعية.
************
ومنه قوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}
فمما لا ريب فيه أن هذا السؤال منهم إنما يكون بعد البعث من القبور, فالمراد "بالمرقد" حينئذ موضع الموت أي: القبر، لا موضع الرقاد وهو النوم؛
والمرقد يصح أن يكون اسم مكان أو مصدرا ميميا ، فإن كان اسم مكان ففيه استعارة تبعية وإن كان مصدرا ميميا ففيه استعارة تصريحية أصلية لأن المصدر سواء كان مصدرا صريحا أو ميميما ففيه استعارة أصلية بخلاف اسم الزمان والمكان والآلة
فإن قيل ألم يعذبوا في القبور فكيف شبهوه بالمرقد نقول فيه ثلاثة أوجه:
[h=1] الأول وهو الأحسن: [/h] قولهم : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبني على إنكارهم البعث وهم في الدنيا ورسوخ أثر الإنكار والغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم وهم لا يزالون مستغرقين في الأهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الأكبر والدهشة التي لا تقوم لها الجبال فلم يكن في ذهنهم أنهم يبعثون ويمضون سراعاً ، وهم في دهش وذعر يتساءلون : ( من بعثنا من مرقدنا ? ) . ثم تزول عنهم الدهشة قليلاً ، فيدركون ويعرفون : ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) !
ولذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل والهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لأن الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شيء بعد قوة إنكارهم كقوله تعالى عنهم { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} ، ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته ، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً : { هذا ما } أي الوعد الذي { وعد } أي به ، وحذفوا المفعول تعميماً لأنهم الآن في حيز التصديق
الوجه الثاني: أنهم عدوا مكانهم الذين كانوا به - مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ - مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر ، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة .
الوجه الثالث: وعن ابن عبَّاسٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وقَتَادةَ رحمهم الله تعالى : أنَّ الله تعالى يرفعُ عنهم العذابَ بينَ النَّفختينِ فيرقدُون فإذا بُعثوا بالنَّفخةِ الثَّانيةِ وشاهدُوا من أهوال القيامة.
إجراء الاستعارة على التوجيه الثاني:
شبه الموت بالرقاد وهو النوم وأطلقوا الرقاد على الموت والاضطجاعِ في القبور تشبيهاً بحالة الراقد ، ثم ادعينا أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو "الرقاد" للمشبه وهو الموت ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ثم اشتققنا من الرقاد بمعنى الموت "مرقد" بمعنى مكان الموت، وهو القبر على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. وإن قدر "المرقد" مصدرًا ميميًّا بمعنى "الرقاد" واستعير للموت كانت الاستعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار حينئذ اسم جنس غير مشتق.هذا مثال التبعية في اسم المكان.
************
"هذا مِفْتاح الملك" مشيرًا إلى أحد وزرائه.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الوزارة بفتح الأبواب المغلقة بجامع التوصل إلى المقصود, ثم ادعينا أنه فرد من أفراده ، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو " الفتح" للمشبه وهو الوزارة ، ثم حذفنا المشبه وتركنا المشبه به على سبيل الاستعارة علي سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، , ثم اشتق من الفتح بمعنى الوزارة "مفتاح" بمعنى وزير على سبيل الاستعارة التبعية.
***************
صه ، هيهات ، أوَّه : في حكم الأفعال فهي تبعية وكيفية تقرير الاستعارة فيها (في أسماء الأفعال) أن يقال: في استعمال هيهات بمعنى عسر: نحو أن يقال: هل هذا الأمر ممكن ؟ فيقال : هيهات حصوله.
(هيهات) بمعنى (عسر) شبهنا العسر بالبعد ، واستعرنا (البعد) للعسر ، واشتققنا من البعد بمعنى العسر (بعد) بمعنى عسر وجعلنا (هيهات ) بمعنى بعد المستعار لمعنى (عسر).
**************
{اهدنا الصراط المستقيم}
والصراط مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله
اسْتِعَارَةٌ تصريحية أصلية من تشبيه المعقول للمحسوس[2] بِأَنْ شُبِّهَ دين الإسلام والِاعْتِقَادُ الْمُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ بِالطَّرِيقِ الحسّيّ الْمُسْتَقِيمِ الْمُبَلِّغِ إِلَى الْمَقْصُودِ.
بجامع أنّ كلّا يوصل إلى المقصود ولا بد فيهما للوصول من قطع المسافات ومس الآفات ليكرم بالوصول والموافاة
واستعير اسم المشبّه به للمشبّه ثم حذف المشبه به وترك المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية والقرينة طلب الهداية من الله ، و كلمة {مستقيم}ترشيح للاستعارة لأنها تناسب الصراط وتلائمه
فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدق انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة لان الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين فلا يشق على السالك وكلما اعوج طال فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه وفي لفظ الصراط اشارة الى أن طريقهم مسلوكة محدودة الأطراف ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، ( صراط ) على وزن ( فِعال) من ( صرط ) وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالرباط والشداد فيشتمل على كل السالكين ولا يضيق بهم فهو واسع رحب، وقد جاء بالصراط مفردا معرفا بتعريفين : بالالف واللام ، ثم ببالاضافة وموصوفا بالاستقامة مما يدل على أنه صراط واحد ليس ثمة صراط غيره وما عداه من الطرق معوج ولا يوصل الى المقصود ، والملاحظ أن القرءان لم يأت بكلمة الصراط الا مفردة فلم يستعملها مجموعة بخلاف السبيل فانه يفردها ويجمعها
**************
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلي الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه بها .
قال الصابوني :
[ اشتروا الضلالة بالهدى ] الاستعارة التصريحية [ اشتروا الضلالة بالهدى ] المراد استبدلوا الغي بالرشاد ، والكفر بالإيمان ، فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم ، فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله : [ فما ربحت تجارتهم ] وهذا هو الترشيح الذى يبلغ بالاستعارة الذروة العليا من البيان.
ابن عطية قال آخرون : الشراء هنا استعارة وتشبيه ، لما تركوا الهدى وهو معرض( [SUP]42[/SUP] ) لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه .
قال أبو السعود:
{ أولئك } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تمييز ، بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ، ومحلُه الرفعُ على الابتداء ، خبرُه قوله تعالى : { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها ، وتصويرِها بصورةِ ما لا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تمييزٍ فضلاً عن العقلاء . والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد ، والهدى التوجهُ إليه ، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين[3] ، والثاني للاستقامة عليه ، والاشتراء استبدال السلعة بالثمن ، أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل ، وإن كان مستلزِماً له ، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البيع ، ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى ، لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل ، وإن استلزمه لما مر سرُّه ، ومنه قوله : [ الرجز ]
أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا *** وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا
وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا *** كما اشترى المسلمُ إذ تنصَّرا
فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه ،{ فَمَا رَبِحَت تجارتهم } عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونِه عليها ، والتجارةُ صناعة التجار ، وهو التصدي للبيع والشراءِ لتحصيل الربح ، وهو الفضلُ على رأس المال ، يقال : ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح ، وإسناد عدمِه الذي هو عبارةٌ عن الخسران إليها ، وهو لأربابها - بناءً على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة ، وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم ، وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة ، وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسارةِ التجارة الذي يتحاشى عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسير ، ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى ؛ وتمرّنُهم عليه معرفةٌ عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة ، إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة ، تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها ، كما في قولك : رأيت أسداً وافيَ البراثن ، فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع ، وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ ، بل قد يكون مستعاراً من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة
**************
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
ختم الشيء : الأصل في المادة ما يقابل الفتح فهو تغطية الشيء والاستيثاق من الغطاء ومنع الزيادة عليه حتى لَا يدخله شيء من خارجه، بتغطية ظاهره على ما في داخله
فالختم: حقيقته السد على الإناء والغلقُ على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة مرسومة في خاتَم ليمنع ذلك من فتح المختوم ، فإذا فُتح علم صاحبه أنه فتح لفسادٍ يظهر في أثر النقش وقد اتخذ النبيء صلى الله عليه وسلم خاتماً لذلك ، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها .
ومن المادة الختم: وهو طبقة من الشمع الرقيق تجمعه النحل على القرص فتطليه به لتغطي ظاهره لئلا يترك فرصة لتسرب شيء إليه أو زيادة عليه ومنه { اليوم نختم على أفواههم} .
قال أبو السعود: والختم على الشيء الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له ، أو لما فيه من التعرض له كما في البيت الفارغ والكيس المملوء ، والأولُ هو الأنسب بالمقام ، إذ ليس المراد به صيانةَ ما في قلوبهم ، بل إحداثَ حالةٍ تجعلها بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد ، وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح ، بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ، ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً ،
قال الآلوسي: " وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه ، وروى عن مجاهد أنه قال : إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا وضم الخنصر ثم إذا أذنب ضم هكذا وضم البنصر وهكذا إلى الإبهام ثم قال : وهذا هو الختم والطبع والرين ، وهو عندي غير معقول".
1. الوجه الأول: استعارة تبعية في {ختم} واستعارة تصريحية أصلية في غشاوة
والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني
لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما
كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها
فيكون استعارة محسوس لمعقول
بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله
ويستعار له الختمُ ثم يشتق من الختم ختم ، ففيه استعارة تصريحية تبعية .
وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات
والجامع ما ذكر
؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية
الوجه الثاني: أن تكون استعارة تمثيلية :
يجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة ، وحيل بينها وبينه بالمرة حيث منعت من الاستنفاع بها ـ بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمةقد مَنَع من ذلك بالختم والتغطية عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها ، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب ، والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة .
وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم ، فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يُعرِبُ عنه قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء ، الآية 155 ] ونحو ذلك .
يقول علي هاني أخذا : قول الآلوسي:" قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها ، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب" هذا جار على مذهب السيد لا على مذهب السعد الذي فصل في {أولئك على هدى من ربهم} قال الصبان في حاشيته على السمرقندية:" وما ذكره في تقرير التمثيلية مبني على ما ذهب إليه السيد من أنها لا تكون في المفرد الدال على هيئة منتزعة من عدة أمور ، وفرع على ذلك عدم جواز أن تكون تبعية وهو خلاف مذهب السعد التفتزاني ، والأكثر على ترجيح مذهب التفتزاني.وقال الصبان في الرسالة البيانية : "وما قرره السيد (وهو ما نقله الآلوسي) في احتمال التمثيلية مبني على مذهبه السابق وقد علمت ما فيه".


قال الآلوسي[4] : والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم ، ففيه استعارة تصريحية تبعية .
وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على ماقيل .
الوجه الثاني: أن تكون استعارة تمثيلية :
ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها، المانعة من الاستنفاع بهاـ بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً ، والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة .

قال الصبان في الرسالة البيانية:وهذا الوجه أعني التمثلية في الآية مما اضطرت المعتزلة إلى مثله لكون ظاهرها مخالفا لمعتقدهم من عدم إسناد القبيح كالختم المذكور إلى الله تعالى (لأنه في التمثلية يقال لا ختم ولا تغشية هنا على الحقيقة وإنما هو من الاستعارة) ونحن في غنية عنه لاعتقادنا أنه لا يقبح منه تعالى شيء فليس في الآية على معتقدنا الاستعارة التمثيلية
*******************
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}
{وَجْهِيَ} أطلق الوجه وأراد الكل فهو مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
قال أبو السعود :أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي ، وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمعُ معظم ما تقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء
*******************
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
قال أبو السعود: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياءِ والتفوُّه بمثل تلك العظيمةِ وغيرِها من المعاصي ، والتعبيرُ عن الأنفس بالأيدي لما أن عامة أفاعيلِها تزاوَلُ بهن
قال الآلوسي: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه ، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه
قال الصابوني: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه مجاز مرسل من إِطلاق اسم الجزء وإِرادة الكل وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال نُزوال بهن.
*******************


{ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }
مجاز عقلي (مجاز في الإسناد) والأصل: في عيشة راضٍ صاحبُها ، فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائماً عن الشوائب كأنها نفسها راضية وَهُوَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الرِّضَى بِسَبَبِهَا حَتَّى سَرَى إِلَيْهَا ،وَالرَّاضِي: هُوَ صَاحِبُ الْعِيشَةِ لَا الْعِيشَةُ، لِأَنَّ راضِيَةٍ اسْمُ فَاعِلِ رَضِيَتْ إِذَا حَصَلَ لَهَا الرِّضَى وَهُوَ الْفَرَحُ وَالْغِبْطَةُ
*******************
1. {عذاب يوم محيط ٍ}:
أَيْ مُحِيطٌ عَذَابُهُ ، ووصف اليوم بالإِحاطة وهي صفة العذاب لاشتمال اليوم على العذاب ووُقُوعِ العذاب فِيهِ ، يعني أنّ المراد في الحقيقة إحاطة العذاب شموله فهو صفة للعذاب فوصف به اليوم لاشتماله عليه بوقوعه فيه فهو مجاز في الإسناد كنهاره صائم، وفي الكشاف إنّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب بها لأنّ اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه، قال العلامة: يعني أنّ اليوم زمان جميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطاً بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له كما جمع الشاعر الأوصاف:
في قبة ضربت على ابن الحشرج
*******************
[h=1]( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة : 27][/h]في عهد: استعارة مكنية شبه بالحبل وإثبات النقض له استعارة تخييلية فعلى هذا {ينقضون} حقيقة ، واللفظ مستعمل في حقيقته ، والمجاز في إثباتها للحبل فهي مجاز عقلي سميت استعارة تخييلية .
ولنا إجراء الاستعارة في ينقضون استعارة تصريحية تبعية ، ويكون عهد حقيقة وهو القرينة هذا عند الجمهور فلا تجرى إلا إحدى الاستعارتين ولا تجريان معا .
وذهب الزمخشري إلى إجرائهما معا فيجري الاستعارة في عهد على أنها استعارة مكنية ويجري الاستعارة في نفس الوقت في ينقضون فتكون الاستعارة في ينقضون تصريحية تبعية تحقيقية وليس في إثباتها للعهد استعارة تخييلية عند الزمخشري وعلى هذا قد توجد المكنية بدون التخييلية وأن قرينتها مثل( ينقضون)قد تكون تحقيقية .
وبيان ما سبق:
· أن النقض فسخ التركيب ، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه ، ونقيضه البناء ، وشاع استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك : عالم يغترف منه الناس ، وشجاع يفترس أقرانه .
والحاصل أن في الآية على مذهب الزمخشري استعارة بالكناية ، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية تبعية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم ، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل ، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد ، فاستعمال النقض في إبطال العهد تابع لاستعمال الحبل في العهد أي لما شبه العهد بالحبل وجعل من إفراده ادعاء واستعير الحبل له شبه إبطاله بنقض الحبل فلولا استعارة الحبل للعهد لم يصح استعارة النقض


قال الصابوني : قوله [ ينقضون عهد الله ] فيه (استعارة مكنية) حيث شبه العهد بالحبل ، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض ، على سبيل الاستعارة المكنية.
قال الزمخشري :
فإن قلت : من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد ؟ قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة ، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين . ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه ، فينّبهوا بتلك الرمزة على مكانه . ونحوه قولك : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ، لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر
قال ابن عاشور :
والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب ، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه ، ونقض الغزل ونقض البناء .
وقد استعمل النقض هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم ، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج . وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضا في كلامهم . قال امرؤ القيس :
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي ***
وقال لبيد :
أو لم تكن تدري نوار بأنني *** وصال عقد حبائل جذّامها
وقال :
بل ما تذكر من نوار وقد نأت *** وتقطعت أسبابها ورمامهـا
وقال :
فاقطع لبانة من تعرض وصله *** فلشر واصل خلة صرامهـا
ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طيات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويدا رويدا وفي أزمنة متكررة ومعالجة . والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادا لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة .
وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية ـ ـ ـ وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملا في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح ، مثل إثبات الأظفار للمنية في قولهم أظفار المنية [ وإذا المنية أنشبت أظفارها] ـ ـ ـ ـ وقد يكون مستعملا في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو ينقضون عهد الله ، ـ ـ ـ.
وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها ـ ـ ـ قد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد . وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله إن بيننا وبين القوم حبالا نحن قاطعوها وحينئذ يكون ترشيحا للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لا متضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر .
واعلم أن رديف المشبه به في المكنية [ مثل ينقضون ، ويفترس ويغترف في [شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس] إذا اعتبر استعارة [ أي استعارة تصريحية تبعية] في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزا للمشبه به المضمر [ لأن ينقضون قرينة أن عهد استعارة مكنية ويفترس قرينة على أن شجاع استعارة مكنية ويغترف قرينة على أن عالم استعارة مكنية ] كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل ، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقا عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلا ورمزا على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهم الاستعارة في ذلك اللفظ ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادا بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفا إدعائيا وفيه تكلف .
*******************
( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ }

مجاز عقلي (من الإسناد المجازي) من باب النسبة والإسناد إلى القابل ـــــوهو الأرض ــــــ لفعل الفاعل الحقيقي ـــــ وهو الله عز وجل ــــ فإن الإنبات فعل الله يوقعه في الأرض لكنه لما جعل فيها قابلية وقوة الإنبات بما أودع في الطبقة الطينية من الأرض نسب الإنبات إليها ، من باب إقامَةِ القابل مقام الفاعل الحقيقي
*******************
( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)
المراد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى أي أهلها كما يقال: فلان بين يديك
وبما خلفها القرى الآتية
فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان بأن جعلت الجهتان أعني القدام والخلف مستعارتين للزمان فاستعير ما بين يديها للزمان الحاضر، واستعير (ما خلفها) للمستقبل.
والضمير في ها: الضمير عائد على المصدر المفهوم من كونوا، أي: فجعلنا كينونتهم قردة.
وما صدق (ما) القرى .
*******************
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
في أحاطت استعارة تصريحية تبعية
الإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء إنها أحدقت به من كل جانب
السيئة : القبيح الذي يسوء والمراد به الشرك ، وتنكيرها لبيان كبرها وفظاعتها وبيان أنها سيئة كبيرة عظيمة قال الآلوسي: وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا الكفر، الخطيئة : مشتقة من الخطأ وهو العدول عن القصد و عن سبيل الحق ويقابله الصواب إما في الحكم أو في العمل .
الخطيئة : فعيلة بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا مَخْطُوءٌ بِهَا أَيْ مَسْلُوكٌ بِهَا مَسْلَكَ الْخَطَأِ ، وصيغة فعيلة تدل على معنى الرسوخ والعراقة ، فالخطيئة الفعلة العريقة في الخطأ والعدول عن الصواب والقصد ؛ لظهوره فيها ظهورا لا يعذر صاحبه بجهله ، لأنها عمل عريق في كونه غير صواب وعادلا عن سبيل الحق لا ينبغي فعله ولا ينبغي أن يقصده ومن هنا جعلوا الخطيئة بمعنى المعصية وتقال في سياق الذنوب التي يتحملها الإنسان وما يخطئه الفاعل من مطالب الشرع بأن يتجاوزه عمدا ، { بدليل الإضافات في الواردة في الآيات ويدل عليه { ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر }
قال المنار : وأما الخطيئة فظاهر أنها من الخطأ ضد الصواب ، وصيغة فعيلة تدل على معنى أيضا فالخطيئة الفعلة العريقة في الخطأ لظهوره فيها ظهورا لا يعذر صاحبه بجهله قال ابن عاشور : الخطيئة فعيلة بمعنى مفعوله لأنه مخطوء أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا به إلى أنه فعل يحق أن لا يقع من فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية .
قال بعض العلماء: الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ،
والكسبُ : الاجتهاد في تحصيل ما فيه نفع أو ما يظنه المرء أن فيه نفعا قال أبو السعود ، وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم.
[h=1]معنى أحاطت به :[/h][h=1]1) الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن و حصرها لصاحبها وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها ، وأنها أخذته من جميع نواحيه واستولت عليه ، بحيث لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه ولم يبق شيء من أحواله خارجاً عن الخطيئة بل كانت غامرة لكل ما سواها من أعماله ، ولا يكون ذلك إلاّ للكفر الهادم لأساس الأعمال الذي لا يتأتى بقاء الأعمال بدونه ، وبحيث لا يترك له منفذاً للإقبال على غير ذلك بحيث يوافي على الكفر والإشراك، كما يحيط العدوّ والعسكر بالإنسان ، بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه[/h]2) وإحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة لإحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهومن أصحاب النار مخلدا فيها لأن من ارتكب سيئة وأحاطت به آثامه حتى سدت عليه منافذ الخلاص و مسالك النجاة ، ففي أحاطت استعارة تصريحية تبعية
[h=1][/h][h=1]. وفي التعبير : ( وأحاطت به خطيئته ) . . تجسيم لهذا المعنى . وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني ، وسمة واضحة من سماته ؛ تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة ، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة . وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته : يعيش في إطارها ، ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها .[/h][h=1] المراد بالخطيئة : وقرئ (خطيئاته): ، الخطيئة فى قراءة الإفراد يحتمل أن تكون هي السيئة المذكورة أولا ، ويحتمل أن يراد به الجنس كما صرحت به قراءة الجمع فإفرادها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس ، كقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }[/h]الإضافة:(خطيئته) التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تُنبئ عنه الإضافةُ إليه ، وهذا إنما يتحقق في الكافر ، ولذلك فسرها السلفُ بالكفر
*******************
{ آتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً}.
المجاز العقلي لما كانت الناقة سببا في إبصار الحق والهدى ، نُسِب إليها الإبصار ، ففيه مجاز عقلي علاقته السببية .
*******************
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
قال الآلوسي: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
قال اطفيش التيسير : { وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } المصلين ، سمى الصلاة باسم ما هو ظاهر في الخضوع وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أَمر فزع إلى الصلاة .
*******************
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
قال أبو السعود :{ يا أيّها الذين آمنوا } شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بدِينهم بعد بيانِ ما يتعلقُ بدنياهم { إذا قمتم إلى الصلاة } أي أردتم القيامَ إليها كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَاتَ القرآن فاستعذ بالله } [ النحل ، الآية : 98 ] عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبَّبِ عنها مَجازاً للإيجاز ، والتنبيه على أن من أراد الصلاةَ حقُّه أن يبادِرَ إليها بحيث لا ينفك عن إرادتها
قال الصابوني: {قَرَأْتَ القرآن} وفيه مجاز مرسل من إِطلاق اسم المسبَّب على السبب أي إذا أردت قراءة القرآن.
.
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
قال الصابوني : تشبيه القلوب في قسوتها بالحجارة فيه استعارة تصريحية بديعة استعيرت القسوة لعدم تأثر اليهود بالمواعظ والعبر تشبيها لها في الصلابة والغلظ بالحجارة والحديد التي تستعصي على الإلانة والتليين فكأن قلوبهم لصلابتها وجفائها أصبحت كالحديد الذي لا يلين إلا بالنار الحامية اللاهبة.
قال الآلوسي: ثُمَّ قَسَت القسوة في الأصل اليبس والصلابة ، وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي { قَسَتْ } استعارة تبعية أو تمثيلية.
*****************
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ}
قال الآلوسي :أَخَذَتِ الارض } أي استوفت واستكملت { زُخْرُفَهَا } أي حسنها وبهجتها { وازينت } بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة .
وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح
قال اطفيش - التيسير : شبه الأَرض بعروس ورمز لذلك كما تتناول العروس حليها وتلبسه ، ورشح لذلك بقوله { وَازَّيَّنَتْ } أَصله تزينت
قال ابن عاشور :وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية . شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان . والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ ، قال تعالى : { يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ، وقال بشار بن برد :
وخُذي ملابس زينة *** ومُصَبَّغات وهي أفخر
وذكر { ازينت } عقب { زخرفها } ترشيح للاستعارة ، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين
*************
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}
منير جداً ظاهر وهو مجاز عقلي :
من باب الإسناد إلى السبب أي سبب الإبصار من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب
أو لأنه ظرف زمان للإبصار وأضاف الإبصار إلى النهار وإنما يبصر فيه، و الحاصل : يبصر به أو فيه وأياً ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصراً إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة
تنبيهاً على كمال كونه سبباً للإبصار لفرط وضوحه ففيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار فيه إلى حد سرى في نهار المبصر أي هو منير ظاهر جداً ففيه مبالغة في إضاءته كأنه يبصر
*************
( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 112].
قال الصابوني: المجاز المرسل {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ} أطلق الجزء وأراد الكل ففيه مجاز مرسل.
قال أبو السعود :{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي أخلص نفسَه له تعالى لا يشرك به شيئاً ، عبّر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ ومجمعُ المشاعرِ وموضعُ السجود ، ومظهَرُ آثارِ الخضوعِ الذي هو من أخص خصائِص الإخلاص
قال البقاعي:{ من أسلم وجهه } أي كليته ، لأن الوجه أشرف ما ظهر من الإنسان ، فمن أسلمه أسلم كله.
*******************

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
الآلوسي وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحاً تبعياً أو مستقلاً فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيهاً مضمراً ويثبت له الجناح تخييلاً والخفض ترشيحاً فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما ، وأيضاً هو إذا رأى جارحاً يخافه لصق بالآرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله ، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام قال ابن عاشور :ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما . والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه .
وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللاً . ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذُؤْيبَ :
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيتَ كل تميمة لا تنفع
ومجموع هذه الاستعارة تمثيل . وقد تقدم في قوله : { واخفض جناحك للمؤمنين } في سورة [ الحجر : 88 ] .
***************
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
القول الأول: استعارة تصريحية أصلية في خطوات ، شبه دعاء الشيطان للمعاصي أو تزينه إياها بالخطوة وهو نقل القدم في المشي ، ولا تتبعوا ترشيح أيضا، ومن جملة ذلك وساوسه في اتخاذ الأنداد وتحريم الحلال كالسوائب وتحليل الحرام كالميتات
القول الثاني : وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية ، شبه حال من يقتدي بإبليس ويطيعه في ما يوسوس له بمن يتبع خطوات إبليس خطوة خطوة ويبالغ في اتباعه ، لا دليل معه سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا ، فلو سار به في ضلال سار معه ، وانهوى به في هاوية من الفساد ، وأن السير وراءه هو سير وراء عدو واضح العداوة ، يخفيها ولا يطويها هي أبلغ عبارة في التحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه ، وفيه تقبيح لطاعة إبليس ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به .
القول الثالث: - شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة التصريحية التبعية .
*******************
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
قال الآلوسي: وأرادوا سوّد الله تعالى وجوههم وأصمهم وأعمى أبصارهم بقولهم أذن أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما يقال له ويصدقه فيكون وصف { أَذِنَ } بما يفيد ذلك في كلامهم كشفاً له ، وهي في الأصل اسم للجارحة ، وإطلاقها على الشخص بالمعنى المذكور كما يؤيده بعض الروايات من باب المجاز المرسل على ما في المفتاح كإطلاق العين على ربيئة القوم حيث كانت العين هي المقصودة منه ، وصرح غير واحد أن ذلك من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كقوله :
إذا ما بدت ليلى فكلى أعين *** وإن هي ناجتني فكلى مسامع
والمبالغة هنا على ما قيل في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجرد السماع
قال أبو السعود: { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } أي سمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ له وبين ما لا يليق به ، وإنما قالوه لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفَحُ عنهم حِلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلبِ وقالوا ما قالوا { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } من قبيل رجلُ صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذنٌ ولكن نِعمَ الأذُنُ.
*******************
( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح : 27]
أبو السعود : { وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يردُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكَرٌ وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابِهم بعدما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ .
ابن عاشور -وعَلِم نوح أنهم لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً بأن أولادهم ينشأون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحاً عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة .
والمعنى : ولا يلدوا إلاّ من يصير فاجراً كفَّاراً عند بلوغه سن العقل .
والفاجر : المتصف بالفجور ، وهو العمل الشديد الفساد .
والكَفَّار : مبالغة في الموصوف بالكفر ، أي إلاّ من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد ، قال تعالى : { أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 42 ] .
*************
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
{بل مكر الليل والنهار} المجاز العقلي أسند المكر إلى الليل والمراد مكر المشركين بهم في الليل ، ففيه مجاز عقلي ، حيث أسند المكر إلى الزمان .
*******************
{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
الواديُ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَضَاءِ الْمُنْخَفِضِ عَنِ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الماء و السَّيْلُ والأصل: سَالَتْ مِيَاهُ الْأَوْدِيَةِ ، ففيه مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه .
*******************
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ}
ولما سكت عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم ، وأصل السكوت قطع الكلام :
1. وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل .
2. وقال السكاكي : إن فيه استعارة تبعية في { سكت} حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها .
ومعلوم أن السكاكي رد التبعية إلى المكنية :" حيث قال : ومنها أنه قال في آخر فصل الاستعارة التبعية:
: "هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في هذا الفصل، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية، بأن قلَبوا فجعلوا -في قولهم: "نطقت الحال بكذا"- الحال -التي ذكرُها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة، كما تراهم في قوله:
وإذا المنية أنشبت أظفارها يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة.
وهكذا لو جعلوا البخل في " قتل البخل وأحيا السماح" استعارة بالكناية عن حي أُبطلتْ حياته بسيف أو غير سيف، فالتحق بالعدم، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة الاستعارة، ـ ـ لكان أقرب إلى الضبط" انتهى لكنه في كلامه على استعارة من حيث تقسيمها إلى محسوس ومعقول قال: " لما أن الاستعارة مبناها على التشبيه تتنوع على خمسة أنواع تنوع التشبيه إليها. 1استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي أو بوجه عقلي واستعارة معقول لمعقول واستعارة محسوس لمعقول واستعارة معقول لمحسوس، ـ ـ ومن الثالث: وهما أمران معقولان ـ ـ وقوله " ولما سكت عن موسى الغضب " فالمستعار منه هو إمساك اللسان عن الكلام وأنه أمر معقول والمستعار له تفاوت الغضب عن اشتداده على السكون، وأنه أيضا أمر وجداني عقلي، والجامع هو أن الإنسان مع الغضب إذا اشتد وجد حالة للغضب كأنها تغريه وإذا سكن وجده كأنه قد أمسك عن الإغراء"
فيؤخذ من هذا أن السكاكي مذهبه أنها مكنية ولكن ذكره هذا المثال للتصريحية التبعية جري على تقسيم القوم وبهذا يظهر ما في كلام الشهاب الذي نقله عنه الآلوسي أنه يقول إنها تبعية من النظر .
3. وعلى مذهب الزمخشري : الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية تحقيقية ، لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية وهذا جار على مذهب الزمخشري من إجراء الاستعارتين معا وأيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما
قال الآلوسي: وأصل السكوت قطع الكلام ، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل ، وقال السكاكي : إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها ، وقيل : الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية ، وأيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما.
ابن عاشور: والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنهُ ، شُبّه ثَوَرانُ الغضب في نفس موسى المنشىء خواطر العقوبة لأخيه ولقومه ، وإلقاء الألواح حتى انكسرت ، بكلام شخصُ يغريه بذلك ، وحسّن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفئ بها ثَوران غضبه ، فإذا سكن غضبه وهدَأت نفْسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري ، فلذلك أطلق عليه السكوت ، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية ، فاجتمع استعارتان ، أو هو استعارة تمثيلية مكنية ؛ لأنه لم تذكر الهيئة المشبهُ بها ورُمزَ إليها بذكر شيء من رَوادفها وهو السكوت ، وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان أثر للغضب .
***************
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
أولا : حاصل المعنى : العَذاب الأَلِيمُ : الوجع الشديد الذي يَبْلغ إِيجاعُهُ غاية البلوغ .
وصيغة فعيل فيها معنى القوة و الدوام فهو الوجع الشديد الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ ، وهو لازم
التنكير في نحو عذاب أليم : للتعظيم والتهويل فهو عذاب لا يكتنه كُنهُه .
ثانيا : أقوال العلماء في صيغة أليم :
القول الأول :قالوا : إنه فعيل من ألِـم الثلاثي اللازم كوجيع من وجع وهو ألـِم يألم الما فهو أليم ومعنى ألـِم صار ذا ألم ، والأليم: ما ثبت له الوجع كما أن الآلم ما ظهر وصدر منه الوجع ، وإذا أردنا تعديته قلنا آلمته إيلاما، أي: أوجدت الألم ، ففي (عذاب أليم) ، قالوا : الألم في الحقيقة صفة المُعَذَّب لكن يوصف به العذاب على المجاز العقلي للمبالغة ، فهو مجاز عقلي وصف به العذاب للمبالغة وعلاقته السببية نحو{ والنهار مبصرا }، ، فهو شديد الألم فلِقُوة تسببه (أي العذاب) في الإيلام جعل كأنه متألم لشدة إيلامه ، كما في{ النهار مبصرا} لقوة تسببه في الإبصار جعل مبصرا ، وكما في تحية بينهم ضرب وجيع : جعل الضرب ذا وجع مع أنه سبب إلقاء الوجع إلى المضروب ، وكذلك جعل العذاب متألما وذا ألم مع أنه موقع للألم للمعذب ، فالإسناد فيهما مجاز عقلي وهو معنى قول أبي السعود " { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم يقال : ألم وهو أليم ، كوجع وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغة كما في قوله :
تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ ... وعلى طريقة جَدَّ جِدُّه، فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب ، كما أن الجِدّ للجادّ ".
اختاره : الكشاف وأبو السعود و البيضاوي و حقي و البقاعي و الرازي و هميان الزاد و المظهري و ابن عجيبة و المنار و التحقيق و المطعني و الزرقاني في شرح المواهب اللدنية و أجازه السمين وأبو حيان والتحرير والتنوير.
والذي دعا الزمخشري ومن تبعه إلى جعله مجازا عقليا أنه لا يثبت (فعيلا) بمعنى (مُفْعل ) ففعيل بمعنى مفعل ليس بثبت عند الزمخشريّ والزمخشري يقول: إن فعيلا إنما يكون بمعنى فاعل، أو مفعول من الثلاثي، فأمَّا الرباعي فلا يجيء منه فعيل، فلا يقال: فعيل في " أحسن " ولا في " أعطى " فجعل أليما مأخوذا من " ألم " الثلاثي لا من آلم الرباعي .
ونَظَّرَهُ بقولهم: وجع الرجل، فهو وجيع، واحتاج إلى مجاز في الإسناد، وهو أن المتوجع والمتألم هو الإنسان، وقد ينسب ذلك إلى المصدر الحالِّ به، فيقال: ضرب وجيع، والوجع إنما هو للمضروب، ويقال: عذاب أليم، والألم إنما هو للمُعَذَّبِ.
القول الثاني :
قالوا أليم فعيل بمعنى مُفْعِل من آلمه يؤلمه المتعدي فهو أليم ، فـ(أليم) بمعنى مؤلم وموجع إيجاعا شديدا بالغ الغاية في الإيلام من آلمه يؤلمه إيلاما فهو أليم أي مؤلم ، عدل من (مفعل) إلى (فعيل) أي عن مؤلم إلى أليم، للمبالغة في الصفة وإفادة الثبوت واللزوم مع المبالغة في الإيلام ، كما أن (حميد) مثلا أبلغ من (محمود) ، و(حميم) أبلغ من (محموم)، لكن هنا فعيل بمعنى اسم الفاعل لا اسم المفعول ، فالأَلِيمُ : المُؤلِمُ المُوجِعُ مثل السَّمِيع بمعنى المُسْمِع قال الرضي : وقد جاء (فعيل) مبالغة مُفْعِل، كقوله تعالى: (عذاب أليم )
اختاره: الراغب و الطبري والقرطبي والآلوسي و سيد طنطاوي والنحاس والسمعاني والخازن و البغوي والصابوني و عبد الكريم الخطيب والهواري ومكي و الطبرسي والجلال والشنقيطي الطوسي و المصباح المنير ولسان العرب و تاج العروس و معجم غريب القرآن وابن قتيبة و ابن فارس والمزهر للسيوطي وأبو البقاء الكفوي والأزهري و والنحو الوافي والبقاعي في غير سورة البقرة قدمه أبو حيان والسمين
وهؤلاء أثبتوا مجيء (فعيل) بمعنى (مُفْعل) :
كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. وَنَّذِيرُ: بمعنى مُنْذِرُ ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ
قال الشنقيطي : فَمَا يُذْكَرُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ مُؤْلِمٌ ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - :{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مُبْدِعُهُمَا ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} أي مُنْذِرٍ لَكُمْ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ :
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
فَقَوْلُهُ : الدَّاعِي السَّمِيعُ ، يَعْنِي الدَّاعِيَ الْمُسْمِعَ . وَقَوْلُهُ أَيْضًا :
وَخَيْلٍ قَدْ دَلِفْتَ لَهَا بَخِيلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أَيْ مُوجِعٌ . وَقَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ : وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
أَيْ مُؤْلِمٌ .
الفرق بين المذهبين :
المذهب الأول :قال أليم من إلِم يألم فهو أليم : نحو ألِم زيد يألم فهو أليم فـ(فعيل) من الثلاثي (ألِمَ)، وفي عذاب أليم مجاز عقلي فهو لكثرت إيلامه كأنه متألم قالوا ولا يأتي فعيل من الرباعي بل من الثلاثي فلا يقال أليم بمعنى مؤلم بل أليم بمعنى متألم .
المذهب الثاني : من آلمه يؤلمه إيلاما أي أوجعه إيجاعا شديدا ، فالعذاب الأليم بمعنى مُؤلِم فـ(أليم) من الرباعي آلم على وزن أفعل ، عدل(مفعل) إلى (فعيل) أي عن مؤلم إلى أليم، للمبالغة في الصفة وإفادة الثبوت واللزوم مع المبالغة في الإيلام ، كما أن (حميد) مثلا أبلغ من (محمود) ، و(حميم) أبلغ من (محموم)،و الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَعِيلَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ .
الترجيح :
الراجح هو قول الجمهور وهو القول الثاني وأدلة ذلك :
1) أن صيغة(فعيل) بمعنى (مفعل) واردة في القرآن وكلام العرب وإثباتها مذهب جمهور العلماء .
فقد جاء منها (نذير) بمعنى منذر ، بديع بمعنى مبدع ، سميع بمعنى مسمع ، وحكيم بمعنى محكم وغيرها من الصيغ المذكور سابقا وقال ابن بري : قد جاء كثيراً نحو مسخن وسخين ومقعد وقعيد وموصى ووصي ومحكم وحكيم ومبرم وبريم ومونق وأنيق في أخوات له.
2) أن عدم إثبات مجيء فعيل بمعنى مفعل يضطرنا إلى التكلف في تفسير نصوص كثيرة ولنأخذ مثالا لذلك قوله تعالى { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} قال الزمخشري في تفسيرها : يقال بدع الشيء فهو بديع ، كقولك : بزع الرجل فهو بزيع . و { بَدِيعُ السماوات } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : البديع بمعنى المبدع ، كما أنّ السميع في قول عمرو :
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... بمعنى المسمع وفيه نظر" فجعل أصل المعنى بديعة سماواته ، وواضح أن الأوضح في السياق أن يكون وصفا لله مباشرة كما يدل عليه السياق { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} فالأوضح أن يكون مبدع السماوات لا بديع سماواته وإن كانت في الحاصل تعود لوصفه سبحانه هذا من جهة من جهة ثانية جعل المعنى مبدع السماوات مذهب الجمهور ، ويضاف ما ذكره الآلوسي بقوله :
"{ بَدِيعُ السماوات والأرض } أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلاً بمعنى مفعل ، وقال ابن بري : قد جاء كثيراً نحو مسخن وسخين ومقعد وقعيد وموصى ووصي ومحكم وحكيم ومبرم وبريم ومونق وأنيق في أخوات له ، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معدي كرب السابق . والاستشهاد بناءاً على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف ، وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته . وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو حسن الوجه حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الاخوان لاتصافه بأنه متقوّ بهم ، وفيما نحن فيه وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعاً لهما . وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة "
وكذلك يضاف أن تفسير الزمخشري لـ{ عذاب أليم } احتاج إلى تكلف حمله على المجاز العقلي مع أن له مندوحة في القول الثاني مع ما في القول الثاني من البلاغة من العدول من صيغة اسم الفاعل إلى فعيل الدال على المبالغة في الصفة واللزوم والله أعلم .
*************
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة : 187]
[h=1]المناسبة:[/h]كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة.
[h=1]الرَّفَثُ[/h]الرفث: الرَّفَثُ إِلَى النِّسَاءِ هُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَيْهِنَّ وَمُبَاشَرَتُهُنَّ، فهو كنايةٌ عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه.
فأَصْلُهُ الْإِفْصَاحُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. يُقَالُ: رَفَثَ فِي كَلَامِهِ إِذَا فَحَشَ وَأَفْصَحَ بِذِكْرِ الْوِقَاعِ وَشُئُونِهِ أَوْ حَادَثَ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّفَثُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَحَقَّقَ الرَّاغِبُ أَنَّ الرَّفَثَ كَلَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ ذِكْرِ الْوِقَاعِ وَدَوَاعِيهِ، فجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الْآيَةِ لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح بما ذكر ، تَنْبِيهًا عَلَى جَوَازِ دُعَائِهِنَّ إِلَى ذَلِكَ وَمُكَالَمَتِهِنّ.
قال ابن عباس : إن الله حيي كريم يكني ، يعني أن الرفث كناية عن النكاح ، وَقَدْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ النَّزَاهَةَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، كَقَوْلِهِ: (لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) وَ (أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وَ (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) وَ (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ)
سر إيثاره ههنا على ما كنى به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة ، ولذا سماه اختيانا فيما بعد، ومثله قوله تعالى { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فاستعمل في هذه الآية آية الحج لتشنيعه وتهجينه لينفرهم عن التورط فيه ولذلك قرنه بالفسوق.
[h=1]تعدية الرفث بـ(إلى):[/h]الأصل في الرفث أن يتعدى بالباء وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والإنهاء
[h=1]هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ[/h]اللباس في الأصل: هو الذي يخالط ويداخل الإنسان ويستر عورته ففي المادة المخالطة والملابسة والمداخلة والاستعمال للستر فهو أمر لا بد منه ومن المادة يلبسون الحق بالباطل لأنهم يخلطون الحق بالباطل خلطا قويا سترت الحقيقة
قال ابن فارس : المادة تدل على مخالطة ومداخلة ومن ذلك لبس الثوب
[h=1]قوله تعالى { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ}فيه تشبيه وكناية :[/h][h=1]التشبيه :[/h] تشبيه بليغ بديع عند الجمهور ، وفي مثل هذا اختار السعد التفتزاني أنه استعارة ومثله صم بكم عمي.
أي هن كاللباس لكم ، وأنتم كاللباس لهن ، شبّه كل واحد من الزوجين باللباس المشتمل على لابسه وفيه عدة وجوه شبه ولا مانع من تعدد وجه الشبه في تشبيه واحد وهذا مما اتفق عليه الفصحاء :
· الأول: أن كلا من الزوجين يشتمل على صاحبه في العناق والضم شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس والمراد قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض ، فوجه الشبه على هذا حسي
· الثاني: أن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الزنى ومقدماته ويصونه من الوقوع في فضيحة الفاحشة كما يستر اللابس عورته عن أن ترى، فعلي هذا وجه الشبه عقلي.
· فهذا التشبيه فيه لمسة حانية ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :
واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلا منهما وتقيه
الكناية :
· فيه الكناية في قوله: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» الغرض من الكناية تنزيه اللسان عما لا يليق ذكره فإنه شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق والضم باللباس المشتمل على لابسه؛ ولم يصرح .
[h=1]موقع جملة:[/h]فإن قلت : ما موقع قوله : { هن لباس لكم } فنقول : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وكان اجْتِنَابَهُنَّ عُسِرٌ عَلَيْكُمْ ، وضعف عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن لَيْلَةَ الصِّيَامِ. وحاصله أنه بيان لصعوبة اجتنابهن وشدة ملابستهن.
[h=1]كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ:[/h]قال الرضي: وهذه استعارة لأن خيانة الإنسان نفسه لا تصح على الحقيقة، وإنما المراد أنه سبحانه خفف عنهم التكليف في ليالي الصيام بأن أباح لهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء ، ولو منعهم من ذلك لعلم أن كثيرا منهم يخلع عذار الصبر ويضعف عن مغالبة النفس فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان النساء ، فيكون كسب نفسه العقاب ونقصها الثواب فكأنه قد خانها في نفي المنافع عنها أو جر المضار إليها وأصل الخيانة في كلامهم : النقص فعلي هذا الوجه تحمل خيانة النفس.
[h=1]بَاشِرُوهُنَّ: الْمُبَاشِرَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الجماع (الْمُبَاضَعَةِ الزَّوْجِيَّةِ) مأخوذ من قولك باشره ، بمعنى ألزق بشرته ببشرته أي مَسُّ كُلٍّ بَشَرَةَ الْآخَرِ ; أَيْ: ظَاهَرَ جِلْدِهِ وَكِنَايَتِهَا وَهِيَ مِنْ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ[/h][h=1]{ وابتغوا ما كتب الله لكم }[/h] واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد بالمباشرة ، وفيه حث إلى أفضل أحواله وهو أن تكون لقصد طلب الولد لا لمجرد الشهوة فقط لأن الله تعالى وضع النكاح من أجل التناسل.
[h=1]حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ[/h][h=1]فيها قولان:[/h][h=1]القول الأول : وهو مذهب الجمهور الزمخشري والبيضاوي والبقاعي والآلوسي وبهاء الدين السبكي أنه تشبيه بليغ ، لأنه قد ذكر الطرفان فقد جاء بيان الخيط الأبيض بالفجر بياناً صريحاً، وفي ضمنه جاء بيان الخيط الأسود باللّيل بياناً ضمنيّاً[/h]قال الزمخشري: فإن قلت : أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه ؟ قلت : قوله : { مِنَ الفجر } أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : رأيت أسداً مجاز . فإذا زدت ( من فلان ) رجع تشبيهاً .
فإن قلت : فلم زيد { مِنَ الفجر } حتى كان تشبيهاً ؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة ؟ قلت : لأنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ، ولو لم يذكر { مِنَ الفجر } لم يعلم أن الخيطين كقولك: رأيت أسدًا من زيد، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة،مستعاران ، فزيد { مِنَ الفجر } فكان تشبيهاً بليغاً وخرج من أن يكون استعارة ".
بيان التشبيه :
هذا من أحسنِ التشبيهات شبه أول ما يبدو من بياض الفجر المعترض في الأفق بخيطٍ أبيضَ وما يمتد معه من غبش الليل وسواده ، بخيط أسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله { من الفجر } عن بيان { الخيط الأسود } ، لدلالته عليه ، وإِنما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً مولّياً، فهما جميعاً ضعيفان إِلا أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً.
[h=1]القول الثاني: أنه استعارة اختاره الرضي في تلخيص البيان واطفيش[/h]قال الشريف الرضي: وهذه استعارة عجيبة والمراد بها بياض الصبح وسواد الليل والخيطان هاهنا مجاز وإِنما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً مولّياً، فهما جميعاً ضعيفان إِلا أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً
قال اطفيش في هميان الزاد:"شبه أول ما يظهر من الفجر المنتشر ، وما يمتد فوقه من بقية الليل ، بخيط أبيض وخيط أسود ، ففي الخيط الأبيض استعارة تصريحية ، وفى قوله : { الخَيْطِ الأسْودِ } استعارة تصريحية أيضاً ، ومن الفجر قرينة ، ولو جعلنا من للبيان ، فكما أن زيداً أسد من الاستعارة على التحقيق الذى هو مختار السعد ، ولو اجتمع فيه المشبه والمشبه به ، كذلك الآية لأنه تمت الاستعارة ، وجاء بعد تمامها قوله : { مِنَ الفَجْر } قرينة وبيانا للخيط الأبيض ، ويقدر بيان الخيط الأسود هكذا ، وبقية الليل ، فلو قلتا جاء أسد له لبد وزئير وأظفار وافرة وهو زيد ، لم يخرج عن الاستعارة بقولك هو زيد ، هذا ما ظهر لى ، وقد كنت أول مما رستى لفن البيان أقول : إن هذا تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه ، أى حتى يتبين لكم مثل الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وأعلل ذلك بأن الاستعارة لا يجمع فيها بين المشبه والمشبه به ، والمشبه هنا مذكور وهو الفجر ، والمشبه الآخر مقدر مدلول عليه بذكر الفجر ، أى من الفجر أو بقية الليل ، فقوله من الفجر مع ما قدرنا قرينة التشبيه كما هو قرينة الاستعارة ، لأن التشبيه البليغ بحذف الأداة محتاج إلى قرينة لفظية أو حالية ، كالاستعارة والمجاز المرسل"
[h=1]تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ:[/h]تلْكَ إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدوداً، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق أي شرائع الملك الأعظم الذي له جميع العزة من الأوامر والنواهي التي بينها فصارت كالحدود المعروفة في الأراضي.
قال ابن عاشور: حُدُودُ اللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ الْفَوَاصِلُ الْمَجْعُولَةُ بَيْنَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، تَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَتَفْصِلُ بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ {. لِأَنَّهَا حَدَّدَتِ الْأَعْمَالَ وَبَيَّنَتْ أَطْرَافَهَا وَغَايَاتَهَا، حَتَّى إِذَا تَجَاوَزَهَا الْعَامِلُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ وَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا - وَالْحَدُّ طَرَفُ الشَّيْءِ وَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَحُدُودُ اللهِ مَحَارِمُهُ الْمُبَيَّنَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَوْ بِتَحْدِيدِ الْحَلَالِ الْمُقَابِلِ لَهَا.
[h=1]فَلا تَقْرَبُوهَا[/h]نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ]
وعبر بالقربان ، لأنه في سياق الصوم [SUP]35[/SUP] والورع به أليق ، لأن موضوعه فطام النفس عن الشهوات فهو نهي عن الشبهات من باب.
[h=1]عبارة الزمخشري :[/h]كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ، ـ ـ ـ ـ ـ
فإن قلت : لم كنى عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } [ الاعراف : 189 ] ، { باشروهن } ، { أَوْ لامستم النساء } [ النساء : 43 ] ، { دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] ، { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } [ النساء : 24 ] ، { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } [ البقرة : 222 ] ؟
قلت : استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختياناً لأنفسهم .
فإن قلت : لم عدى الرفث بإلى ؟ قلت : لتضمينه معنى الإفضاء . لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه ، شبه باللباس المشتمل عليه . قال الجعدي :
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا *** تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ
{ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير . والاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة ، أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل .
{ الخيط الابيض } هو أوّل من يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود . و { الخيط الأسود } ما يمتدّ معه من غبش الليل ، شبها بخيطين أبيض وأسود
وقوله : { مِنَ الفجر } بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود . لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني . ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض : لأنه بعض الفجر وأوّله .
فإن قلت : أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه ؟ قلت : قوله : { مِنَ الفجر } أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : رأيت أسداً مجاز . فإذا زدت ( من فلان ) رجع تشبيهاً .
فإن قلت : فلم زيد { مِنَ الفجر } حتى كان تشبيهاً ؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة ؟ قلت : لأنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ، ولو لم يذكر { مِنَ الفجر } لم يعلم أن الخيطين مستعاران ، فزيد { مِنَ الفجر } فكان تشبيهاً بليغاً وخرج من أن يكون استعارة .
[h=1][/h]*****************

{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}.
{وأشربوا } هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ فَرَائِدِ الِاسْتِعَارَاتِ يُتَمَثَّلُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ
إما أن نجعل الاستعارة في { أشربوا}:
الإشراب: هو جعل الشيء شارباً بحيث تخالط أجزاؤه وتمازجه ، وتتغلغل فيه وتداخله مداخلة نافذة سائغة للطافته ونفوذه ، ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ بحيث صار جزءا من الثوب ، لا تنفصل ، قال الراغب :" من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب" .
استعاروا الإشراب لشدة التداخل ، وتغلغل حبه في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها استعارة تصريحية تبعية ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء والسائل أسرى الأجسام في غيره فلذلك قال في تلخيص البيان: «وهذه استعارة والمراد وصف قلوبهم بالمبالغة في حب العجل فكأنها تشربت حبة فما زجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ»
وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل .
وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم وبناه للمفعول[5] للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف .
والعجلَ مفعول { أشربوا } على حذف مضاف ، وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل.
وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : { في قلوبهم } مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم
ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك الصورة الساخرة الهازئة : صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب ! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور ، بالقياس .
ب) أو نجري الاستعارة في حب العجل فيه استعارة مكنية، شبّه حبَّ عبادة العجل بمشروب يتغلغل في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها ، وطوى ذكر المشبه به ورمز بشيء من لوازمه وهو الإِشراب على طريق الاستعارة المكنية.
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
[h=1]الوجه الأول:[/h]والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم ، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . وإسناد الأمر إلى إيمانهم مجاز عقلي على وجه التهكم لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل ونسبة ذلك إلى الإيمان إنما ورد على سبيل التهكم والسخرية ، وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما يُنبئ عنه قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التوراة وإبطالٌ لها ،، فهو كقولك : { أصلواتك تأمرك }
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلاً إلا وهو مأذون فيه من كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأراد سبحانه أنّ هذا الذي تفعلونه من الجرائم باطل لا وجه لصحته، ولا صحة لما تدَّعون من الإيمان ، وأنّ مثله لا يدعو إليه إيمان ، فلم يبق إلا أن يأمركم به آمر وسوسة شيطان .
وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم و إفحامهم
[h=1]القول الثاني: أن يكون في إيمانكم استعارة مكنية[/h]بأن يشبه الإيمان المنسوب إليهم بإنسان ، تشبيهاً غير صريح رمزاً إليه بلازم الإنسان وهو الأمر ، وفي تشبيه الإيمان إليهم تهكم أيضاً ، دلالة على أن مثل اعتقادهم ونطقهم لا يليق أن يسمى إيماناً إلا بالإضافة إليهم
القول الثالث: أن يكون في يأمركم استعارة تصريحية تبعية شبه استدعاء الشيء واقتضاؤه بالأمر به وإطلاق اسم المشبه به على المشبه ثم حذف المشبه وترك المشبه به على سبيل الاستعارة الأصلية ثم اشتق من الأمر بمعنى الاستدعاء والاقتضاء يأمر بمعنى يستدعي ويقتضي

***********
{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}
قال الآلوسي : { وصلوات } جمع صلاة وهي كنيسة اليهود ، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال
**********
( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) [العلق : 17]
قال الآلوسي: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون للحديث ويجمع على أندية والكلام على تقدير المضاف أي فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازى أو أطلق اسم المحل على من حل فيه.
قال القاسمي: والجملة إما بتقدير مضاف أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حل فيه ، والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم ، أي يجتمعون .
*******************
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}.
وَإِسْنَادُ جَعَلَ السِّقَايَةَ إِلَى ضَمِيرِ سيدنا عليه السلام يُوسُفَ عليه السلام مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ آمِرٌ بِالْجَعْلِ وَالَّذِينَ جَعَلُوا السِّقَايَةَ هُمُ الْعَبِيدُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْكَيْلِ.
*******************

{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}.
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المشركات والمشركين ، لأن المراد بمشرك ومشركة العموم ، يدعون إلى الشرك والذنوب مما يؤدي ويوجب النار ، فكيف تليق موالاتهم ومصاهرتهم ، فهو مجاز مرسل علاقته المسببية
قال ابن عاشور: ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم.
*******************

[h=1]****************[/h]
[h=1]وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }.[/h]التشبيه المرسل المجمل {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} وهو من روائع التشبيه.
1) معنى مسندة لغة :
التسنيد نصب الشيء معتمدا على شيء آخر كحائط و نحوه بأن تمال عليه ، مهملة ملطوعة بجانب الجدار مكدسة ليس فيها حياة منقطعة المدد فهي فارغة من الداخل فَهِيَ غَلِيظَةٌ طَوِيلَةٌ قَوِيَّةٌ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي سَقْفٍ وَلَا مَشْدُودٍ بِهَا جِدَارٌ.
) قال الشوكاني :" ومعنى { مُّسَنَّدَةٌ } : أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا
قال التحقيق الأصل الواحد : "هو الاعتماد والاتكاء إلى شيء سواء كان الاستناد في الظاهر أو في أمر معنوي .
والفرق بين المادة ومواد الاعتماد والاتكاء والركون والتمكن
أن الاعتماد : هو استقامة واتكاء في النفس بالنسبة إلى شيء وفي قباله.
والاتكاء : هو استقرار وتمكن بسبب الاستناد إلى شيء.
والتمكن: هو استقرار وتثبت من حيث هو .
والركون هو ميل مع سكون ـ ـ فظهر لطف التعبير بالمادة فإن الاعتماد والركون والاتكاء والتمكن فيها دلالة على الاستقرار في النفس والتمكن والتمايل والاستقامة " أي بخلاف مسندة .
2) معنى الخشب لغة :
قال المعجم الاشتقاقي : المعنى المحوري لـ(خ ش ب) : غلظ الجرم وصلابته مع امتداد وخشونة كالخشب ، ومن الغلظ والخشونة في الأصل استعمل في ما هو غليظ الهيئة جاف غير مسوى ، فالخشيب السهم حين يبرى البري الأول ولم يسو .
قال التحقيق : الأصل الواحد في هذه المادة هو ما استطال وخشن ـ ـ { كأنهم خشب مسندة } أي إنهم مثل خُشُب صلبة خشنة مستطيلة مسندة إلى جدار ، والمصداق الأتم في هذا المفهوم ما غلظ من العيدان وما صلب من الأغصان ، ثم يقاربه السيف الصلب وغيره، فظهر اللطف في التعبير في الآية بهذه المادة دون الغصن وغيره فإن فيها الدلالة على التصلب والاستطالة وفقد الشعور ، وأما التقييد بمسندة فليشار بها إلى فقدان الحركة الاختيارية والاتكاء بالنفس والقيام بنفسه.
قال ابن فارس : أصل واحد يدل على خشونة وغلظ.
قال التهذيب : الخشب بكسر الشين الغليظ الخشن من كل شيء
3) السر في جمعها جمع كثرة :
و الخشب بضمتين جمع خشبة جمع كثرة وهو دليل على كثرتهم .
4) السر في التشديد { مسندة } :
[h=1]للتنبه بالتشديد على الكثرة والمبالغة .[/h][h=1] موقع الجملة { كأنهم خشب مسندة } :[/h][h=1]مستأنفة لذمهم استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال يَنشأ عن وصف حسن أجسامهم وذَلاقة كلامهم في قوله تعالى { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } ، فيترقب السامع ما يَرد بعد هذا الوصف من حسن الأجسام وحسن الكلام .[/h]5) توضيح التشبيه ووجه الشبه :
6) التشبيه باختصار:
المشبه : هيئة جلوسهم مستندين ، بصورهم المنظمة الحسنة لكن بواطنهم فارغة فهم منظر بلا مخبر ، لا ثبات لهم ولا طمأنينة و ليس لهم إرادة اختيارية، بالخشب المسندة على حائط ونحوه ، ووجه الشبه اليبس والغلظ و والخواء عن الحياة والروح والمدد ، وعدم التمييز والإدراك ، وضخامة المنظر والإعجاب مع فساد المخبر والباطن وعدم الانتفاع ، وفي الميل عند الاستناد .
نوع التشبيه: من حيث وجه الشبه تمثيلي
؛ لأنه صورة منتزعة من متعدد ومن حيث الطرفان مفرد مطلق بمفرد مقيد، ومن الحسية والعقلية تشبيه محسوس بمحسوس ، ومن حيث ذكر الأداة وحذفها وذكر وجه الشبه وحذفه مرسل مجمل.
قال ابن عاشور: شُبِّهُوا بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ تَشْبِيهَ التَّمْثِيلِ فِي حُسْنِ الْمَرْأَى وَعَدَمِ الْجَدْوَى، أُفِيدَ بِهَا أَنَّ أَجْسَامَهُمُ الْمُعْجَبَ بِهَا وَمَقَالَهُمُ الْمُصْغَى إِلَيْهِ خَالِيَانِ عَنِ النَّفْعِ كَخُلُوِّ الْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ حَسِبْتُمُوهُمْ أَرْبَابَ لُبٍّ وَشَجَاعَةٍ وَعِلْمٍ وَدِرَايَةٍ. وَإِذَا اخْتَبَرْتُمُوهُمْ وَجَدْتُمُوهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَلَا تَحْتَفِلُوا بِهِمْ.
قال حدائق الروح والريحان: تشبيه مرسل تمثيلي في قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} .
التشبيه بتفصيل:
شبهوا في جلوسهم مستندين في المجالس فى كل موضع قعدوا فيه سواء في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من النوادي والمجالس ، بأجسامهم الضخمة التي تعجب رائيها ، وصورهم المنظمة الحسنة التي تروق الناظر إليها ، وهياكلهم الجالبة الْمَهِيبَة ، وأبدانهم السالمة فهم حسنو الظاهر إذا رأيتهم حَسِبْتُهم أَرْبَابَ لُبٍّ وَشَجَاعَةٍ وَعِلْمٍ وَدِرَايَةٍ .
1) إلا أن :
· بواطنهم فارغة خالية عن الإيمان والخير وكيانهم خاو منخور ، و أفكارهم منحرفة و عقولهم سقيمة أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ، صور خالية عن العلم والنظر ، تركوا التفهُّم والاستبصار وفقدوا روح الإيمان الذي به كمالهم وبقاؤهم أجرام لا عقول لها .
· ، فهم منظر بلا مخبر، حسنٌ ظواهرُهم ، سيءٌ باطنُهم ، فهم أجسام تعجب العيون فحسب ، َفلَا تغتروا بهم .
· وأيضا جبناء فيهم الجبن والخور وعدم الانتفاع بهم في شيء كما يدل عليه { يحسبون كل صيحة عليهم } مع تشبيههم بالخشب غير النافعة’
· لا ثبات لهم ولا طمأنية ولا سكون فالتوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم ، وهذا من أسرار اختيار مسندة دون الاعتماد والتمكن فيها لأن في الاعتماد والتمكين دلالة على الاستقرار بخلاف مسندة .
· ليس لهم إرادة اختيارية فاقدوا الاختيار والقيام بالنفس ، وهو سر التعبير باسم المفعول ا للإشارة إلى ذلك، ففاعل التسنيد غيرهم
المشبه به :
2) المشبه به الخشب المسندة :
أ- اختار أولا أ المشبه به الخشب ، لأن مادة (خ ش ب) تدل على يبس و وصلابة الجرم وخشونته مع غلظ او امتداد فالخشب : ما استطال وخشن و صلب من العيدان وما صلب من الأغصان ، فَهِيَ صلبة خشنة غَلِيظَةٌ طَوِيلَةٌ يابسة خالية عن الحياة ليس لها تمييز ولا إدراك ولا شعور فالتعبير في الآية بهذه المادة دون الغصن وغيره فيه دلالة على التصلب والاستطالة وفقد الشعور مع الضخامة في الظاهر وهو تعبير دقيق لا يغني عنه غيره .
ب- ثم وصفها بأنها مسندة، وهي الَّتِي سُنِّدَتْ إِلَى حَائِطٍ أَوْ نَحْوِهِ أُمِيلَتْ إِلَيْهِ
وإنما وصف الخشب بها لأمور :
1. الأمر الأول : إفادة أنهم أشباح كبيرة ضخمة معجبة يحسب من يراها أنها صحيحة سليمة ، لكنها خالية عن الفائدة نخرة متآكلة بلا أرواح، لا خير فيها و لا فائدة ؛لأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو جعل سارية أو غير ذلك من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحيطان مهملا يعتريه الجمود ، راكدا باردا خاليا عن الحياة ، غَيْر نافع .
2. الأمر الثاني : بيان إهمالها واحتقارها ، فالقرآن لم يكتف بوصفهم بالخشب فحسب إنما هي { خشب مسندة }. لا حركة لها ، ملطوعة بجانب الجدار مكدسة .
3. الأمر الثالث : بيان صفة عدم الحياة وانقطاع المدد ، فهي الشيء الجامد الذي لا حياة له ، لأنها لا تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتكبر وتأخذ المدد ، فهي لا باطن لها بثمرة ولا سقي فلا مدد سماوي لها أصلاً يزكيها نوع زكاء.
4. الأمر الرابع : إفادة عدم الثبات والطمأنينة والسكون فهي لا ثبات لها فالتوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم كما تشعر به مسندة .
5. الأمر الخامس : الشبه في الاستناد في المجالس يشبه المسندة في الميل .
أبداع هذا التشبيه :
يتمثل إبداع هذا التشبيه من أنه تشبيه غريب بليغ ، مع ما فيه من المشابهة التامة لحالهم من نواح كثيرة تقدمت ، ثم دقة اختيار الألفاظ خشب، ومسندة ، ثم المبالغة في التفعيل والتضعيف ، ثم البناء للمفعول ، ثم موقع الجملة مع غاية الإيجاز، فهي عبارة قصيرة أعطت كل هذه المعاني الكثيرة التي لا يمكن جمعها إلا في القرآن، مع الإيقاع في الحركات والشدات والإدغامات ، فهو يرسم لهم صورة فريدة مبدعة؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف المطموس من الناس ، وتسمهم بالفراغ والخواء والجبن وعدم النفع بل تنصبهم تمثالاً وهدفاً للسخرية في معرض الوجود .
*******************
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) (18)}
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}: هذا وصف حال الجبار العنيد وهو في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم :
الوراء: اسم الجهة التي خلفَ ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم ، وهو ضد أمام وقدّام لكن باعتبار أنها توارت عنك و هو في الأصل مصدرا استعمل ظرفا .
سر التعبير بـ(وراء ) تشمل ثلاث معان كلها مقصودة :
1)فيه تعقب شيء شيئاً و ملازمة طلب شيء شيئاً ،كأنَّ جهنَّم تلاحق وتتبع المذنبين والكفار ؛ ولا يفوتونها فهم سيقعون فيها.
2) تدل على انه لا يشعر بأنه واقع في جهنم لا محالة ، فهو لا يظن أنه يصيبه ولا يتقيه ؛ لأنه لا يراه لأنه من ورائه لأن الوراء : اسم لما توارى عن العين ، ف لأنه في غفلة عنه.
الاستعارة :
1) إما استعارة تمثيلية في ورائه:
شبه ملازمة طلب جهنم للجبار العنيد، وقربها منهم ، وأنهم لن يفوتوها بل سيقعون فيها لا محالة فهو مرصد معد لها ،فتفتك بهم ، مع عدم شعورهم ،بملاحقة ومطاردة العدو والجنود لأحد، من ورائه وقربهم منه وملازمتهم للحاقه وهو لا يشعر ، والجامع صورة شيء ملازم لشيء قريب منه ، وهو لا يشعر وسيدركه لا محالة، ويهلكه ، ووجه ذلك أن جنهم تنتظر هذا الجبار العنيد ، وتترصد له ، وتتبعه ، بحيث لا يستطيع الفرار منها ، أو الهرب عنها ...
2) أو استعارة تصريحية أصلية في (ورائه): شبه تعقب شيء شيئاً[6] وحال ملازمة طلب شيء شيئاً وحال الشيء الذي سيأتي قريباً من غير شعور ، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف لأنها كشيء يتبعهم من خلف لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى : { مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ } في [ الجاثية : 10 ] .
قال ابن عاشور في سورة إبراهيم :والوراء : مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد ، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه ، كقوله تعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ سورة الكهف : 79 ] ، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم.
وقال ابن عاشور في سورة الكهف:
يستعار ( الوراء ) لحال تعقب شيء شيئاً وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريباً ، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى : { مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ } في [ الجاثية : 10 ] .
وقال لبيد :
أليس ورائي أن تراختْ منيتي *** لزُوم العصا تُحنى عليها الأصابع
3) أو استعارة مكنية : شبهت جهنم في طلبها وقربها وأنهم سيقعون فيها لا محالة مع عدم الشعور بجنود أو عدو أو غريم يلاحق أحدا وهو لاحقه ، وحذف المشبه به ورمز له شيء من لوازمه وهو من ورائه ، نحو {إن جهنم لبالمرصاد} قَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
قال الظلال : والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض . ولكنه يقف هذا الموقف ، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها ، وهو يُسقى من الصديد السائل من الجسوم . يُسقاه بعنف فيتجرعه غصباً وكرهاً ، ولا يكاد يسيغه ، لقذارته ومرارته ، والتعزز والتكره باديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان ، ولكنه لا يموت ، ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ . .
**************
{مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}:
لتوضيح المسألة نقول : الصديد الدم المختلط بالقيح و هو ما يسيل من جلود أهل النار أي غسالة أهل النار وهو قيح ودم وفي اشتقاقه قولان :
القول الأول : أنه جامد غير مشتق ، القول الثاني : أنه مشتق من الصد ومادة الصد تدور حول الإعراض والعدول واعتراض المقبل السائر بشيء قوي كالجبل الذي يصد السائر باتجاهه ومنه { يصدون عن سبيل الله }
وعلى هذا يكون الصديد فعيلا بمعنى فاعل أو مفعول :
فعلى الأول: (أي كونه اسم فاعل ): صديد بمعنى صاد كأنه لمزيد قبحه مانع من شربه فهو يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله .
وعلى الثاني: (أي كونه اسم مفعول) : صديد بمعنى مصدود عنه كأنه لكراهته مصدود عنه أي أن كل من رآه يصد عنه لكراهته .
وفي إعرابه ثلاثة أوجه :
الإعراب الأول: عطف بيان : مبني على أنه جامد غير مشتق فيعرب عطف بيان فمعنى الآية : (من ماء ) مخصوص لا كالمياه المعهودة فأبهمه أولا تهويلا و إطماعا ثم لما كأنه قيل وما ذلك الماء ، فقال : (صديد) فأبهم أولا ثم بين ثانيا تهويلا لأمره وخصه بالذكر لأنه من أشد أنواع العذاب
وهذا مذهب الطبري والزمخشري والكوفيين وأبي علي الفارسي الذين جوزوا أن يكون عطف البيان نكرة ومنعه البصريون وفي منعهم نظر .
قال الزمخشري: فإن قلت : ما وجه قوله تعالى { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ؟ قلت : صديد عطف بيان لماء ، قال : { ويسقى مِن مَّآءٍ } فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله { صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جلود أهل النار . قال أبو السعود : ويُسقى { مِن ماء } مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة { صَدِيدٍ } وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح
القول الثاني : مبني على أن (صديد ) مشتق يعرب نعتا على حذف أداة التشبيه فيكون تشبيها بليغا فهم يسقون ماء حارا حميما قال تعالى { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} أي ماء مثل صديد فهم ماء حار يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة ، فليس الماء صديدا بل مثله في النتن والغلظ والقذارة .
القول الثالث: مبني أيضا على أن (صديد) مشتق يعرب نعتا أيضا ، وفيه استعارة تصريحية أصلية ، فلما كان الشيء الذي يشربونه يشبه بدل الماء ويشبهه ء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، فعلى هذا هم يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، ولما كان بدل الماء عد ماء ، ونعت بـ(صديد) وهذا قول ابن عطية والحوفي .
قال السمين : على هذا الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ ، وليس هو ماءً حقيقةً ، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء.
قال ابن عطية: وقوله : { ويسقى من ماء } وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف 7 عندنا عد ماء ، ثم نعته ب { صديد } كما تقول : هذا خاتم حديد ، و «الصديد » القيح والدم ، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار.
[h=1]{ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}.[/h][h=1]العلاقة بما قبلها:[/h] لما ذكر تعالى أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها ، وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا ، وذلك هو الخسران الشديد .
[h=1]موقع مثل الذين كفروا:[/h]استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من قال : ما بالُ أعمالِهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحامِ ، وفداءِ الأسارى ، وإغاثةِ الملهوفين ، وقِرى الأضياف ، وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل ؟ فأجيب بأن ذلك
[h=1]مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ[/h]والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة ، أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة .
[h=1]الإعراب:[/h][h=2]القول الأول: [/h]{ مثل} مبتدأٌ، خبرُه الجملة الاسمية في قوله تعالى : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ }فـ(أعمالهم) مبتدأ ثان ، و { كرماد } خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر الأول وهذا اختاره أبو السعود، وابن عطية وجماعة من المفسرين.
القول الثاني:
وقوله " اعمالهم " رفع على البدل وهو بدل اشتمال من مثل، لان المثل للأعمال، و(كرماد) خبر.
[h=1]كَرَمَادٍ : والرماد : ما يبقى بعد احتراق الشيء .[/h][h=1]ومعنى اشتدّت به الريح : حملته بشدّة وسرعة ، فالاشتداد الاسراع بالحركة على بعظيم القوة ، يقال : اشتد به الوجع من هذا ، لانه أسرع اليه على قوة ألم ، والمراد هنا : حملتْه وأسرعتْ الذهاب به ، والجملة الكريمة{اشتدت به الريح}في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد .[/h][h=1]فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ[/h]الريح العاصف : هي السريعة الشديدة الهبوب والمرور التي تستخف الأشياء فتذهب بها شدّة الريح .
فالعصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها مبالغةً وهو اليوم على الإسناد المجازي (المجاز العقلي) كنهاره صائم وليله قائم ، أَيْ عَاصِفٌ رِيحُهُ، وكَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَاطِرٌ، أَيْ سَحَابُهُ ، و يوم حار ويوم بارد ، والبرد والحر فيهما ، جعل العصف صفة اليوم ، لأنه يقع فيه.
[h=1]لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ :[/h][h=1]الجملة مستأنفة بيان لجملة التشبيه فهو فذلكة الشتبيه وحاصله .[/h][h=1]القدرة مصدر قَدَرَ على الشيء قدرة، أي ملكه فهو قادر[/h][h=1]. والتعبير بـ(عدم القدرة) ـ ـ ـ فيه مبالغة عظيمة في نفي الانتفاع؛ لأنَّ كلمه (لا يقدرون) فيها محاولة واستنفار أقصى الطاقة لتبلغ القدرة مبلغًا يصلُ بها إلى اقتناص ما كسبت ، ثم إخلادهم إلى التسليم والعجز ، وهذا وصفٌ خفيّ للهول الذى لا يحاط به ، فهل يقدر صاحب الرماد في هذا اليوم العاصف أن يجمع شيئا منه أو يمسك من ذرات رماده بعد أن بددته أيدي الرياح العاتيات ، أو الانتفاع به أصلاً . ولو حاول ؟ هذا الرماد لا يجتمع منه شيء لأنه حالت الرياح بينه وبين ما تنسفه فكما لا يُقْدَر على الرماد إذا أُرْسِل في يوم عاصف. فكذلك لا يقدر الكفار يوم القيامة على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا أي من الانتفاع بها إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى وحيل بينهم وبين شيء من النفع في الآخرة أي : لايجدون ثوابه ولو حاولوا وأرادوا .[/h]
أبو السعود: { مِمَّا كَسَبُواْ } من تلك الأعمال { على شيء } ما ، أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور ، وهو فذلكةُ التمثيل .
نوع التشبيه:
تشبيه تمثييلي: لأن وجه الشبه منتزع من متعدد :
شبهت أعمال الذين كفروا التي اكتسبوها في الدنيا كعطاء للمحتاج ، والإحسان إلى الناس ،وفك الأسرى وإغاثة الملهوف ، وذهاب هذه الأعمال وقت الحاجة هباء منثورا وحبوطها لبنائها على غير أساس التوحيد وكونها مفككة لا قوام لها ولا نظام غير متماسكة لأنها لم تبن على أساس وفوق ذلك يذهبها ويطيرها وينسفها ويفرقها الكفر والشرك ، بحيث لا يقدر أن يحصل على أي ثمرة من ثمراتها ولا يجد لها ثوابا يوم القيامة ، ولا يجتمع منه شيء ، ولا ينتفع به أصلا يوم القيامة .
بالرماد الذي هو بقية النار الذاهبة الذي لا تماسك فيه ولا قوام ولا نظام و لا ينفعه ، فاشتدت به الريح العاصف وقت الحاجة بغاية السرعة والقوة في يوم شديد العصف فطيرته وفرقت أجزاءه في كل مكان بحيث لا يبقى له أثر ويتلاشى ولا يمكن أن يجمع منه شيء ولا تحصيله بعد أن ببدته الريح العاصف ولا الانتفاع به ولو حاول والتعبير بـ(عدم القدرة) ـ ـ ـ فيه مبالغة عظيمة في نفي الانتفاع لأنَّ كلمه (لا يقدرون) فيها محاولة واستنفار أقصى الطاقة لتبلغ القدرة مبلغًا يصلُ بها إلى اقتناص ما كسبت ، ثم إخلادهم إلى التسليم والعجز ، وهذا وصفٌ خفيّ للهول الذى لا يحاط به.
ووجه الشبه عدم القدرة على الانتفاع ، والتفريق في كل مكان والإذهاب لشيء لا منفعة فيه أصلا ولا تماسك ولا قوام لعدم بنائه على أساس وتفريقه وإذهابه بحيث لا يبقى له أثر، ولا يمكن جمعه ولا تحصيله
مشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود ، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى ، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ، ولا الانتفاع به أصلاً . يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك ، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بدداً .
فهل يقدر صاحب الرماد أن يجمع ذرات رماده بعد أن بددته أيدي الرياح العاتيات ؟
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع ، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم
ذَلِكَ
إشارة إلى كونهم بهذه الحال ، أي الأمر الشديد الشناعة وهو ما دل عليه التمثيلُ دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء ، وهذا تذييل جامع لخلاصة حالهم ، وهي أنها ضلال بعيد
[h=1]هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ:[/h]1) الضلال ِالْبَعِيدِ الْبَالِغُ نِهَايَةَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَاهِيَّتُهُ، أَيْ بِعِيدٌ فِي مَسَافَاتِ الضَّلَالِ ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَقْصَى الضَّلَالِ أي الضلال الذي يصعب الرجوع منه إلى الهدى تشبيها بمن ضل عن محَجَّة الطريق بعدا متناهيا فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام ، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً ، فلا يكاد يرجى له العود ، فالمعنى في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً ، فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها. فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف . . إلى بعيد
2) أو يكون من المجاز العقلي : في إسناد البعد إلى الضلال مجاز عقلي ؛ لأن البعد في الحقيقة للضال لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله كما تقول جد جده ، أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازاً كجد جده إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وجد جده أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد .
*************



{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
[h=1]القول الأول: [/h]قوله : { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } : والكلمة هنا بمعنى الكلام مجاز مرسل ـ عند النحاة [7]وجماعة من اللغويين ـ من بابِ إطْلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ فعلاقته الجزئية . كقوله صلى الله عليه وسلم : " أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمة لبيدٍ " يعني قوله :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ **
وكما في قولهم : كلمة الشهادة
ورد البليدي كون العلاقة الجزئية بأن شرط اطلاق اسم الجزء على الكل ان يكون للجزء المذكور مزيد اختصاص بالمعنى المقصود بالكل من بين الاجزاء الا ان يغفر عدم هذا الشرط في الجزء العام كما هنا فان الكلمة تعم اجزاء الكلام.
[h=1]القول الثاني: أنه استعارة تصريحية أصلية [/h] لأنه لما ارتبط بعض الكلام ببعض وحصلت له بذلك وِحْدَةٌ أشبه الكلمة وحَصَلَتْ لَهُ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمُفْرَدِ ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الْمَجَازِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الطَّوِيلِ لِهَذَا السَّبَبِ.
وكذلك يقال يطلق على القصيدة كلمة ، وسُمِّيت القصيدةُ بذلك؛ لأنها بمجموعها وارتباط بعضها ببعض، صارت في قوة الكلمة الواحدة .قال الآلوسي: وقيل : إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد.
[h=1]القول الثالث: [/h]قال جماعة[8] من اللغويين إن إطلاقها على ما سبق حقيقة
والراجح هما القولان الأخيران ، لأنه ـ كما قال الرازي ـ لَمَّا كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ عَلِمْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُرَكَّبِ مَجَازٌ.
معنى كلا إنها كلمة هو قائلها:
[h=1]كلا: ردعٌ عن طلب الرجعة ، وإنكار واستبعاد.[/h][h=1]إِنَّهَا[/h]هذه الكلمة { إِنَّهَا } أي الكلمة التي هي { رَبِّ ارْجَعُون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً } فيما تركت التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا.

[h=1]هو قائلها: فيها ثلاثة أقوال:[/h][h=1]القول الأول :ابن زيد والطبري وأبو السعود وابن كثير واطفيش قدمه الزمخشري والآلوسي والبيضاوي .[/h][h=1]هو قائلها لا محالة لا بد له أن يقولها ، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم ، فتقديم المسند إليه للتقوي .[/h][h=1]القول الثاني: ابن عاشور والصابوني وابن الجوزي والخازن والسمرقندي و الواحدي والطباطبائي والمنتخب و الطبرسي و الأعقم ،و الميرغني و القاسمي والمراغي و فريد وجدي و إبراهيم القطان و دروزة و الصابوني و عبد الكريم الخطيب وهو الراجح عندي .[/h][h=1]إنها كلمة هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه ولا تغني أكثر من أن يقولها ، ولا نفع له فيها ، لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه ، ولا وصف لكلمته غير كونها صدرت من فَمِ صاحبِها فالتقديم للاختصاص، بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها ، ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته : اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة ، يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب ، وهذا تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن .[/h][h=1]القول الثالث: الطوسي و ابن كثير و الشربيني وسيد قطب و التفسير الميسر[/h] إنها كلمة } أي مقالته رب ارجعون لعلي أعمل صالحا كلمة هو قائلها بلسانه وليس لها حقيقة وقول لا صدق فيه ، وقد عرف من الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها ، ، كما قال " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب . كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد ! كلام لم يصدر من أعماقه .
*************
{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}
أصل الباب الفراغ و الخلو
الافراغ : صب السيال على جهة اخلاء المكان منه .
يقال: أفرغ الإناء والدلو : صبَّ ما فيه من ماء وإخلاه مما فيه ، وذلك يكون بصب كل ما فيه ، وأصله من الفراغ .

القول الأول: قالوا في { أفرغ} استعارة تصريحية تبعية ، و{صبرا} قرينة.
قالوا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة، هَبْ وأفض علينا صبراً واسعاً كثيرا يفيض علينا مستعلياً أتم فيض وأبلغه ، يغمرنا مع التعميم والإحاطة ويعمنا في ظاهر جمعنا و خاصة نفوسنا، وأكْثِرْه علينا كما يفرغ الإناء حتى لا يبقى منه شيء حتى تتحقق فينا صفة الصبر كأحسن ما يكون التحقق، وهذا يتضمن عموم المفرغ عليه و المبالغة في طلب الصبر .
وذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها : أنه إذا إفاضة الشيء على الشيء تضمن أنه قد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه ، وهذا يدل على التأكيد .
والثاني : أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه ، وذلك يكون بصب كل ما فيه .
الثالث: التصوير للمشهد بصورة المحسوس ، ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس ، فهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة.
· وفي التوسل بوصف الربوبية {ربنا}المُنبئ عن التبليغ إلى الكمال، أي: يا خالقنا ومنشئنا ومربينا ، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا ، وضرعوا إلى قادر غالب ، وإلى منشئ موجد ، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر ، ويغنيهم به عن نقص العدد.
· وتصدير الدعاء بالنداء المحذوف الأداة للدلالة على القرب.
· وتنكير صبرا ـ المراد به حبس النفس للقتال ـ من التفخيم والجزالة ما لا يخفى.
· وقدموا الصبر في الطلب ؛ لأن الصبر هو عدة القتال الأولى ، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع ، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع . والانتصار في القتال بصبر ساعة.
· ففي{ أفرغ } استعارة تبعية تصريحية و { صَبْراً } قرينتها ، وزاد ابن عاشور: أن فيها أيضا مع الاستعارة كناية عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ إِفْرَاغَ الْإِناءِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا حَوَاهُ.
[h=1]القول الثاني:[/h]· أنه استعارة أصلية مكنية في{ صبرا}، والقرينة { أفرغ} ، وإثبات الإفراغ للصبر استعارة تخييلية والجامع الغمر.
· سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يفوق الْمُتَعَارف ، فشبه الصبر الذي يفاض ويعم ويغطي ويستعلي بحيث[9] لا يبقى منه شيء بالماء الذي يفرغ من إناء فيعم ويغطي ولا يبقى منه شيء فهو استعارة مكنية لطيفة من تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ ، ولكن ليس في هذا من الجمال ما في الوجه الأول ، وزاد ابن عاشور أن فيها مع المكنية والتمثيلية كناية فقال:"وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ إِفْرَاغَ الْإِناءِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا حَوَاهُ، فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَكْنِيَّةٍ وَتَخْيِيلِيَّةٍ وَكِنَايَةٍ".
[h=1]القول الثالث:أنها استعارة تمثيلية اختاره أبو زهرة والصابوني و حدائق الروح والريحان.[/h] فيه استعارة تمثيلية بديعة شبه فيه حال المؤمنين وقت اشتداد المعركة بمن أفيض عليه الماء من أعلاه إلى أسفله ، وأفرغ على كامل جسده، فعمه كله ، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه ، فيلقي في القلوب بردا وسلاما ، وهدوءا واطمئنانا . عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة .
[h=1]( وثبت أقدامنا )[/h]القول الأول: سيد طنطاوي وأبو حيان اطفيش – الهميان، وأبو زهرة و حدائق الروح والريحان، والشهاب
كناية عن صفة
هب لنا من كمال القوة والرسوخ عند القتال ما يجعلنا نثبت أمام أعدائنا فلا نزل عن مداحض القتال ، ونتمكن من رقابهم دون أن يتمكنوا منا ، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال والقتال ، و تشجيع قلوبهم وتقويتها .
القول الثاني: مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، أي :ثبتنا ، ومكنا من عدونا ، ولا تمكن عدونا منا ، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا ، فهو تعبير بالجزء وإرادة الكل ؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار ، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام .
الصابوني
القول الثالث: تثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم ، وشبه عدمه بثبات القدم في المأزق .
قال الآلوسي : وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى ، أما أولاً : فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، وأما ثانياً : فلأن فيه الإفراغ ، وهو يؤذن بالكثرة ، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه ، وأما ثالثاً : فلأن فيه التعبير بعلى المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين ، وأما رابعاً : فلأن فيه تنكير صبراً المفصح عن التفخيم ، وأما خامساً : فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبت ، وأما سادساً : فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولاً : إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانياً : ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له ، وثالثاً : العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة ، وقيل : إنما طلبوا أولاً : إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر ، وثانياً : التثبيت لأنه متفرع عليه ، وثالثاً : النصر لأنه الغاية القصوى.
*************
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
[h=1]وأصل الباب الصبغ : وهو المزج للتلوين .[/h][h=1]والصبغ : هو تلوين الأشياء - كالثياب وغيرها - بألوان معينة ، ففيها تغيير الشيء بلون من الألوان، يطلق على المصدر كما سبق، وعلى ما يلون به الثياب أي الشيء الذي يصبغ به ، وفعله على فعَل بفتح العين[/h]صبغة : مصدر هيئة ( فِعْلة ) من الصبغ ، كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ أي هيئة صبغ الملك الأعلى ، ومصدر الهيئة يدل على الثبوت كما يقال يعجبني مشية زيد، ومنه { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}.
ـــــــــــ
[h=1]القول الأول: وهو الذي اختاره أبو السعود والآلوسي والسعدي[/h][h=1]في الكلام استعارة تصريحة أصلية تحقيقية ، والقرينة الإضافة والجامع ما سيذكر[/h][h=1]أي هذا الإيمان المذكور في قوله تعالى { قولوا آمناـ ـ} الخ بأن نؤمن بالله وبجميع رسله إجمالا وتفصيلا ، ونؤمن بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن لا نفرق بين الرسل وهي ملة إبراهيم ، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه ـ هذا الإيمان صبغة إلهية لنا ، هي[/h][h=1]وإنما أطلقت الصبغة على الإِيمان بما ذكر الآية لأمور:[/h][h=1]الأمر الأول: لأن الإِيمان يتداخل و يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ كالثوب ونحوه ، كما أن شأن الصَّبْغ بالنسبة إلى الثوب كذلك ومتداخلا في أعماق المصبوغ ، لأنه راسخ وذلك كذلك صبغة الله ، صبغة الله حين تخالط بشاشة القلوب يتشربها القلب لأنه مفطور على الإيمان فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان ، يخالط مداركه ، فيصير لونا غير قابل للتغيير ملازمته لمن ينتحله فيلزمه ولا يفارقه .[/h][h=1]الأمر الثاني: لأن الإيمان هو حلية المسلم يظهر أثره عليهم يزَيِّنُهم بآثاره الجميلة كما أن الصبغة حلية المصبوغ يظهر أثره عليه ويزينه ؛ وذلك يظهر في المظهر والمخبر ؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة والشكل والهيئة الخارجية والنور الذي في الوجه ، قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } وفي الباطن في نقاء القلب وإيمانه وامتلائه بالإيمان والاخلاق الفاضلة. فينقلب جوهرهم نوراً ، كما قال تعالى{ نور على نور} و كما قال عليه الصلاة والسلام : اللهم اجعلني نوراً !.[/h][h=1]الأمر الثالث:[/h]لأن الإيمان الذي أراده الله تعالى واختاره هو أحسن دين وأجمله ، فيه مباينة ظاهرة جدا عن الأديان الباطلة ، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم، فيمتاز به المؤمن عن سائر الكفار امتياز الثوب المصبوغ ، فيعرفون بها في الأرض.
وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ ، فقس الشيء بضده ، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا ، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح ، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن ، وفعل جميل ، وخلق كامل ، ونعت جليل ، ويتخلى من كل وصف قبيح ، ورذيلة وعيب ، فوصفه : الصدق في قوله وفعله ، والصبر والحلم ، والعفة ، والشجاعة ، والإحسان القولي والفعلي ، ومحبة الله وخشيته ، وخوفه ، ورجاؤه ، فحاله الإخلاص للمعبود ، والإحسان لعبيده ، فقسه بعبد كفر بربه ، وشرد عنه ، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة ، من الكفر ، والشرك والكذب ، والخيانة ، والمكر ، والخداع ، وعدم العفة ، والإساءة إلى الخلق ، في أقواله ، وأفعاله ، فلا إخلاص للمعبود ، ولا إحسان إلى عبيده ،فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله ، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه .
وإضافة الصبغة إلى الله عز وجل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريفِ والإيذانِ بأنها عطية منه سبحانه لا يستقِلُّ العبدُ بتحصيلها .
القول الثاني: قالوا في الكلام مشاكلة تقديرية وهذا الذي اختاره الجمهور ، للرد على اليهود والنصارى معاً ، فالكلام مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله : { كونوا هوداً أو نصارى }، فإن النصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء أصفرَ يسمونه المعمودية ويزعُمون أنه تطهيرٌ لهم وبه يحِق نصرانيتُهم ، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانيا ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً ، استغنوا به عن الختان ، وتخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوباً مصبوغاً، وأصلها التطهر في نهر الأردن وهو اغتسال سنه النبيء يحيى بن زكرياء لمن يتوب من الذنوب فكان يحيى يعظ بعض الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزاً للتطهر الروحاني وكانوا يسمون ذلك « معموذيت » بذال معجمة وبتاء فوقية في آخره ويقولون أيضاً معموذيتا بألف بعد التاء وهي كلمة من اللغة الأرامية معناها الطهارة ، وقد عربه العرب فقالوا معمودية بالدال المهملة وهاء تأنيث في آخره وياؤه التحتية مخففة ، ويقول النصارى إن عيسى عليه السلام قد عمد الحواريين الذين آمنوا به ، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيراً ، وقد تعمد قسطنطين قيصر الروم حين دخل في دين النصرانية ، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم السابع من ولادته ، ونظير هذا عند اليهود [10].
فردّ الله عليهم بقوله : { صبغة الله } في مقابلة ما يصبغه أهل الكتاب بأتباعهم المتبعين لهم في أهوائهم ، أي إن كان إيمانكم حاصلاً بصبغة القسيس والأحبار ظاهرا حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا ، فإيماننا بصبغ الله وتلوينه الذي يصبغ الظاهر والباطن ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق ، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم فيظهر أثره ظاهرا وباطنا ويطهرهم بها من الشرك والكفر والمعاصي ويجعلهم يؤمنون بالله وحده وبجميع الرسل والكتب من غير تفريق بخلاف صبغتكم الظاهرية التي هي صبغ بشرية صبغة جسم لا تنفع
ففي الكلام مشاكلة ، ونظيره قوله تعالى : { إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم } { يخادعون الله وهو خادعهم } { وجزاء سيئة سيئة مثلها } { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم }إلا أن المذكور في الآيات مشاكلة لفظية وفي هذه الآية الكريمة مشاكلة تقديرية.
قال الخطيب القزويني في التلخيص مع شرح السعد : "ومن الضرب المعنوي من المحسنات البديعة المشاكلة ، وهى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوع ذلك الشيء في صحبة ذلك الغير وقوعاً إما محققاً كقوله :
قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا
ذكر خياطة الجبة والقميص بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام في قوله : نجد لك طبخه ، أي اطلب شيئاً من غير تفكر ولو صعبا نطبخه لك طبخا جيداً ، ونجد ( بضم النون وكسر الجيم ) من أجاد شيئاً ، أي صيره جيدا وإما مقدرا كقوله : ( صبغة الله ) فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون إن الغمس في ذلك الماء تطهير لهم ، فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً حقاً .
فأُمِر المسلمون بأن يقولوا لهم قولوا آمنا بالله ، وصبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم نصبغ صبغتكم أيها النصارى ، فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله ، للمشاكلة لوقوعه في صحبة صبغة النصارى ، تقديراً بهذه القرينة الحالية التي هي سبب النزول ، من غمس النصارى أولادهم في الماء الأصفر ، وإن لم يذكر ذلك لفظا ، وهذا كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلا يصطنع إلى الكرام ويحسن إليهم ، فعبر عن الاصطناع بلفظ الغرس للمشاكلة بقرينة الحال ، وإن لم يكن له ذكر في المقال ، وأصل هذا للسكاكي والزمخشري في إطلاق لفظ الصبغة ،
وقد اعترض أبو السعود والآلوسي على هذا الوجه الذي هورأي الجمهور بقولهما: "ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة" والحق أن هذا موجود في اليهود أيضا كما بينه ابن عاشور ، وأيضا لو سلمنا أنه في النصارى فقط فيكفي وجود الصبغة في أحد الفريقين اليهود والنصارى وهو فريق النصارى لأنها فيهما في الجملة ، ولو لم تكن في كل فريق منها ، ولا سيما أنهُ يجمعهما اسم أهل الكتاب.
[h=1]القول الثالث: الجمع بين القولين: الاستعارة التبعية التحقيقة والمشاكلة[/h]قال ابن عاشور: "فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة علاقتها المشابهة وهي مشابهة خفية حسنها قصد المشاكلة ، والمشاكلة من المحسنات البديعية ومرجعها إلى الاستعارة وإنما قصد المشاكلة باعث على الاستعارة ، وإنما سماها العلماء المشاكلة لخفاء وجه التشبيه فأغفلوا أن يسموها استعارة وسموها المشاكلة ، وإنما هي الإتيان بالاستعارة لداعي مشاكلة لفظ للفظ وقع معه .
فإن كان اللفظ المقصود مشاكلته مذكوراً فهي المشاكلة ، ولنا أن نصفها بالمشاكلة التحقيقية كقول ابن الرَّقعمق :
قالوا اقتَرح شيئاً نُجِدْ لك طَبْخَه *** قلتُ اطبُخُوا لِي جُبَّةً وقميصاً
استعار الطبخ للخياطة لمشاكلة قوله نجد لك طبخه ، وإن كان اللفظ غير مذكور بل معلوماً من السياق سميت مشاكلة تقديرية كقول أبي تمام :
مَنْ مُبْلغٌ أفناءَ يعرُبَ كلها *** أَني بَنَيْتُ الجارَ قبل المَنزل
والأفناء بالفاء: جماعة من الناس، جعل الجار يبتنى كما تبتنى الدار،استعار البناء للاصطفاء والاختيار لأنه شاكل به بناء المنزل المقدر في الكلام المعلوم من قوله قبل المنزل ، وقوله تعالى : { صبغة الله } من هذا القبيل والتقدير في الآية أدق من تقدير بيت أبي تمام وهو مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله : { كونوا هوداً أو نصارى } [ البقرة : 135 ] على ما يتضمنه من التعميد.
[h=1]الإعراب:[/h]القول الأول: قول سيبويه والزمخشري وجماعة ، أنها مصدر مؤكد لمضمون الجملة ويسمى المؤكد لنفسه ، فقوله تعالى : { صبغة الله } متعلق بقوله : { قولوا آمنا بالله } ، ونظيره انتصاب{ وَعَدَ الله } عما تقدمه في قوله تعالى:" غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)" ، وقوله : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } إذ قبله : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } معناه : صنع الله ذلك صنعه ، والتقدير: { قُولُواْ ءامَنَّا بالله } وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا فهي مصدرٌ مؤكدٌ لقوله تعالى : { آمنا } داخل معه في حيز قولوا منتصبٌ عنه ، وإنما وُسّط بينهما الشرطيتان وما بعدهما ، { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } اعتناءً ببيان أنه الإيمانُ الحقُّ وبه الاهتداءُ ومسارعةً إلى تسليته عليه الصلاة والسلام.
القول الثاني: وهو اختيار ابن عاشور: أنها منصوبة وصفاً لمصدر محذوف دل عليه فعل { آمنا بالله } والتقدير آمنا إيماناً صبغة الله ، قال "وهذا هو الوجه الملائم لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة ، وما ادعاه صاحب « الكشاف » من أنه يفضي إلى تفكيك النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك وجعله صاحب « الكشاف » تبعاً لسيبويه مصدراً مبيناً للحالة مثل الجلسة والمشية وجعلوا نصبه على المفعول المطلق المؤكد لنفسه أي لشيء هو عينه أي إن مفهوم المؤكد ( بالفتح ) والتأكيد متحدان فيكون مؤكداً لآمنا لأن الإيمان والصبغة متلازمان على حد انتصاب { وعد الله } من قوله تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده } توكيداً لمضمون الجملة التي قبله وهي قوله : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء } [ الروم : 4 ، 5 ] وفيه تكلفنان لا يخفيان" .

[h=1]القول الثالث: أنها منصوبة على الإغراء أي: اطلبوا والزموا صبغة الله وهي الدين ، والإسلام لا صبغتهم بجميع أعماله الظاهرة والباطنة ، وجميع عقائده في جميع الأوقات ، حتى يكون لكم صبغة، فإذا كان صفة من صفاتكم ، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره ، طوعا واختيارا ومحبة ، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة ، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية ، لحث الدين على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ومعالي الأمور.[/h][h=1]{ ومن أحسن من الله صبغة } :[/h]هذا استفهام ومعناه : النفي وهو أبلغ من النفي، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة :و التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ ، فحيث كان مدارُ التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفَرَضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيرِه تعالى حُسْنٌ في الجملة أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى على معنى أنها أحسنُ من كل صبغة وفيه الرد على اليهود والنصارى أي هي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية والنصرانية .
و " مِنَ الله " ، متعلِّقٌ بَأحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ . و " صبغةً " نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ : ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله ، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين .
قوله تعالى : { ونحن له عابدون } :
وجملة { ونحن له عابدون } عطف على { آمنا } داخلٌ معه تحت الأمرِ فهي في محلِّ نصبٍ بالقول كما رجحه الزمخشري قال الزمخشري : " وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ " صبغة الله " بدلٌ مِنْ " مِلَّةَ " أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه "
أو اعتراضية مقرِّرة لما في صبغة الله من معنى التبجّح والابتهاج.
أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزمَوا صِبغة الله وقولوا نحن له عابدون.
وإيثارُ الاسميةِ للإشعار بدوام العبادةِ ، وجاء ايضا في الخبر بالوصف الثابت الدائم فنحن نعبده عبادة دائمة ثابتة وفيه إشعار بأن أحداً منهم لا يرتد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه .
وفي تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله : { له عابدون } إفادة قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية لكنهم عبدوا المسيح وكذلك رد على اليهود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*********************
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ }
{ وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفاً أو شرعاً . مشتق من الفحش بضم الفاء وسكون الحاء تجاوز الحد.
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام :
إما استعارة أما تصريحية تبعية :بأن أطلق على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس بالأمر، فالتزيين والبعث شبها بالأمر فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له ، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم
أو استعارة تمثيلية: قال ابن عاشور: ولك أن تجعل جملة : { إنما يأمركم } تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمِر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملاً في حقيقته مفيداً مع ذلك الرمزَ إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم .
وفي الآية قولان الأول حمل الكلام على الاستعارة :
قال ابن عاشور -والأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمرٍ من الشيطان . ولك أن تجعل جملة : { إنما يأمركم } تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمِر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملاً في حقيقته مفيداً مع ذلك الرمزَ إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم . قال الآلوسي :والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ، ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية قال اطفيش - التيسير -وتسمية إغراء الشيطان أمرا استعارة تصريحية ، لأَنه ليس يكلم إنسانا ويسمعه قال اطفيش - الهميان :ثم إنه لا مفر أن أمر الشيطان هو وسوسته وتزيينه ، وأنه يطلب الفعل ، فإن قلنا : إن الطلب أو الإخبار بغير اللسان المسموع كالإشارة كلام حقيق فى اللغة ، فالأمر حقيقة . وإن قلنا : إنه كلام مجازا في اللغة كالاصطلاح ، ففي يأمر استعارة تصريحية تبعية شبه تزينه ووسوسته وبعثه إلى الشر بأمر باللسان المسموع بجامع الدعاء إلى الشيء ، فاشتق منه يأمر ، وفيه تشنيع عليهم بكونهم مأمورين للشيطان ، وبأن وسوسته الضعيفة أثرت فيها كالنطق الصحيح الصريح
القول الثاني: قاله اطفيش - التيسير في موضع آخر:والأمر المذكور عن الشيطان حقيقة ، لأنه يقول ، افعلوا كذا على طريق الالتماس ، على أنه يسويهم بنفسه ، أو لأنه يدعى العلو عليهم ، ولو لم يكن عنده أو اعتقد أنه أعلى ، ولا حاجة إلى أن تقول شبه الوسوسة فى المعاصى بالأمر بها ، ولا إلى أن نقول شبه تزيين المعاصى بالأمر بها ، عَلَى أن ذلك استعارة ، ولا يلزم من الأمر ولو كان من عال تسلط قهر ، فلا منافاة بين الآية وقوله تعالى : { ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر : 42 ].
************
[h=1]قال الآلوسي : في { شهد الله أنه لا إله إلا هو } :[/h]1. وفي { شَهِدَ } مسنداً إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل .
2. وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة ، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم (وهو الشهادة) وأريد به اللازم (البيان) .
قال ابن عاشور: والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : { أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وقوله : { ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه « إقام الصلاة » وهو في الجميع تمثيل .
يقول علي هاني ففيها استعارة تصريحية تبعية تصريحية تبعية .
شبهت المحافظة والمواظبة والمداومة بالقيام ، والعناية بها وإيفاءها حقها والإتيان بها على أحسن احوالها ، وعدم تضييعها ب بقيام أحد مستقيما في أحسن أحواله أو مجاز مرسل كما سبق مجاز مرسل من قبيل ذكر المسبب وإرادة السبب [11]ويجوز أن يكون من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم أو استعارة تمثيلية كما ذكره ابن عاشور .
توضيح لمعنى الآية:
ولما قرر توحيده قرر عدله ، فقال : { قائمًا بالقسط } أي : لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده ، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه { قَائِمَاً بالقسط } مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ، ويثيب ويعاقب ، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم
، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله ، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد ، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة
ابن كثير :شهد تعالى - وكفى به شهيدا ، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين - { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه ، والفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ 7 شَهِيدًا } الآية [ النساء : 166 ] .
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام .
{ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } منصوب على الحال ، وهو في جميع الأحوال كذلك .
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } تأكيد لما سبق { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز : الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء ، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره . ابن عاشور وانتصب { قائماً بالقسط } على الحال من الضمير في قوله : { إلاّ هو } أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله : { شهد الله } فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد قال الطباطبائي
وثانيا : أن قوله تعالى : { قائما بالقسط } حال من فاعل قوله : { شهد الله } ، والعامل فيه شهد ، وبعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة وأولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هوظاهر الآية حيث فرقت بين قوله : { لا إله إلا هو } ، وقوله : { قائما بالقسط } : بتوسيط قوله : { والملائكة وأولوا العلم } ، ولوكان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال : إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة ، ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام
****************
( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور : 4]
قال أبو السعود:{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } بيانٌ لحكمِ العَفَائفِ إذا نُسبن إلى الزِّنا بعد بيانِ حُكمِ الزَّوانِي ويُعتبر في الإحصانِ هاهنا مع مدلولهِ الوضعيِّ الذي هو العِفَّةُ عن الزِّنا الحريَّةُ والبُلوغُ والإسلامُ وفي التَّعبيرِ عن التَّفوهِ بما قالُوا في حقهنَّ بالرَّمي المنبئ عن صلابةِ الآلةِ وإيلامِ المَرميِّ وبعدِه عن الرَّامِي إيذانٌ بشدَّةِ تأثيره فيهنَّ وكونهِ رجماً بالغيبِ والمرادُ به رميهنَّ بالزِّنا لا غير ، وعدمُ التَّصريحِ به للاكتفاءِ بإيرادهنَّ عقيبَ الزَّواني ووصفِهنَّ بالإحصانِ الدَّالِّ بالوضعِ على نزاهتهنَّ عن الزنا خاصَّة فإنَّ ذلكَ بمنزلةِ التَّصريحِ بكونِ رميهنَّ به لا محالة ولا حاجة في ذلكَ إلى الاستشهادِ باعتبارِ الأربعةِ من الشُّهداءِ على أنَّ فيه مؤنة بيانِ تأخُّرِ نزولِ الآيةِ عن قوله تعالى
قال الصابوني: الاستعارة {يَرْمُونَ المحصنات} أصل الرمي القذفُ بالحجارة أو بشيء صلب ثم استعير للقذف باللسان لأنه يشبه الأذى الحسّي ففيه استعارة لطيفة.
{ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
العروة : عبارة عن الشيء الذي يتعلق به، فهي موضع الإمساك وشدّ الأيدي والتعلق
والوثقى: تأنيث الأوثق
فصمت العقدة: حللتها بغير صوت.
استمسك :أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه.
إجراء الاستعارة:
1. استعارة تصريحية في (العروة الوثقى ) واستمسك ترشيح لها أو {استمسك} استعارة أخرى تبعية ، شبه دين الله والاعتقاد الحق والعمل به والوقوف معه بالعقدة القوية والتمسك بها ولزومها مطلقا بالتمسك بالعروة وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته.
2. ويجوز أن يجعل الكلام استعارة تمثيلية ً مبنية على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلاً ؛ لثبوته بالبراهين النيرة القطعية ،بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات ، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن .
*******************

*************
( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [يوسف : 82]
سؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها :
1) إما مجازا مرسلا في القرية لإطلاقها على الأهل عليها بعلاقة المحلية
2) مجاز عقلي
3) أو مجاز في الحذف[12] فيقدر فيه مضاف
وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة
والسر البلاغي أنه لم يقل اسأل أهل القرية أنَّ هذا الشيء ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً يعرفه كل من في القرية ، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ.
قال الآلوسي: وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازاً في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة [ يعني مجازا عقليا] أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضاً عند سيبويه وجماعة.
*************
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}
فيه (مجاز عقلي ) لأن السنين لا تأكل وإنما يأكل الناس ما ادخروه فيها ،فَإِسْنَادُهُ إِلَى السِّنِينَ إِسْنَادُ مَجَازٍ عَقْلِيٍّ، لِأَنَّهُنَّ زَمَنُ وُقُوعِ الْفَنَاءِ. فهو من باب الإسناد إلى الزمان كقول الفصحاء : نهارُ الزاهدِ صائم وليلُه قائم .



[1] . أما على مذهب القوم, ففي قول يقدر التشبيه -أولا- في متعلق معنى الحرف، ثم يقدر -ثانيا- من طريق السراية في جزئية، ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة حينئذ تابعة لتشبيه, وفي قول آخر عنهم يقدر التشبيه في متعلق معنى الحرف كسابقه، ثم يستعار اسم المشبه به الكلي للمشبه الكلي، ثم يقدر التشبيه "ثانيا" في الجزئيات من طريق السراية، ثم ينقل الحرف إلى المعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لاستعارة أصلية, ولا يعوزك تطبيق هذا الكلام على ما يعرض لك من الأمثلة.


[2] فالصراط مستعار وهو محسوس والاسلام مستعار له وهو معقول

[3] قال الآلوسي: والضلالة الجور عن القصد ، والهدى التوجه إليه ، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه .

[4] قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية «2» ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات اللَّه المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك.
وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية.

[5] وقال أبو زهرة : وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم

[6] عبارة الزمخشري : لأنه مرصد لجهنم أي معد ومهيأ لها ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها قال أبو السعود : أي من بين يديه فإنه مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة


[7] نص عليه حفيد ابن هشام والشيخ خالد الأزهري

[8] منهم الفاكهي الهروي والحفني

· [9] قال الآلوسي: وقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، «فأفرغ» على الأول استعارة تبعية تصريحية وصَبْراً قرينتها، والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا، وعلى الثاني يكون صَبْراً استعارة أصلية مكنية وأَفْرِغْ تخييلية، وقيل:الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وهاهنا التطهير، وليس بذاك وإن جل قائله وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد. عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] .قال في نواهد الأبكار:
· قوله: (أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء).قال الطَّيبي: فهي استعارة تبعية في (أَفْرِغْ)؛ والقرينة (صَبْرًا)؛ لأن الصبر لا يستعمل فيه الإفراغ. اهـ قوله: (أو صب علينا ماءً يطهرنا من الآثام وهو الصبر). قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن الإفراغ إنما يستعمل في الماء والصبر المكنية. اهـقال الشيخ سعد الدين: وقد فهم البعض وحاشاه من سوء الفهم من قوله: كما يفرغ الماء أن الأول أيضاً كذلك إلا أن الجامع ثمة الغمر وهنا التطهير. اهـ


[10] وزاد ابن عاشور أن ذلك في اليهود أيضا قال : "والصبغة هنا اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنواناً على التوبة لمغفرة الذنوب والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته ، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضاً في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام".

[11] كما قال شيخ زاده

[12] اعلم أن لفظ "مجاز" كما يطلق على الكلمة المنقولة عن معناها الأصلي إلى غيره -كما سبق- يطلق أيضا على الكلمة المنقولة عن حكم إعرابها الأصلي إلى غيره بسبب حذف لفظ، أو زيادة لفظ.فالأول كما في نحو قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فلفظ {الْقَرْيَةَ} مجاز بالحذف؛ إذ ليس الكلام محمولا على ظاهره للقطع بأن المراد سؤال أهل القرية، لا سؤال الأبنية. وأصل الكلام: واسأل أهل القرية، فهما -في الأصل- مجروران بالإضافة، ثم نقل من هذا الحكم الإعرابي بسبب حذف المضاف، وجعل الأول مرفوعا على الفاعلية، والثاني منصوبا على المفعولية. وتسمية الحذف مجاز إما على سبيل الاشتراك اللفظي أي: إن لفظ "مجاز" موضوع بوضعين؛1) أحدهما للكلمة المستعملة في غير معناها الوضعي، 2) والثاني للكلمة التي تغير حكم إعرابها الأصلي، فيكون إطلاق المجاز عليها حينئذ حقيقة، وإما على سبيل التشابه أي: مشابهة الكلمة المنقولة عن إعرابها الأصلي للكلمة المنقولة عن معناها الأصلي, بجامع الانتقال عن الأصل في كل, واستعير اسم المشبه به وهو لفظ "مجاز" للمشبه, فيكون إطلاق لفظ "مجاز" على الكلمة التي تغير حكم إعرابها مجازا بالاستعارة. وقد اختلف الأصوليون هل هذا مجاز أم لا ؟ والجمهور منهم على أنه من المجاز - وليس كل حذف مجازاً وقال بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من المجاز ، قال : وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له" وقد تقدم بيان وجه كونه مجازا قال القزويني في الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغةفصل: المجاز بالحذف والزيادة
واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كما مضى؛ تُوصَف به أيضا لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ أو زيادة لفظ؛ أما الحذف فكقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 أي: أهل القرية2؛ فإعراب القرية في الأصل هو الجر، فحذف المضاف وأعطي المضاف إليه إعرابه، 3 4. وكذا قولهم: "بنو فلان يطؤهم الطريق" أي: أهل الطريق.
.
 
عودة
أعلى