علي المالكي
Member
حديث الساعة اليوم عن الفصحى المصرية والشامية!
وهو حديثٌ قديمٌ يتجدد حينًا بعد حين، ويثار غبارُه بعد سكونِه، ولكنه في عصرِ مواقعِ التواصل له شكل مختلف عما كان قبلُ، وكلما زادت هذه المواقعُ وزاد روّادُها زاد انتشارُ هذا الحديث، وكثُرَ الخائضون فيه بعلمٍ أو بجهلٍ، وهؤلاء الآخِرون هم الأكثرون!
وقد لفت نظري في بعض المنشورات والتعليقات ادّعاءُ كثيرٍ المصريين أن الجيم القاهرية هي الفصحى، وفي مقابل ذلك ادعى بعضُ الشاميين أن الجيم الشامية أصح من الجيم المصرية!
فأحببت أن أسلط الضوء على هذه النقطة خاصةً. فأقول:
من المعلوم عند المختصين أن اللغةَ التي دوّنَ النحاةُ قواعدَها في كتب النحو كانت تُمثِّل الشائعَ والكثيرَ في لغة العرب، دُونَ الشاذ والنادر ونحوِ ذلك.
ولقد كان النحاةُ الأوائل يذهبون إلى حيث العربُ الأقحاحُ، ويسمعون اللغةَ منهم ويجمعونها، ثم يستقرئون هذا الرصيد اللغوي الضخم، ويضعون قواعدَ العربية على النهج الذي سبق ذكرُه.
وقد جاء سيبويه -إمام النحاة- فجمع علومَ شيوخه من أئمة النحو البصريين، وأضاف إليه ما سَمع هو نفسه من العرب الفصحاء، وما فتح اللهُ به عليه من النظر الدقيق، والتحليل العميق، والتقعيد الأنيق، ودوَّنَ كلَّ ذلك في كتابه الذي لم يؤلَّف مثلُه في النحو، وأصبح هذا الكتابُ دستورًا للنحاة على مر العصور، وإمامًا يقتدون به ويحتجّون.
وقد تحدث سيبويه في كتابه عن أصوات الحروف العربية، فقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- حروف أصلية: وهي التسعة والعشرون المعروفة (أ ب ت ث ج...).
2- حروف فرعية: وهي فروع من الحروف الأصلية، وقد جعلها على قسمين:
- حروف كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار.
- وحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرةٍ في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر، وذَكَر من هذا النوع: الجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين.
ثم ذَكَر أن الحروفَ الفرعية -جيدها ورديئها- لا تتبين إلا بالمشافهة.
وقد حفظ لنا القرآنُ الكريم أصواتَ الحروف الأصليةَ كلَّها، وعددًا من أصوات الحروف الفرعية، ووصلت إلينا هذه الأصواتُ عبر الأجيال بالنقل الشفهي المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا يتطرق إليه الشك والظنون.
وبقيت أصواتٌ أخرى لم يصلنا بها نقلّ شفهيٌ متواترٌ، لكن منها ما يمكن أن نتصوره بطرقٍ أخرى يَعضُد بعضُها بعضًا -وإن كانت ربما لا توصل إلى اليقين-، من هذه الطرق: اللهجات العامية المعاصرة، وما دوّنه النحاةُ في كتبهم.
أما الجيم الأصلية فهي التي نقلها لنا قراءُ القرآن مشافهةً بالتواتر جيلًا بعد جيل.
وهذه الجيم هي الشائعةُ في كلام العرب لا غيرُها؛ لأنك قد عرفتَ أن النحاة بنَوا قواعدهم على الشائع في كلام العرب، ومن ذلك الأصواتُ اللغوية.
وقد نص سيبويه على أن الجيم تخرج من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى.
ووصفَها بأنها حرف شديد، مجهور... إلخ.
واتفقت كلمةُ العلماء من القراء والنحاة من بعده على هذا.
ونحن نعلم أن القرآن الكريم جاء على أفصح اللغات، ولم يَرٌدْ في قراءات القرآن جيمٌ غيرُ هذه.
وهذا يدل على أن هذه الجيم هي الجيم هي وحدَها الجيمُ الفصيحة.
إذن، أين الجيم القاهرية من هذا؟ وأبن الجيم الشامية؟
الجواب: كلتاهما من الحروف غير الفصيحة، التي لا تستحسن، ولا تكثُر في لغة من لا تُرتضى عربيتُه.
فالجيم القاهرية -كما يظهر- هي الجيم التي كالكاف؛ فهي تخرج من مخرج الكاف، وتحمل صفة الجهر التي في الجيم.
وهذا الكلام -أعنى كون هذه الجيم غير فصيحة ولا تستحسن ولا تكثر في كلام من ترتضى عربيته- قاله سيبويه الذي خالط العربَ الأقحاح بمختلف قبائلهم، كما فعل ذلك شيوخُه من أئمة البصرة الأوائل.
أفبعد كل هذا يقال: إن الجيم القاهرية هي الفصحى؟!
ويقول قائلُهم: إنها الجيم القاهرية هي أصل الجيم الفصيحة، التي كان ينطق بها العرب القدماء وأهلُ اليمن، وما تزال تُسمع في كلام أهل اليمن إلى يومنا هذا.
أقول: هذا القائل جاهل جهلًا مركّبًا؛ فهو جاهل ولا يدري أنه جاهل!
إن لغة العرب الفصحى لها إطار زماني ومكاني ذكره النحاة في كتبهم؛ وبداية إطارها الزماني يعود إلى أواخر القرن الخامس الميلادي، وأما ما قبل ذلك فلم تصلنا عنه صورة واضحة، ولا نعلم تحديدا متى اتخذت اللغة العربية شكلها المكتمل النضج الذي نجده في الفصحى الجاهلية، والذي مر بمراحل طويلة من النمو والتطور حتى اكتمل، كما تبيّن لنا ذلك النقوشُ القديمة التي تعزى إلى تلك الحِقَب الزمنية الموغلة في القِدَم.
فكيف لمثل ذلك القائل أن يدّعي أن الجيم في لغة العرب البائدة -من عاد وثمود ومَدْيَن ونحوِهم- كانت هي الجيم القاهرية؟!
وحتى لو فرضنا أنه جاء بدليل على ذلك، فقد تبيَّن لك أنه لا يُعتد بهذا النطق في الفصحى؛ لأنه خارج عن إطارها الزماني.
ثم إنَّ لغةَ أقاصي جنوب الجزيرة خارجة عن الحدود المكانية للغة الفصحى.
قال أبو عمرو بن العلاء: «ما لسانُ حِمْيَر وأقاصي اليمنِ بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا».
وقال ابن جني: «لسنا نشك في بُعد لغةِ حمير ونحوها عن لغة بني نزار».
حتى كتابتهم لم تكن ككتابة أهل الشمال؛ لأنهم كانوا يستخدمون خطًّا يسمى الخط المسند.
ولذلك لم يأخذ النحاةُ اللغةَ عن هؤلاء القوم، بل لم يأخذوا حتى عن القبائل الجنوبية المتاخمة لهم، كما لم يأخذوا عن أهل شمال الجزيرة الذين كانوا متاخمين للغساسنة في الشام أو المَناذرة في العراق؛ لأنهم يعلمون أن المجاورة سبب من أسباب تأثر اللغات بعضها ببعض؛ وذلك أخذوا عن قبائل أوساط الجزيرة من نجد والحجاز وتهامة.
وأما وجود هذه الجيم في لغة أهل القاهرة فسببُه امتداد اللهجات العامية، فوصلت هذه الجيم إليهم من اليمن، كما وصلتهم غيرُها من اللغات الجنوبية، كالتَّلْتَلَة التي نسبها أهل اللغة إلى قضاعة، وهذه اللغة عبارة عن كسر أول الفعل المضارع، مثل: تِسمع، ونِعرَف، ويِفهم، وهي لغةٌ قحطانية، وكما وصلتهم الطمطمانية، وهي إبدال لام التعريف ميمًا، في نحو كلمة: امبارح، وهي لغة يمانية معروفة.
هذا ما يتعلق بالجيم القاهرية.
وأما الجيم الشامية فهي الجيم التي كالشين -كما يبدو-؛ لأنها مزيج من الجيم والشين، تجمع بين الجهر الذي في الجيم والرخاوة التي في الشين.
وهذه الجيم هي التي ينطقها كذلك عامةُ أهلِ ليبيا وتونس، وبعض المناطق في الجزائر والمغرب وغيرها.
فالأمر في مسألة الجيم بين المصريين والشاميين ينطبق عليه المثل العامي المصري: (لا تعايرني ولا أعايرك؛ ده الهم طايلني وطايلك)، فكلاهما كما يقال: (في الهوا سوا).
وأما من حيث العموم، فالشاميون أسلمُ لغةً من المصريين نسبيًّا، بدليل أن غالب المتحدثين بالفصحى من المعلقين الصوتيين ومذيعي الأخبار ومقدمي البرامج والممثلين وغيرهم - هم من أهل الشام، ولا سيما سوريا ولبنان، فهّم أقدر على أداء اللغة الفصحى والتخاطب بها من المصريين.
وإن كانت السمة الغالبة على أهل الشام ومصر اليوم -مع الأسف- هي التحدث باللغة الفصحى المعاصرة -إن صح التعبير-، وهي لغة فصحى تحمل في طياتها كثيرًا من المولّد والعامّي والدخيل والشاذ والضعيف ونحو ذلك، سواء على مستوى الأصوات، أو على مستوى الصرف، أو على مستوى المفردات، أو على مستوى التراكيب والأساليب.
حتى فيما يسمى بالمسلسلات والأفلام التاريخية -التي يفترض أنها تمثّل المتحدثين باللغة الفصحى التي كان يتكلم بها أهل ذلك الزمان- نجدهم يتكلمون بتلك اللغة العصرية، بالإضافة إلى اللحن الصريح في الإعراب في كثير من الأحيان.
وهذا سببه قلة العلم بالعربية الفصحى، بالإضافة إلى التأثر بالدعوات الخبيثة المنادية بتحديث العربية الفصحى وتطويرها، والاتجاه إلى الوصفية بدلًا من المعيارية، ونحو ذلك مما ينادي به المُحدَثون اليوم متأثرين بدعوة فرديناند دي سوسير.
وقد تحدثتُ عن ذلك في مقالات سبقة بما يغني عن إعادته.
هذا ما تيسر في هذه العجالة، والموضوع بحاجة إلى مزيدِ كلامٍ، والمقال بحاجة إلى إعادة صياغة، ولعل الله ييسر ذلك في قادم الأيام.
وهو حديثٌ قديمٌ يتجدد حينًا بعد حين، ويثار غبارُه بعد سكونِه، ولكنه في عصرِ مواقعِ التواصل له شكل مختلف عما كان قبلُ، وكلما زادت هذه المواقعُ وزاد روّادُها زاد انتشارُ هذا الحديث، وكثُرَ الخائضون فيه بعلمٍ أو بجهلٍ، وهؤلاء الآخِرون هم الأكثرون!
وقد لفت نظري في بعض المنشورات والتعليقات ادّعاءُ كثيرٍ المصريين أن الجيم القاهرية هي الفصحى، وفي مقابل ذلك ادعى بعضُ الشاميين أن الجيم الشامية أصح من الجيم المصرية!
فأحببت أن أسلط الضوء على هذه النقطة خاصةً. فأقول:
من المعلوم عند المختصين أن اللغةَ التي دوّنَ النحاةُ قواعدَها في كتب النحو كانت تُمثِّل الشائعَ والكثيرَ في لغة العرب، دُونَ الشاذ والنادر ونحوِ ذلك.
ولقد كان النحاةُ الأوائل يذهبون إلى حيث العربُ الأقحاحُ، ويسمعون اللغةَ منهم ويجمعونها، ثم يستقرئون هذا الرصيد اللغوي الضخم، ويضعون قواعدَ العربية على النهج الذي سبق ذكرُه.
وقد جاء سيبويه -إمام النحاة- فجمع علومَ شيوخه من أئمة النحو البصريين، وأضاف إليه ما سَمع هو نفسه من العرب الفصحاء، وما فتح اللهُ به عليه من النظر الدقيق، والتحليل العميق، والتقعيد الأنيق، ودوَّنَ كلَّ ذلك في كتابه الذي لم يؤلَّف مثلُه في النحو، وأصبح هذا الكتابُ دستورًا للنحاة على مر العصور، وإمامًا يقتدون به ويحتجّون.
وقد تحدث سيبويه في كتابه عن أصوات الحروف العربية، فقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- حروف أصلية: وهي التسعة والعشرون المعروفة (أ ب ت ث ج...).
2- حروف فرعية: وهي فروع من الحروف الأصلية، وقد جعلها على قسمين:
- حروف كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار.
- وحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرةٍ في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر، وذَكَر من هذا النوع: الجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين.
ثم ذَكَر أن الحروفَ الفرعية -جيدها ورديئها- لا تتبين إلا بالمشافهة.
وقد حفظ لنا القرآنُ الكريم أصواتَ الحروف الأصليةَ كلَّها، وعددًا من أصوات الحروف الفرعية، ووصلت إلينا هذه الأصواتُ عبر الأجيال بالنقل الشفهي المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا يتطرق إليه الشك والظنون.
وبقيت أصواتٌ أخرى لم يصلنا بها نقلّ شفهيٌ متواترٌ، لكن منها ما يمكن أن نتصوره بطرقٍ أخرى يَعضُد بعضُها بعضًا -وإن كانت ربما لا توصل إلى اليقين-، من هذه الطرق: اللهجات العامية المعاصرة، وما دوّنه النحاةُ في كتبهم.
أما الجيم الأصلية فهي التي نقلها لنا قراءُ القرآن مشافهةً بالتواتر جيلًا بعد جيل.
وهذه الجيم هي الشائعةُ في كلام العرب لا غيرُها؛ لأنك قد عرفتَ أن النحاة بنَوا قواعدهم على الشائع في كلام العرب، ومن ذلك الأصواتُ اللغوية.
وقد نص سيبويه على أن الجيم تخرج من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى.
ووصفَها بأنها حرف شديد، مجهور... إلخ.
واتفقت كلمةُ العلماء من القراء والنحاة من بعده على هذا.
ونحن نعلم أن القرآن الكريم جاء على أفصح اللغات، ولم يَرٌدْ في قراءات القرآن جيمٌ غيرُ هذه.
وهذا يدل على أن هذه الجيم هي الجيم هي وحدَها الجيمُ الفصيحة.
إذن، أين الجيم القاهرية من هذا؟ وأبن الجيم الشامية؟
الجواب: كلتاهما من الحروف غير الفصيحة، التي لا تستحسن، ولا تكثُر في لغة من لا تُرتضى عربيتُه.
فالجيم القاهرية -كما يظهر- هي الجيم التي كالكاف؛ فهي تخرج من مخرج الكاف، وتحمل صفة الجهر التي في الجيم.
وهذا الكلام -أعنى كون هذه الجيم غير فصيحة ولا تستحسن ولا تكثر في كلام من ترتضى عربيته- قاله سيبويه الذي خالط العربَ الأقحاح بمختلف قبائلهم، كما فعل ذلك شيوخُه من أئمة البصرة الأوائل.
أفبعد كل هذا يقال: إن الجيم القاهرية هي الفصحى؟!
ويقول قائلُهم: إنها الجيم القاهرية هي أصل الجيم الفصيحة، التي كان ينطق بها العرب القدماء وأهلُ اليمن، وما تزال تُسمع في كلام أهل اليمن إلى يومنا هذا.
أقول: هذا القائل جاهل جهلًا مركّبًا؛ فهو جاهل ولا يدري أنه جاهل!
إن لغة العرب الفصحى لها إطار زماني ومكاني ذكره النحاة في كتبهم؛ وبداية إطارها الزماني يعود إلى أواخر القرن الخامس الميلادي، وأما ما قبل ذلك فلم تصلنا عنه صورة واضحة، ولا نعلم تحديدا متى اتخذت اللغة العربية شكلها المكتمل النضج الذي نجده في الفصحى الجاهلية، والذي مر بمراحل طويلة من النمو والتطور حتى اكتمل، كما تبيّن لنا ذلك النقوشُ القديمة التي تعزى إلى تلك الحِقَب الزمنية الموغلة في القِدَم.
فكيف لمثل ذلك القائل أن يدّعي أن الجيم في لغة العرب البائدة -من عاد وثمود ومَدْيَن ونحوِهم- كانت هي الجيم القاهرية؟!
وحتى لو فرضنا أنه جاء بدليل على ذلك، فقد تبيَّن لك أنه لا يُعتد بهذا النطق في الفصحى؛ لأنه خارج عن إطارها الزماني.
ثم إنَّ لغةَ أقاصي جنوب الجزيرة خارجة عن الحدود المكانية للغة الفصحى.
قال أبو عمرو بن العلاء: «ما لسانُ حِمْيَر وأقاصي اليمنِ بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا».
وقال ابن جني: «لسنا نشك في بُعد لغةِ حمير ونحوها عن لغة بني نزار».
حتى كتابتهم لم تكن ككتابة أهل الشمال؛ لأنهم كانوا يستخدمون خطًّا يسمى الخط المسند.
ولذلك لم يأخذ النحاةُ اللغةَ عن هؤلاء القوم، بل لم يأخذوا حتى عن القبائل الجنوبية المتاخمة لهم، كما لم يأخذوا عن أهل شمال الجزيرة الذين كانوا متاخمين للغساسنة في الشام أو المَناذرة في العراق؛ لأنهم يعلمون أن المجاورة سبب من أسباب تأثر اللغات بعضها ببعض؛ وذلك أخذوا عن قبائل أوساط الجزيرة من نجد والحجاز وتهامة.
وأما وجود هذه الجيم في لغة أهل القاهرة فسببُه امتداد اللهجات العامية، فوصلت هذه الجيم إليهم من اليمن، كما وصلتهم غيرُها من اللغات الجنوبية، كالتَّلْتَلَة التي نسبها أهل اللغة إلى قضاعة، وهذه اللغة عبارة عن كسر أول الفعل المضارع، مثل: تِسمع، ونِعرَف، ويِفهم، وهي لغةٌ قحطانية، وكما وصلتهم الطمطمانية، وهي إبدال لام التعريف ميمًا، في نحو كلمة: امبارح، وهي لغة يمانية معروفة.
هذا ما يتعلق بالجيم القاهرية.
وأما الجيم الشامية فهي الجيم التي كالشين -كما يبدو-؛ لأنها مزيج من الجيم والشين، تجمع بين الجهر الذي في الجيم والرخاوة التي في الشين.
وهذه الجيم هي التي ينطقها كذلك عامةُ أهلِ ليبيا وتونس، وبعض المناطق في الجزائر والمغرب وغيرها.
فالأمر في مسألة الجيم بين المصريين والشاميين ينطبق عليه المثل العامي المصري: (لا تعايرني ولا أعايرك؛ ده الهم طايلني وطايلك)، فكلاهما كما يقال: (في الهوا سوا).
وأما من حيث العموم، فالشاميون أسلمُ لغةً من المصريين نسبيًّا، بدليل أن غالب المتحدثين بالفصحى من المعلقين الصوتيين ومذيعي الأخبار ومقدمي البرامج والممثلين وغيرهم - هم من أهل الشام، ولا سيما سوريا ولبنان، فهّم أقدر على أداء اللغة الفصحى والتخاطب بها من المصريين.
وإن كانت السمة الغالبة على أهل الشام ومصر اليوم -مع الأسف- هي التحدث باللغة الفصحى المعاصرة -إن صح التعبير-، وهي لغة فصحى تحمل في طياتها كثيرًا من المولّد والعامّي والدخيل والشاذ والضعيف ونحو ذلك، سواء على مستوى الأصوات، أو على مستوى الصرف، أو على مستوى المفردات، أو على مستوى التراكيب والأساليب.
حتى فيما يسمى بالمسلسلات والأفلام التاريخية -التي يفترض أنها تمثّل المتحدثين باللغة الفصحى التي كان يتكلم بها أهل ذلك الزمان- نجدهم يتكلمون بتلك اللغة العصرية، بالإضافة إلى اللحن الصريح في الإعراب في كثير من الأحيان.
وهذا سببه قلة العلم بالعربية الفصحى، بالإضافة إلى التأثر بالدعوات الخبيثة المنادية بتحديث العربية الفصحى وتطويرها، والاتجاه إلى الوصفية بدلًا من المعيارية، ونحو ذلك مما ينادي به المُحدَثون اليوم متأثرين بدعوة فرديناند دي سوسير.
وقد تحدثتُ عن ذلك في مقالات سبقة بما يغني عن إعادته.
هذا ما تيسر في هذه العجالة، والموضوع بحاجة إلى مزيدِ كلامٍ، والمقال بحاجة إلى إعادة صياغة، ولعل الله ييسر ذلك في قادم الأيام.