تثوير علوم القرآن من خلال كتاب التفسير من صحيح البخاري (سورة الفاتحة أنموذجًا)

إنضم
15 أبريل 2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
01.png


يُعنى هذا البحث بأمرين: أولاً: من خلال تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من صحيح البخاري يُوجه البحث إلى إبراز شيء من منهج البخاري في التفسير. وثانيًا: استنباط مسائل علوم القرآن وأصول التفسير من الأحاديث والآثار التي يوردها في كتاب التفسير. ويهدف إلى توجيه الدارسين إلى منهج تحليل نصوص الأحاديث، واستنباط مسائل العلوم منها. وكان من نتائجه: بيان أن البخاري ـ مع نقله ـ كان من أهل الاختيار في التفسير، وأن الحاجة لا تزال قائمة لإبراز اختياراته ومنهجه في ذلك، ومما يوصَى به: الحثُّ على الدراسات التطبيقية من خلال كتب السنة، وآثار الصحابة والتابعين، والنظر في عناوين كتب الصحاح والسنن فيما يتعلق بعلوم القرآن والتفسير؛ لاستخراج مسائل علوم القرآن، وأصول التفسير منها، ومعرفة مناهج الأئمة في ذلك.

الحمد لله الملك الوهاب، ذي الفضل والإنعام، خلق الناس، ثم رزقهم؛ رزقهم بالنعم المحسوسة المادية، وبالنعم المعنوية الرُّوحية، وكان العلم من أنفس هذه النعم، فتقدَّس ربنا، وتبارك على ما أعطى من هذا وأنعم، وعلى ما أسبغ على عباده، وبه أكرم.
وأصلي وأسلم على النبي المختار، أبي القاسم الذي قسم الله له فوق ما قسم لخلقه، وجعله خير البريا، وأنعم عليه بإكمال الدين، وبإتمام النعمة، فكان معلِّم البشرية، وهاديها إلى كل خير، فصلوات ربي المتواليات عليه إلى يوم الدين، ثم الصلاة على الآل الكرام، والصحب العظام الذين نقلوا لنا الدين، وسبقوا إلى الفهم فيه، والعمل بما يقتضيه، فكانوا قدوة الأنام، ومشعل النور الذي يهتدي به السائرون إلى الله.
أما بعد:

فقد وفَّق الله لحمل هذا العلم بعد الصحابة أعلام التابعين، ثم تناقلوا العلم بعدهم جيلاً بعد جيل، وكان من نعمة الله على عبده محمد بن إسماعيل البخاري أن سخَّره لكتابة «المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه»، الذي صار يُعرف باسم «صحيح البخاري»، وكان لهذا الكتاب شأنٌ أيما شأنٍ، حتى عدَّه العلماء أصح كتاب بعد كتاب الله، تعالى.
ولما كان البخاريُّ قد جعل كتاب الصحيح منقسمًا إلى عدد من الكتب، يحمل كل كتابٍ منها موضوعًا من العلم، وكان فيها ما يتعلق بالتفسير، وهو الكتاب الخامس والستون في ترتيب كتب البخاري – رأيت أن أكتب بحثًا مختصرًا غير مستوعب لكل دقائق هذا الكتاب.

أهداف البحث:
خصصت حديثي بقضيتين كبريين:
1 – إبراز شيء من منهج البخاري في كتاب التفسير من خلال سورة الفاتحة.
2 – استنباط بعض علوم القرآن من خلال الأحاديث والآثار التي يوردها.
ولما كان تتبع هاتين القضيتين يطول في الصحيح، ويخرج عن حدِّ البحوث العلمية المحكَّمة – رأيت أن أقتصر على سورة الفاتحة من كتاب التفسير، وأبرز ما فيها مما يتعلق بهاتين القضيتين.

الدراسات السابقة:
- اختيارات الإمام البخاري في التفسير التي لم يعزها إلى أحد في صحيحه – عرض وتحليل –، عايد بن عبد الله بن عيد الحربي، رسالة ماجستير، السعودية: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1409هـ.
- مرويات الإمام البخاري في التفسير في غير صحيحه جمعا ودراسة، أحمد هادي شيخ علي، رسالة ماجستير، السعودية: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1415هـ.
- مناهج أئمة شراح الجامع الصحيح للإمام البخاري في شرح كتاب التفسير: دراسة مقارنة، عبد الله بن عبد الكريم العوضي، رسالة دكتوراه، السعودية: جامعة أم القرى، 1415هـ.
- منهج الإمام البخاري في التفسير من خلال كتابه الصحيح، سيد أحمد الإمام خطري، رسالة ماجستير، السعودية: جامعة أم القرى، 1417هـ.
- اختيارات الإمام البخاري في تفسير آيات الأحكام من صحيحه: جمع ودراسة، محمد عبد الرحمن اليحيى، رسالة ماجستير، السعودية: جامعة الملك سعود، 1425هـ.
- اتجاهات التفسير في صحيح البخاري «البخاري مفسرا» السبع الطوال، مطمانه عبد الكريم شهوات، السودان: جامعة أم درمان، 1998م.
- منهج الإمام البخاري في التفسير من خلال كتابه الصحيح، محمد حميد عواد الهاشمي، رسالة ماجستير، العراق: الجامعة الإسلامية – بغداد، 2009م.
وقد أسميت البحث: تثوير علوم القرآن من خلال كتاب التفسير من صحيح البخاري «سورة الفاتحة أنموذجًا».
وإنما سميته «تثويرًا» أخذًا من قول ابن مسعود >: «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين».
والتثوير نوع من التنقيب عن خفايا العلم، وهو هنا اجتهاد في استنطاق النصوص بما فيها من الفوائد في علوم القرآن.
وفي ظني – إن شاء الله – أن ما سأقدِّمه سيكون نبراسًا لمشروع أكبر منه، وأرجو أن يكون هذا البحث هاديًا لغيري إلى النظر في صحيح البخاري، والإفادة منه في باب «علوم القرآن»، وباب «أصول التفسير»، وباب «التفسير»، وباب «القراءات القرآنية»، وغيرها من الأبواب التي لا يخلو صحيح البخاري من آثارٍ فيها.
وليس كل ما ذكرته في القسم الأول قد سَبقت إليه، إلا أن فيه بعض الجوانب تحتاج إلى مزيد بحث وتعمُّق، فأحببت الإشارة إليها، كتكرار الآية في تبويبات البخاري على أكثر من مسألة علمية.
وأما القسم الثاني فلا أعرف من تطرق إليه من خلال الصحيح بهذه الطريقة التي سلكتها، والله الموفق.

منهج البحث:
1 – سأسلك في هذا البحث المنهج التحليلي من خلال الأحاديث الواردة في تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من صحيح البخاري.
2 – سأذكر المسألة العلمية بعنوان، ثم أذكر ما يدل عليها من هذه الأحاديث.
3 – سأبين المسألة العلمية كما هي عند البخاري، دون التطرق لأقوال غيره، أو للاختلاف الوارد في المسألة؛ لأن هذا ليس من مقصود البحث.

خطة البحث:
رأيت أن أقسم هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة، وهي مرتبه على النحو الآتي:
• المقدمة: وتشمل أهمية البحث، وأهدافه، والدراسات السابقة، وخطة البحث.
• تمهيد: الإمام البخاري، ومكانة صحيحه، ونبذة عن كتاب التفسير.
 أولاً: نبذة عن الإمام البخاري.
 ثانياً: مكانة صحيح البخاري.
 ثالثاً: التعريف بكتاب التفسير في صحيحه.
 رابعاً: سياق تفسير سورة الفاتحة من صحيح البخاري.
• المبحث الأول: منهجه العام في سورة الفاتحة، وفيه خمسة مطالب.
 المطلب الأول: توسعه في مفهوم التفسير.
 المطلب الثاني: تفسيره بالرأي.
 المطلب الثالث: ما يسنده وما يعلِّقُه.
 المطلب الرابع: استفادته من العلماء السابقين.
 المطلب الخامس: تكراره للحديث.
• المبحث الثاني: مصادره في تفسير الفاتحة، وفيه أربعة مطالب.
 المطلب الأول: النظائر القرآنية «تفسير القرآن بالقرآن».
 المطلب الثاني: التفسير النبوي.
 المطلب الثالث: تفسير التابعين.
 المطلب الرابع: التفسير اللغوي.
• المبحث الثالث: أنواع علوم القرآن التي أوردها في سورة الفاتحة، وفيه خمسة مطالب..
 المطلب الأول: علم غريب القرآن.
 المطلب الثاني: علم أسماء السور.
 المطلب الثالث: علم فضائل السور.
 المطلب الرابع: علم المكي والمدني.
 المطلب الخامس: علم عد الآي.
• الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
أسأل الله أن يبارك في جهدي وعملي، إنه ولي التوفيق، وهو المسدِّد المعين، وأن يجعل كل وقتي لخدمة كتابه، إنه سميع مجيب.​


يتبع
 
تمهيد
الإمام البخاري، ومكانة صحيحة، ونبذه عن كتاب التفسي
ر​


أولاً: نبذة عن الإمام البخاري
اسمه ونسبه، هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، وقيل: بَذْدُزْبَه، وهي لفظة بخارية، ومعناها الزرّاع.
وقد ولد رحمه الله بعد صلاة يوم الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، بـ«بخارى» وتقع اليوم في جمهورية «أوزباكستان».
وكانت نشأة الإمام البخاري ~ في بيئة صالحة محبة للعلم، فتعلم في صغره، وظهر تميزه في العلم، ويقول عن ذلك: «أُلهمت حفظ الحديث، وأنا في الكُتَّاب، قال – أي: أبو جعفر الوراق –: «وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتَّاب بعد العشر، فجعلتُ اختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوماً – فيما كان يقرأ للناس –: عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: يا أبا فلان، إنَّ أبا الزبير لَم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم منِّي وأحكم كتابه، فقال: صدقت. فقال له بعضُ أصحابه: ابنُ كم كنتَ إذا رَددتَ عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة، فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظتُ كتبَ ابن المبارك، ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء».
وارتحل البخاري في طلب الحديث إلى عدة بلدات، فأتى الحجاز: المدينة، ومكة، ومدن العراق كلها، والجبال وسائر مدن خراسان التي بين بلده وبين العراق والشام والجزيرة ومصر. وأكثر في رحلاته لطلب العلم من السماع عن الشيوخ حتى قال: «كتبتُ عن ألفٍ وثمانين رجلاً».
وقد حظي الإمام البخاري رحمه الله بمكانه عظيمة بين أهل العلم، وشهد له بذلك شيوخه قبل تلامذته، ومن ذلك قول الإمام الفلاس (ت: 231): «حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث».
وقال الإمام أحمد بن حنبل(ت: 241): «ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل».
وقد ذُكِر للإمام علي بن المديني (ت: 234) قول البخاري: «ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني». قال حامد بن أحمد: «فذكر هذا الكلام لعلي بن المديني. فقال لي: دع قوله، هو ما رأى مثل نفسه».
وقال الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت: 311): «ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل».
والكلام في نقل الثناء عليه يطول.
وفي آخر حياته ابتلي بحسد أقرانه وبعض شيوخه؛ فوشوه عند أمير بخارى، واتهم بالقول بخلق القرآن في الفتنة المشهورة، فرجع إلى بلده «خَرْتَنْك» ببخارى، فمات بها ~ في ليلة السبت عند صلاة العشاء، ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر يوم السبت سنة ستٍ وخمسين ومائتين، وكان عمره اثنتين وستين سنة إلا اثني عشر يوما.

ثانياً: مكانة صحيح البخاري
تظهر مكانة صحيح البخاري من جهتين، الأولى: مكانة مؤلفه – وقد مر –، والثانية: اعتناء الأمة به، لما ظهر فيه من دقة التصنيف، وحسن الاختيار، وعلو الشرط.. وتخصيصه لصحيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وأراد البخاري بهذا الكتاب أن يجمع كتابًا مسندًا مختصرًا مشتملًا على الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، دفعه إلى ذلك ما بينه بقوله: «كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب» فقام بانتقاء هذه المادة من ستمائة ألف حديث، واستغرق ذلك منه ستَّ عشرة سنة، ولم يدخل فيه إلا الصحيح.
وهو بذلك أول من صنَّف في جمع الحديث الصحيح. قال الإمام ابن الصلاح (ت: 643): «أول من صنف الصحيح: البخاري أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري... وكتابهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز». وقد عرض كتابه – تمشيا مع عادة أهل العلم والفضل – على بعض شيوخه وأقرانه، فأقروه على ذلك. فكان بمثابة الاتفاق من أهل عصره على منزلة كتابه.
وسبر علماء الحديث كتابه الصحيح بعده – مع ما كان عليه البخاري من الحفظ والضبط والأمانة – فاتفقت كلمتهم على أن أعلى درجات الحديث الصحيح: ما اتَّفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم ثم...
قال الإمام النووي (ت:676): «اتفق العلماء – رحمهم الله – على أنه أصح الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث».
قال الحافظ أبو نصر الوائلي السجزي (ت: 444): «أجمع أهل العلم «الفقهاء» أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صح عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، لا شك فيه، لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته».
كما اتفقت كلمة المحدثين على أن كل حديث فيه فقد تجاوز القنطرة. وأما ما انتقد عليه فلم ينزله عن مرتبة الصحيح.
كما أن مما لابد من معرفته أن أغلب متون الكتاب متواترة، وهي مروية من طرق أخرى غير كتابه.
قال أبو إسحاق الإسفراييني (ت: 418): «أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها. ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل ذلك فذاك اختلاف في طرقها ورواتها».
وجميع الأمة قد تلقت كتابه الصحيح بالقبول، فمنذ زمن مصنفه والكتاب يزداد مكانة في نفوس المسلمين.
قال ابن تيمية (ت: 728): «إن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم».
ولما للصحيح من أهمية كبرى عند علماء المسلمين، فقد اعتنى به العلماء قديما – وما زالوا – اعتناء ليس له مثيل من قبل ولا من بعد، إلا ما كان من اعتنائهم بالقرآن الكريم، وهذا واضح من كثرة المؤلفات التي ألفت عليه من شروح ومستخرجات ومستدركات وتعاليق، وملخصات...
وقال ابن تيمية: «وأما كتب الحديث المعروفة مثل: البخاري ومسلم، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن».
ويكفيك هذه الشهادة من ناقد خبير عالم بصير بالصحيح والسقيم.
وقال زكريا الأنصاري (ت:926): «وبالجملة فكتابهما – أي: البخاري ومسلم – أصح كتب الحديث».

ثالثاً: التعريف بكتاب التفسير في صحيحه
ذكر الحافظ ابن حجر (ت852) في خاتمة شرحه لكتاب التفسير من صحيح البخاري بعض الإحصاءات المهمة حول كتاب التفسير، ومنها:
- اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث، وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعة، وما في حكمها.
- الموصول من ذلك أربعمائة حديث، وخمسة وستون حديثا، والبقية معلقة وما في معناه.
- المكرر من ذلك فيه، وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثا.
- الخالص منها مائة حديث.
- وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثرا، تقدم بعضها في بدء الخلق وغيره، وهي قليلة.
- وافقه مسلم على تخريج بعضها، ولم يخرج أكثرها؛ لكونها ليست ظاهرة في الرفع.
- والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله عنهما.
ومما هو معلوم أن الإمام البخاري لم يقتصر اعتناؤه بالتفسير في صحيحه على ما أورده في الكتاب الخاص بالتفسير، بل في كتاب فضائل القرآن، جملة كبيرة من أحاديث التفسير، بل قد بوب لأبواب كثيرة – في غير هذين الكتابين – بآيات قرآنية. وكثرة أحاديث التفسير في صحيح البخاري جعلت بعض العلماء يجمع أحاديث التفسير في صحيح البخاري، فقد ذُكر أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ألف في ذلك كتابا أسماه: «تجريد التفسير من صحيح البخاري على ترتيب السور».
واعتناء البخاري بأحاديث التفسير ظاهر ليس في صحيحه فحسب، بل في سائر كتبه.

رابعاً: سياق تفسير سورة الفاتحة من صحيح البخاري
بما أن البحث سيتناول بالدرس باب تفسير سورة الفاتحة من صحيح البخاري، فناسب قبل البدء في البحث أن أسوق ما قاله المؤلف في الباب.

قال الإمام البخاري رحمه الله:​

كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ​
«اسْمَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالعَلِيمِ وَالعَالِمِ».​

بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الكِتَابِ​
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الكِتَابِ؛ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي المَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ.
وَالدِّينُ: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "{بِالدِّينِ} (الانفطار: 9): بِالحِسَابِ، {مَدِينِينَ} (الواقعة: 86): مُحَاسَبِينَ".
4474 – حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: ٢٤). ثُمَّ قَالَ لِي: (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ). ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: "أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟"، قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ).

بَابُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
4475 – حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

يتبع
 
المبحث الأول: منهجه العام في سورة الفاتحة

المطلب الأول:توسعه في مفهوم التفسير (1):
المتتبعُ للأحاديث التي يوردها البخاري في كتاب التفسير يرى أنها لا يصدُق عليها مصطلح التفسير، ولذلك اعترض بعض شُرَّاح صحيح البخاري على إدخاله لبعض الأحاديث التي لم يظهر لهم ارتباطها بمفهوم التفسير، واجتهد آخرون في بيان مفهوم التفسير عنده من خلال ما أورده الإمام في كتاب التفسير من صحيحه، فاعتذروا له في إيراد مثل هذه الأحاديث.
ومما وقع عليه من الاعتراض، قول العيني (ت: 855): «أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله – تَعَالَى –: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة:7]، وَلَا وَجه لذكر لفظ: بَاب هُنَا، وَلَا ذكره حَدِيث الْبَاب هَهُنَا مناسباً، لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بالتفسير، وَإِنَّمَا مَحَله أَن يذكر فِي فضل الْقُرْآن».
والتفسير عند العيني (ت: 855): «التكشيف عَن مدلولات نظم الْقُرْآن».
ولما حمل العيني طريقة البخاري في إيراده أحاديث كتاب التفسير على هذا المصطلح الذي لا يظهر أنه مرادٌ عند البخاري – وقع هذا الاعتراض، وهو في غير محلِّه؛ لأن للبخاري مرادات في إيراد هذه الأحاديث في كتاب التفسير.
ومن أفضل ما قيل في منهج البخاري في كتاب التفسير، ما ذكره المحدِّث محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي في كتابه «الأبواب والتراجم لصحيح البخاري»، وقد نقل عن جماعة من أهل العلم في هذا المقام، ومنه: قول محمد أنور الكشميري (ت: 1352): «ثم اعلم أن تفسير المصنف ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات وتقرير المسائل، بل قصد فيه إخراج حديث مناسب متعلق به، ولو بوجه».
وقال أبو مسعود رشيد أحمد الكنكوهي (ت: 1323): «الذي ينبغي التنبه له أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعم من أن يكون شرح كلمة، أو تفصيل قصة مما يتعلق بالكلام، أو بيان فضيلة، أو بيان ما يقرأ بعد تماما السورة، ولا أقلَّ من أن يكون لفظ القرآن واردًا في الحديث.
وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر وإنما الخفاء في هذا الأخير.
والنكتة فيه أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في الموضعين واحد.
وكثيرًا ما ينكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة كلام، ولا يتضح مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة، فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معًا كانت له مكنةٌ على تحصيل المعنى، والله تعالى أعلم».
وبعد: فإننا لو أردنا أن نستنبط مفهوم التفسير من خلال كتاب التفسير في صحيح البخاري، فإننا سنجده أوسع من بيان المعاني، وأنه يدخل فيه كل ما يتعلق بالسور أو الآية من أي وجه كان؛ لذا أدخل فضل التأمين في تفسير سورة الفاتحة، مع أن التأمين ليس من القرآن بإجماع، لكن له تعلق واضح بالسورة أثناء قراءتها في الصلاة.
وهذا المنهج الذي سلكه البخاري في كتاب التفسير يدلُّ على توسُّعٍ في مفهوم التفسير عنده، لذا لا يحاكم البخاري إلى مفهوم التفسير عند غيره، كما فعل العيني (ت: 855) في انتقاده للبخاري (ت: 256).
وإدخاله بعض ما ليس من التفسير لم يكن خافيًا على بعض الشراح، وكانوا ينبهون على ذلك، ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر (ت: 852): « قوله: «باب ما جاء في فاتحة الكتاب».
أي: من الفضل أو من التفسير أو أعم من ذلك، مع التقييد بشرطه في كل وجه».

المطلب الثاني: التفسير بالرأي:
يمكن أن نقسم التفسير بالرأي في كتاب التفسير إلى قسمين:
الأول: الرأي الذي قال به المفسرون السابقون له.
الثاني: اختياراته.
أما الرأي الذي قال به المفسرون السابقون له فسيأتي طريقته في النقل عنهم في المطلب الثالث.
وأما اختياراته، فتظهر في جانبين:
الأول: أن يكون في مصادره أكثر من قول، ولا يذكر إلا قولاً واحدًا:
لم يكن من عادة البخاري – فيما يظهر – ذكر الأقوال المختلفة في التفسير؛ إذ ليس كتابه هذا كتابًا مستقلاً في التفسير، بل هو جزء من كتاب كبير مرتبط بمنهج عام، وذكر الأقوال في التفسير لا يتناسب مع منهجه في هذا الكتاب.
ووقع – كثيرًا – عنده اختيار قولٍ واحد من بين عدد من أقوال المفسرين، ويدلُّ لذلك أن المصادر التي ينقل منها قد تختلف في حمل اللفظة على معنى، ثم تراه يختار قولاً واحدًا منها.
ولا ريب أن البخاري مطَّلع على عدد من الأقاويل في اللفظة أو الآية، لذا فإنه يمكن اختصار منهجه في ذلك بنقاط:
1 – لم يكن من منهجه ذكر هذه الأقاويل.
2 – كان يختار قولاً واحدًا منها.
3 – لم يكن من منهجه تعليل اختياره.
ولا يوجد في سورة الفاتحة أي واحد من هذين النوعين، وإن كان موجودًا في غيرها، لذا سأذكر ما يوضح هذه الفكرة من سورة أخرى.
قال: «بابٌ، قال مجاهد»، ثم ذكر مجموعة من أقواله، ومنها: «...{ وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة:66]: عبرة لمن بقي».
وفي معنى الخلف أقوال، منها:
1 – لما بين يديها من القرى وما خلفها.
2 – لما بين يديها من معاصيهم، ولما خلفها من معاصيهم التي عملوها بعد هذه الفعلة.
الثاني: أن يظهَر اختيارُه في ترجمة الأبواب:
إن تراجم البخاري تحمل فقهه وآراءه العلمية، ومن ذلك رأيه في تفسير بعض الآيات.
ويمكن ضرب مثالٍ لذلك بما يأتي:
قال: «باب { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } [البقرة:146]– إلى قوله –: { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة:147].
حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشأم، فاستداروا إلى الكعبة».
فذكره لحديث تحويل القبلة يدل على أن المراد به: « يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود، والعلماء من النصارى أن البيت الحرام قبلتهم، وقبلة إبراهيم، وقبلة الأنبياء قبلك كما يعرفون أبناءهم».
ولم يحك ابن جرير غير هذا القول، ورواه عن ابن عباس وقتادة والسدي والربيع وابن جريج وابن زيد.
وهذا القول يتناسق مع سياق الآيات؛ لأن الحديث قبلها وبعدها في شأن القبلة.
ويبدو أن من نُسب إليه وجه آخر، كان يفسر آية سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام:20]، وتلك يتناسب معها أن يكون الضمير في { يعرفونه } عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كذلك، فإن استدراك بعض شُرَّاح صحيح البخاري عليه ذكر أمر تحويل القبلة لا يستقيم، ومن هؤلاء العيني (ت: 855)، قال: «مطابقته لِلْآيَةِ مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق»، وقال في الحديث السابق: «مطابقته لِلْآيَةِ تَتَأَتى بالتعسف يوضحها من يمعن النّظر فِيهِ» (2).
وليس في الأمر تعسف كما هو ظاهر من السياق، ومن اتفاق مفسري السلف على هذا القول.
وإذا استقر القول المناسب للسياق، فإنه لا يعني أن القول الآخر ليس له حظ من النظر، لكنه تبعٌ لهذا المعنى، وهو من لوازمه، وقد أشار الكنكوهي (ت: 1332) إلى هذا الملحظ، فقال: «يعني أنهم عرفوا محمدًا أنه النبي الموعود المنعوت في التوراة، وقد كان من نعته أنه يصلي إلى القبلة آخرًا، ويصلي إلى بيت المقدس أول قدومه مدة كذا، فمن هذه الحيثية كان عرفانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم عرفانًا بتحويل القبلة. ولا حاجة إلى تصحيح إيراد هذه الرواية في هذا الباب إلى إرجاع ضمير (يعرفونه) إلى التحويل (3)، فإن المرام حاصل بدونه أيضًا، فإن عرفان محمد صلى الله عليه وسلم بنعته عرفانٌ لجميع ما هو من أحواله المختصة، سيما أمر التحويل، فإنه كان علامة مكتوبة».
والذي يدل على توسيع مدلول الآية عند البخاري ليشمل غير ما سيقت له أنه سبق أن ذكر هذه الآية في كتاب المناقب، وترجم لباب فيه بهذه الآية، وأورد تحته قصة آية الرجم في التوراة، مما يدلُّ على أنه يُدخل في معناها مثل هذه القصة، قال: «بابُ قَوْلِ الله – تَعَالَى –: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:146]».
ثم ذكر حديث ابن عمر: «أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟).
فقال: نفضحهم، ويجلدون.
فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله، فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة».

المطلب الثالث: ما يسنده من التفسير وما يعلّقُه:
سمَّى البخاري كتابه باسم يدل على مضمونه، وهو «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه»، وهذا يشير إلى أن غالب ما أسنده؛ إما أن يكون مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حكم المرفوع.
وأما ما وقفه، فإن الغالب عليه أن يكون من الصحابة أو من بعدهم.
ومما أسند في كتاب التفسير، مما يوضح هذا التقسيم:
1 – التفسير النبوي المباشر.
والحديث الوارد في الباب فيه تفسير لقوله – تعالى –: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [الحجر:87]، هو تفسير نبوي مباشرٌ، يُبين عن أن الذي امتنَّ الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم، هو إتيانه سورة الفاتحة. وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم.
2 – أن يكون الحديث له وجه تعلق بالآية:
مع أن البخاري جعل كتابًا مستقلاً في «فضائل القرآن»، إلا أنه قد يورد شيئًا منها في كتاب التفسير، ووجه تعلقها أنها من باب الفضائل، والله أعلم، ومنها ما أورده هنا من حديث أبي سعيد بن المعلى.
3 – ما ورد عن الصحابة في بيان سبب النزول:
ومما أسنده مما له حكم الرفع عبارة النزول الواردة عن الصحابي، وكان ممن يرى أن صيغة (النزول) إذا وردت في عبارة الصحابي، فإنها من قبيل المسند، وقد ذكر هذا عنه جماعة، قال ابن تيمية: «وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: «نزلت هذه الآية في كذا»، هل يجري مجرى المسند، كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟
فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند.
وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند».
ومصداق ذلك ما ذكره البخاري في تفسير سورة الأنفال، قال: «باب قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال:1]قال ابن عباس: «الأنفال: المغانم».
قال قتادة:{ ريحكم } [الأنفال: 46]: «الحرب، يقال: نافلة عطية».
حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال، قال: «نزلت في بدر».
وواضح من هذا المثال أنه لم يسند تفسير الأنفال بالغنائم، بل جعله موقوفًا على ابن عباس؛ لأنه يراه من قبيل التفسير الاجتهادي، أما الحكم بنزول سورة الأنفال بشأن بدر، فجعلها مسندًا، أي في حكم المرفوع.
وعلى هذا سار عمله رحمه الله في صحيحه.
وفي هذا الموطن تجد أنه وقف عددًا من الروايات؛ لأنها من قبيل التفسير الاجتهادي عنده، وأما ما يتعلق بالروايتين الأخريين فإنهما مسندتان، وهما تحملان فضل سورة الفاتحة، وفضل موافقة الملائكة في التأمين، وورودهما هنا لا يعني أنهما متعلقتان بالمعاني الواردة في تفسير الفاتحة بقدر ما لهما من التعلق بهذه السورة، وهذا ما ستأتي الإشارة إليه.
وهناك غير ذلك مما أدخله البخاري في المسند من كتب التفسير؛ كالأحاديث التي تصلح أن تكون بيانًا للآية، والأحاديث التي توافق في معناها الآية، وغيرها مما يحتاج إلى استقراء، وهي محلُّ بحثٍ.

المطلب الرابع: استفادته من العلماء السابقين:
استفاد الإمام البخاري في كتاب التفسير ممن سبقه، ومما لاحظته في تفسيره لسورة الفاتحة أن هذه الاستفادة كان لها عدة صور:
الصورة الأولى: التصريح بالقائل، مع إيراد قوله معلقا.
ومن ذلك ما ذكره بقوله: قَالَ مُجَاهِدٌ: « { بالدين } [الانفطار: 9]: بِالحِسَابِ، { مدينين } [الواقعة: 86]: مُحَاسَبِينَ».
الصورة الثانية: عدم التصريح بالقائل، وذكر نصَّ قوله.
قال البخاري: { الدين }: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
وأصل تفسير الدين بالجزاء أصله عند أبي عبيدة (ت: 210) في مجاز القرآن، قال: «{ الدين }: الحساب والجزاء، يقال فى المثل: كما تدين تدان».
الصورة الثالثة: عدم التصريح بالقائل، واختصار القول.
من ذلك ما أورده البخاري عند تعليله لسبب تسمية سورة الفاتحة بأم الكتاب، فقال: «أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي المَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ». قال الحافظ ابن حجر: «هو كلام أبي عبيدة في أول مجاز القرآن، لكن لفظه: «ولسور القرآن أسماء، منها: أن الحمد لله، تسمى أم الكتاب؛ لأنه يبدأ بها في أول القرآن، وتعاد قراءتها فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة. ويقال لها: فاتحة الكتاب؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف فتكتب قبل الجميع انتهى».
فبيَّن الحافظ بكلامه أصل النقل ومصدره، وأن اللفظ جاء عند البخاري مختصراً بما قد لا يوضح معناه.

المطلب الخامس: تكراره للحديث:
مما هو متقرر ومعلوم عن منهج الإمام البخاري في صحيحه، أنه يكرر الحديث، ويورده في عدة أبواب. ولكن هذا التكرار منه رحمه الله لا يخلو من فائدة؛ كاستنباط مناسب للباب الذي يترجمه، أو إيراده بإسناد آخر لتقويته، أو لبيان اختلاف في ألفاظ الحديث الواحد، وغير ذلك من فوائد.
وقد اعتنى العلماء بهذه الأحاديث، فألف محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني الحفيد (ت842) كتابه: «أنوار الدراري في مكررات البخاري».
وقد كرر الإمام البخاري حديث سعيد بن المعلى عدة مرات، أولها في كتاب التفسير، باب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [الأنفال:24]...الآية، ولكن من طريق روح عن شعبة به. وثاني: في كتاب التفسير باب قوله:{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [الحجر:87]، من طريق محمد بن جعفر غندر عن شعبة به. والثالث في كتاب فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب، من طريق يحيى بن سعيد عن الشعبي به.
ويلاحظ أن الاختلاف في تلامذة الإمام الشعبي، ومدار الحديث عليه، وكذا وقعت اختلافات في متن الحديث لا تغير في سياق القصة.
واتضح من تكرار البخاري للحديث؛ تنوع وجه استدلاله بالحديث الواحد، وإن كان وجه المناسبة في مواطن أظهر منها من مواطن أخرى.

يتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التفسير من مادة (فَسَرَ)، ومعانيها تدور حول الكشف والإيضاح والبيان. ينظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة (الفاء والسين والراء). ومعنى قولهم: فسر الكلام؛ أي: وضحه، وأبان عن المراد من كلام المتكلم.
وغلب استخدام لفظ (التفسير) على بيان معنى كلام الله، ولفظ (الشرح) على شرح كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى شرح الأشعار، وعلى شرح الكتب.
والذي يترجح لي أن المراد بتفسير القرآن: بيان معاني القرآن الكريم. ينظر: مفهوم التفسير والتأويل، لمساعد الطيار ص (53 - 88).
(2) وقد ذكر البخاري حديث ابن عمر في تحويل القبلة تحت «باب: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } إلى قوله: { إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:145]», والذي يظهر أن من مقاصد البخاري في تكرار حديث ابن عمر في شأن تحويل القبلة في عدد من الآيات التي صدَّرها في الترجمة، التنبيه على أن السياق كله في شأن تحويل القبلة.
(3) بل إرجاعه إلى أمر تحويل القبلة هو قول السلف الذين سبق =ذكرهم.
وهذا يُشعر بأن بعض شرَّاح البخاري لم يستفيدوا الاستفادة الدقيقة من التفسير الوارد عن السلف، كما لم ينتبهوا إلى أمر السياق، وأن صنيع البخاري في هذه الأبواب التي ذكر فيها حديث ابن عمر إنما هي إشارة إلى أن سياق الآيات متواصل في شأن تحويل القبلة. والله أعلم.
 
للرفع
جزاك الله خيراً يا دكتور
لو تتم الموضوع لكان خيراً كثيراً إن شاء الله
 
بحث تثوير علوم القرآن من خلال كتاب التفسير من صحيح البخاري

بحث تثوير علوم القرآن من خلال كتاب التفسير من صحيح البخاري

المبحث الثاني: مصادره في تفسير الفاتحة
المفسر يرجع إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وإلى كلام العرب، وإلى الأحوال المتعلقة بالنزول.
وهذه المراجع هي التي رجع إليها الصحابة والتابعون وأتباعهم، ثم صارت في تفاسيرهم فانتظم تفسيرهم، مرجعًا لمن جاء بعدهم، أيضًا.
ولو رجعت إلى التفاسير التي جاءت بعد الصحابة، فإنك لا تجد غير هذه المعلومات في تفسيرهم، وما زادوه من نحو وبلاغة وغيرها، فإنه يعود إلى أحد هذه المصادر في نهاية الأمر، وإنما استقلَّت وصارت علومًا بعد عصرهم.
ومما تجدرُ الإشارة إليه – وهو من الأهمية بمكان – أن مصادر السلف واحدة، ومنهجهم واحد، وليسوا كما يصوِّره بعضهم أنهم مدارس متباينة، لا، بل هم مدرسة واحدة متفقة في المنهج والمصدر، واختلاف الواحد منهم عن الآخر في الاستزادة من مصدر دون غيره لا يمثِّل اختلافًا منهجيًا حتى نجعلهم في مدارس متباينة.
ومهما اختلفت عباراتهم في التعبير عن تفسير لفظة أو جملة، فإن كثيرًا منها يأتلف في نهاية الأمر على معنى كليِّ واحد يدركه من كان له دِربة في التعامل مع أقوالهم، وكان ضابطًا لمعاني الكلام العربي.
والذي نحن بحاجة إليه في مقام هذا الإمام العظيم أن نعتني بمصادره، ونستجلي طريقته في استفادته منها، وطريقته في الانتقاء من هذه المصادر، فإنه إما أن يختار من متعدد في الأقوالِ، وإما أن يترك بعض المفردات لا يعرج عليها، ويختار غيرها فيذكرها.

المطلب الأول: النظائر القرآنية:
أ) المراد بالنظائر:
هي الألفاظ القرآنية التي لها معنى واحد في أكثر من آية (1).
ب) مثالها في حديث الباب:
قال البخاري: « وَالدِّينُ: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِوَالشَّرِّ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بِالدّيِنِ} (الإنفطار:9): بالحساب، {مَدِينِينَ}(الواقعة:86):مُحَاسَبِينَ».
ج) وجه استفادته من هذا المصدر في الباب:
أن الإمام البخاري جعل لفظة {الدّيِنِ}في الفاتحة، وفي التين والانفطار بمعنى واحد، وأضاف ما يدخل معها في الاشتقاق، وهو لفظ
(مَدِينِينَ)، وعلى هذا جرى عمل مؤلفي (الوجوه والنظائر) حيث لا يراعون مطابقة الكلمة للكلمة (4)، وإنما قد يدخلون فيها ما يقع من الاشتقاق الأصغر.
وهذا النوع من العلم قد عُني به البخاري في غير ما موطن، كما أشار إلى ذلك الباحث في منهجه في التفسير (2).
فائدة وتتميم:
هناك نوع من العلم قلَّما وقعت العناية به، وهو: النظائر بين الكتاب والسنة، والبخاري أورد جملة من الأحاديث في كتاب التفسير، وهي من هذا الباب.
ويمكن أن يدخل في ذلك ما ذكره في حديث الباب من قولهصلى الله عليه وسلم: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ»، مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَكَ سَبْعًا مِّن الْمَثَانِى وَالْقرْآنَ الْعَظَيمَ} (الحجر:87)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم جعلها (أعظم سورة)، والقرآن جعلها (القرآن العظيم)، فبينهما مناسبة لفظية، والله الموفق.

المطلب الثاني: التفسير النبوي.
أ) المراد بالتفسير النبوي:
هو بيان النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية مباشرة، بخلاف ما لو قال كلامًا لم يربطه بالآية، ثم قام المفسر بربط الحديث بالآية، فذاك نوع من استفادة المفسر من مصدر من أهم المصادر، وهو السنة النبوية.
ب) مثالها في حديث الباب:
ورد حديث أبي سعيد بن المعلى في الباب تفسيرين نبويين:
التفسير الأول: تفسيره لمعنى الاستجابة في قوله –تعالى–:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).
فعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).
التفسير الثاني: تفسيره لآية سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(الحجر:87) بأنها من أسماء الفاتحة أو أوصافها.
ففي الحديث السابق قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن المعلى رضي الله عنه: (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ). ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ:({الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الفاتحة:2)، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ).
ج) وجه استفادته من هذا المصدر في الباب:
ووجه استفادته في المثال الأول: أنه جعل مطلق ندائه يدخل في مراد الآية. والرسول صلى الله عليه وسلم نبَّه على دخول ندائه الخاص في المراد من الآية.
ويظهر من الحديث أن أبا سعيد يعرف الآية، وتأخره عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيه احتمالان:
الأول: أنه لم يفهم أن في هذه الآية وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في ندائه الخاصِّ.
الثاني: أن يكون هذا المعنى معروفًا عنده من الآية، لكنه غفل عنه، إذ إنه أكمل صلاته، وهي تطوع، وترك إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وهي واجبة.
وأما وجه استفادته في المثال الثاني: فهو تفسير نبوي صريح، وهو يدلُّ على أن العطف عطف صفات، وليس عطف تغاير.

المطلب الثالث: تفسير التابعين.

أ) المراد بتفسير التابعين:
بيان معاني القرآن الكريم بأقوال التابعين.
والتابعي: من لقي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، ويضاف في مفسريهم: وأخذ عنهم العلم.
ب) مثاله في حديث الباب:
قال البخاري: «قالَ مُجَاهِدٌ: {بِالدّيِنِ}(الإنفطار:9): بِالحِسَابِ، {مَدِينِينَ}(الواقعة:86): مُحَاسَبِينَ».
ج) وجه استفادته من هذا المصدر في الباب:
يظهر جليًا من تصريح البخاري استفادته تفسير {الدّيِنِ} من مجاهد رحمه الله، والبخاري كثيرا ما ينقل في كتاب التفسير عن مجاهد وغيره، مصرحًا باسمهم، وقد ينقل عن التابعين تفسير لفظة من القرآن دون التصريح باسمهم (4).

المطلب الرابع: التفسير اللغوي.

أ) المراد بتفسير اللغوي:
بيان معاني القرآن الكريم بمدلول مفرداته وتراكيبه في لغة العرب.
ب) مثاله في حديث الباب:
قال البخاري: «الدِّينُ: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ».
ج) وجه استفادته من هذا المصدر في الباب:
والبخاري نقل هذا التفسير من أبي عبيد معمر بن المثنى (ت: 210) في كتابه (مجاز القرآن).
ولم يكن البخاري رحمه الله بِدعًا في هذا الأمر، بل كان بعض المحدثين يستفيدون مما دوَّنه اللغويون، وينقلون عنهم بيان مفردات ألفاظ العرب ثقة منهم بنقلهم وفهمه، واعتمادًا منهم على تخصُّصهم في نقل اللغة، ولذا تجد أنَّ اسمين من أسماء اللغويين تكثر في كتب التفسير وكتب (غريب الحديث)(5)، وهما الفراء (ت: 207)، وأبو عبيدة (ت: 210).
وهذا المنهج سلكه البخاري، فاستفاد منهما في مواطن من كتابه الصحيح، خصوصًا كتاب (التفسير).
والملاحظ أنه لم يكن يحرص على التصريح بأسمائهم، إلا فيما ندر (6)، مما يدعو إلى التساؤل عن سبب ذلك؟
وهذا النقل لا يُعدُّ كثيرًا بجانب الأصل العام للبخاري، وهو نقل الثابت من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذه تُعدُّ من مزايا البخاري في صحيحه، إذ أضاف هذه الفوائد التي لها علاقة بالموضوع الذي يذكره، وإن كان ينتقي، ولا يذكر ذلك في كل باب أو تحت كل حديث.
* * *

المبحث الثالث

أنواع علوم القرآن التي أوردها في سورة الفاتحة
إن ستنطاق الأحاديث النبوية في مسائل العلم، واستنباطها منه مجال رحبٌ، وقد يغفل عنه طالب العلم وهو يقرر بعض المسائل العلمية.
وسأذكر ههنا بعض أنواع علوم القرآن التي دلَّ عليها حديث أبي سعيد بن المعلى الذي ذكره البخاري في المباحث الآتية.
المطلب الأول: علم غريب القرآن.
يُقصدُ بغريب القرآن: تفسير ألفاظ القرآن من جهة لغة العرب.
وقد شاع هذا الاستعمال، واستخدمه العلماء في كتبهم التي ألفوها في هذا الشأن.
1 – أورد البخاري في تفسيره لسورة الفاتحة معاني بعض الكلمات الغريبة مثل قوله: «وَالدِّينُ: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» .
2 – تفسير الدين بالجزاء أصله عند أبي عبيدة (ت: 210) في مجاز القرآن، قال: {الدّيِنِ}:
الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان».
وجلُّ مادة تفسير المفردات القرآنية من جهة اللغة أخذه عن يحيى بن زياد الفراء (ت: 207)، وعن معمر بن المثنى (ت: 210). وهو ناقل منهما، ومفيد مما كتبوه، وليس له فيها تحرير مستقلٌ.
3 – البخاري لم يكن له رأي خاص في اللغة، خلافاً لمن ادعى ذلك(7)، فهو ناقلٌ في أغلب أحواله، ثقة منه بالمنقول عنهم من جهة اللغة.
تتميم:
لهذين الكتابين منزلة كبيرة عند العلماء، وقد نقلوا منهما كثيرًا، ونجد ذكرهما والنقل عنهما يتردد في بعض كتب التفسير التي اعتنت بآثار السلف؛ كتفسير الطبري (ت: 310)(8)، وتفسير ابن المنذر (ت:318)(9)، وتفسير الثعلبي (ت: 427)(10).

المطلب الثاني: علم أسماء السور.

1 – أشار الإمام البخاري إلى اسمين لها، فقال: «بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الكِتَابِ، وَسُمِّيَتْ أُمَّ الكِتَابِ...».
2 – من طريقة البخاري في العناوين التي يصدر بها أحاديث السورة ما يأتي:
الأول: أن يصدرها تحت عنوان «باب»، كما ههنا، قال: «بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الكِتَابِ»، «باب سورة المائدة»، «باب سورة الروم»(11).
الثاني: أن يصدر تفسير السورة بلقبها دون ذكر لفظة «باب»، كقوله: (سورة البقرة، سورةآل عمران...) إلخ، أو بحكاية أول السورة؛ كقوله: (سورة إنا أعطيناك الكوثر).
3 – لم يُعن البخاري بتعديد أسماء السور، وإنما جاء ذلك في سورة الفاتحة فذكر اسمها، وزاد عليه اسمًا آخر، وهذا تصريح منه باسمين من أسماء الفاتحة التي تحظى بعدد كثير من الأسماء التي بلغت أكثر من عشرين اسم عند بعض العلماء.
ولكننا لا نجد هذا في غير هذا الموضع.
4 – قلَّما يورد خبرًا يتضمن اسم السورةٍ (12)، فمع أنه روى هذا الاسم الذي صدَّر به عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يورده هنا، فقد روى عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وهذا الاسم الوارد في هذا الحديث هو الذي صدَّر به تفسير سورة الفاتحة.
5 – وفي تفسير سورة الفاتحة علَّل البخاري لهذه التسمية (13)، فقال: « أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي المَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ»، لكن هذا لا يكاد يوجد في غيرها، والله أعلم.

المطلب الثالث: علم فضائل السور.

1 – فضل القرآن، أو فضائل القرآن نوع من أنواع علوم القرآن التي كتب العلماء فيها كتبًا مستقلة، كما ضمَّنوه بعض كُتبهم، ومنهم البخاري الذي خصَّ «فضائل القرآن» بكتاب من صحيحه جعله بعد «كتاب التفسير».
2– قد أورد البخاري هذا الحديث «حديث أبي سعيد بن المعلى» في فضل سورة الفاتحة من كتاب «فضائل القرآن»، وهو ألصق به من كتاب التفسير.
3– المستقرئ لما كتبه العلماء من أحاديث فضائل القرآن أو سوره وآيه يمكن أن يقسم أنواع الفضائل التي أدخلوها إلى ما يأتي:
الأول: ما يخص قراءته صلى الله عليه وسلم بزمن معين، كقراءة سورة الإخلاص في الوتر.
الثاني: ما يرتبُّ عليه من الأجر، كذكره لسورة الإخلاص بأنها تعدل ثلث القرآن.
الثالث: ما يرتب عليه من التأثير المحسوس، كالفاتحة التي قرأها الصحابي على اللديغ، فبرئ بإذن الله.
الرابع: ما يبين فضيلته العامة، كذكره صيغة «أفعل»، ومنه قوله هنا: (أعظم سورة).
وفضائل السور والآي منها ما هو صحيح؛ كهذا الحديث، ومنها ما هو ضعيف.
4– في الحديث إشارة لمسألة تفاضل سور القرآن وآياته. قال العلامة ابن الملقن: «فيه دلالة على فضيلة كلام الله بعضه على بعض، وهو الصواب».وقال الحافظ ابن حجر: «واستدل به على تفضيل بعض القرآن على بعض».

المطلب الرابع: علم المكي والمدني.

ذهب جماهير أهل العلم إلى أن سورة الفاتحة مكية، وذهب بعضهم إلى أنها مدنيَّة، وقد دلَّ حديث أبي سعيد بن المعلى على أن سورة الفاتحة مكية؛ لأن الله امتنَّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بها فيما مضى من زمنٍ قبل نزول قوله – تعالى –: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(الحجر:87)، وسورة الحجر مكية، ومن ثمَّ فإن نزول السورة التي امتن الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم تكون قبل نزول هذه الآية؛ لذا لا يمكن أن تكون مدنية، والله أعلم (14).
وهذه الآية أحد حجج من أثبت مكيتها.
وبهذا يكون حديث أبي سعيد بن المعلى قد أشار إلى علم المكي والمدني، والله أعلم.

المطلب الخامس: علم عد الآي.
1 – علم عدِّ الآي من أنواع علوم القرآن التي اعتنى العلماء بها، وألفوا فيه المؤلفات، وقد أشار هذه الحديث إلى هذا العلم، بل يمكن أن يُجعل أصلاً في باب علم عدِّ الآي، ووجه الدلالة من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر السبع المثاني بأنها الفاتحة، وهي سبع آياتٍ.
2 – بناء على تفسيره صلى الله عليه وسلم في الحديث، فإن الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(الحجر:87)أصل في علم عدِّ الآي.
وهذا يعني أن بعض أنواع علوم القرآن يمكن إيرادُ أصلٍ لها من الكتاب والسنة، أو من أحدهما.
3– يمكن أن يُستنبط من هذا الموضع أن الإمام البخاري يرى أن الآية السادسة في سورة الفاتحة هي قوله –تعالى–: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}، وأن ابتداء الآية السابعة بقوله:{غَيرِالمَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.

وهذا هو عدُّ أهل المدني الأول والمدني الثاني والبصري والشامي. قال الداني (ت: 444): «الحمد... وهي سبع آيات في جميع العدد.
اختلافها آيتان {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}عدَّها المكي والكوفي، ولم يعدها الباقون.
{أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} لم يَعُدَّها المكي والكوفي، وعدها الباقون».
ومما يشير إلى أن هذا مذهبه أمران:
الأول: أنه كما سبق – فصَل البسملة في أول حديثه عن تفسير الفاتحة، فقال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}:
اسْمَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالعَلِيمِ وَالعَالِمِ.
بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الكِتَابِ»، ففسَّر البسملة، ثم ابتدأ بالفاتحة.
ويساعده على هذا نصُّ الحديث الذي أورده عن أبي سعيد بن المعلى، قال: «... قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟
قَالَ: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».
ولو كانت البسملة آية من الفاتحة لبدأ بها،، فبداية السورة فيه {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الثاني: أنه قال ههنا «بَابُ {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}».، وكأنه يشير إلى أنها جملة آيةٍ واحدة، ولم يكتف بقوله:
{وَلاَ الضَّالِّينَ}، والله أعلم.
* * *

الخاتمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فبعد هذا العيش بين بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أصحِّ كتب السنة، ومع نفائس الإمام البخاري ~ لاستنباط مسائل علوم القرآن، ظهر لي حاجتنا الماسة للرجوع إلى هذا الكتاب بالذات لاستخلاص هذه المسائل منه، وللاستفادة منه أجلَّ استفادة؛ إذ فيه كنوز دفينة، فمن أتى إليها بقدر ما عنده من تأسيس في علوم القرآن، ووهبه الله قدرة على الاستنباط، فإنه سيجد ثروة من المعلومات في علوم القرآن تفيده في مجال التطبيق على أنواع علوم القرآن التي ذكرها الأئمة السابقون؛ كالزركشي (ت:794) في كتابه «البرهان في علوم القرآن»، والسيوطي (ت: 911) في كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، وغيرهما.
وأرجو أن أكون قد وُفِّقت في أن يكون هذا المقال أنموذجًا للفكرة التي أردت عرضها. وأسأل الله القبول والتوفيق.
ثم إني بعد كتابة هذا البحث انتهيت إلى عدد من النتائج والتوصيات.
وخلصت إلى عدة نتائج من أهمها:
1 – أن الحاجة ماسة إلى استنطاق الآثار لتعزيز مسائل علوم القرآن وأصول التفسير.
2 – أن الإمام البخاري صاحب اختيار في التفسير.
3 – أن الإمام البخاري استفاد كغيره من المفسرين في باب النقل من مرويات المفسرين ومن كتب اللغويين.
4 – أن الحاجة لا تزال قائمة في إبراز منهج الإمام البخاري زيادة على ما قام به الباحثون، إذ إن هناك ما لم يتم التنبيه عليه عندهم.
وكان من أبرز التوصيات التي ظهرت لي من خلال هذا البحث:
1 – أن يعمد الدارسون لعلوم القرآن وأصول التفسير إلى الجانب التطبيقي من خلال الآثار النبوية وغيرها من تفسيرات الصحابة والتابعين.
2 – أن تخص كتب التفسير من كتب الصحاح والسنن بالدراسة، ففيها فوائد جليلة لا تظهر إلا بالاستقراء والتحليل لهذه الكتب.
3 – أن تتابع الدراسة لمناهج الأئمة المسندين الذي عُنوا بالتفسير من خلال كتبهم التي ليست في التفسير.
هذا ما يسر الله كتابه، والحمد لله رب العالمين.
* * *​

ـــــــــــــــــــــ
(1) ذكر مقاتل في كتابه: الوجوه والنظائر المادة رقم (82) النشور في أربعة أوجه، وفي الوجه الثالث ذكر عددًا من النظائر، فقال: «والوجه الثالث: النشر يعني البسط، فذلك قوله في عسق: {وينشر رحمته }(الشورى: 28)، يقول: ويبسط رحمته، وهو المطر؛ كقوله في الكهف:{وينشرلكم ربكم من رحمته}(الكهف: 16)، يقول: يبسط لكم من رزقه، وقال في الفرقان: {وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} (الفرقان: 48)، يقول: يبسط الرياح والسحاب للمطر، نظيرها في الأعراف. وقال في النمل: {يرسل الرياح بشراً}(النمل: 63)، يبسط السحاب قدام المطر، وقال في الروم: {ثم إذآ أنتم بشراً تنتشرون}(الروم: 20)، يعني: تبسطون». الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته (208 ـ 209).
تنبيهان:
1 – جاءت بعض الآيات على غير قراءة حفص.
2 – ينظر في التنبيه على اسم كتاب مقاتل: (التفسير اللغوي للقرآن الكريم) للدكتور مساعد الطيار ح (2)، ص (89 ـ 90).
(2) ينظر: منهج الإمام البخاري في التفسير من خلال كتاب الصحيح، لسيد أحمد خطري ص (297).
(3) تتميم: اختلف أهل التأويل في السبع المثاني على أقوال:
الأول: السبع السور من أوّل القرآن اللواتي يُعْرفن بالطول. وقد ورد عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك.
الثاني: هن آيات فاتحة الكتاب؛ لأنهنّ سبع آيات، وقد ورد عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، ورواية عن ابن عباس، ويحيى بن يعمر، وأبي فاخته، وأبي بن كعب، وأبي العالية. ورواة عن الضحاك، وسعيد بن جبير، وإبراهيم وعبدالله بن عبيد الله بن عمير، وابن أبي مليكة، وشهر ابن حوشب، والحسن. ورواية عن مجاهد، وقتادة، وخالد الحنفي قاضي مرو.
الثالث: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبَشرْ، وأنذِرْ، واضرب الأمثال، واعدُد النعم، وآتيتك نبأ القرآن، وورد عن زياد بن أبي مريم.
الرابع: السبع المثاني هو القرآن العظيم، وورد عن أبي مالك غزوان الغفاري وطاووس اليماني ([1]).
ولا شكَّ أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم@ هو المقدَّم، ويظهر أن من فسَّر بغير تفسيره لم يبلغه التفسير النبوي، فذهب إلى معانٍ صحيحة لو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم فيها قول:
فالفاتحة تسمَّى مثاني؛ لأنها تثنَّى في كل ركعة.
والسبع الطوال مثاني، لأنها تثنى فيه المعاني.
والقرآن كله مثاني، إذ ورد وصفه بهذا في قوله – تعالى -:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر: 23)، والمعاني تُثنَّى فيه.
(4) الاكتفاء في تعريف التابعي بالتقائه بالصحابي هو مذهب جمهور المحدثين. ينظر تفصيله في: تدريب الراوي، للسيوطي (2/263-264).
(5) من أمثلتها ما أشار إليه البخاري - في كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف رِجالًا وركبانًا -، في معنى قوله –تعالى-:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ}(البقرة: 239): قال: راجلٌ: قائم. يشير لقول مجاهد في الآية. أشار لذلك الحافظ ابن حجر، ينظر: فتح الباري: (3/245-246).
(6) مثل غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224)، ينظر: (1/7، 9، 10، 71، 87، وغيرها)، وغريب الحديث، لأبي إسحاق إبراهيم الحربي (ت: 285)، ينظر: (1/4، 25، 59، 130، 163، وغيرها).
(7) ورد ذكر الفراء باسمه يحيى في موضع، قال: «قال يحيى: {وَالظَّاهِرُ} (الحديد: 3): على كل شيء علما، {وَالْباطِنُ}(الحديد: 3): على كل شيء علما».
وذكر أبا عبيدة باسمه في موضع، قال: «وقال معمر: أولياء موالي، وأولياء ورثة».
(8) قاله سيد أحمد الإمام بن خطري: «وقد كان مجاز القرآن لأبي عبيدة ومعاني القرآن للفراء متغلغلين في حافظة الإمام البخاري فأفرغ منهما في صحيحه كمية كافية، وتكاد تكون الجوانب اللغوية التفسيرية في الجامع هي مادة الكتابين غير أن البخاري هذَّب كلا منهما واختصره اختصارًا، بيد أنه غلبت عليه الاستقلالية العلمية والنزعة الاجتهادية؛ لذا نراه يخالف أبا عبيدة والفراء من عدم الإكثار من الاستشهاد بالشعر في التفسير، وخالف أبا عبيدة والشافعي في كون القرآن يحتوي على ألفاظ غير عربية». رسالة ماجستير (منهج الإمام البخاري في التفسير من خلال كتاب الصحيح) ص (403).
وهذا الكلام فيه نظر، فالبخاري لم يهذِّب كلامهما، كما هو المعروف من الحال في التهذيب، وإنما كان ينتخب من كتابيهما ما يصلح له في صحيحه، ولم تظهر من خلال ذلك تلك النزعة الاستقلالية الاجتهادية التي يشير إليها الباحث، وعدم إكثاره من الشعر لا يعني عدم موافقته لهما، بل لطبيعة كتابه، فهو ليس كتاب تفسير كما هو المعهود من كتب المفسرين، وإنما هو في المسند إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فكيف يريد منه الباحث أن يكون مع الاستشهاد بالشعر أو غيره كالتوسع في مسائل اللغة والنحو وغيرها، وهل سيؤاخذه عليها لتركه لها، أم سيجعلها محمدة له كما فعل هنا؟.
ولاشكَّ أن الأمر لا يعدُّ من هذا ولا من ذاك، والصحيح أن البخاري في هذا ناقلٌ في أغلب أحواله، ثقة منه بالمنقول عنهم من جهة اللغة، وليس وراء ذلك سِرٌّ آخر، والله أعلم.
(9) كان الطبريُّ كوفيًّا في أصوله النحوية اللغوية، وكان يُجِّل كتاب معاني القرآن للفراء (ت: 207)، وقد نقل منه كثيرًا، وكان ينسب نقله عنه تحت رسم «بعض نحويي الكوفة»، لكنه لم يكن يرض قوله إذا خالف السلف الكرام، ينظر تفسيره لقوله – تعالى -: {لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} (الغاشية: 11). وأما أبوعبيدة فقد نقل عنه كثيرًا تحت رسم «بعض لغويي البصرة»، وكان يعترض عليه في بعض تفسيراته اللغوية، ينظر تفسيره لقوله تعالى:{وَفِيه يَعْصِرُونَ}(يوسف: 49).
(10) أما كتاب الفراء فهو أحد مصادر الثعلبي من كتب المعاني في تفسيره، وقد رواه بسنده عن الفراء، ونسخته هي نسخة السُّمَّري المطبوعة، مقدمة الكشف والبيان (110). وأما كتاب مجاز القرآن فجعله في كتب الغريب والمشكلات، وروه بسنده عن أبي عبيد، مقدمة الكشف والبيان (117). مقدمة الكشف والبيان، للثعلبي.
(11) لا يخفى على من يطلع على صحيح البخاري؛ اختلاف النسخ في حكاية مثل هذا، وما ذكرته هو على أحد هذه النسخ، وإلا فإن في بعضها (باب تفسير سورة المائدة).
(12)مما ورد عنه من هذا، ما أسنده في سورة الإسراء، قال: «سورة بني إسرائيل:
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عبدالرحمن بن يزيد، قال: سمعت ابن مسعود >، قال: «في بني إسرائيل، والكهف، ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي».
(13) لم يكن من عناية البخاري التعليل لأسماء السور، وإنما أورد هذا التعليل في سورة الفاتحة تبعًا – فيما يظهر – لأبي عبيدة معمر بن المثنى الذي قال في موطنين:
الأول: «ولسور القرآن أسماء: فمن ذلك أن «الحمد لله» تسمّى «أم الكتاب»، لأنه يبدأ بها في أول القرآن، وتعاد قراءتها، فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة، ولها اسم آخر يقال لها: فاتحة الكتاب؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف، فتكتب قبل القرآن». مقدمة مجاز القرآن (1/5).
والثاني: «أمّ الكتاب: مجاز تفسير ما في سورة «الحمد» وهى «أم الكتاب»؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف قبل سائر القرآن، ويبدأ بقراءتها قبل كلّ سورة في الصلاة ». مجاز القرآن (1/20).
قال ابن حجر: «وسميت أم الكتاب أنه «بفتح الهمزة» يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة». هو كلام
أبي عبيدة في أول مجاز القرآن، لكن لفظه: ولسور القرآن أسماء، منها أن الحمد لله تسمى أم الكتاب؛ لأنه يبدأ بها في أول القرآن، وتعاد قراءتها، فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة، ويقال لها: فاتحة الكتاب؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف، فتكتب قبل الجميع انتهى». فتح الباري (8/156).
(14) قال القرطبي: «اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي، واسمه رفيع وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية. ويقال: نزل نصفها بمكة، ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والأول أصح؛ لقوله – تعالى -:{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(الحجر:87)، والحجر مكية بإجماع». الجامع لأحكام القرآن (1/115).
 
أنوه بأن هوامش البحث اقتصر فيها على ما فيه تنبيه أو إضافة مهمة حسب اجتهاد بعض الإخوة، ويمكن تحميل البحث بجميع حواشيه من هنا:
 
هل سيكمل الشيخ البحث أم أن فضيلته قرر أن يتوقف عند هذا الحد ؟؟ يعني في صحيح البخاري تفسير غير سورة الفاتحة، فهلا أكمل فضيلته التفسير في كل صحيح البخاري بدلاً من الاقتصار على سورة الفاتحة كأنموذج فقط ؟ فإن أسلوب فضيلته أكثر روعة من أن يترك تكملة الموضوع لغيره ، فضلاً عن أن أي بحث يزداد جمالاً عندما يكون كاتبه واحد بأسلوب واحد بطريقة واحدة بدلاً من أن يكون كل جزء مكتوب بطريقة لكونه صادر عن عدة باحثين
 
هل سيكمل الشيخ البحث أم أن فضيلته قرر أن يتوقف عند هذا الحد ؟؟ يعني في صحيح البخاري تفسير غير سورة الفاتحة، فهلا أكمل فضيلته التفسير في كل صحيح البخاري بدلاً من الاقتصار على سورة الفاتحة كأنموذج فقط ؟ فإن أسلوب فضيلته أكثر روعة من أن يترك تكملة الموضوع لغيره ، فضلاً عن أن أي بحث يزداد جمالاً عندما يكون كاتبه واحد بأسلوب واحد بطريقة واحدة بدلاً من أن يكون كل جزء مكتوب بطريقة لكونه صادر عن عدة باحثين

ليس من هدف الشيخ استقصاء سور القرآن، وإنما الإشارة إلى منهج تثوير علوم القرآن واستنباطها من كتب السنة وآثار المحدّثين، وهو باب غفلٌ قل من يلجه على أهميته وكثرة فوائده.
وفي اختيار سورة الفاتحة= أنموذجٌ على هذا المسلك يدلّ الشادي على ما وراءه، ويرسم للمتبع طريقا يترسمه إن رغب في المواصلة.
 
جزاكم الله خيرا فضيلة الشيخ الدكتور على العرض التحليلي لعلم التفسير والاستنباطي لعلم أصول التفسير واستخراج قواعده من ثنايا كتب السنة.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين اما بعد جزى الله تعالى خيرا الاستاذ الكريم مساعد الطيار على هذا الموضوع الثري ، قلت : الثري لانه يدل طالب العلم على التفكير والتثوير لكنوز العلم خاصة اذا كانت في سورة الفاتحة فأسرارها لا تنتهي...
الاخوة الكرام الاخوات الكرام هذا الموضوع بحاجة الى نقاش وتمحيص وببساطة أقول لكل من قرأه ويقرأه :
ما هي الفوائد المستخلصة من البحث ؟
والله تعالى اعلم .
 
عودة
أعلى