تأملات في أحوال الجوارح يوم القيامة ـ الجزء الثاني ( أحوال الوجه)

عمر المقبل

New member
إنضم
6 يوليو 2003
المشاركات
805
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
سبق أن أشرت في المقالة الماضية إلى أحوال البصر في ذلك الموقف العظيم ، وما يسبقه من مقدمات وإراهاصات ، وفي هذه المقالة ، سأشير ـ وباختصار ـ إلى أحوال الوجه يوم القيامة :

بعدما يرى أهل الموقف من الأهوال ما يرون ، وحين يجاء بجهنم تجثو الأمم على ركبها من هول ذلك الأمر وفظاعته ، ولا أجد وصفاً أعظم ولا أبلغ من وصف العليم بتلك الأحوال سبحانه ، حينما قال سبحانه ـ عن عباده الصالحين ـ : ( يخافون يوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالآبْصَارُ) .
هناك ـ وفي ذلك اليوم ـ تنقسم وجوه الخلق يوم القيامة إلى قسمين اثنين فقط ، يوضح ذلك قوله تعالى :
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، وهذا كقول الله تعالى : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .
ولك أن تتصور أن هذه الوجوه المسودّة ـ والعياذ بالله ـ لم تصل إلى أرض المحشر إلا بعد أن ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، عند الاحتضار ، وقبل الانتقال إلى عرصات الموقف ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ، وكما قال U : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) .
بل لقد أيقنوا بإفلاسهم ،وسوء حالهم منذ أن رأوا الأمر عياناً ، كما قال الله U : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) .
إنها ـ كما قال الله ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (أي كالحة عابسة) تظن (أي تستيقن ) أن يفعل بها فاقرة (أي : داهية عظيمة) ...
إنها وجوه يومئذٍ ( عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أؤلئك هم الكفرة الفجرة) ، فهي وجوهٌ علاها الغبار ، وغشاها القتار ،وهو شبه الدخان ، يغشى الوجه من الكرب والغم .
واستمع إلى سبب ذلك في قول ربك جل جلاله : ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فإذا كان هذا حال هذه الوجوه وهي في العرصات ، لم تدخل النار بعد ، فما ظنكم بالطريقة التي ستحشر بها هذه الوجوه الكالحة المسودة المكفهرة ؟ وإلى أين ؟ إلى النار !!
استمعوا إلى قول U : ( إن المجرمين في ضلال وسعر*يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) ...
( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) ...
( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) .
حتى إذا ما وصلوا إلى النار ألقوا وكبوا كباً كما يكب الشيء الذي يلقيه صاحبه إلقاء المبغض الكاره : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ...
فلعلهم يستطيعون أن يهربوا هنا أو هناك ! (يَقُولُ الآنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ )
فيأتي الجواب القاطع لكل احتمال يمكن أن يتردد في قلوب أولئك : ( كَلا لا وَزَرَ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) ، ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .
فإذا كان هذا حالها وهي تحشر إلى النار ، فما ظنك بهذه الوجوه بعد أن تلفحها النار بلهبا المحرق ؟
وما ظنك بها ـ بعد أن أضناها العطش ، وسألت الإغاثة لسد ما يجدونه من حرارة بطونهم ـ فإذا بهم يغاثون بماء كالمهل ، يشوي الوجوه ، (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) ،اللهم إنا نعوذ بك من حال هؤلاء .
وفي مقابل هذه الأوصاف الموحشة ، لتلك الوجوه الكالحة ، فإن الله تعالى وصف وجوه أهل الإيمان بأوصاف تليق بها ، جزاءاً وفاقاً ، إنه وجوه المتوضئين ، الراكعين ، الساجدين ، إنها وجوه الذاكرين المخبتين ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
يا الله !
ما أعظم الفرق بينهم وبين من يقدم أرض المحشر وقد بيّض الله وجهه ، ونضّر جبينه ، ويعده ربه برحمته الخالدة ؟!.
ألا يحق لتلك الوجوه التي بشرّت بجنة ربها ،و الخلود فيها أن تكون وجوهاً تعلوها النضارة ، والسرور ؟
بلى والله ، ولذلك قال الله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى ربها ناظرة ) ، (تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) .
وحق لها والله أن تكون ناضرة ! أليست هي الوجوه التي لطالما سجدت لله ؟!
أليست هي الوجوه التي لطالما تحدرت الدموع عليها من خشية الله ؟!
أليست هي الوجوه التي حفظت ما فيها من جوارح : في سمعها وبصرها ولسانها عما لا يرضي الله ؟!
ثم تاج ذلك كله أن تتنضر في جنة النعيم برؤية رب العالمين سبحانه وتعالى ، ذلك النعيم الذي لا يشبهه نعيم ، وهو الزيادة التي وعد الله بها المؤمنين من عباده في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
إنها الوجوه التي قال الله عنها : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحكة مستبشرة ) ،إنها وجوه الناس الذين يأخذ أحدهم كتابه أحدهم بيمينه فيقول ـ من فرحه وسروره ـ ( هاؤم اقرأوا كتابيه ، إني ظنتت أني ملاق حسابيه ) إنها : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لسيعها راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية ...)
ولئن كانت وجوه الكفرة ، عليها غبرة ، وترهقها قترة ، فقد سلم الله وجوه المؤمنين من ذلك ، بل هي كما قال الله : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
ومن عجب أنك ترى مقدماتٍ لهذه الأحوال في الدنيا قبل الآخرة !
فلله ، كم من شخص ـ في هذه الدنيا ـ خلق أسود البشرة ، من أهل الإيمان ، إلا أنك ترى عليه نضرة الإيمان ، وبهاء الطاعة ، والعكس صحيح ، فكم من رجل خلق أبيض البشرة ، إلا أنك ترى ظلمة المعصية على وجهه ، وآثار الضيق على محياه !
فسبحان من أشهد عباده شيئاً من أحوال ذلك اليوم ؟!


وقفة ،ومثال واقع ولا بد :
فلكأني بوجه بلال ، الذي قضى الله أن يكون أسود البشرة ، لكأني به يأتي أبيض الوجه ، يطفح بالبشر والسرور ، ويتهلل بالرضا والنضارة !
ولكأني بذلك البغيض المقيت أبي لهب ، والذي لقب وكني بأبي لهب ، لشدة الحمرة التي تعلو وجهه ، لكأني به مسود الوجه ، عليه غبرة ، ترهقه قترة ، لماذا ؟ إنه من الكفرة الفجرة .
فنسأل الله تعالى أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
 
بعد انقطاع عن الاستمتاع بالمشاركة في هذا الملتقى ـ بسبب البحث الذي أعان الله على تسليمه ـ أعود لأطلب من إخوتي إبداء ملاحظاتهم على هذه التأملات في أحوال الوجه ..
لأنني أنوي ـ بإذن الله ـ أن أستمر في تسجيل بقية ما لدي من تأملات في بقية الجوارح .. فلا تحرمونا تصويباتكم ،لا حرمكم الله الأجر والثواب .
 
بارك الله فيكم أبا عبدالله على هذه التأملات الموفقة في آيات القرآن الكريم. ومثل هذه التأملات السريعة من أنفع ما يكون في الكلمات القصيرة بعد الصلوات في المساجد ، فواصل وفقك الله ونفع بك.
وأبارك لكم الانتهاء من رسالة الدكتوراه ، جعلها الله عوناً لك على طاعته.
 
عودة
أعلى