بنت اسكندراني
New member
بسم1
تأملاتٌ مِنْ نَافِذَةِ الطَّائِرَةِ !!
في الصيفِ الماضي اتخذتُ مقعدي في الطائرةِ بجوارِ النافذةِ كعادتي , ورحتُ أطلُّ منها أتأملُ ما حولي وأطيلُ النظرَ فيه , أحتضنُ ببصري كلَ ما أستطيعُ أن أبصرَه من أرضِ طيبةَ الطيبةَ , التي أهيمُ بها ويجري حبُّها وعشقُها في دمِي .
وحين انطلقتْ الطائرةُ على مدرجِ الإقلاعِ , وحلّقتْ مفارقةً الأرضَ ؛ كان همّي أنْ ألتقطَ بعيني صورةً شاملةً للمدينةِ المنورةِ , صورة أرى فيها مسجدَ الحبيبِ عليه الصلاةُ والسلامُ يتوسَّط العمرانَ كلؤلؤةٍ ثمينةٍ تحوطُها صدفةٌ حانيةًٌ محبةٌ , أردتُ أن أرى معالمَ المدينةِ وأحيائَها حيثُ ولدتُ وحيثُ نشأتُ وحيث أسكنُ , وحيثُ أرجو منَ الله أنْ أموتَ فيها وأدفنُ , لكن قائدَ الطائرةِ كانَ له وجهةٌ أخرى بعثرتْ آمالي , فقد انطلقنا تاركينَ الحبيبةَ وراءَ ظهورِنا .
وبينما أعالجُ شعوري المتصاعدُ بخيبةِِ الأملِ وأنا أشاهدُ انحسارِ العمرانِ = شدَّ انتباهي خطٌ متعرّج ٌطويلٌ تمشي فيه سيارةٌ فارهةٌ مسرعةٌ , تثيرُ خلفها سحابةً من الغبارِ , فتتبعتُ ببصري إلى أينَ يمكنُ أن ينتهيَ هذا الطريقُ الخاصّ ؟ , فإذا بمزرعةٍ كبيرةٍ مستطيلةِ الشكلِ , مليئةٍ بالأشجارِ العاليةِ , والنخيلِ الباسقةِ , والخضرةِ التي تسرُّ الناظرينَ , وبجوارها قصرٌ أبيض مهيبٌ , وحولَه حوضُ سباحةٍ كبيرٍ يتوسطُ الخضرةَ ؛ عاكسًا زرقةَ السماءِ الصافيةِ في قلبِ هذهِ اللوحةِ البديعةِ , فلازالتْ الطائرةُ تعلو وترتفعُ حتى اختفتِْ السيارةُ بغبارِها , والمزرعةُ بأشجارها , والمنطقةُ بأسرها عن عيني , وتشابهتْ المناظرُ , وما عادتْ التضاريسُ تتباينُ إلا بالألوانِ .
إلى هُنا كانَ منَ المفترضِ أن ينتهي اهتمامِي بهذا المشهدِ لكي ألتفتَ بعدَ ذلكَ لمنْ حولي , وأنعمُ برحلةِ طيرانٍ مميزةٍ ... لكنني لمْ أفعلْ !!!
فهذا المشهدُ الاعتياديُّ ـ المتوقعُ رؤيتَهُ في أيَّةِ رحلةِ طيرانٍ على وجهِ الأرضِ ـ أثارَ داخلي عاصفةً من الكلماتِ والصورِ , التي تدافعتْ في رأسي حتى جرَفتني معها لتأملٍ عميقٍ , فلمْ أزل أسيرةً لهذا التأمّلُ زمنًا , ولازالتْ الأفكارُ تتوالدُ من بعضِها البعضُ وهي تطوفُ في فلكِهِ سبعًا بعدَ سبعٍ , وكلمّا خلوتُ إلى نفسي بعدَها تذكرتُ الطائرةَ , وعادتْ الكلماتُ تعصفُ برأسي عصفًا , وهي تستحثّني على كتابتِها , فاضطررتُ أن أدوِّنها بعد رحلتي تلكَ بأيامٍ على هيئةِ خواطرَ قصيرةٍ في مفكرةِ هاتفي , وحين فرغتُ منها نسيتُها وانشغلتُ عنها تمامًا .
واليوم وبعدَ مرورِ ستّةِ أشهرٍ تقريبًا وبينما أنا أعبثُ بهاتفي عثرتُ عليها , فعادتْ الصورةُ التي رأيتُها إلى ذهني حيَّةً , وتلاحمتْ بالكلماتِ والتأملاتِ , فكأنَّ السيارةَ الفارهةَ التي تثيرُ الغبارَ خلفها لازالتْ متوجهةً إلى المزرعةِ العظيمةِ , وكأنِّي أنا لازلتُ هناكَ في الطائرةِ أتابعُها منَ النافذةِ ببصري , وأغرقُ تدريجيًا في بحرِ تأملاتي وأنا متعجبةٌ أناجي نفسي:
لو أنني هناك أقفُ على الأرضِ في أحدى زوايا هذهِ المزرعةِ لما أتيتُ ببصري على نهايتِها , ولو أنني بين أشجارِها لظننتُها جنةً لا مثيلَ لها على الأرضِ , ولو أنني داخلَ قصرِها لحالتْ جدرانُه العاليةُ بيني وبين الفضاءِ , ولخلتني ـ وأنا أقفُ في شرفاتِه أُطلُّ على حوضِ السباحةِ وما حولَه ـ أنني في امبراطوريةٍ عظيمةٍ أشاهدُ من العلياءِ أملاكي بكلِ فخرٍ !!
ولربما شمختُ بأنفي ورحتُ أختالُ في أثوابِ كبريائي متباهيةً أمامَ الناسِ بحجمِ أملاكي !!
لكنَّ الأمورَ تبدو مختلفةً تمامًا عمّا هي عليه مِنْ نافذةِ الطائرةِ !! .
فعجبًا لابن آدمَ يحيا حياتَه بأفقٍ ضيقٍ , ونظرٍ قاصرٍ , متعللاً بمحدوديةِ بصرِه , ولو شاءَ لامتطى مَا سخّرَ اللهُ له منَ الدوابِ فزادَ مسافاتٍ في مجالِ رؤيتِه , ولازْدَادَ تباعا لذلكَ مساحاتٍ في أفقِ فكرِهِ , لكنّه قلّما يفعلُ !! لأنّه يركنُ إلى الأرضِ , يركنُ إلى الأمتارِ التي يراها من الأرضِ دونَ غيرِها , وقد يعيشُ حياتَه في دوائرَ مفرغةٍ من صنعِ خياله الأسيرِ , وربما يفني عمرَهُ على أهدافَ متواضعةٍ تواضعَ نظرِهِ وتفكيرِهِ , دونَ أن يسمحَ لنفسِه بأن يرقى بفكرِه وبخيالِه قليلا ليُوسّعَ مداركَهُ !
مِن نافذتي بالطائرةِ رأيتُ مشاريعنا العظيمةَ على الأرضِ كَم تبدو تافهةً من الفضاءِ , ورأيتُ عمراننا الشامخَ وشوارعنا الجميلةَ ومدننا المزدحمةَ كيف تبدو من الأعلى كبيوتِ نملٍ متواضعةٍ !!
من نافذتي بالطائرةِ رأيتُ البشرَ كذراتٍ صغيرةٍ تتشابهُ ولا تتباينُ , لم أرَ فرقًا بين غنيِّ وفقيرٍ , وجميلٍ وقبيحٍ , وطويلٍ وقصيرٍ ... الكلُّ يتشابه !!
ألا ليتَ شعري أينَ المتكبِّرونَ الذين يضربون الأرضَ اختيالًا وتكبرًا على خلقِ اللهِ ؟؟!!
أينَ شموخُ الشامخينَ بأنوفهم من ارتفاعِ عشراتِ الأمتارِ فوقَ الأرضِ ؟؟!!
ألا من يُبلغُهم أنهم لا يُرَوْن منْ فوقِ السحابِ , فكيفَ يكونُ حجمهم من فوقِ سبعِ سمواتٍ ؟؟!!
ألا مَنْ يذكِّرُ الأغنياءَ أصحابَ المزارعِ والأراضي والعقاراتِ والأملاكِ الشاسعةِ أن مُلكَهم لا يزنُ مثقالَ ذرةٍ من ملكِ اللهِ , فلا يغترُّوا !!
ألا مَنْ يُبْلغ صاحبَ المزرعةِ ذاكَ أن مزرعَتَه العظيمةَ التي رأيتُ لم تكنْ تتجاوزُ عقلةَ أصبعٍ من أصابعي !!
ألا مَنْ يُبلغ الذين يعاقرونَ المعاصي في الظلماتِ أن الذي عصَوْهُ عظييييييييييم !!
ألا مَنْ يُبلِغُهم أنَّ اللهَ حليمٌ بنا وبهم , ولو شاءَ لأطبقَ علينا الجبالَ بذنوبنا , أو أرسلَ علينا مدًا من بحارِهِ العظيمةِ فأغرقنا بموجةٍ واحدةٍ ... ولا يُبَالي !!
أمَا واللهِ إنَّ أهلَ الأرضِ كلِّهم لوْ عصوا اللهَ وبارَزوه بالمعاصي ما هزَّ ذلكَ في ملكِهِ شيئا , ولو أنهم عبدوه ما زادَ ذلكَ في ملكِه شيئا , فما أحقرَ شأنُهم في بحارِ ملكوتِ اللهِ الشاسعةِ هذهِ !!
فهل نعي حقًا أن عبوديتَنا للهِ تاجُ مفخرةٍ أكرمنا الله بها ؟؟ وأننا واللهِ ما شكرنا الله حقَّ شكرِهِ على هذهِ النعمةَ , فضلا عمّا دونها من النعمِ ؟؟ .
متى نعي أنّنا إنّما نرقى بذكرِنا إلى الملإِ الأعلى بمقدارِ طاعتِنا وعبادتِنا للهِ , لا بمقدارِ جمالِنا ولا بماركاتِ ملابسِنا ولا بأنواعِ عطورِنا ولا بتحضُّرِنا ولا بطريقةِ كلامِنا ؟؟!!
ألا ليتَ من اغتصبَ من أخيهِ أمتارًا من أرضِهِ فتشَاحنا , أو اغتصبَ من ورثةٍ ضعافٍ بيتًا فأكلَه عليهم ؛ أَلا ليتَهُ أنْ يركبَ طائرةً ليشاهدَ ما اغتصبَهُ من ارتفاعِ أمتارٍ عن الأرضِ , ليدركَ أنَّ ثمّةَ تفاهاتٍ حقيرةٍ لا تكادُ تبلغُ السنتيمترات من ارتفاعٍ بشريٍّ بسيطٍ = تثيرُ بيننا الكثيرَ منَ الأحقادِ , والكثيرَ من العداواتِ التي قد تستمرُ أعوامًا وأعواما , بل وقد تتناقلُ عبرَ الأجيالِ !!
ألا ليتَ مَنْ يظنُّ أنَّ الدنيا ضاقتْ عليه بما رحُبَتْ حَتى أضحتْ في عينِهِ كسمِّ الخياطِ أو ربّما أضيقُ ؛ ألا ليتَهُ يستبشر , فالدنيا رحبةٌ , وأرضُ اللهِ واسعةٌ , فليهاجرْ فيها , فأينما رحلَ فثمَّ رزقُ اللهِِِِِِ ونعمُه التي لا تنفدُ !.
ألا مَنْ يُبلغُ علماءَ الفضاءِ كم أنتم حمقى ومغفّلون إن لم يكن ما ترونَه من آياتِ اللهِ دافعًا لكم لتؤمِنوا باللهِ !! وكم أنتم محرومونَ إن لمْ تمرِّغوا وجوهَكم في السجودِ لخالقِ هذا الكونِ العظيمِ , الذي ترونَه يزدادُ اتساعًا في مناظيرِكم وحساباتِكم !! .
من نافذتي في الطائرةِ شعرتُ أننا ـ بالمقاييسِ المكانيّةِ ـ إلى السماءِ أقرب , مقارنةً بما نكونُ عليه ونحنُ على الأرضِ , وهالني أنَّ القُربَ مِنَ اللهِ لا يثيرُ أشواقَنا للقياهُ , ولا يثيرُ أشواقَنا للعودةِ لديارِنا الأُوَل في جناتِ النعيمِ , في جوارِ رحمنٍ رحيمٍ .
فاللهم إنّا نسألُك أن ترحمَ ضعْفَنا , وتغْفرَ ذنوبَنا , وتحسنَ ختامَنا , وترزقَنا جواركَ في مستقرِّ رحمتِكَ نحنُ وجميعُ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ إنكَ سميعٌ مجيبُ الدعاءِ .
وصلّى اللهُ وسلمَ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبه وسلَّم .
بقلم : حفصة اسكندراني.