تبرئة الذمة بتحذير الأمة من الحسد

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
68
الإقامة
الدوحة - قطر
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحـده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا ؛ أما بعد :
فإن الإسلام قد اعتنى بالقلوب أيما اعتناء ، فوجه أهله إلى أن يصلحوا قلوبهم قبل أن يعملوا بجوارحهم ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم " ( [1] ) ؛ ولذلك قال الحسن - رحمه الله - لرجل استنصحه : داو قلبك ؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ( [2] ) .
وفي الصحيحين من حديث النعمان t أن النبي e قال : " ألا إن في الجسد مضغه ، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " ( [3] ) ؛ ولهذا يقال : القلب ملك الأعضاء ، وبقية الأعضاء جنوده ، ينبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيء من ذلك ، فإن كان الملك صالحًا كانت الجنود صالحه ، وإن كان فاسدًا كانت الجنود كذلك ؛ ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم ، قال سبحانه : ) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ( سورة الشعراء : 88 ، 89 ) ؛ وهو السليم من الآفات والمكروهات كلها ؛ وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته .
وفي مسند أحمد عن أنس t عن النبي e قال: " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " ( [4] ) ، والمراد باستقامة إيمانه : استقامة أعمال جوارحه ، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب : أن يكون ممتلئًا من محبة الله ، ومحبة طاعته ، وكراهة معصيته .
فنظرة الإسلام إلى القلب خطيرة ، لأن القلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة ، ويطمس بهجتها ، ويعكر صفوها ، أما القلب المشرق فإن الله يبارك في قليله ، وهو إليه بكل بخير أسرع ؛ فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما : قيل يا رسول الله ! أي الناس أفضل ؟ قال : " كل مخموم القلب ، صدوق اللسان " ، قيل : صدوق اللسان نعرفه ؛ فما مخموم القلب ؟ قال : " هو التقي النقي ، لا إثم فيه ، ولا غل ، ولا حسد " رواه ابن ماجة بإسناد حسن ( [5] ) .
ولقد نظرت في أدواء القلوب ، فوجدت أن الحسد من أعظمها ، بل هو سبب في كثير من أمراض القلب ، التي تبعد القلب عن الخير ، لأنه يشكل حجابًا كثيفًا يحجب صاحبه عن رؤية الحق ، ويصرفه إلى تمني زوال النعمة عن أصحاب النعم ، وحسبك بذلك شرًا ودناءة ؛ ولذلك يقول النبي e : " لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا " ( [6] ) .
إنه داء الأمم ... هكذا سماه النبي e ؛ فالحسد داء قلبي خطير ، ما انتشر في مجتمع إلا كان سببًا في هلاك أهله ، بل هو سبب في إهلاك الحاسد إلا أن يتوب ، وقد لا يضر المحسود شيئًا .
واعلم - رحمني الله وإياك - أن الحسد خلق ذميم ، مع إضراره بالبدن وإفساده للدين ، حتى لقد أمر الله بالاستعاذة من شره فقال تعالى : ) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( [ سورة الفلق : 5 ] ؛ وناهيك بحال ذلك شرًّا ([7] ) .
وغالبًا ما يتولد الحسد من الحقد ، والحقد ناتج عن الغضب ، وقد أحس الناس منذ القديم - حتى في جاهليتهم - أن الحقد صنعة الطبقات الدنيا من البشر ، وأن ذوي المروءات يتنزهون عنه ... قال عنترة :
لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وقال آخر :
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا ... يُرمى بصخرٍ فيلقي خير أثمار

ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى ، فهو من وجه غاية البخل ؛ لأن الحاسد يبخل بمال الله ، والبخيل يبخل بمال نفسه ، ولذلك قيل : الحاسد بخيل بما لا يملكه .
ومن وجه هو من أظلم الظلم ؛ لأن الحاسد يظلم غيره في إزالة حاله ، ويسيء الأدب مع ربه فيما قدره وذلك ظلم عظيم .
والحسد ضرب من الحماقة ؛ لأن اغتمام الحاسد بما يناله ذووه وأهل بلده يقتضي أنه ربما يغتم بما يناله أهل الصين والهند . على أن الخير الذي يناله ذووه وأقاربه هو أنفع له مما يناله الأباعد .
ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق ذميم يتوجه نحو الأكفاء والأقارب والأصدقاء ، لكان التنزه عنه محمدةً ، والاتصاف به منقصة ، فكيف وهو بالنفس مضر ، وعلى الهم مصر ، حتى لربما أفضى بصاحبه إلى التلف ، من غير نكاية في عدو ، ولا إضرار بمحسود. ولذلك قال معاوية t : ليس في خصال الشر أعدل من الحسد ، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود.
واعلم أنه بحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الحاسدين له ، فإن كثر فضله كثر حساده ، وإن قل قلوا ، لأن ظهور الفضل يثير الحسد ؛ وقد قال e : " استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود " ( [8] ) ، ولذلك قيل: إذا سرَّك أن تسلم من الحاسد فعمِّ عليه أمرك .
وقال الشاعر:
حسدوا النعمة لما ظهرت ... فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة ... لم يضرها قول أعداء النعم
وقال آخر:
جامل عـدوك ما استطعت فإنه … بالرفق يُطمع في صلاح الفاسدِ
واحذر حسودك ما استطعت فإنه ... إن نمت عنه فليس عنك براقدِ
إنَّ الحسـود وإنْ أراك توددا ... منه أضـرُ من العدو الحـاقدِ
ولربما رضـي العـدو إذا رأى ... منك الجميل فصار غير معاندِ
ورضا الحسود زوال نعمتك التي ... أوتيتها من طـارف أو تالـدِ
فاصبر على كيد الحسـود فناره ... ترمي حشاه بالعذاب الخالـدِ
أوَ ما رأيت النار تأكـل نفسها ... حتى تعـود إلى الرماد الهامـدِ
تصفو على المحسـود نعمة ربه ... ويذوب من كمدٍ فؤاد الحاسدِ
ولو علم العاقل أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ؛ هذا مع هم دائم ، وحرقة مهلكة ، بانشغاله بزوال نعمة المحسود ، لكان أبعد الناس عنه .
ولو علم العاقل أن الحسد كان سببًا في هلاك الأمم والأفراد قبلنا ؛ وأن أول معصية في السماء كانت بسبب الحسد ، عندما أبى إبليس - عليه اللعنة - أن يسجد لآدم حسدًا واستكبارًا ؛ فكان ذلك سبب هلاكه ، وأن أول معصية في الأرض كانت بسبب الحسد ، يوم أن حسد ابن آدم أخاه فقتله فأصبح من النادمين ؛ لوقف على خطورة الحسد .
ولما كانت سلامة المجتمع دلالة على سلامة قلوب أهله ، أراد الإسلام لأهله أن يعيشوا سليمي القلوب تجاه إخوانهم ، فجاءت النصوص المحذرة من الحسد ، والناهية للمسلمين أن يتحاسدوا ؛ بل جعل الإسلام من علامات الإيمان تحاب أهله ، ولا يمكن أن يجتمع التحاب والحسد .
من هنا كانت هذه الرسالة ( تبرئة الذمة بتحذير الأمة من الحسد ) ؛ أسأل الله الكريم أن ينفع بها .
وبعد أن أوجزنا في بيان المقصود ، نشرع في تفصيله ، والله تعالى المسـتعان ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك علي النبي محمد وآله .


[1] - صحيح مسلم ( 2564 ) .

[2] - رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 152 .

[3] - البخاري ( 52 ، 2051 ) ، ومسلم ( 1599 ) ، ورواه أحمد : 4 / 270 ، 274 ، والترمذي (1205) ، وابن ماجة ( 3984 ) ، والدارمي ( 2527 ) من حديث النعمان بن بشير t .

[4] - المسند : 3 / 198 ، بإسناد جيد ، ورواه الطبراني في الكبير : 10 / 227 .

[5] - ابن ماجة (4216) ، وانظر صحيح الجامع : 3 / 124 ، والترغيب والترهيب : 3 / 551.

[6] - رواه الطبراني في الكبير: 8 / 369 عن ضمرة بن ثعلبة ، وقال المنذري في الترغيب : 3 / 547: رواته ثقات ، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 78 .

[7] - انظر ( أدب الدنيا والدين ) للماوردي .

[8] - رواه الطبراني وابن عدي واليهقي في الشعب عن معاذ ، وروي عن عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع : 1 / 320 ( 956 ) .
 
تعريف الحسد
الحسد هو : تمنى زوال نعمة الغير . وسواء في ذلك من تمنى زوالها وانتقالها إليه ، ومن تمنى زوالها وإن لم تصل إليه ؛ فكلاهما قبيح مذموم ، والثاني أشد ذمًا وقبحًا .
قال ابن تيمية - رحمه الله : والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود ، فإذا كان كراهة للنعمة عليه مطلقًا فهذا هو الحسد المذموم .. والحاسد ليس له غرض في شيء معين ، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع ، ولهذا قال من قال : إنه تمني زوال النعمة ، فإن مَنْ كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه ( [1] ) .
وأما الغبطة فهي : تمنى أن يكون له مثل منزلة الفاضل ، من غير أن تزول النعمة عنه ؛ وهي محمودة في اثنتين ، فعن عبد الله بن مسعود t قال : قال النبي e : " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " ( [2] ) . والمعنى : ليس حسد لا يضر إلا في اثنتين ؛ فهذا حسد منافسة وغبطة يدل على علو همة صاحبه ، وكبر نفسه وطلبها للتشبه بأهل الفضل.
وأما المنافسة فهي : السعي للوصول إلى ما وصل إليه غيره من الخير والفضل ، أو أن يكون أفضل منه ، دون أن يتمنى له الضرر ؛ وهي محمودة في الخير مطلقًا ، فالله تعالى يقول: ) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( [ المطففين : 26 ] .
فالمنافسة طلب تشبه بالأفاضل ، من غير إدخال ضرر عليهم ؛ وهي داعية إلى اكتساب الفضائل والاقتداء بالأخيار ، ونافس عمر بن الخطاب t أبا بكر t في الإنفاق ، فعند أبي داود والترمذي عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t قال : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ e يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي ، فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ " قُلْتُ : مِثْلَهُ ، قَالَ : وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ t بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ " قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ : لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا ( [3] ) .
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة ، لكن حال الصديق t أفضل منه، إنه خال من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره .

[1]- مجموع الفتاوى : 10 / 111، 112 .

[2] - أحمد: 2 / 9، 36، والبخاري (73، 1409، 7141، 7316)، ومسلم (816) ، وابن ماجة (4208) .

[3]- أبو داود (1678) ، والترمذي (3675) .
 
الفرق بين المنافسة والحسد
دائمًا ما توجد فروق دقيقة بين الصفات المتقاربة في التصور ، وقد تحدث أهل العلم عن الفرق بين المنافسة والحسد ؛ فقال ابن القيم - رحمه الله : والفرق بين المنافسة والحسد : أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهد من غيرك ، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه ، فهي من شرف النفس ، وعلو الهمة ، وكبر القدر ، قال تعالى : ) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( ؛ وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة ، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى ، وربما فرحت إذا شاركتها فيه ، كما كان أصحاب رسول الله يتنافسون في الخير ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه ، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه ، وهي نوع من المسابقة ، وقد قال تعالى : ) فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات ( [ البقرة : 148 ] .
والحسد خلق نفسٍ ذميمة ، وضيعه ، ساقطة ، ليس فيها حرص على الخير ، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها ، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم ، كما قال تعالى : ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ( [ النساء : 89 ] ، وقال تعالى : ) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( [ البقرة : 109 ] .
فالحسود عدو النعمة ، متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو ؛ والمنافس مسابق النعمة ، متمن تمامها عليه وعلى من ينافسه ، فهو ينافس غيره أن يعلو عليه ، ويحب لحاقه به ، أو مجاوزته له في الفضل ؛ والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان ، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة ، فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق ، فنافسه انتفع به كثيرًا ، فإنه يتشبه به ، ويطلب اللحاق به ، والتقدم عليه ( [1] ) .
فشتان بين المنافسة والحسد .. فما أجمل المنافسة ، وما أقبح الحسد .

[1] - انظر ( الروح ) : 251 ، 252 .
 
مراتب الحسد وحكمه
ذكر العلماء للحسد ثلاث مراتب :
الأولى : ما يكون في قلب المرء ولا يظهره ، بل يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ، لا بقلبه ، ولا بلسانه ، ولا بيده ؛ ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله تعالى ، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد ، إلا من عصم الله ؛ لأن النفس قد جبلت على حب الرفعة ، لا تحب أن يعلوها أحد من جنسها ، فإذا علا عليها ، شق عليها وكرهته ، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي . وهذا أمر مركوز في الطباع .
قال ابن رجب - رحمه الله : وهذا على نوعين : أحدهما : أنه لا يمكنه إزالة ذلك الحسد عن نفسه ، ويكون مغلوبًا على ذلك ؛ فلا يأثم به .
والثاني : من يحدث نفسه بذلك اختيارًا ، ويعيده ويبدئه في نفسه ، مستروحًا إلى تمني زوال نعمة أخيه ، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية ؛ وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء ، وقد رُوي عن الحسن - رحمه الله - عدم إثم صاحب هذه المرتبة ، وهو يحمل على النوع الأول ، والله أعلم ؛ وقد سئل - رحمه الله : أيحسد المؤمن ؟ فقال للسائل : ما أنساك إخوة يوسف ( [1] ) .
المرتبة الثانية : تمني زوال نعمة الغير .
قال ابن رجب- رحمه الله : والناس فيه أقسام ؛ فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ؛ ثم منهم من يسعى في ذلك إلى نفسه ، ومنهم من يسعى في إزالة النعمة عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه ، وهو شرهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه ، وهو كان ذنبإبليس ، حيث كانحسد آدم u لما رآه قد فاق على الملائكة ؛بأن الله خلقه بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة ، حتى أخرج منها ، ويُروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح : اثنتان أهلك بهما بني آدم : الحسد ، وبالحسد لعنت ، وجعلت شيطانًا رجيمًا ؛ والحرص ، أبيح آدم الجنة كلها فأصبت حـاجتي بالحرص .ا.هـ ( [2] ) .
قلت : وهذه المرتبة أجمع العلماء على أنها حرام مذمومة ، وعدَّها ابن حجر الهيثمي في ( الزواجر ) من الكبائر ، وهي من الكبائر باعتبار ما قد تفضي إليه من الكبائر مثل الغيبة والنميمة ، وقد توصل صاحبها إلى أكبر من ذلك مثل القتل ، كما فعل ابن آدم بأخيه ؛ كمـا أن فيه سوء أدب مع الحق سبحانه وتعالى ، لأن الحاسد يرى أن الله تعالى أنعم على من لا يستحق ؛ وقد أحسن الشاعر في قوله :

يا حاسـدًا لي على نعمـتي ... أتدري على من أسأت الأدب


أسـأت على الله في حكـمه ... لأنك لم ترضَ لي ما وهـب


فأخـزاك ربي بأن زادنـي ... وسـد عليك وجوه الطلب

وقد أخبر النبي e بأن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، فعن أنس t قال : قال رسول الله e : " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .. " رواه ابن ماجة ، وله شاهد عند أبي داود عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " أو قال : " العشب " ( [3] ) .
وقد نهى عنه النبي e فقال : "إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا .‏.." الحديث ، متفق عليه ([4]) .
والحسد يدل على مهانة الحاسد وعجزه ، وإلا فلينافس من حسده فذلك أنفع له من حسده ، كما قيل :

إذا أعجبتك خلال امرئ … فكـنه يكن منك ما يعجبك


فليس على الجود والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك

المرتبة الثالثة : حسد الغبطة :
وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود ، من غير أن تزول النعمة عنه ، وقد قال الله تعالى : ) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( ( المطففين : 26 ) ، وروى الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله e : " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار " ( [5] ) ، ورواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة t مرفوعًا : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له ، فقال : ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان ، فعملت مثل ما يعمل ؛ ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الـحق ، فقال رجل : ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان ، فعملت مثل ما يعمل " ( [6] ) .
فهذا حسد غبطة ، الحامل عليه كبر نفس صاحبه ، وحب خصال الخير ، والتشبه بأهلها ، والدخول في جملتهم ، وأن يكون من سباقهم وعليتهم ، لا من فساكلهم [ أي : سفلتهم ] ، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة ، مع محبته لمن يغبطه ، وتمني دوام النعمة عليه ( [7] ).
قال ابن تيمية – رحمه الله : فإن قيل إذًا لم سمى حسدًا ، وإنما أحب أن ينعم الله عليه ؟ قيل : مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير ، وكراهته أن يتفضل عليه ، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك ، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا ، لأنه كراهة تتبعها محبة ؛ وأما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيء ( [8] ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1]- جامع العلوم والحكم : 326 ، 327 ( دار الفكر ) .

[2]- انظر جامع العلوم والحكم ص 327.

[3] - ابن ماجة (4210) من طريق عيسى الحناط عن أبي الزناد ، وعيسى متروك ، لكن تابعه الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس به ، عند ابن عبد البر في التمهيد : 6 / 124، وأبو هلال عن قتادة عن أنس به في تاريخ بغداد : 2 / 227، وله شاهد عن أبي هريرة رواه أبو داود (4903) ، وابن عبد البر : 6 / 124، وآخر عن ابن عمر عند القضاعي في مسند الشهاب : 2 / 136 .

[4] - البخاري (6064، 6066)، ومسلم (2563) عن أبي هريرة .

[5] - البخاري: (5025، 7529)، ومسلم (815).

[6] - أحمد: 2 / 479، والبخاري (5026، 7232، 7528).

[7] - انظر بدائع الفوائد: 2 / 237.

[8]- مجموع الفتاوى: 10 / 113.
 
حقيقة الحسد
الحسد من الأمراض القلبية الخطيرة، وحقيقته شدة الأسى على الخيرات تكون للناس الأفاضل ؛ قاله الماوردي ( [1] ) . وقال ابن تيمية : والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود ا.هـ ([2]) .
فالحاسد عدو النعم ، عدو البشر ، لا يرتاح له بال إلا بزوال النعم عن أهلها ؛ ولهذا قال معاوية t : كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة ، فإنه لا يرضيه إلا زوالها .
وقال الشاعر :

كل العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد

والحاسد من أتباع إبليس ، لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس ، وزوال النعم عنهم ، فالحاسد إذًا من جند إبليس ، ولذلك تعينه الشياطين بلا استدعاء منه ؛ وقد روي عن علي t أنه قال : قال إبليس لجنوده : ألقوا بين الناس التحاسد والبغي ، فإنهما يعدلان الشرك ( [3] ) .


[1] - انظر ( أدب الدنيا والدين ) : 262 ( المكتبة الثقافية ) .

[2]- مجموع الفتاوى : 10 / 111 .

[3] - ذكره ابن عبد البر في ( بهجة المجالس ) : 1 / 409 .
 
متى يضر الحسد؟

ذهب بعض العلماء إلى أن الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود ، فيتتبع مساوئه ، ويطلب عثراته .
وذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أن نَفَسَ الحاسد يؤذي المحسود ويضره ؛ قال : وقد دل القرآن والسنة على أن نَفَسَ الحاسد يؤذي المحسود ، فنَفَسُ حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه ، وإن لم يؤذه بيده ولا بلسانه، فإن الله تعالى قال: )وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( ، فحقق الشر منه عند صدور الحسد ، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة ، ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدًا إلا إذا قام بالحسد ، كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك ، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد ، وهو غافل عن المحسود ، لاه عنه ، فإذا خطر على ذكره وقلبه ، انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ، ووجهـت سهام الحسد من قِبَلِه ، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك ، فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات ، والتوجه إلى الله والإقبال عليه ، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله ، وإلا ناله شر الحاسد ولابد ، فقوله تعالى : ) إِذَا حَسَدَ ( بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل ، وفي حديث أبي سعيد في رقية جبريل النبي e : " باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نَفْسٍ أو عين حاسد الله يَشْفيك " ([1]) ، فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد ، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها ، إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره ، لم يؤثر فيه شيئًا ، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسَمَّت واحتدت ، فصارت نفسًا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة ، فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نَفَس الحاسد ، فربما أعطبه وأهلكه ، بمنزلة من صوب سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا ، وربما صرعه وأمرضه ، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر .ا.هـ ([2]) .
وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم – رحمه الله - من أن نَفَس الحاسد وعينه تؤثران في المحسود ، يراد به الحاسد العائن ، وقد روى الجصاص في (أحكام القرآن) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : ) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( قال : من شر عينيه ونفسه ( [3] ) ؛ ورواه ابن المنذر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : نفس ابن آدم وعينه. كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي ( [4] ) .
والإصابة بعين الحاسد حقيقة واقعة ، فعن ابن عباس t قال : قال رسول الله e : " العين حق ، ولو سبق شيء القدر لكانت العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا " ([5]).
وجاءت الرقية من العين في أحاديث كثيرة ، منها :
ما أخرجه أحمد ومسلم عن أنس t قال : رخص رسول الله e في الرقية من العين والحمة والنملة ( [6] ) . وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها أن رسول الله e كان يأمرها أن تسترقي من العين ( [7] ) . وفيهما عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله e قال لجارية في بيتها رأى بوجهها سفعة ( صفرة ) : " بها نظرة ، فاسترقوا لها " ( [8] ) .
وروى أحمد ومسلم عن جابر t قال : رخص النبي e لآل حزم في رقية الحية ، وقال لأسماء بنت عميس : "ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة ، تصيبهم الحاجة ؟ " قالت : لا ، ولكن العين تسرع إليهم . قال: " ارقيهم "، فعرضت عليه ، فقال : " ارقيهم " ([9]) .
وعن سهل بن حنيف t قال: مررت بسيل فدخلت فاغتسلت فيه ، فخرجت محمومًا ، فنما ذلك إلى رسول الله e فقال : " مروا أبا ثابت يتعوذ " فقلت : يا سيدي ، والرقى صالحة ؟! قال : " لا رقية إلا في نفس ، أو حمة ، أو لدغة " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم ( [10] ) .
وفي رواية عند مالك وأحمد وابن ماجة أن الذي رآه فأصابه بعينه هو عامر بن أبي ربيعة ، وأن النبي e تغيظ عليه ، وقال : " علام يقتل أحدكم أخاه ؟ هلا بَرَّكت "، وفي رواية : " إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة "، ثم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ ؛ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وركبتيه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس ، ليس به بأس . وفي رواية : " إن العين حق ، توضأ له " ، فتوضأ له ([11]) . وفي رواية لعبد الرزاق في ( المصنف ) : قال: ثم أمره يغسل له ، فغسل وجهه ، وظاهر كفيه ، ومرفقيه ، وغسل صدره ، وداخلة إزاره ، وركبتيه ، وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء ، ثم أمر به فصب على رأسه ، وكفأ الإناء من خلفه - حسبته قال : وأمره فحسى حسوات ، فقام فراح مع الركب ([12]) .
فهذه الروايات تدل دلالة صريحة على أثر عين الحاسـد على المحسود ، ولذا جاء الاستعاذة منها في سورة الفلق ، والرقية منها في أحاديث النبي e .
ولا مانع أن يكون أثر نَفَسِ الحاسد من جنس أثر نظرة العائن ، كما ورد عن ابن عباس وقتادة ، ونصره ابن القيم، والعلم عند الله تعالى.


[1] - رواه أحمد : 3 / 28 ، 56، 58 ، ومسلم (2186) ، وغيرهما .

[2] - انظر بدائع الفوائد: 2 / 228، 229.

[3] - أحكام القرآن للجصاص: 3 / 478.

[4] - ونقله عنه: الشوكاني في فتح القدير: 5 / 530.

[5] - مسلم (2188)، والترمذي في الطب باب (19) (2066) وقال: حسن صحيح.

[6] - أحمد: 3 / 118، 119، 127، ومسلم (2196)، والترمذي في الطب باب (15) (2061)، وابن ماجة (3516)، والبغوي في شرح السنة (3244).

[7] - أحـمد: 6 /63، 138، والبخاري (5783)، ومسلم (2195)، وابن ماجة (3512).

[8] - البخاري (5739)، ومسلم (2197).

[9] - أحـمد 3 / 333، ومسـلم (2198)، وروى ابن أبي شيبة في المصنف (23591، 23593)، وأحمد: 6 / 438، وابن ماجـة (3510)، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4 / 327 حديث أسماء بنت عميس عنها.

[10] - أحمد: 3 / 486، وأبو داود (3888)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (1042)، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4 / 329، والحاكم: 4 / 413 وصححه ووافقه الذهبي. قلت: هو صحيح بطرقه وشواهده.

[11] - المـوطأ: 2 / 938، 939 (1، 2)، وأحمد: 3 / 486، 487، وابن ماجة (3509)، والبغوي في شرح السنة (3245)، والبيهقي (20170، 20171).

[12] - مصنف عبد الرزاق (19766).
 
الفرق بين الحاسد والعائن
العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، فكل عائن حاسد ولا عكس، وهما يشتركان في شيء ويفترقان في شيء: فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه؛ فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيبة المحسود، وحضوره أيضا.
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية، تؤثر في المعين ( [1] ) .


[1] - انظر ( بدائع الفوائد ) لابن القيم : 2 / 231 .
 
أسباب الحسد ودوافعه
عد الغزالي - رحمه الله - أسباب الحسد سبعة : العداوة والبغضاء ، والتعزز ، والكبر ، والتعجب ، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة ، وحب الرياسة ، وخبث النفس وبخلها ؛ وخلاصة ما قاله :
السبب الأول : العداوة والبغضاء :
وهذا أشد أسباب الحسد ، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب ، وخالفه في غرضه ؛ أبغضه قلبه ، وغضب عليه ، ورسخ في قلبه الحقد ؛ والحقد يقتضي التشفي والانتقام ، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك ، وظنه مكافأة من الله تعالى له ، ومهما أصابته نعمة ، ساءه ذلك .
فالحسد يلزم البغض والعداوة ، ولا يفارقهما ، وإنما غاية التقي أن لا يبغي ، وأن يكره ذلك من نفسه .
وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله تعالى به الكفار ، فقال : ) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ( [ آل عمران : 119 ، 120 ) ، وكذلك قوله تعالى : ) وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ( [ آل عمران : 118 ] .
والحسد بسبب العداوة والبغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل ، واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر ، وما يجري مجراه .
السبب الثاني : التعزز :
وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه بعض أمثاله إذا أصابوا ولاية أو علما أو مالا؛ فيخاف أن يتكبر عليه من يصيب ذلك، وهو لا يطيق هذا منه، وليس من غرضه أن يتكبر، بل غرضه أن يدفع كبر ذاك عنه .
السبب الثالث : الكبر :
وهو أن يخاف إذا نال من كان دونه نعمة أن يترفع عن الانقياد له ، بعد أن كان ينقاد له قبلها ، أو يتشوف إلى مساواته ، أو إلى أن يترفع عليه ، فيعود متكبرا بعد أن كان متكبرًا عليه .
ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله e ، إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا ، ) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( [ الزخرف : 31 ] ، أي : كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ، ونتبعه ، إذا كان عظيمًا .
السبب الرابع : التعجب :
كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة : ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ( [ يس : 15 ] ، ) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( [ المؤمنون : 47 ] ، ) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ( [ المؤمنون : 34 ] ، فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشرٌ مثلهم ، فحسدوهم وأحبوا زوال النبوة عنهم ، جزعًا أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة ، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة ، وتقدم عداوة ، أو أي سبب آخر ، قال تعالى : ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُم ( [ الأعراف : 63 ] .
قلت : ولا ينفي كلام الشيخ - رحمه الله - أن يكون مع سبب التعجب سبب آخر ، كما في قوله تعالى : ) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( [ ص : 4 ] ، فلزمهم مع الكبر والتعزز ، التعجب من كون النبي r منذر منهم . والعلم عند الله تعالى .
السبب الخامس : الخوف من فوت المقاصد :
وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد ، فإن كل واحد يحسد صاحبه على كل نعمة تكون له عونا على الانفراد بمقصوده. ومن هذا الجنس تحاسد الضرات .
قلت : ومنه قول أم رومان لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - في حديث الإفك : خفضي عليك الشأن ، فإنه والله لقلما كانت امرأة جميلة تكون عند رجل يحبها ، ولها ضرائر ، إلا حسدنها وقلن فيها ( [1] ) .
ومن هذا الجنس - أيضًا - تحاسد التلميذين لأستاذ واحد ، على نيل المرتبة من قلب الأستاذ ، ونحو ذلك .
السبب السادس : حب الرياسة وطلب الجاه :
ومثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، إذا غلب عليه حب الثناء ، واستفزه الفرح بما يمدح به : من أنه أوحد عصره وفريد دهره في فنه ، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك ، وأحب موته ، أو زوال نعمته التي يشاركه بها ، في علم ، أو شجاعة ، أو عبادة ، أو صناعة ، أو ثروة ، أو غير ذلك ؛ وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد ، وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي e ولا يؤمنون خوفًا من بطلان رئاستهم .
السبب السابع : خبث النفس وشحها بالخير على عباد الله :
فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر ، وإذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله عليه به ، شق عليه ذلك ، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم ، وتنغيص عيشهم ، فرح به ؛ فهو أبدًا يحب الإدبار لغيره ، ويبخل بنعمة الله على عباده ، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ؛ فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة ، وهذا غاية البخل ، وليس له سبب إلا خبث النفس ، ورداءة الطبع ، ولذا فإن معالجته شديدة ؛ لأنه ليس له عارض فيعمل على إزالته ، بل سببه الجبلة ، فيعسر إزالته .
فهذه أسباب الحسد ، وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد ، فيعظم فيه الحسد ، ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة ، بل يهتك حجابالمجاملة،وتظهرالعداوةبالمكاشفة،وأكثرالمحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب ، وقلما يتجرد سبب واحد منها ( [2] ) .

[1] - جزء من حديث الإفك رواية أحمد: 6 / 59، 60، والترمذي (3180).

[2] - انظر إحياء علوم الدين: 3 / 167، 168.
 
سبب كثرة الحسد
مرجع كثرة الحسد بين أقوام إلى سببين رئيسين :
الأول : قلة الوازع الديني :
فإنك تجد المؤمن الذي رسخ الإيمان في قلبه ، وامتلأت نفسه بحقائق الإيمان ، لا يتمنى زوال النعمة عن أحد ، وإنما قد يتمنى مثلها لا عينها ، ذلك لأنه يعلم يقينًا أن كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، فالله تعالى قسم بين العباد معايشهم ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم فيما آتاهم ، قال الله تعالى: ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ( [ الأنعام : 165 ] ، وقال : ) نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( (الزخرف: 32) . فكيف لمن علم ذلك يحسد إنسانًا على دنيا ؟ إنه يوقن بأن حسده لا يغير من تقدير الله من شيء ، ولذلك يقول محمد بن سيرين - رحمه الله : ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا ؛ لأنه إن كان من أهل الجنة ، فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ؟! وإن كان من أهل النار ، فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار ؟!
وورد عن الفضيل بن عياض - رحمه الله - أنه قال : المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد .
فغاية أمر المؤمن أنه يتمنى من النعم ما يكون له عونًا على طاعة الله تعالى ، وبذلا في مرضاته ؛ فالله تعالى يقول : ) وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( [ النساء : 32 ] ؛ وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي كبشة الأنماري t قال : قال رسول الله e : " مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ ، فَيُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ ؛ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَا لِهَذَا ، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ " قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ ؛ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِيهِ ، يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ؛ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مَالٌ مِثْلُ هَذَا ، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ " قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاء " ([1]) .
فشأن المؤمن أن يقول : ( لو أن لي مثل مال فلان ) ، ثم هو ينفقه حسب ما آتاه الله تعالى من علم في طاعة الله تعالى ؛ فإذا حدثته نفسه بشيء من أمر الحسد ، أو حاول الشيطان أن يوسوس إليه بذلك ، فإنه يدفع ذلك عن نفسه بما يستطيع ، من استعاذة ، ودعاء لصاحب النعمة ، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
لكنه لا يظهر ذلك ، ولا يسعى في زوال نعمة أخيه ، وهذا أمر قد لا ينفك عنه أحد ، والله وحده المستعان ، وعن الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : ما من آدمي إلا وفيه الحسد ، فمن لم يجاوز إلى البغي والظلم ، لم يتبعه شيء .
والمؤمن لا يتسخط على مولاه سبحانه ، ولا يتهمه في حكمه وقضائه ، والحسد نوع من التسخط على الله Y ، وعدم الرضا بقسمته ، واتهامه في حكمته ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ‎.
ولذلك ورد عن زكريا u : قال الله تعالى : الحاسد عدو نعمتي ، متسخط لقضائي ، غير راضٍ بقسمتي التي قسمت لعبادي .
فالمؤمن يجد وازعًا من نفسه ينهاه عن الحسد ، فينصرف عنه ، ومن قل إيمانه قل وازعه ولا شك ، وهكذا لا تجد هذا الأمر إلا عند خفيفي الدين ، قليلي الخوف من رب العالمين .
السبب الثاني : حب الدنيا :
حب الدنيا سبب كل خطيئة ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ t عَنِ النَّبِىِّ e قَالَ : " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا ، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ " ( [2] ) ، وأخرج مسلم وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ ؟ " ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ تَتَنَافَسُونَ ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؛ ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ " ( [3] ) .
فانظر - رحمني الله وإياك - كيف رتب رسول الله e ما يفعله حب الدنيا في النفوس ؛ فأولا : التنافس فيها ، والتنافس على الدنيا يفضي إلى التحاسد ، والتحاسد يفضي إلى التدابر ، والتدابر يفضي إلى التباغض .
وههنا كلام طيب لابن قدامة - رحمه الله - في كتابه ( مختصر منهاج القاصدين ) نورده تتميما للفائدة ؛ فال : واعلم أنه إنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها ( [4] ) ، ويقع ذلك غالبًا بين الأقران والأمثال والإخوة وبني العم ، لأن سبب التحاسد : توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها ، فيثور التنافر والتباغض . ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد ، والعابد يحسد العابد دون العالم ، والتاجر يحسد التاجر ، والإسكاف يحسد الإسكاف ، ولا يحسد البزاز ، إلا أن يكون سبب آخر ، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر .
فأصل العداوة : التزاحم على غرض واحد ، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين ، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين ، ولا يكون بينهما محاسدة ، إلا إذا اشتد حرصه على الجاه ، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها .
ومنشأ جميع ذلك : حب الدنيا ، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين ، وأما الآخرة فلا ضيق فيها ، فإن من أحب معرفة الله وملائكته وأنبياءه وملكوت أرضه وسمائه ، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك ، لأن المعرفة لا تضييق على العارفين ، بل المعلوم الواحد يعرف ألف ألف عالم ، ويفرح بمعرفته غيره ، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسـدة ، لأن مقصودهم معرفة الله سبحانه ، وهو بحر واسع لا ضيق فيه ؛ وغرضهم المنزلة عند الله ، لأن أجلَّ ما عند الله من النعيم لذة لقائه ، وليس فيه ممانعة ولا مزاحمة ، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض ، بل يزيد الأنس بكثرتهم ؛ إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا .ا.هـ ( [5] ) .
ولذلك ما وجدنا عالمًا يحسد عالما إلا على الشهرة والجاه ، وما وجدناه يحسده على كثرة علم ، ولا على عمل بالعلم ، وإن وجد ذلك كان من باب الغبطة ، لا من باب الحسد المذموم ... كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - أحمد : 4 / 230 ، 231 ، والترمذي ( 2325 ) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة ( 4228 ) .
[2] - رواه أحمد : 19 ، 61 ، ومسلم ( 2742 ) ، والترمذي ( 2191 ) ، وابن ماجة ( 4000 ) .
[3] - مسلم ( 2962 ) ، وابن ماجة ( 3996 ) .
[4] - أي الأسباب السبعة السالفة الذكر .
[5] - اختصر الحافظ ابن الجوزي ( إحياء علوم الدين ) في ( منهاج القاصدين ) ، واختصر ابن قدامة ( منهاج القاصدين) ، وانظر ( مختصر منهاج القاصدين ) : 188 ، وإحياء علو م الدين : 3 / 169، 170.
 
أثر الحسد على الفرد والمجتمع

للحسد آثار بالغة الضرر على الفرد والمجتمع، وإليك بيان ذلك .
أثر الحسد على الفرد :
تقدم أن الحاسد يؤذي المحسود ، فإذا خطر على ذكره وقلبه ، انبعثت نار الحسد من قلبه إليه فيتأذى المحسود بهذا الشر المنبعث ، كما يتأذى الذي تصيبه عين العائن ، وقد يسعى في إيذائه بالقول والعمل .
أثر الحسد على صاحبه :
بيد أن الحاسد لا يسلم - أيضًا - من الآثار الضارة للحسد ؛ فإن صدته الشهوة عن مراشده ، وأضله الحرمان عن مقاصده ، فانقاد للطبع اللئيم ، وغلب عليه الخلق الذميم ، حتى ظهر حسده واشتد كمده ، فقد باء بعدة مذام :
الأولى : تعرضه لغضب الجبار سبحانه : لأنه لم ينته عما نهى عنه رسول الله e : " ولا تحاسدوا " ، وكذا لأنه متسخط لقضاء الله ، غير راض بقسمته لعباده ، إذ لا يرى قضاء الله عدلا ، ولا لنعمه على الناس أهلا ، ولذلك قيل : الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا يملكه ، طالب ما لا يجده .
الثانية : يحبط الحسد كثيرًا من أعمال الحاسد ؛ لأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، كما في حديث أنس وأبي هريرة المتقدمين .
الثالثة : الحاسد يعيش بين حسرات الحسد وسقام الجسد ، ثم لا يجد لحسرته انتهاء ، ولا يؤمل لسقامه شفاء ؛ قال ابن المعتز : الحسد داء الجسد . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد : نَفَسٌ دائم ( [1] ) ، وحزن لازم ، وعبرة لا تنفد .
وقال بعض الشعراء :
إن الحسود الظلوم في كُرَبٍ ... يخاله من يراه مظلـوما
ذا نفـسٍ دائم على نفس ... يُظهر منه ما كان مكتوما
وقال آخر:
إن شئت قتل الحاسدين تعمدًا ... من غير ما دية عليك ولا قَودْ
وبغير سـم قـاتل وصـوارم ... وعقاب ربٍ ليس يغفل عن أحدْ
عَظِّمْ تجـاه عيونهم محسودهم ... فتراهمُ موتى النفوس مع الجسدْ
ذوب المعـادن باللظى لكنما ... ذوب الحسود بحر نيران الحسدْ
ما زال إن حيًا وإن ميْتًا ضنىً ... متعـذبًا فـيه إلى أبـد الأبدْ
الرابعة : انخفاض المنزلة وانحطاط الرتبة ؛ لانحراف الناس عنه ، ونفورهم منه ؛ وقد قيل في منثور الحكم : الحسود لا يسود ؛ لأن الناس لا يسوِّدون إلا من يريد الإحسان إليهم ، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدًا ، إلا قهرًا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها ، فهم يبغضونه ، وهو يبغضهم .
الخامسة : مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبًا ، وعداوتهم له حتى لا يرى منهم وليًّا ، فيصير بالعداوة مأثورًا ، وبالمقت مزجورًا ؛ ولذا قيل : أسد تقاربه خير من حسود تراقبه .
وقال محمود الورَّاق :
أعطيت كل الناس من نفسي الرضا ... إلا الحسـود فإنه أعـياني
ما إن لي ذنـبًا إلـيه عـملته ... إلا تظاهر نعـمة الرحمـنِ
وأبى فما يرضـيه إلا ذلـتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني
وقال بعضهم : الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا ، ولا ينال من الملائكة إلا لعنًا وبغضًا ، ولا ينال من الخلق إلا جزعًا وغمًّا ، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولا ، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالا ( [2] ) .

[1] - وهو الملازم للغم ، فهو كناية عن شدة الغم .

[2] - انظر ( أدب الدنيا والدين ) للماوردي ؛ ( الباب الخامس : أدب النفس ) ، الفصل السادس ( في الحسد والمنافسة ) .
 
أثر الحسد على المجتمع
الحسد هو داء الأمم الذي يهلكهم ويقضي عليهم ، وهو الذي يترتب عليه الشحناء والبغضاء ، وهذه الأمور هي التي تودي بحياة الأمم ؛ فعن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ " رواه أحمد والترمذي ( [1] ) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : سمعت رسول الله e يَقُولُ : " سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ : الأَشَرُ ، وَالْبَطَرُ ، وَالتَّكَاثُرُ ، وَالتَّشَاحُنُ ، وَالتَّبَاغُضُ ، وَالتَّحَاسُدُ ، حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ " رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ( [2] ) .
والحاصل أن الحسد داء يحذر غوائله على المجتمع ، فالحسود عامل هدم ، وأداة إفساد وتخريب في المجتمع الذي يوجد فيه ، ولو بحثت عما يحدث بين الأقارب ، أو بين العاملين في ديوان واحد ، أو إدارة واحدة ، أو بين الجيران وأمثالهم ، من الهجـر والخصام ، ومن النزاع والشقاق ، ومن الغيبة والنميمة ، ومن الشماتة عند المصيبة والفرحة عند نزول البلاء ، لوجدت أن السـبب الرئيس الذي يكمن وراء ذلك كله هو : الحسد ؛ ولذلك قال النبي e : " لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا " رواه الطبراني عن ضمرة بن ثعلبة t ( [3] ) .
وقد كانت أول خطيئة هي الحسد ، حسد الملعون إبليس آدم e على ما أعطاه الله من الفضل والرتبة ، فأبى أن يسجد له ، فحمله الحسد على المعصية .
وهذا النوع من الحسد سببه الكبر ؛ قال الله تعالى : ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( [ البقرة : 34 ] .
وكانت أول معصية لبني آدم في الأرض بسبب الحسد أيضًا : حسد ابن آدم أخاه على ما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله U ، فكان أن بغى على أخيه فقتله ؛ وقصة ذلك كما ذكرها غير واحد من السلف : أن الله تعالى شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه ، لضرورة الحال ، وكان يولد لآدم في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى البطن الأول لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل جميلة، فأراد أن يستأثر بها على هابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله تعالى في كتابه : ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( إلى قوله تعالى : ) أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( [ المائدة : 27 : 31 ] .
وأخوة يوسف e دفعهم الحسد له من إيثار أبيه له ولأخيه ( ومعلوم أن أصغر الأبناء أحب إلى الوالد ) ، فدفعهم حسدهم إلى أن اجتمعوا على أمر عظيم ، من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله ، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه ، على كبر سنه ورقة عظمه ، مع مكانه من الله ، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده ، وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرًا عظيمًا ( [4] ) . فكان منهم ما أخبر الله تعالى به : ) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ( [ يوسف : 7 – 10 ] .
فانظر - رحمني الله وإياك - كيف دفعهم الحسد إلى التآمر على قتل أخيهم ، أو طرحه في أرض نائية بعيدة مقطوعة ، وذلك مفض إلى الموت بلا ريب ، ثم اتفاقهم على أن يلقوه في الجب .
إن الحسد نار تتوقد في قلب صاحبها ، ويساعد الشيطان بوساوسه على اشتعالها ، فإن استطاع الحاسد أن يسعى في إيذاء المحسود فعل ، فيكيد ويحتال ويتآمر لإيذائه .
واليهود منعهم حسدهم للنبي e أن يؤمنوا به ، وهم يعلمون أنه رسول الله ، وقد كانوا يقولون للأوس والخزرج : قد آن زمان خروج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ؛ فحملهم حسدهم على أن كفروا به ، ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( [ البقرة : 89 ) ، بل حسدوا العرب - أيضًا - أن خصهم الله تعالى برسوله ، فعن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدًا ، إذ خصهم الله برسوله e ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( [ البقرة : 109 ] ( [5] ) .
فالحسد هو الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين ، وما زالت تفيض ؛ وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيرا تهم كلها ، وما تزال ؛ وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه ، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم ، وردهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه ، والذي أنقذهم الله منه بالإيمان ، وخصهم بأعظم الفضل وأجل النعم التي تحسدهم عليها يهود .ا.هـ ( [6] ) .
فهذا حال اليهود المعاصرين لرسول الله e ، حسدوا رسول الله e على النبوة ، وحسدوا أصحابه على الإيمان . فكيف بحال أبنائهم وأحفادهم ؟ إنهم أشد حسدًا ، وأشد مكرًا وكيدًا ؛ قال الله تعالى : ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( [ النساء : 54 ] .
وهكذا كفار مكة ، حسدوا رسول الله e على نعمة النبوة وكفروا به ، ) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( [ الزخرف : 31 ] .
وهكذا يصنع الحسد بأهله ، صدهم عن السبيل ، فعادوا الحق ، وهم يعلمون أنه الحق ، ففضلوا الكفر على الإيمان ؛ فخسروا الدنيا والآخرة .
وبعد : فتلكم أمثلة من القصص الحق ، تبين لك الآثار الضارة للحسد على الحاسد والمحسود والمجتمع ؛ وفي واقع الحياة الكثير ، ولذلك يقول الجاحظ : الحسد عقيد الكفر ، وحليف الباطل ، وضد الحق ؛ منه تتولد العداوة ، وهو سبب كل قطيعة ، ومفرق كل جماعة ، وقاطع كل رحم من الأقرباء ، ومحدث التفرق بين القرناء ، وملقح الشر بين الحلفاء .ا.هـ .

[1] - أحمد: 1/ 165، 167 ، والترمذي ( 2540 ) ، وقال المنذري في الترغيب : 3 / 548 ، ورواه البزار بإسناد جيد ، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 30 ، وله شاهد عند ابن عدي : 4 / 199 ، عن ابن عباس ، وفي إسناده عبد الله ابن عرادة ، وهو منكر الحديث .

[2] - رواه الطبراني في الأوسط (9016)، والحاكم : 4 / 168 ، وقال العراقي في تحقيق أحاديث الإحياء : رواه ابن أبي الدنيا في ( ذم الحسد ) ، والطبراني في الأوسط بسند جيد .

[3] - رواه الطبراني : 8 / 369 ، وقال المنذري في الترغيب : 3 / 547 ، والهيثمي في المجمع : 8 / 78 : رواته ثقات .

[4] - انظر تفسير ابن كثير: 2 / 451.

[5] - رواه ابن جرير في تفسيره: 1 / 488.

[6] -انظر ( في ظلال القرآن ) : 1 / 102.
 
دواء الداء
قد يقول قائل: قد شخصت الداء ، وعرَّفته ، وبينت آثاره ، فما هو الدواء الفعَّال لهذا الداء العضال ؟
وللإجابة عن هذا السؤال ، أقول : لا يعرف أدوية القلوب إلا طبيب حاذق مجرب ، على علم بأحوالها ، وقد قرأت لأبي حامد الغزالي وأبي الحسن الماوردي وصفات عجيبة لهذا الدواء ، ورأيت أن أجمع بينها في وصفة واحدة ، لتكون أنجع في العلاج ، ومعلوم عند الأطباء أن الدواء المركب يفيد في الداء المعقد ؛ وخلاصة ذلك :
إن الحسد من أمراض القلوب العظيمة ، ولا تداوى أمـراض القلوب إلا بالعلم والعمل .
والعلم النافع لمرض الحسد هو : أن يعرف الحاسد – تحقيقًا - أن الحسد ضرر عليه في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في دينه ولا دنياه ، بل ينتفع به فيهما ؛ فإذا عرف الحاسد هذا عن بصيرة ، ولم يكن عدو نفسه وصديق عدوه ، فارق الحسد ولا محالة .
أما كونه ضررًا عليه في الدين : فلأنه بالحسد سخط قضاء ربه ، وكره نعمته التي قسمها بين عباده ، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته ، فاستنكر ذلك ، وهذا جناية في الدين ، مطعن في التوحيد .
هذا بالإضافة إلى غشه رجلا من المسلمين ، وتركه نصيحته ، ومشاركته إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم ، وهذه خبائث في القلب ، تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
وأما كونه ضرر عليه في الدنيا : فإنه يتألم بحسده في الدنيا ، ولا يزال في كمد، إذ أعداؤه لا يخليهم الله تعالى من نعم يفيضها عليهم ، فلا يزال يتعذب بكل نعمة يراها ، ويتألم بكل بلية تنصرف عنهم ، فيبقى مغموما محرومًا ، وقد قيل : العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد .
ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود ، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة ، فلابد أن يدوم إلى أجله الذي قدره الله سبحانه ، فلا حيلة في دفعه .
فمن كان عاقلا - ولو لم يكن يؤمن بالبعث والحساب - لكان مقتضى الفطنة أن يحذر من الحسد ، لما فيه من ألم القلب ، مع عدم النفع ، فكيف وهو يعلم ما فيه من العذاب الشديد في الآخرة ؟!
ويترتب على ذلك أن يساعد القضاء ، ويستسلم للمقدور ، ولا يغالب قضاء الله ، فيرجع مغلوبًا ، ولا يعارض أمره سبحانه ، فيرد محرومًا مسلوبًا .
وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه ، بل ينتفع بحسد الحاسد في الدين والدنيا ، فأمر واضح ؛ لأن النعمة لا تزول بحسده ، بل تدوم إلى أجلها الذي قدره الله تعالى ، ثم هو لا يأثم بذلك ، فلا يقع عليه ضرر في الدنيا ولا في الدين .
وأما منفعته في الدنيا : فأهم أغراض الخلق مساءة أعدائهم وغمهم ، ولا عذاب أشد مما فيه الحاسد من ألم الحسد ، ففرح عدوه بغمه ، أعظم من فرحه بنعمته ، وربما كان الحسد منبهًا على فضل المحسود ، ونقص الحسود ، فيزيده غما إلى غم ؛ قال أبو تمام :

وإذا أراد الله نشـر فضـيلة ... طويت أتاح لها لسان حسـودِ


لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العودِ


لولا التخوف للعواقب لم يزل ... للحاسد النعمى على المحسـودِ

وأما منفعته في الدين : فهو أنه مظلوم من جهة الحاسد ، لا سيما إذا أخرجه الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه ، وهتك ستره ، وذكر مساويه ، فهذه هدايا يهديها إليه ، لأنه يهدي إليه حسناته ، حتى تلقاه يوم القيامة مفلسًا محرومًا من النعمة ، فأضاف إلى المحسود نعمة إلى نعمة ، وأضاف إلى نفسه شقاوة على شقاوة .
فهذه هي الأدوية العلمية ، فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف ، وقلب حاضر ، انطفأت نار الحسد من قلبه ، وعلم أنه مهلك نفسه ، ومُفرح عدوه ، ومسخط ربه ، ومنغص عيشه ، فيجعله ذلك يسارع إلى الابتعـاد عن هذه المهلكات المنغصات بترك الحسد ولابد ؛ والله المستعان .
وأما العمل النافع في العلاج فهو : أن يحكِّم الحسد ، فكل ما يأمر به الحسد من قول أو فعل ، فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه ؛ فإن بعثه الحسد على القدح في محسوده ، كلف لسانه المدح له والثناء عليه ، وإن حمله على التكبر عليه ، ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه ، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام .
فمهما فعل ذلك عن تكلف ، وعرفه المحسود ، طاب قلبه وأحبه ، فإذا ظهر حبه ، عاد الحاسد فأحبه ، فتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد .
وإن كان نقل الطباع عسرًا ، لكن بالرياضة والتدريج يسـهل منها ما استصعب ، ويحبب منها ما أتعب ، ومن يعاني تهذيب نفسه تظاهـر بالتخلق دون الخلق ، ثم بالعادة يصير التخلق خلقًا ، والتكلف طبعًا ؛ قال أبو تمام :
ولم أجد الأخلاق إلا تخلقًا ... ولم أجد الإفضال إلا تفضلا

ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له : لو تواضعت وأثنيت عليه ، حملك العدو على العجز ، أو على النفاق أو الخوف ، وفي ذلك مذلة ومهانة ؛ فإن ذلك من خدع الشيطان ومكايده ، بل المجاملة تكلفًا كانت أو طبعًا تكسر سورة العداوة من الجانبين ، وتُقل مرغوبها ، وتعَوِّد القلوب التآلف والتحاب ، وبذلك تستريح القلوب من ألم التحاسد ، وغم التباغض .
فتأمل ذلك جيدًا ، وأضف إليه : أن الحاسد يرى من نفور الناس عنه ، وبعدهم منه ، ما يجعله يخافهم على نفسه من عداوة ، أو على عرضه من ملامة ، فعليه أن يتألفهم بمعالجة نفسه ، فهم إن صلحوا أجدى نفعًا ، وأخلص ودًّا ؛ كما أن عليه أن يتتبع أسباب الحسد من الكبر وعزة النفس وغيرها ، فيعالج ذلك من نفسه ، ليسلم مما يوقعه فيه من الحسد والآثام .
فهذه أدوية الحسد ، وهي نافعة جدًّا ، إلا أنها مرة على القلوب جدًّا ، ولكن النفع في الدواء المر ، ومن لا يصبر على مرارة الدواء ، لم ينل حلاوة الشفاء .
فإن أظفرته السعادة بهذه الأسباب ، وهدته المراشد إلى استعمال الصواب ، سلم من سقامه ، وخلص من غرامه ، واستبدل بالنقص فضلا ، واعتاض من الذم حمدًا ، ولمن استنـزل نفسه عن مذمة ، وصرفها عن لائمة ، هو أظهر حزمًا ، وأقوى عزمًا ، والله المستعان .
فمن تأمل ذلك ، وعلم أن سلامة الصدر تجاه المسلم طريق إلى الجنة ، سارع لعلاج نفسه ، واستكرهها على ترك ما يجلب عليها تنغيص حياتها ، ويقودها إلى منازل هلاكها .
 
وأما قولنا : إن سلامة الصدر طريق إلى الجنة ، فلما رواه عبد الرزاق ومن طريقه أحمد ، ورواه النسائي عن أَنَسٍ t قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ e مِثْلَ ذَلِكَ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ ، قَالَ النَّبِيُّ e مِثْلَ مَقَالَتِهِ - أَيْضًا - فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى ؛ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ e تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَقَالَ : إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي ، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ ، فَعَلْتَ ؛ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ U وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ ، قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ! إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ ؛ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e ؟ فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ؛ قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ( [1] ) .
إنها سلامة الصدر من الغش للمسلمين ، والحسد لهم على نعم الله تعالى عليهم ، وهي التي لا يقدر عليها كثير من الناس ، ولكن الأمر كما قال النبي e : " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ " ( [2] ) ، فمن أرادها تعب في معالجة نفسه ولابد .

[1] - رواه عبد الرزاق (20559) عن معمر عن الزهري عن أنس به، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ومن طريقه رواه أحمد: 3 / 166، ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة (869)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 549): ورواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وسمى الرجل سعدا.

[2] - رواه الترمذي (2450) وحسنه، والحاكم: 4 / 308، وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث أبي هريرة.
 
فائدة جليلة
قال الإمام الغزالي تحت عنوان ( بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب ) من ( الإحياء ) ما خلاصته :
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ، ومن أذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبًا ، فإن تيسرت له نعمة ، فلا يمكنك أن لا تكرهها حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله ، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ، فإن قوي ذلك فيك حتى أظهرت الحسد بقول أو فعل ، فأنت حسود عاصٍ بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية ، إلا أنك تحب بباطنك زوال النعمة ، وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة ، فأنت - أيضًا - حسود عاص ، لأن الحسد صفة القلب ، لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ( [ النساء : 89 ] ، وقال : ) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ( [ آل عمران : 120 ] .
أما الفعل فهو غيبة أو كذب ، وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس عين الحسد .
نعم ؛ هذا الحسد - أي الذي في القلب فقط - ليس مظلمة يجب الاستحلال منها ، بل هو معصية بينك وبين الله تعالى ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح .
أما إذا كففت ظاهرك ، وألزمت قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة ، حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا ، لأن تلك الكراهة تمنعك من البغي والإيذاء .
وصفوة القول أن لك مع أعدائك ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تحب مساءتهم بطبعك ، وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك ، وتمقت نفسك عليه ، وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك ، وهذا معفو عنه قطعًا ؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر من ذلك .
الثاني : أن تحب ذلك ، وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك ، فهذا هو الحسد المحظور قطعًا .
الثالث : وهو بين الطرفين : أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك، ومن غير إنكار منك على قلبك ، ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد ، وهذا في محل الخلاف ، والظاهر أنه لا يخلو من إثم بقدر قوة هذا الحب وضعفه .
وجميع ما ورد من أخبار في ذم الحسد يدل ظاهرها على أن كل حاسد آثم ، لكن الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال ، فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد ، فكونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل في محل الاجتهاد ، والأظهر ما ذكرناه ، من حيث ظواهر الآيات والأخبار ، ومن حيث المعنى ، إذ يبعد أن يُعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم ، واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة ؛ والعلم عند الله تعالى ( [1] ) .
يريد الشيخ - رحمه الله - أن يقول : إن الحسد إذا لم يتجاوز ما يعتمل في القلب وهو له كاره ، ولم يخرج تجاه المحسود بسعي بإيذاء قولا أو فعلا ، فهو في مرتبة العفو ، لأنه ليس في مقدور الإنسان أكثر من ذلك ، وقد قال الله تعالى : ) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( [ البقرة : 286 ] ، وقال النبي e : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ " ( [2] ) .

[1] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 171 .
[2] - البخاري ( 5269 ) ، ومسلم ( 127 ) عن أبي هريرة t .
 
ما يندفع به شر الحسد
وبعد : فقد يقول قائل : أراك قد كشفت لنا عن الداء ، ووصفت الدواء ، ولكن أهل الحكمة يقولون : الوقاية خير من العلاج ؛ فهل من وقاية يستعملها أصحاب النعم ليسلموا من نَفَس الحاسدين وأعينهم ، ومحاولاتهم للسعي في زوال هذه النعم عنهم ؟؟
أقول : نعم ، ويكون ذلك باللجوء إلى الله تعالى ، والاعتصام به ، والتعوذ بالله U من شرهم ، فليس هناك أنفع من التوجه إلى الله Y ، والإقبال عليه ، والثقة به ، والتوكل عليه .
وأفضل ما يتعوذ به: سورتا (الفلق والناس). فعن ابن عابس الجهني t أن رسول الله e قال له : " يا ابن عابس ! ألا أدلك - أو قال - ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون " ، قلت : بلى يا رسول الله ؛ قال: " ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( و ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ( ، هاتين السورتين " ؛ رواه أحمد والنسائي ( [1] ) .
وروى أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن عقبة بن عامر قال : كنت أقود برسول الله e في السفر ، فقـال رسول الله e : " يا عقبة ! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا " فعلمني ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( و ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ( ، فلم يرني سررت بهما جدًا ، فلما نزل لصلاة الصبح ، صلى بهما صلاة الصبح للناس ، فلما فرغ رسول الله e من الصلاة ، التفت إلي فقال : " يا عقبة كيف رأيت ؟ " ، زاد أحمد : " اقرأ بهما كلما نمت وقمت " ( [2] ) .
وعند النسائي بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر t قال : كنت أمشي مع رسول الله e فقال : " يا عقبة ! قل " ، فقلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فسكت عني ، ثم قال : " يا عقبة ! قل " ، قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فسكت عني ، فقلت : اللهم اردده علي ، فقال : " يا عقبة ! قل " قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال : ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال : " قل "، قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ قال : ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ( ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال رسول الله e عند ذلك : " ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما " . ونحوه عند أبي داود ( [3] ) .
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد قال : كان رسول الله e يتعوذ من الجان وعين الإنسان ، حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما ( [4] ) .
فالله Y جعل في المعوذتين دفعًا لجميع الشرور الظاهرة والباطنة ، ومن هذه الشرور: الحسد ؛ قال تعالى : ) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( .
قال ابن القيم - رحمه الله - في ( بدائع الفوائد ) في سورة الفلق : فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد ، فإنها تتضمن : التوكل على الله والالتجاء إليه ، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة ، فهو مستعيذ بولي النعم وموليها ؛ كأنه يقول : يا من أولاني نعمته ، وأسداها إلي ، أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ، ويزيلها عني .
وهو سبحانه حسيب من توكل عليه ، وكافي من لجأ إليه ، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ، ويجير المستجير ، وهو نعم المولى ونعم النصير ؛ فمن تولاه ، واستنصر به ، وتوكل عليه ، وانقطع بكليته إليه ؛ تولاه وحفظه وحرسه وصانه . ومن خافه واتقاه ، أمنه مما يخاف ويحذر ، وجلب إليه من المنافع . ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( [ الطلاق : 2 ، 3 ) .
فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته ، ) إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ( لا يتقدم عنه ولا يتأخر .ا.هـ( [5] ) .
وقال في موضع آخر : وقوله تعالى : ) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( يعم الحاسد من الجن والإنس ، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما حسد إبليس أبانا آدم ، وهو عدو لذريته ، كما قال تعالى : ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ( [ فاطر: 6 ] ، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن ، والحسد أخص بشياطين الأنس ، والوسواس يعمهما ، والحسد يعمهما أيضًا ؛ فكلا الشيطانين حاسد موسوس ، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعًا .ا.هـ ( [6] ) .
فإن أضاف المستعيذ إلى ( المعوذتين ) سورة ( الإخلاص ) ، فقد زاد في الفضل والتعوذ ، فكأنه يتوسل إلى الله تعالى بتوحيده وصفاته ، ليعيذه من كل ذي شر ، وهذا أبلغ في التعوذ واللجوء إلى الله، وتلك كانت وصية رسول الله e لعقبة : " يا عقبة ! ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( و ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( و ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ( ما تعوذ بمثلهن أحد" ( [7] ) .
وروى أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجة عن عبد الله بن خُبيب t قال : خرجنا في ليلة مطيرة ، وظلمة شديدة ، نطلب رسول الله r يصلي لنا ، قال : فأدركته ، فقال : " قل " ، فلم أقل شيئًا ، ثم قال : " قل " ، فلم أقل شيئًا ، قال : " قل " ، فقلت : ما أقول ؟ قال : " قل : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( والمعوذتين ، حـين تمسي وتصبح ، ثلاث مرات ، تكفيك من كل شيء " ( [8] ) .
فتلكم السور الثلاث أفضل ما يتعوذ به ، وفيهن التعوذ من كل ذي شر .
وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي والحاكم عن أبان بن عثمان عن عثمان t قال : قال رسول الله e : " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات فيضره ( لم يضره ) شيء " فكان أبان قد أصابه طرف فالج ، فجعل الرجل ينظر إليه ، فقال له أبان : ما تنظر ؟ أما إن الحديث كما حدثتك ، ولكني لم أقله يومئذ ، ليُمضي الله عليَّ قَدَرَه ( [9] ) .
ورواه عبد الله في زياداته ، والنسائي وابن حبان من طريق أخرى عن عثمان t قال : قال رسول الله e : " من قال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا السماء وهو السميع العليم ، ثلاث مرات ، لم تفجأه فاجئة بلاء حتى الليل ، ومن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح " ( [10] ) .
وروى مالك ومسلم عن أبي هريرة t أنه قال : جاء رجل إلى النبي e فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة! قال : " أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ؛ لم تضرك " وفي رواية للنسائي : " ثلاث مرات " ( [11] ) ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم ( صحابي ) ، وفيه : قال سهيل : فكان أبي إذا لدغ أحد منا يقول : قالها ؟ فإن قالوا : نعم ؛ قال : كأنه يرى أنها لا تضره ( [12] ) .
وعند أحمد عن أبي هريرة t مرفوعًا : " من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره حُمَةٌ تلك الليلة " ، فكان أهلنا قد تعلموها ، فكانوا يقولونها ، فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعًا ( [13] ) .
فالاستعاذة في الحديث عامة من كل شر للمخلوقات ، فبما أنها تمنع شر لدغة العقرب ، فهي بإذن الله تعالى تمنع شر كل ذي شر ، وليست خاصة بلدغة العقرب .
فليحافظ من أراد الوقاية من شر الحاسدين على هذه التعويذات والتحصينات ، وليعلم أنه مهما صدق في اللجوء إلى الله تعالى وجد الخير الذي يرجو ، فهو سبحانه القائل: ) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( [ الأنعام : 17 ، 18 ] .
هذا والعلم عند الله تعالى .

[1] - أحمد: 3 / 417، 4 / 144، 153، والنسائي (5432)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6 / 263 (7716).
[2] - أحمد: 4 / 153، وأبو داود (1462)، والنسائي (5436)، والحاكم: 1 / 240 من طريقين بلفظين، وانظر صحيح الجامع (7825: 7827).
[3] - النسائي ( 5438 ) ، ونحوه ( 5431 ) ، ونحوه عند أبي داود ( 1463 ) .
[4] - حديث صحيح : رواه الترمذي (2058) ، وحسنه ، والنسائي ( 5494 ) ، وابن ماجة ( 3511 ) .
[5] - بدائع الفوائد: 2 / 237، 238.
[6] - بدائع الفوائد : 2 / 235 .
[7] - رواه النسائي ( 5431 ) ، وهو صحيح .
[8] - أحمد : 5 / 312 ، وأبو داود ( 5082 ) ، والترمذي ( 3575 ) ، والنسائي ( 5428 ، 5429 ) .
[9] - أحمد: 1 / 62، 66، وأبو داود (5088)، والترمذي (3388)، وابن ماجة (3869)، والحاكم: 1 / 514 وصححه ووافقه الذهبي.
[10] - المسند: 1 / 72، وعمل اليوم والليلة للنسائي (15)، وابن حبان كما في الإحسان (862)، وإسناده حسن في المتابعات.
[11] - مالك: 2 / 951 (11) ومسلم (2709)، وأبو داود (3899)، والنسائي في عـمل اليوم والليلة (591: 598).
[12] - أحمد: 5 / 430، وأبو داود (3898)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (599: 601).
[13] - أحمد: 2 / 290، وإسناده حسن، ونحوه عند النسائي في عمل اليوم والليلة (596).
 
أسباب أخرى
وهناك أسباب أخرى ذكرها ابن القيم - رحمه الله - في (بدائع الفوائد) ([1]) وإليك خلاصتها :
السبب الثاني : تقوى الله تعالى ، وحفظه عند أمره ونهيه ؛ فمن اتقى الله ، تولى الله حفظه ، ولم يكله إلى غيره ، قال تعالى: ) وإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا ( [ آل عمران : 120 ] ، وقال النبي e لعبد الله ابن عباس : " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك " ( [2] ) ؛ فمن حفظ الله حفظه الله ، ووجده أمامه أينما توجه ، ومن كان الله حافظه وأمامه ، فممن يخاف وممن يحذر ؟!
السبب الثالث : الصبر على عدوه ، فلا يقاتله ، ولا يشكوه ، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا ، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه ، والتوكل على الله ؛ قال الله تعالى : ) وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ( [ الحج : 60 ] ؛ فإذا كان الله تعالى ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولاً ، فكيف بمن لم يستوف شيئًا من حقه ، بل بُغِيَ عليه ، وهو صابر ، وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم ، وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكًا .
السبب الرابع : التوكل على الله ، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم ؛ ) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ( [ الطلاق : 3 ] ؛ قال بعض السلف : جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده ، فقال : ) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ( ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر ، كما في الأعمال .
فمن كان متوكلا على الله ، فإن الله حسبه ، أي : كافيه ، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه ، ولا يضره إلا أذى لابد منه ، كالحر والبرد والجوع والعطش ، وأما أن يضره بما يبلغ مراده ، فلا يكون أبدًا ؛ فلو توكل العبد على الله حق توكله ، وكادته السماوات والأرض ومن فيهن ، لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره .
السبب الخامس : ويندفع شر الحسد بفراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه ، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له ، فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه ؛ وهذا من أنفع الأدوية ، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره ، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه ، فإذا لم يتعرض له ، ولا تماسك هو وإياه ، بل انعزل عنه ، لم يقدر عليه ، فإن تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه ، حصل الشر .
ولا يصدق بهذا إلا أصحاب النفوس المطمئنة ، التي رضيت بوكالة الله تعالى لها ، وعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم ، وأعظم فائدة ، من نصرها هي لنفسها ، أو نصر مخلوق مثلها لها ؛ ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس .
السبب السادس : الإقبال على الله ، والإخلاص له ، وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها ، تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئًا ، حتى يقهرها ويذهبها بالكلية ، فتبقى خواطره وأمانيه كلها في محاب الله والتقرب إليه ، فإذا صار كذلك ، فكيف يرضى أن يجعل قلبه معمورًا بالفكر في حاسده والباغي عليه ، والطريق إلى الانتقام منه والتدبير عليه ، هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب ، لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته .
السبب السابع : تجريد التوبة إلى الله تعالى من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه ، فإن الله تعالى يقول : ) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ( [ الشورى : 30 ] ؛ فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه ، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها ، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره ، فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف ما يذكره ؛ فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب ، ولقي بعضَ السلفِ رجلٌ فأغلظ عليه ونال منه ، فقال له : قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك ! فدخل فسجد لله ، وتضرع إليه ، وتاب وأناب إلى ربه ، ثم خرج إليه ، فقال له: ما صنعت ؟ قال : تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي .
فليس للعبد إذا بُغِيَ عليه وأُوذي وتسلط عليه خصومه شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح ؛ وعلامة سعادته : أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه ، فيشتغل بها وبإصلاحها ، وبالتوبة منها ، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به ، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه ، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد .
السبب الثامن : الصدقة والإحسان ما أمكنه ، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء ، ودفع العين وشر الحسد ، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى . فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق ، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد ، وكانت له فيه العاقبة الحميدة ؛ فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته ، عليه من الله جُنَّةٌ واقية وحصن حصين ؛ لأن الشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها ، ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن ، فإنه لا يفتر ، ولا يبرد قلبه ، حتى تزول النعمة عن المحسود .
فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله ، وهو كفران النعمة ، وهو باب إلى كفران المنعم جل وعلا .
السبب التاسع : وهو من أصعب الأسباب على النفس ، وأشقها عليها ، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله ، وهو : طَفيُ نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه ، فكلما ازداد أذى وشرًّا وبغيًا ، ازددت إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شفقةً ؛ وما أظنك تصدق بأن هذا يكون ، فضلا أن تتعاطاه ! فاسمع الآن إلى قوله U : ) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( [ فصلت : 34 ، 35 ] ، وقال سبحانه : ) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( [ القصص : 54 ] .
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ، ويطيبه إليها ، وينعمها به : اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله ، تخاف عواقبها ، وترجوه أن يعفوها ، ويغفرها لك ؛ ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة ، حتى ينعم عليك ، ويكرمك ، ويجلب عليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله .
فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك ، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه ، وتقابل به إساءتهم ، ليعاملك الله هذه المعاملة ، فإن الجزاء من جنس العمل ؛ فانتقم بعد ذلك أو اعف ، وأحسن أو اترك ، فكما تدين تدان ، وكما تفعل مع عباده يفعل معك .
فمن تصور هذا المعنى ، وشغل به فكره ، هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه ، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة ، كما قال e للذي شكـا إليه قرابته وأنه يحسن إليهم ويسيئون إليه : " لا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك " ( [3] ) ؛ هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ، ويصيرون معه على خصمه ، فإن كل من سمع أنه محسن إلى الغير ، وهو مسيء إليه ، وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء ؛ وذلك أمر فطري ، فطر الله عليه عباده .
هذا مع أنه لابد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين : إما أن يملكه بإحسانه ، فينقاد له ، ويبقى من أحب الناس إليه ، وإما أن يفتت كبده وقطع دابره إن قام على إساءته إليه ؛ فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال بانتقامه .
ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة ؛ والله الموفق المعين ، بيده الخير كله ، وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنِّه وكرمه .
السبب العاشر : وهو الجامع لذلك كله ، وعليه مدار هذه الأسباب ، وهو : تجريد التوحيد ، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ، والعلم بأن هذه آلات لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، فهو الذي يمس عبده بها ، وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه ؛ قال الله تعالى : ) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه ( [ يونس : 107 ] ؛ وقال النبي e لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ؛ ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " ( [4] ) .
فإذا جرَّد العبد التوحيد ، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه ، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله ، بل يفرد الله بالمخافة ، ويتجرد لله محبةً وخشيةً وإنابةً وتوكلا واشتغالا به عن غيره ، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه ، وخوفه منه ، واشتغاله به ، من نقص توحيده ؛ وإلا فلو جرَّد توحيده لكان له فيه شغل شاغل ، والله يتولى حفظه والدفع عنه : ) إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ( [ الحج : 38 ] ، فإن كان مؤمنًا فالله يدافع عنه ولابد ، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه ، فإن كمل إيمانه كان دفاع الله عنه أتم دفع ، وإن مَزَجَ مُزِجَ له ، وإن كان مرة ومرة ، فالله له مرة ومرة .
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين ؛ قال بعض السلف : من خاف الله ، خافه كل شيء ، ومن لم يخف الله ، أخافه من كل شيء .
فتلكم الأسباب التي يندفع بها شر الحسد ، بل يندفع بها كل شر لمن تدبرها وفهمها ؛ والله المستعان .


[1] - انظر بدائع الفوائد : 2 / 238 : 246 .

[2] - جزء من حديث صحيح : رواه أحمد : 1 / 293، 303، 307 ، والترمذي ( 2516 ) وصححه ، والحاكم : 3 / 541 .

[3] - أحمد 2 / 300، ومسلم (2558) من حديث أبي هريرة.

[4] - جزء من حديث صحيح: رواه أحمد: 1 / 293، 303، 307، والترمذي (2516) وصححه، والحاكم: 3 / 541.
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كشف هذا الداء ، ودوائه ، والوقاية منه ، وما يندفع به ؛ وما كان فيه من خير وصواب فمن الله وحده ، وله الحمد والمنة ، وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه .
لكـن قـدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والله الكريم أسأل أن ينفع به كاتبه ، وناشره ، وقارئه ، والدال عليه ، وأن يجعله في ميزان حسناتنا ، ] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ [ الشعراء : 88 ، 89 ] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله .
 
عودة
أعلى