برنامج "أضواء المقاطع" للدكتور محمد الخضيري

إنضم
7 مايو 2004
المشاركات
2,562
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الخبر - المملكة ا
الموقع الالكتروني
www.islamiyyat.com
الإخوة والأخوات الكرام تبث قناة روائع برنامجاً بعنوان "أضواء المقاطع" للدكتور محمد الخضيري يومياً الساعة 3.50 عصراً بتوقيت مكة المكرمة وبحمد لله طبعت الحلقة الأولى وإن شاء الله أستمر بالتفريغ.

أضواء المقاطع
د. محمد الخضيري
قناة روائع يومياً في رمضان الساعة 3.50 عصراً بتوقيت مكة المكرمة

الحلقة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ووالصلاة والسلام على رسول الله الذي أُنزل عليه القرآن فبلّغه وأداه كما أوحي إليه به وعلى آله وصجبه ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد. فهذا هو المقطع الأول من مقاطع هذا البرنامج المبارك أضواء المقاطع نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها جميعاً كما نسأله جل وعلا أن يبارك لنا فيها ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
يقول الله عز وجل في أعظم سورة في القرآن السورة الشافية الكافية التي هي أم الكتاب وأم القرآن (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) هذا دعاء في سورة الفاتحة وهذا الدعاء هو مقصود الفاتحة فإن الله الله سبحانه وتعالى قد علّمنا في هذه السورة أن ندعوه وعلمنا كيفية الدعاء وهي أن نقدم بين يدي دعائنا ثناء لله عز وجل واعترافاً بعبوديتنا له واستعانتنا به وضعفنا لقوته جل وعلا. فلما أثنى العبد على ربه بقول (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) ثم كرر هذا الثناء (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) أقر بهذه الكلمة التي هي إعتراف بعبودية العبد لربه جل وعلا وإقرار منه أنه لا يستعين إلا بالله. قيل له يا عبد بماذا تستعين؟ ماذا تريد أن يعطيك الله تعالى؟ وأن نتوجك به؟ فيقول الله عز وجل معلماً إيانا أفضل دعاء ندعوه به ونسأله إياه أفضل دعاء ندعو به (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) وهذا الدعاء نكرره في اليوم والليلة مرات كثيرة لا شك أنها تزيد في الأحوال المعتادة على 17 مرة في الفرائض وقد تصل عند كثير من الصالحين إلى خمسين مرة إذا جمعنا إليها النوافل التي يقرأها الإنسان في اليوم والليلة وصلاة الضحى وقيام الليل والرواتب وغيرها مما يفتح الله سبحانه وتعالى بها عليه. هذا التكرار يجعلنا نتوقف ونقول هل هذا الدعاء حريٌ بأن يُكرّر؟ وحاجة المسلم إليه تصل إلى هذه المرحلة وهي أن يكرره الإنسان في اليوم هذه المرات العديدة؟ نعم، لأنك أيها المسلم بحاجة إلى أن تستهدي ربك وتطلب منه الهداية في كل لحظة من لحظات عمرك، إنك بحاجة إلى الهداية في قيامك وقعودك ومنامك، وشارعك وعملك ومجلسك وبيتك، وعندما تقرأ اي كتاب وعندما تطالع أي صحيفة وعندما تشاهد أي قناة أنت بحاجة إلى الهداية، أنت ضعيف مسكين لا غنى لك عن ربك طرفة عين، أنت بحاجة لربك وبحاجة أن تستهدي ربك وأن تطلب منه الهدى في كل لحظة من حياتك لأنه ما بيننا وبين أن نضلّ إلا أن يتخلى عنا ربنا سبحانه وتعالى ولذلك أنت تدعو بالهداية مرات عديدة وليست مرة واحدة وتسأل الله أصول الهداية وتسأل الله في الوقت ذاته فروع الهداية وتفاصيلها.
إسأل نفسك سؤالاً يسيراً: هل أنت عالِمٌ بكل ما يحبه الله ويرضاه؟ لا شك أن كل واحد منا يقول بملء فمه أنا بالتأكيد لست عالماً بكل ما يحب الله ويراضه لذا فأنت تسأل الله تعالى أن يهديك لما يحبه ويرضاه. ولو قال أحدهم تبجحاً أنا أعلم كل شيء يحبه الله تعالى ويرضاه فنقول له إا كنت كذلك فهل عملت بكل ما علمت أن الله تعالى يحبه ويرضاه؟ سيقول لا والله ما عملت بكل ما يحبه الله وسرضاه. ولا أدل على ذلك منا نحن فقد تقررت لدينا أشياء ونعرفها مثل ما نعرف أسماءنا ومع ذلك منذ زمن بعيد نتمنى أن نعمل بها وما استطعنا وقد نعملها ونخفق. هذا المتبجح الذي قال علمت بكل ما يحب الله ويرضاه وعملت به قول له هل دعوت إلى كل ما عملت به؟ لا شك سيقول ما دعوت به ولا أقدر أن أدعو به لأنه من يستطيع أن يدعو إلى كل شيء يحبه الله ويرضاه. إذن فنحن بحاجة إلى الهداية في العلم وفي العمل وفي الدعوة وفي أمر رابع أنت علمت وعملت ودعوت فهل أنت هُديت إلى الصبر على كل ذلك؟ لا شك أن كل واحد منا يعاني معاناة شديدة من عدم ثباته على أمر الله في كل حال من أحواله. حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة، وكان الصحابة يعدّون للرسول صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد وهو يقول اللهم اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور أو كما ورد في الحديث سبعين مرة. هذا يدلنا على أننا بحاجة إلى الهداية وأن الإنسان لا يستغني طرفة عين عن هداية ربه له وأن الإنسان مفتقر إلى ربه بجلب هذه الهداية والوصول إليها والاستقامة عليها والصبر والثبات على مقتضياتها وتفاصيلها ولذلك علينا أن نكرر هذا الدعاء بلا ملل ولا كلل لأننا محتاجون إليه (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ).
ما هو الصراط المستقيم؟ اختلفت فيه عبارات السلف فمنهم من قال هو الإسلام ومنهم من قال هو القرآن ومنهم من قال هو السُنّة ومنهم من قال هو طريقة أبي بكر وعمر وغيرها وهذه المقالات من باب اختلاف التنوع الذي لا يدل على تضارب بمعنى أن الإسلام هو السُنة وهو القرآن وهو طريقة أبي بكر وعمر وهو الصراط الموصل إلى الله سبحانه وتعالى. والذي لا يمكن أن يصل أحد إلى الله تعالى إلا عن طريق هذا الصراط لا غيره فهذا ما يسمى عند العلماء اختلاف التنوع. فالمسلم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى الإسلام وإلى السُنة وإلى القرآن وإلى فهمه والعمل به والقيام به في كل أحواله.
ولاحظوا كيف وُصِف الصراط بأنه صراط وأنه مستقيم، صراط يعني أنه يتسع لكل من يدخل فيه فلا يضيق. ومستقيم موصل بأصحابه إلى الله جل وعلا وهو أقرب طريق للوصول إلى الله وكلنا نعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق إلى المقصود بخلاف الطريق المعوج. ثم يبين لنا تفاصيل الصراط حتى لا يلتبس علينا فقد يقول إنسان نعم أنا اكتشفت الصراط المتسقيم وعرفته ولذلك أنا أسأل الله ذلك الصراط الذي اكتشفته وعرفته، فنقول له هل هو الصراط الذي وصفه الله في الآية أم هو صراط اخترعته من نفسك؟ الآية لم تطلق هذا الصراط ولم تدعه محل لاجتهاد من يجتهد وإنما بينته أوضح بيان ما هو هذا الصراط؟ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) من هم المُنعَم عليهم؟ المنعَم عليهم هم الذين ذكرهم سبحانه وتعالى في آية سورة النساء (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا (69)) إذن هذا الصراط الذي اكتشفته أو هُديتَ إليه هل هو منسجم مع هذه الآية؟ وهل هو منسجم مع الصراط الذي سار عليه هؤلاء الركب من خيار أهل الأرض من نبيين وشهداء وصديقون وصالحون أو هو شيء أوحى لك به الشيطان؟ ثم يوضحه أكثر فيقول (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) غير صراط المغضوب عليهم وغير صراط الضالين فالصراط واضح بذاته وواضح بمعرفة الصرط والطرق المخالفة له. ميزة صراط المغضوب عليهم أنهم كانوا يعلمون الحق ويعرفونه ولكنهم لا يعملون به وصراط الضالين وهم النصارى كانوا قوماً يعملون بغير حق وبغير هدى وبغير علم أوتوه من عند الله سبحانه وتعالى. علينا أن ننتبه إلى هذه الخصلة التي قد يضل فيها أقوام كثيرون قد يسلك البعض طريقاً فيحسِّن لهم إبليس أموراً يبتدعون فيها في دين الله عز وجل فيشبهون صراط الضالين أو يعلمون شيئاً من الحق فلا يعملون بها فيشبهون صراط المغضوب عليهم. قال سفيان بن عيينة: من ضلّ من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود ومن ضلّ من عُبّادنا ففيه شَبَهٌ من النصارى. لأن مكمن الضلال عند العالِم أنه يعلم الحق ولا يعمل به ومكمن الضلال عند العابد أنه قد يتعبد الله عز وجل بعبادات ليس له دليل عليها. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ". أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديني وإياكم إلى صراط المستقيم وأن يجعلنا جميعاً ممن هدوا إلى هذا الصراط فعرفوه وعملوا به ودعوا إليه وصبروا عليه وعلى كل أذى يلاقوه فيه وأن يجعلنا الله تعالى مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وجعلنا وإياكم جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
بارك الله فيك أختي الكريمة أفنان على التعقيب وأتمنى منك ومن جميع الأخوات والإخوة أن تبادروا معي للمساعدة في تفريغ الحلقات حتى يعم الأجر. فالكل يعلم أن الخير كثير والبرامج ما شاء الله كثيرة وعلينا أن نسعى لتضافر الجهود حتى نقوم بالتفريغ وإن لم يكن حرفياً فعلى الأقل ملخص الحلقات لتعم الفائدة.
هناك برنامج لنحيا بالقرآن للدكتور محمد الخضيري والدكتور محمد الربيعة على قناة الخليجية يعرض يومياً الساعة 7.30مساء
وبرنامج بينات أرجو المساعدة فيه حتى لا ينقطع هذا الخير والفائدة وتعرضه قناة المجد العامة بعد صلاة الفجر بتوقيت مكة يومياً (إعادة)
بارك الله فيك وفي كل من يستجيب لهذا النداء.
 
لدي مشكلة في جهاز التلفاز وبعض القنوات
ولكني سأحاول وإن تيسر فبإذن الله كما ذكرتي ولو ملخص الدرس عموما

بارك الله فيك ونفع بك ورزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح
 
حلقة اليوم من برنامج أضواء المقاطع:

الحلقة الثالثة:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد وآله وصحبه ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد فهذا هو المجلس الثالث من برنامجكم أضواء المقاطع نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذه المقاطع من آيات كتاب الله الكريم. ومقطعنا هذا اليوم مع قول الله عز وجل (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة) هذه الآيات من آخر ما نزل في القرآن ولذلك تحريم الربا مجمع عليه لم يختلف فيه أهل الإسلام وإن اختلفوا في تفاصيل من أحكام الربا لا يشذ بذلك الربا عن باقي أحكام وشرائع الإسلام فإن في كل شريعة من هذه الشرائع على التوحيد مجالاً لخلافات العلماء في بعض مسائله لكن أصوله مجمع عليها. والسبب الذي يحدونا ويجعلنا نقول أنها من آخر ما نزل حتى لا يقول أحد أنها منسوخة وحتى لا يقول قائل أن الآية في سورة آل عمران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)) فيقول المحرم هو الربا المضاعف فنقول لا، تلك من أوائل ما نزل. فالربا مرّ في تحريمه في ثلاث مراحل، المرحلة الأولى مرحلة كراهته وذمه وكانت هذه في ذمّه وكانت هذه في مكة، قال تعالى في سورة الروم (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)) فالله عز وجل يقول أنا لا أربي الربا وإنما أربي وأضاعف وأزيد لأولئك الذين يتصدقون ويعطون رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى. وهذا ذم خفيٌ للربا. ثم جاءت السورة الثانية وهي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الربا المضاعف والربا المضاعف هو أن يقرض الإنسان إنساناً آخر إلى أجل فإذا جاء الأجل قال له إما أن تقضي يعني ترد الدين أو القرض وإما أن تُربي يعني أُضعف لك في الربا فالله عز وجل يقبح هذا العمل من أولئك القوم الغلاظ الجفاة فيقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) آل عمران) فحرم بذلك الربا المضاعف أو المضعّف. ثم جاء من بعد ذلك في آخر الإسلام في العام الذي حج فيه النبي صلى اله عليه وسلم فقال فيه أمام أصحابه كلهم في مشهد يوم عرفة وفي ذلك الجمع العظيم قال ألا وإن ربا الجاهلية موضوع ألا وإن أول ربا أضعه من ربانا ربا عمي العباس فيجعل النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في بيته وأهله وكان العباس بن عبد المطلب من تجار مكة وكان يرابي يعني كانت عامة تجارته من الربا يداين الناس فيزيد عليهم مقابل الأجل. هنا يبين الله سبحانه وتعالى عقوبة المرابين وأنها عقوبة عظيمة بالغة وأنها شيء لا يجوز لأحد من أهل الإسلام أن يتهاون به أو يخفف من شأنه فالله عز وجل لا يحب من كان هذا حاله بل إنه يذمه ويبين كيف أنه سيبوء بسخط من الله عز وجل وهو متوعدٌ بالنار، قال جل وعلا (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) ليس المقصود بيأكلونه مقصور على الأكل ولكن لما كان الأكل هو عامة ما يقصد من جمع المال ذُكر وإلا لو جمعوا الربا ولم يأكلوه ولو تاجروا به ولم يضعوه في بطونهم كل ل ذلك محرّم، فلا فرق بين أن يجمع الربا وبين أن يؤكل وبين أن يُتجر به كله واحد لكن لما كان المقصود الأعظم من التجارة هو طلب الأكل ذكر الأكل ومثلها في قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) النساء) فذكر أعظم وأكثر ما يقع من الناس وإلا في الحقيقة بعض الذين يعتدون على أموال اليتامى قد لا يأكلونها وإنما يضيعونها أو يتجرون بها أو يضعونها في شيء لا يؤكل. (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) أي لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني يقومون كالمجانين يوم القيامة يعرفون في أهل الموقف فهم في يوم القيامة يخبطون كما يفعل الممسوس. ما سر ذلك؟ هذه أولاً عقوبة من الله يميزهم به عن أهل الموقف جميعاً ففي يوم القيامة تعرف المرابين بأنهم يقومون ويُصرعون كالمجانين. ما سر ذلك؟ سر ذلك أنهم كانوا كالمجانين في الدنيا في طلب المال وتحصيله فهو لا يبالي تجده ملهوفاً مذهولاً عندما يطلب شيئاً من الدنيا، عندما يرابي. ولاحظوهم في أسواق البورصة العالمية ترى الناس وهم يتاجرون مذهولين من شدة الذهول الذي هم فيه، هذا الُسكر سُكر الدنيا يبتلى عليه هؤلاء يوم القيامة بأن يجازوا بجزاء بمثل ما قاموا به الجزاء من جنس العمل فيأتون يوم القيامة يتخبطون سكارى كما كانوا سكارى في الدنيا من شدة طلبهم للمال. فإن من أعظم آفات الربا أن يتعلق قلب الإنسان بالمال وألا يرحم الضعفاء وأن لا يكون همّ في تجارته وجمعه للمال إلا كيف ينمي المال بالمال بغض النظر عن دوران المال وإغناء الفقراء وانتفاع الناس وتنمية المجتمع، هذه لا تهم المرابي في قليل ولا كثير يهمه أن ينمو المال ويزداد، نما بخير أو بشر، انتفع الناس أو لم ينتفعوا، استفاد الناس أم لم يستفيدوا، مُحِق الناس أو ما محقوا، هذا شيء لا يعنيه من قريب ولا بعيد. فلما كانوا سكارى كذلك الله جل وعلا يبتليهم يوم القيامة فيجعلهم كذلك كالسكارى. يقول الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وهذا من المبالغة كونهم استحلوا الربا حتى جعلوا البيع مشبّهاً به من شدة حلِّه عندهم وهذا من مناقضتهم للعقل أو مضادتهم للشرع والعقل. كيف يقال البيع الذي فيه تبادل ورحمة وفيه رفق بالناس وفيه تنمية للمال بالطرق المشروعة إن هذا الربا الظلم الذي هو من أشد الأشياء إجحافاً بحقوق العباد مثله؟ أو البيع مثله من شدة حليّته عندهم يجعلون البيع مثله. يقول الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) أي هذا الجزاء الذي يوضع لهم يوم القيامة بسبب أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. قال الله تعالى رداً عليهم (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فكيف تساوون بين ما أحله الله وبين ما حرّمه الله. (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ) أي ما ذهب من رباه الأول قبل أن تأتيه هذه الموعظة فإن الله يعفو عنه ولا يؤاخذه به ولا يقال طهر مالك منه وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى أن من جاءته الموعظة فإن الله يعفو عما سلف ولا يقال له طهر مالك مما أخذت من الربا من أموال الناس. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " ألا وإن أول ربا أضعه من ربانا ربا عمي العباس" فالربا الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة يعني أنه لا يؤاخذ العباس بما قبله من ربا، كل ما أخذه قبل هذه الكلمة فهو له ولكن لا يحل له أن ياخذ شيئاً بعد هذه الكلمة، هذا هو المقصود. قال الله عز وجل (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ومن عاد بعد أن جاءته الموعظة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وهذا يدلنا إلى أن من علم حكم الله في أمر فهو مؤاخذ وغير معفو عنه إلا أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وعليه أن يرد ما أخذ من الربا إلى أصحابه ولا يتحجج بقوله (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ). قال (وَمَنْ عَادَ) أي عاد إلى الربا بعد تلك الموعظة (فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) هم أصحاب لها يعني سيخلّدون فيها وأكّد ذلك فقال (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقد أشكل هذا الأمر على كثير من العلماء كيف يوعد على عمل من المعاصي والذنوب العظيمة بالخلود في النار علماً بأنه قد لا يخلد فيها لأن أهل التوحيد بإجماع أهل السنة لا يخلّدون في النار ولهم في ذلك أجوبة كثيرة وفي نظري أن أقومها هو قول من قال من أهل العلم إن هذه عقوبة الربا بذاته بغض النظر عن انتفاء الموانع واكتمال الشروط فمن اكتملت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع استحق هذه العقوبة من الله وهي الخلود في النار على الربا فإن قام به مانع يمنع من الخلود فإن الله سبحانه وتعالى يرحمه من ذلك المانع فلا يخلده في النار أي لا يتحقق فيه الخلود. ما عو المانع الذي يكون في أهل التوحيد؟ المانع هو التوحيد لأن التوحيد يمنع من الخلود وبهذا نقول إن الربا عقوبته عند الله هو الخلود في النار ما لم يكن هناك مانع يمنع من الخلود، فإذا وجد مانع وهو التوحيد فإن ذلك يمنع من الخلود وهذا الجواب كما نقوله في هذه الآية نقوله في آية القتل (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا (93) النساء) هذا الخلود أيضاً يقال هو جزاء لمن قتل مؤمناً إلا إن يقوم به مانع وهو التوحيد فالتوحيد مانع من الخلود بإجماع أهل السُنّة. ثم قال الله عز وجل (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا) هذا وعيد جديد لأهل الربا وهو أن الأموال التي أخذوها ظلماً وعدواناً ممحوقة ومعنى المحق هو النقص الذي ينتهي إلى زوال ويصل إلى اضمحلال وهذا والله حق فإننا نرى أولئك المرابين يرون هذا المحق في أموالهم تكثر أموالهم ثم تكثر ثم تزداد وتنمو فيأتي الله عز وجل بقدر من أقداره يمحو عليهم بها أموالهم ويلغيها عليهم نسأل الله العافية والسلامة. وما حصل في الأزمة المالية العالمية التي شاهدناها قبل أشهر قليلة كيف ذهبت مدخرات وأموال كثيرة للناس وذلك من وعد الله سبحانه وتعالى عندما قال (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة) فما جمع أحدٌ مالاً من ظلم أو ربا إلا جعل الله عاقبته إلى قُلّ كما ورد في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُلّ، يعني إلى أمر قليل. انظروا إلى أميركا في يوم من الأيام كانت أموالها ومدخراتها شيء لا يمكن أن يوازيه دولة أخرى في العالم ثم آل بها الأمر إلى أن شركاتها وبنوكها تفلس شركة إثر شركة لأنها قائمة على مبدأ الربا قال الله عز وجل (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) أي ينميها وفي ذلك حثّ من الله عز وجل أن من أراد نماء ماله فعليه بالصدقة (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكتابه وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة الرابعة
الحمد لله والصلاة والسلام وعلى رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد، فهذا هو المجلس الرابع من برنامجكم أضواء المقاطع أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به وأن يجعلنا من المنتفعين بكلامه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
مقطعنا اليوم من سورة آل عمران من الجزء الرابع آية 102 من قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) في هذه الآيات يأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتقيه حق التقوى وتقوى الله حق التقوى أن نطيعه فلا نعصيه وأن نذكره فلا ننساه وأن نشكره على نعمه وأن نكون له كما يحب سبحانه وتعالى فلا نعصيه ولا نعصي رسوله صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء والمنشر والمكره وفي كل الأحوال. يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) تقوى الله حق تقاته هي أن يأتي الإنسان بالأوامر ويجتنب النواهي على مراد الله وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال بقدر ما يستطيع. وقد ظن بعض الناس أن هذا الذي طُلب منا بهذه الآية شيء شاق لا يطاق ولا يستطاع وظنوا أنها منسوخة بقول الله عز وجل (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (286) البقرة) وقوله (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا (7) الطلاق) فنقول لا، إتقوا الله حق تقاته أي اتقوا أيها الناس ربكم حق التقوى فيما تطيقون وتستطيعون فمن جاء بما يطيق وما يستطيع فإنه قد اتقى الله حق التقوى. فمثلاً المؤمن المنفرد الذي ليست له دولة وليس معه أعوان يعينونه لا نقول في حقه أنه يجب الجهاد كما يجب على المؤمنين الذين يجدون أعواناً ولهم دولة وعندهم راية قائمة فتقوى الله حق التقوى بالنسبة لذلك الشخص الوحيد ليست كحالها بالنسبة لذلك الشخص الذي يجد أحداً يعينه وعنده دولة ولديه راية. وهكذا فيمن وجب عليه الحج وهو غير قادر بماله أو غير قادر في بدنه فإن تقوى الله في حقه لا تقتضي أن يحج على كل حال لأنه غير قادر فتقوى الله حق التقوى أن تقوم بما أمرت به من غير أن يكون في ذلك خروج عن الطوق والاستطاعة وبهذا تجتمع الآيات في هذا الباب. قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) هذا الأمر قد يقول الواحد منا أنه أمر بشيء مستحيل لأن تقدير أن أموت وأنا مسلم أو كافر هذا ليس بيدي وإنما بيد الله فنقول اطمئن ما أمرك الله بهذا إلا وهو مقدور عليه ومطاق كثله، كيف ذلك؟ إذا عشت كما يحب الله وقمت بطاعة الله في حياتك فإن الله سيجعل مماتك ويختم حياتك بما يحب سبحانه وتعالى منك. فلن تموت بإذن الله إلا وأنت مسلم. وهكذا في القرآن إذا أُمر الإنسان بما ظاهره أنه لا يقدر عليه فالمقصود من ذلك أن يقوم بما يلزمه من أجل الوصول إلى هذه النتيجة فمن عاش مؤدياً للصلاة قائماً بالزكاة صائماً لرمضان قد حج بيت الله الحرام قام بأوامر الله كما أمر الله فإن الله سبحانه وتعالى يختم له حياته أن يموت على هذا الدين وهذه من عادة الرب الكريم سبحانه وتعالى أن لا يخذل عبده عند الممات ما دام صادقاً في ديانته مؤدياً لحقوق الله عز وجل على الوجه اللائق. ولذلك (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) إذا قمتم بالواجبات وأديتم ما أمر الله سبحانه وتعالى به واستمسكتم بحبل الله فإن الله سبحانه وتعالى يختم لكم حياتكم بما يسركم وأنتم مسلمون.
قال الله عز وجل (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا) لما أمرنا أن نتقي الله حق التقوى أمرنا بشيء فيه سلامة للمجتمع وأمن له ورقي له وفوز في الدار الأولى ثم الدار الأخرى وهي أن نعتصم جميعاً وهو أن نلتف جميعاً على حبل الله. نعتصم بحبل الله ونستمسك به ونرجع إليه ونلوذ به ولا نعدل به شيئاً آخر (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) المائدة) فنعتصم بحبل الله أي نستمسك به استمساكاً شديداً والاستعصام فيه مزيد من القوة بالأخذ والقيام بذلك الحبل وشدة الاعتصام به (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ) أي عهد الله ودينه وأمانته التي كلفكم بها. ثم قال مؤكداً (جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) فإذا أردتم السعادة وأردتم النصر وأردتم العلو في الأرض فاجتمعوا على ذلك. لا يكن هم أحدنا أن يقوم هو بالصلاة دون أن يأمر إخوانه وأن يذكر المسلمين وأن يأخذ بهم جميعاً إلى جادة الحق والصواب. (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) لا يصبكم شيء من التفرق وهنا نبين أن راية الإسلام لا تتم إلا بهذين الركنين أن نعتصم جميعاً بحبل الله وأن لا نتفرق ولذلك نقول لا يمكن لنا الرقي إلا بالطاعة والاتباع وأيضاً بالاجتماع. بعض الناس لا يهمه إلا الاتباع وينسى ضرورة الاجتماع، لا، لا يمكن أن يقوم الدين إلا باتباع واجتماع ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس وحرص على إقامة الدولة وبنائها وعلى غزو المشركين وتثبيت دعائم الإسلام وبذلك قامت دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقويت وانتشرت وسرت في الأرض بفضل الله سبحانه وتعالى. وقال الله جل وعلا (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) إذا اتقينا الله حق تقاته واعتصمنا بحبل الله جميعاً ولم نتفرق فإن ذلك هو الذي يقينا بإذن الله شر التشرذم وبه ندرك نعمة الله علينا في الإسلام عندما تتألف قلبونا وعندما نتراحم ونتواد وعندما لا يستطيع أحد من أعدائنا أن يدخل إلينا فيشق ألفتنا ويؤثر علينا وينال منا ما يريد أن يناله. قال الله عز وجل (وَاذْكُرُواْ) تذكروا أنتم أيها المسلمون يا من نزل فيكم القرآن كيف كنتم قبل أن يأتيكم محمد؟ كنتم على حال من الشدة ومن التفرق ومن الحروب الطاحنة التي قتلت وأبادت وفعلت بكم الأفاعيل وأكبر مثال على ذلك ما كان يقع من الأنصار أوسهم وخزرجهم من إحن واقتتال على أمور تافهة جداً وما اجتمعوا إلا عندما جائهم رسول الله فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولم يتفرقوا، عند ذلك كانوا يتذكرون ما كانوا عليه من الفرقة وما كانوا فيه من اللأواء بسبب الحروب التي كانت تقع بسبب أمور تافهة جاهلية عصبية لا يحبها الله سبحانه وتعالى ولا يرضاها. (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ) وهي نعمة من الله فإن الناس لا يمكن أن يجتمعوا إلا على هذا الحبل (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) فالله هو الذي ألف بين هذه القلوب وهو الذي ربط بينها وهو الذي أنزل عليها السكينة والرحمة والمودة. ولاحظوا أن هذا يبين لنا أن الألفة لا تكون إلا من الله ويجب علينا حتى تتحقق الألفة بيننا أن نعتصم بحبل الله وأن نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينزل علينا هذه الألفة والمحبة فنكون رفقاء رحماء متوادين ليس بيننا ضغينة ولا شحناء قال (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) القرشي أصبح أخاً للأنصاري المدني والثقفي أصبح أخاً للسُلمي والجُهني وغيرهم من القبائل التي كانت في الجاهلية على أشد ما تكون من الخلاف والتفرق فأصبحتم بنعمته وفضله إخواناً. (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ) لأنكم كنتم ضالين وكنتم على غير الهدى ولم تكونوا تبصرون شيئاً من اتلنور في الدنيا (فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) بهذا الرسول الذي ارسل إليكم وهذا الكتاب الذي أُنزل عليكم. قال (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) تأملوا ما في هذه الآية من عظم فضل الاجتماع على طاعة الله وأنه هو سبب الأخوة وهو سبب القوة فإذا اعتصمنا بالله واجتمعنا عليه وقمنا بما أوجب الله علينا في الآية التي تليه وهي قوله (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فإن من أعظم الأمور التي يبقى الناس بسببها مستمسكين بطاعة الله قائمين بأمر الله هو الدعو إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ما نريد أن نتحقق به وأن نجتهد فيه وهو أن نقوم بالدعوة إلى الخير ونأمر بالمعروف كل معروف سواء ما يتصل بأمر الدنيا أو أمر الآخرة وننهى عن كل منكر سواء ما يتصل بالدنيا أو بأمر الآخرة فإننا بذلك نفلح وننجح ويحصل لنا بغذن الله عز وجل المراد. إذن في هذه الآيات أمرنا أن نتقي الله حق تقاته وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعاً ولا نتفرق وتذهب بنا السبل والأهواء وأمرنا حتى نكون قائمين بهذا الاعتصام بأن ندعو إلى الخير ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فإذا فعلنا ذلك حصل لنا المقصود وصرنا من المفلحين كما قال الله عز وجل (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولئك هم المفلحون اي لا أحد غيرهم يفلخ والمفلحون هم الذين ظفروا وفازوا بالمقصود وحصّلوا المطلوب ونجوا من المرهوب وحصل لهم الفوز الدنيوي والفوز الأخروي المسلمون اليوم يتجرعون غصص التفرق لأنهم بحثوا عن طريق غير طريق الله وما اعتصموا بحبل الله والذين اعتصموا بحبل الله منهم من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والعدو اصبح يعيث فينا فساداً ويستغفلنا ويقرر فينا ما يشاء ما قاموا بما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالذي حصل أن الناس تفرقوا وأن العدو أصبح يعيث فينا فساداً ينهب أراضينا ويأكل أراضينا ويستغفلنا ويتحكم فينا وفي مصائرنا ويقرر فينا ما يشاء ويفعل بنا ما يريد طبعاً بعد إرادة الله عز وجل وذلك ليس بسبب منه وإنما بسبب منا قال الله عز وجل (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) آل عمران) ونحن نقول هذا الذي أصابنا من تفرقنا ومن تملك أعدائنا علينا هو من عند أنفسنا أسأل الله بمنه وكرمه أن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم وأن ينفعنا بكتابه العظيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
جهد مشكور أختي الفاضلة
لكن أليس هناك إمكانية في القنوات في تفريغ مثل هذه البرامج كما هو موجود لدى البعض ؟
فإن مثل هذا سيفيد كثيرا ويوفر على كل حريص أمر الوقت في مسألة التفريغ لأنه جهد ضخم ومتعب ويحتاج دقة في النقل
 
بارك الله فيك أخي الكريم على التعقيب والاقتراح ولكن أظن القناة ما زالت فتية وتفريغ النصوص يحتاج لدعم فني ومادي ولا أظن لديهم الإمكانيات علماً أني لم أسمع بالقناة إلا من خلال جدول البرامج القرآنية الذي نشر على هذا الملتقى.
أخي الكريم لا أستطيع أن أمسك نفسي عن تفريغ مثل هذه الحلقات لأنها كما أستفيد منها أحب أن يستفيد منها الجميع وثق بأن التفريغ حرفي مائة بالمائة والحلقات كسجلة لدي فيديو أيضاً لكن ليس لدي الإمكانيات التقنية لرفعها على النت ربما ييسر الله تعالى من يقوم بهذا العمل.
جزاك الله خيراً على اهتمامك ولا أطلب منك سوى الدعاء ببركة الوقت والصحة حتى أستكمل هذه الحلقات إن شاء الله.
 
الحلقة الخامسة:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهذا هو المجلس الخامس من برنامجكم "أضواء المقاطع" والذي نستعرض فيه كل يوم مقطعاً من جزء من كتاب الله عز وجل اليوم مقطعنا من الجزء الخامس من سورة النساء من قول الله عز وجل الآية في الآية 71 يقول الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)) هذه الآيات أمرٌ من الله عز وجل لعباده أن يقوموا بالجهاد في سبيل الله والجهاد المذكور في هذه الآيات هو جهاد طلب والجهاد في الإسلام نوعان جهاد طلب وجهاد دفع. أما جهاد الدفع فهو فرض عين على المسلمين على كل قادر من المسلمين يجب عليه أن يقوم بدفع العدو عن بلاد المسلمين وذلك بأن يجتاح الكافرون أرض المسلمين ويعتدوا عليهم فعند ذلك يجب على المسلمين أن يقوموا بدفع هؤلاء الكافرين وردِّهم وفي هذا الجهاد لا يستأذن إبنٌ أباه ولا امرأةٌ زوجها لأنه فرض عين على كل مسلم. والنوع الثاني وهو الذي أشارت إليه الآيات وهو جهاد الطلب في قوله سبحانه وتعالى (خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) فانفروا في طلب عدوكم ثبات أو انفروا جميعاً. وجهاد الطلب فرض على المسلمين لكنه ليس على الأعيان وإنما على الكفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين وهذا الجهاد قام به المسلمون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد من بعده من أصحابه والخلفاء الراشدون وقد انقطع هذه الأيام بسبب ضعف المسلمين وما أصابهم من الذل والتفرق والشتات وعدم الاعتصام بحبل الله عز وجل والتفرق الكثير والأهواء التي دخلت فيهم. ونسأل الله عز وجل أن يأتي اليوم الذي تعود فيه راية الجهاد فيطلب المسلمون أعداءهم ويرفعوا راية لا إله إلا الله خفاقة فوق كل صقع وعلى كل مكان. يقول الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) أي احذروا واستعدوا لملاقاة عدوكم وإياكم أن تأخذ الأمر سبهللاً من دون استعداد ولا أخذ حيطة فتذهبون إلى الجهاد من دون عدة وتذهبون إلى الجهاد وأنتم لم تخططوا له تذهبون للجهاد وأنتم لم تستعدوا لعدوكم وتعرفوا إمكانيات هذا العدو وقدراته بل يجب عليكم عندما تقيموا الجهاد مع عدوكم أن تأخذوا الأهبة كاملة كما قال الله عز وجل (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ (60) الأنفال) فالمقصود أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وأنه واجب على أهل الإسلام ويجب عليهم أن يسعوا لإقامته وأن يقوموا به وإذا قاموا به أن ياخذوا حذرهم فيقوموا بما أمر الله من أخذ الحيطة والحذر قال (فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ)وهذه نستفيد منها أن من أخذ الحذر أن نقيم الجهاد لأن عدونا متى رآنا قد تركنا الجهاد تسلط هو بدوره علينا، متى رآنا قد وضعنا الرايات ولم نقم بأمر الله عز وجل ولم ندافع عن هذه الراية ونسير بها في أصقاع الأرض فإنه لن يدعنا قال الله عز وجل (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ (251)) ففساد الأرض يكون بسبب تقاعس أهل الإسلام في القيام بما أوجب الله عز وجل عليهم. ولاحظوا الآن وهم يتحدثون عن الشرعية الدولية وعن السلام العالمي والأُممية والعولمة كل ذلك يتحدثون عنه من أجل أن يسكتونا ومن أجل أن لا نقوم بالواجب الذي أوجبه الله علينا، فهل فعلوا ذلك هم؟ هل أخذوا بالشرعية الدولية؟ هل سكتوا عمن خالفهم؟ هل تركوا الناس وما هم عليه؟ هل أقنعوا الناس بالحوار وبالمناقشة وبالجدال حتى يتم التفاهم بين الأطراف؟ لا، بل دخلوا بالسلاح مدججين باعظم ما أنتجته الحضارة من أسلحة إلى بلاد المسلمين فأفسدوا في البلاد وظلموا العباد وقهروا أهل الإسلام وما أخذوا بما ينصحون به المسلمين من الشرعية الدولية والحوار والسلام العالمي وأنه لا ينبغي أن تكون هناك لغة للسلاح، أين هي في فلسطين؟ وأين هي في العراق؟ وأين هي في أفغانستان؟ واين هي في كل مكان؟ والله إنهم متى أرادوا أن يخضعوا دولة أو يقوموا بأمر لجأوا للسلاح وقاموا به ونهونا عن أن نفعله نحن فالله عز وجل يقول خذوا حذركم من عدوكم وانتبهوا فإنكم متى تركتم حقطم في جهاد عدوكم فإن عدوكم سيرجع إليكم وسوف يقوم هو بدوره بإذلالكم. قال الله عز وجل (فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) انفروا ثبات يعني جماعة إثر جماعة أو سرية إثر سرية أو انفروا جميعاً كلكم تذهبون وتخرجون في سبيل الله. والنفير واجب على المسلمين إذا استنفرهم الإمام، فإذا قال الإمام أيها الناس انفروا لملاقاة عدوهم وجب عليهم أن ينفروا لملاقاة عدوهم ويكون الجهاد في حقهم فرض عين كما يكون فرض عين إذا استنفر الإمام طائفة خاصة كأن يقول يجب على كل القٌرّاء أن ينفروا معنا في سبيل الله أو أن يقول يجب على كل من تعلم القتال وفنونه أن ينفر في سبيل الله فهذا يكون في حقه فرض عين. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" يعني لا هجرة من مكة بعد فتحها لأنها صارت دار إسلام، ولكن جهاد ونية، يعني على الناس جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا يعني إذا استنفركم الإمام وجب عليكم النفير وهذا من الحالات التي يتحول فيها فرض الكفاية إلى فرض العين فإن جهاد الطلب فرض كفاية ولكن إذا استنفر الإمام شخصاً بعينه أو طائفة بعينها وجب عليهم القتال في سبيل الله. ثم قال الله عز وجل مبيناً ما يصيب هذا النفير العلة والسوسة العظيمة التي تنخر في جسد الأمة هم المنافقون، هذا هو الطابور الخامس ابتليت به الأمة في عهد رسول الله وما تزال مبتلاة به إلى اليوم مرة تعلو راياتهم ومرة يكبتوا ويصدوا عن أن تكون لهم منابر وفي هذه الأيام صارت لهم منابر ومنابر مؤثرة نسال الله سبحانه وتعالى أن يرد كيدهم في نحورهم. هؤلاء ليس لهم همٌّ إلا التثبيط والقعود عن الجهاد في سبيل الله لأنه ما وراء الجهاد في نظرهم إلا الموت والهلكة وخراب الديار وأيضاً ظهور حقيقة الإيمان ولذلك هم يثبطون المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله ويحرصون على ذلك أشد الحرص ويقدرون أنه متى قام سوق الجهاد ضعفت وانحطت راية النفاق. ولذلك يستعملون أسلوب التثبيط والتعويق (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) الأحزاب) وهذا الدور قاموا به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وفي غزوة الأحزاب وقاموا به ايضاً في غزوة تبوك وفي غزوة حنين وفي عدد من الغزوات. المقصود أن الله عز وجل يقول وإن منكم ليبطئن يعني يثبطن الناس عن اللحاق والنفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا) ماذا يقول هؤلاء المنافقون؟ هم ينتظرون القدر إن اصابتكم مصيبة قال الواحد منهم قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً، فهو يحمد الله أنه لم يحضر تلك الواقعة التي أصيب فيها المسلم (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) بغض النظر عن من تكونون أو ما يحصل لكم من الخير أو يصيبكم من الشر يقول (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) ليس نصرة لدينهم ولا قياماً بالحق الذي يدافعون عنه ويقومون به وإنما طلباً للمغنم فقلبه معلق بالدنيا يعبدها من دون الله عز وجل فهو لا يقيم الأشياء إلا بمقدار ما يكسب في الدنيا نسأل الله العافية والسلامة. ولذلك أمر الله المؤمنين أمراً من عنده مبيناً أن من أراد الأجر العظيم والثواب الجزيل والنصر الحقيقي في الدنيا والآخرة فعليه أن يرفع راية الجهاد ويقاتل في سبيل الله. قال الله عز وجل (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) يشرون أي يبيعون، الشرى هنا بمعنى البيع، يشرون أي يبيعون الحياة الدنيا ويأخذون الآخرة. هذه الدنيا التي هي متاع زائل وحظ لا ينبغي أن يلتفت إليه مقابل تلك الدارالآخرة ليست بشيء. فهم بيبعون هذا الفاني بذاك الباقي وهذا القليل بذاك الكثير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يضع أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع" يعني نسبة الدنيا إلى الآخرة مثل نسبة القطرة التي تصيب الإصبع بالنسبة للبحر الأعظم، ما هي هذه النسبة؟ والله لا تكاد تذكر ولا يمكن أن توضع نسبة بين قطرة وبحر عظيم يملأ الكرة الأرضية. فالله عز وجل يقول (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) ويبين أن القتال الذي تشترى به الآخرة هو ما كان في سبيل الله لا لطلب دنيا أو جاه أو سعة رقعة أو توسيع مملكة أو نحو ذلك من المقاصد والأهداف التي يسعى لها الناس. قال الله عز وجل (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) أعاد المقصود مرة أخرى تأكيداً عليه وبياناً لأهميته لأنه هو الذي يكون فيه الأجر ويكون به النصر ويحصل به الخير في الدنيا والآخرة، ما قال ومن يقاتل وإنما قال (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) سواء قتل فذهب شهيداً أو غلب فحصل له الأجر العاجل في الدنيا (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) لم يقل سيؤتى وإنما قال نؤتيه بل الله ذاته يؤتيه ولاحظوا أنه جاء بنون التعظيم (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) نكّر الأجر ليعظّمه ثم وصفه بأنه عظيم ليبين أنه لا أعظم منه، هو عظيم لو كان من الله فكيف وقد وصفه الله بأنه أجر وأنه عظيم؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع راية الجهاد ويعلي كلمته في البلاد وبين العباد وأن يرد للمسلمين سالف عزهم وتمكينهم إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة السادسة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهاذ هو المجلس السادس من برنامجكم أضواء المقاطع ومع الجزء السادس في سورة المائدة في قول الله عز وجل من الآية 51 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) في هذه الآيات يحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء وأن نجعلهم بطانة وأن نمكنهم من بلادنا ونمكنهم من أمرنا وأن نجعلهم اصدقاء لنا نستشيرهم في أمور المسلمين وأن نواليهم من دون أهل الإسلام لأن في موالاتهم خطراً علينا وخطراً على مستقبلنا فقد قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) آل عمران) فهم لا يالون لا يقصرون في إيصال الخبال إلينا ولذلك يقول الله عز وجل مؤكداً هذه الحقيقة وأن المسلم الذي امتلأ قلبه بسلامة الصدر لا يجوز له أن يغفل عن هذه الحقيقة وهي أن هؤلاء لا يقع في قلوبهم إلا البغضاء لنا عنت ومحبة العنت أن تقع لنا جميعاً قال (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) آل عمران) فلننتبه إلى هذا الأمر الذي نبهنا الله عليه فالله عز وجل أعلم بعباده وهو الذي بيّن لنا ما تخفيه صدور هؤلاء وكلامه عز وجل حق وهو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق فلا يغرننا أنهم يدعون إلى الإنسانية ولا يغرننا أننا نرى منهم ابتسامة صفراء تعلو وجوههم ولا يغرننا أنهم يقدمون لنا في الظاهر نصحاً فإننا إذا وكّلنا أمور المسلمين الخاصة إليهم يخونون ولا يتركون ما هم عليه. وهذه القضية العصبية التي لا يكاد يخلو منها أحد وهي ميل الإنسان إلى نصرة طائفته وقبيلته ومن ينتمي إليهم هذا شيء شبه فطري فإذا أردنا أن ننزع اليهودي أو النصراني مما جبل عليه كما يجبل غيره عليه فإن ذلك مخالفة منا للعقل ومخالفة للشرع ولذلك قال الله عز وجل محذراً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء) لا تجلعوهم أولياء كما تجعلوا المسلمين أولياء قريبين منكم وأصدقاء ومستشارين ومناصحين وبطانة فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم الله وخالفتم أمره وأوقعتم بنفسكم الضر قال الله عز وجل (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) بعضهم يوالي بعضاً فيتعاونون عليكم. وتصور لو أنك اتخذت بطانة من النصارى ومن اليهود تسنصحهم وتستشيرهم فهل تظن أن هؤلاء إذا أرادهم قومهم بسوء يوقعونه فيك أم ينصحوا لك ويدعوا قومهم، لا، بعضهم أولياء بعض فاحذر أن تتخذهم بطانة واحذر أن تجعلهم يطلعون على عورات المسلمين وينظرون إلى أسرار أهل الإسلام وإلى دولة المسلمين. قال الله عز وجل (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) هذا تحذير عظيم من الله عز وجل الإسلام ألا يتولوا هؤلاء الكفار فيتخذونهم بطانة من دون المؤمنين ويجعلوهم مستشارين من دون أهل الإسلام ويناصرونهم في قاضاياهم حتى ولو على أهل الإسلام فإن من تولاهم جعله الله منهم. كيف يمكن لإنسان أن يدعي أنه يحب الله وهو يوالي أعداءه لو قال لك إنسان إني أحبك حباً شديداً ثم رأيته يجلس مع عدوك ويواليه ويجالسه لعرفت أنه كاذب في دعواه عندما ادعى أنه يحبك ولو قلت لأبيك أنا أحبك وأويرك على من سواك ثم جلست مع من أضروا بأبيك وعادوه عداء شديداً وأوقعوا به إيقاعاً مؤلماً فإن أباك لا يصدق محبتك ولا يرضى منك بهذا الذي تعمله. كيف تريدون منا أن يرضى منا ربنا سبحانه وتعالى أن نشهد له بالوحدانية وندعي أننا نحبه ونطيعه وهو في الوقت ذاته يرى منا أننا نصادق أعداءه ونقربهم وندنيهم قال الله سبحانه وتعالى (إنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) انظروا كيف أظهر ما يمكن إضماره فجاء بقوله (الظالمين) في موقع الضمير فلو قال إن الله لا يهديهم أي هؤلاء الذين يتولون الكافرين لكان معبراً عن المعنى لكنه أوقع المظهر مكان المُضمر حتى يبين أن هؤلاء ظالمون وأنهم يستحقون هذا الوصف. ثم تأتي الآيات بعد ذلك لتشرح السبب الذي يدعو بعض الناس لأن يتولى الكافرين ويدنيهم ويقربهم فماذا يقول الله؟ (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) هذا يبين لنا أنه لا يدنيهم ولا يواليهم إلا من في قلبه مرض. هل أنت أيها المسلم تريد أن تكونوا ممن وصموا بهذا الوصم ووصفوا بهذا الوصف أن يكون في قلبك مرض؟! المؤمن الحق لا يرضى بأن يكون قلبه مريضاً ولا أن يكون موصوفاً بهذا الوصف فيقول (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) يعني يسارعون في موالاتهم والقرب منهم لماذا؟ (نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ) نحن ما واليناهم ولا قربناهم ولا صادقناهم ولا اتخذناهم إخواناً وأعواناً إلا لأننا نريد إذا دارت الدوائر وقامت الحروب أن يكونوا أعواناً لنا فالله عز وجل يقول ما يدريكم أن الله عز وجل قد يأتي بالفتح أو أمر من عنده وهو أن تضرب الجزيةعلى أمثال هؤلاء وتعلو دولة الإسلام فلا يتنتفعون بشيء تكونون قد خسرتم علاقتكم مع ربكم وخسرتم أيضاً دنياكم واليتم مهزومين بالفعل قال الله عز وجل (فَعَسَى اللّهُ) وعسى من الله واجبة (أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وقد جاء بالفتح (أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ) وهو علو المسلمين وقد جاء الله بذلك من عنده (فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) أي يصبح هؤلاء الذين في قلوبهم مرض على ما في أنفسهم نادمين. وبالفعل ارتفعت دولة الإسلام وذهبت دولة النفاق وذهبت دولة اليهود في المدينة عندما أدان الله المسلمين عليهم فذهب بني قينقاع ثم ذهب بنو النضير ثم محق الله سبحانه وتعالى واستأصل شأفة بني قريظة فذهبوا جميعاً ولم يبق لهم دولة وخاب الذي كانوا يرجونه ويتوقعون أن يكون لهم شيء من النصر لديهم. هذه وصية الله عز وجل لنا يجب علينا أن نأخذ بها وأن نعلم أنها هي الحق لأنه ليس هناك شيء في الكتاب إلا وهو حق فالله هو الذي أمر وهو الذي يعلم ما في النفوس وهو الذي يعلم لمن تكون العاقبة وهو الذي سبحانه وتعالى يأمر وينهة ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أمر أن لا نتخذ اليهود والنصارى أولياء وإذا كان اليهود والنصارى أولياء لا يتخذوا أولياء وهم أهل كتاب فإن غيرهم من أهل الملل الأخرى من أهل الشرك وعباد الأصنام من باب أولى لا يجوز لنا أن نتخذهم أولياء. ولكن هل يمنع ذلك أن نحسن إليهم ونعدل معهم؟ لا، قال تعالى لا نتخذهم أولياء لا نقربهم ولا ندنيهم ولا نوكلهم من أمور المسلمين ونطلع عليهم أسرار أهل الإسلام وفي الوقت ذاته لا نظلمهم ولا نسيء إليهم إلا إذا أساؤوا إلينا، قال الله عز وجل (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة) فالمودة القلبية محرّمة (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (22) المجادلة) فالمودة القلبية محرّمة على كل حال والتولي بأن نقربهم ونبعد أهل الإسلام أو ندنيهم ونطلعهم على عورات المسلمين ونجعلهم مستشارين وخلصاء وبطانة هذا مُحرّم أيضاً علينا. لكن أن نعامل المحسن منهم معاملة حسنة ونقصد بذلك دعوته إلى الله عز وجل ونقسط إليه ونعدل معه ونؤدي إليه حقه فإن الله عز وجل لا ينهانا عن ذلك بل إن الله يحب المقسطين (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة ) فهذا هو الذي نهينا عنه. ولذلك نعتبر هذه الإرشادات الربانية هي غاية ما يمكن أن نصل إليه في هذا الباب فنحن يجب علينا أن نستوعب هذا الدرس استيعاباً تاماً وأن نعلم أن قضية الولاء والبراء من أعظم القضايا التي جاء بها القرآن وكثير من الناس في هذا العصر يشككون في هذا الأمر ويريدون أن يوهنوا أمر الدين بموالاة أعداء المسلمين، لا والله، لن تقوم للمسلمين قائمة حتى يتجرد المسلمون ويكتفوا بأنفسهم ويعلموا أن عداوة الكافرين لهم عداوة متأصلة حقيقية وأنه ليس لهم عندنا إلا العداوة ولكن هذه العداوة لا تمنعنا من البر ولا تمنعنا من العدل مع من كان كذلك إذا لم يسئ هو إلينا ولم يجرّ علينا بلاءً. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى جادة الحق والصواب في هذا الباب. هذا الباب الذي يحرص الأعداء فيه حرصاً شديداً على أن لا يُشهر ويحاولون أن يشككوا فيمن يتحدث عنه علماً بأن الآيات القرآنية مُحكمة وبيّنة في هذا الأمر وواضحة وظاهرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي (1) الممتحنة) ويقول جل وعلا (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ (4) الممتحنة) (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) يعني لا تتخذوا إبراهيم أسوة في تلك المسألة وهي عندما قال لأبيه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ). فيقال لا تتخذ إبراهيم في هذا الباب ولكن اتخذه قدوة في معاداته لأعداء الله وتبرئه منهم (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) فنحن يجب علينا أن نتأسي بالأنبياء وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وأن نقوم بذلك خير قيام. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا شر أعدائنا وأن يعيننا على تولي المسلمين والبراءة من الكافرين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة السابعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد. هذا هو المجلس السابع من برنامج أضواء المقاطع والذي نتحدث فيه عن تفسير مقاطع من كتاب الله عز وجل في كل يوم نأخذ مقطعاً مختاراً من جزء مناسب لليوم الذي نحن فيه فهذا هو الجزء السابع فنأخذ فيه هذا المقطع السابع من الآية 66 من سورة الأنعام حيث يقول الله عز وجل (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)) يذكر الله عز وجل لنبيه أن قومه قد كذبوا بالقرآن وأن تكذيبهم به تكذيب بأمر ظاهر وهو الحق قال (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) قومك الذين يعرفونك معرفة تامة ويعلمون أنك لا تكذب ولم يجربوا عليك في جاهلية ولا إسلام كذبة واحدة، كذبوا من دون بيّنة ولكنه الحسد والكبر ومتابعة السادة والطغاة على التكذيب ليس إلا. قال الله عز وجل (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) الحق الذي لا مرية فيه، حقٌ لأنه من عند الله وحقٌ لأنه مطابق للواقع لا يختلف عن الواقع مثقال ذرة وحقٌ لأن جميع ما فيه صدق من عند الله سبحانه وتعالى كل كلام في هذا العالم ما لم يكن كلام الله أو شيئاً أوحى به الله فإنه يحتمل أن يكون حقاً ويحتمل أن يكون باطلاً أما كلام الله فكله حق لأن الله هو الذي خلق وهو سبحانه وتعالى بكل شيء عليم وهو أصدق القائلين (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87) النساء) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) النساء) ولذلك المؤمن يأتي إلى القرآن ويأتي إلى الوحي وهو مطمئن ليس في قلبه مثقال ذرة أنه سيأتي إلى كلام يتردد فيه أو يشك في نسبته أو في حقيقة وقوعه أو مصداقيته ولذلك كله حق ولذلك نتحاكم إليه ولا نحكم عليه. قال (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) فاطمئن يا محمد ولا يضرنّك تكذيب قومك به بهذا نعلم أن الناس إن خالفونا وإن أجمعوا على معاداتنا وإن لم يؤمنوا بما جئنا به فلنكن مطمئنين لأن الحق معنا وأن الذي ندعو إليه هو الحق موافق لما في كلام الله عز وجل ولا يضرنا إن كفروا به أو خُذلوا فلم يؤمنوا بما جاء عن الله عز وجل. قال (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ) ما دام هذا هو الحق بلّغتكم إياه فكذبتم فلست وكيلاً عليكم يعني فلست مسؤولاً عنكم فإنما على الرسول البلاغ وليس عليه شيء أكثر من ذلك وهذا رحمة من الله عز وجل بنا لو شاء الله لكلّفنا إيمان الناس ولكن لعلمه أن إيمانهم ليس بايدينا وإنما بيده (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (56) القصص) ولذلك لم يكلفنا الله شيئاً ليس في طوقنا ولا وسعنا قال جلّ وعلا (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي كل خبر فإنه سيأتي يوم يعلم فيه حقيقة ذلك الخبر شئتم أم أبيتم. ما من شيء وقع في العالم إلا وسيأتي يوم تُعرف به حقيقة هذا الأمر وإن اختلف الناس وإن زيّف المزيفون ودجّل المدجلون وكذب الأفاكون وفعلوا ما يستطيعون من تزوير للتاريخ وتشويه للحقائق وقلب للقضايا فإنهم إن فعلوا ذلك فإن الحق باقي وإن الحق قائم وسوف يظهر في يوم من الأيام (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ) منتهى ينتهي إليه فتُعلَم به الحقيقة إن في الدنيا وإن في الآخرة. وهذا أثبتته الوقائع كم اختلف الناس وكم حصل بينهم من الإشكالات والحوارات والمناظرات والجدال الطويل جداً ثم يبين الحق ويظهر ويأتي الله عز وجل بما يدل على ذلك. انظر إلى الفكرة الشيوعية جاءت وسادت وقامت وارتفعت وصار لها دولة حتى انضم إليها نصف أهل الأرض حتى من أهل االإسلام من انخدع بالفكرة الشيوعية وأراد أن يطبقها على المسلمين وطبقها بالحديد والنار وظن الناس أن هذا حق من الحق لكثرة الجلبة عليه ثم ذهبت هذه الفكرة كأنها فقاعة لم يبق منها شيء. واليوم الناس ينظرون إلى الرأسمالية وهي تترنح باطل كم زيفوا هذا الباطل وكم زخرفوه وكم زينوا له وكم طبلوا له!، فكرة الربا ماذا فعلوا بها؟ كانوا يقولون لا يمكن أن يقوم اقتصاد ولا يزدهر اقتصاد إلا بالربا واليوم يقولون المشكة والأزمة العالمية التي وقعت للناس هي بسبب الربا. المسلم مطمئن لهذه الحقيقة يعرفها قبل أن يعرفوها وهو مرتاح لحكم الله عز وجل فيها ويعلم أنه سيأتي يوم سيكتشف فيه الناس هذا الأمر. انظروا إلى العهر الذي يسمى تحرراً ويحاول أن يزينه الغربيون في أعيننا بل ويفرضوه علينا عبر الزنا وعبر جميع وسائل الترفيه التي يبتدعونها يحاولون أن يزينوه لنا ولكنهم الآن يكتشفون آية إثر آية أن هذا الذي يريدون أن يقرروه ما هو إلا باطل فجاءت قضية الإيدز والأمراض الجنسية كل هذه الأشياء ابتلي بها الناس وجاءت إليهم ليدلهم الله سبحانه وتعالى على الحق في ذلك. وغير ذلك قال الله عز وجل (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهذا تهديد لهؤلاء الذين كفروا بالحق وعندها ستندمون لأنكم ما آمنتم بالغيب عندما جاءكم ولا آمنتم بهذا الحق الذي قامت عليه الدلائل ولكنكم كذبتم وكفرتم وتخطيتم هذه الدلائل وتعاميتم عنها (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). ثم قال الله عز وجل (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) أي مكذبين بها (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) يعني أعرض عن هؤلاء الذين جلسوا مجلساً يتكلمون فيه عن تكذيب آيات الله ويتحدثون فيه بأحاديث لا يليق بالمؤمن أن يسمعها أو يجلس مع أهلها لأن الجلوس مع هؤلاء القوم إقرار على باطلهم قال (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إياك أن تقر وتجلس في ذلك المجلس. وهذه الآية آية مكية وجاءت آية مدنية تؤكد هذا المعنى وتدل عليه قال الله عز وجل (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) النساء) إذن لا يجوز للمسلم إذا سمع من ينتقص من آيات الله ويشكك في شرع الله ويستهزئ برسول الله أو يسب أحد علماء الدين لدينه أن يجلس ذلك المجلس إلا إذا كان يُنكره أو لا يسعه الجلوس في ذلك المجلس قال (حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ) لو ألهاك إبليس ثم تذكرت وعلمت أن هذا المجلس لا يحل الجلوس فيه (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)بعد الذكرى أي بعد التذكر. ولاحظ لم يقل فلا تقعد بعد الذكرى معهم بل قال (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ليبين أنهم ظالمون وهذا من وضع المُظهَر موقع المضمر ليبين بذلك الحكم وأنهم ظالمون لأنفسهم وأنهم ظالمون للحقيقة والحق الذي يجب أن ينتصروا له. ثم قال (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي إذا خاض هؤلاء في آيات الله فإنه ليس عليك من حسابهم شيء ولكن أمرناك بأن تقوم عن مجلسهم لعلهم يتذكرون فينتهون ويتقون ما يتحدثون فيه من سب الله وسب رسوله والاستهزاء بعلماء المسلمين وأهل الدين كما حصل للمنافقين الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا وهم يمشون في الطريق قالوا ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء فجاء أحد الصحابة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (66) التوبة) فحكم عليهم بالكفر. ولذلك نقول إحذر أيها المسلم إذا كنت في مجلس أياً كان هذا المجلس حتى ولو كان هذا المجلس شاشة ترقبها وتنظر إليها وفيها من يكفر بالله ويتسهزئ بالله ويعصي الله فإياك أن تجلس في ذلك المجلس وغيّر تلك القناة ولا تجلس ذلك المجلس لأنه لا يحل لك أن تبقى في مجلس يقام فيه المنكر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وقد قال بعض العلماء" إذا لم يزل المنكر فزُل أنت" إُخرج أنت ولا تبقى في المكان الذي يُفعل فيه المنكر. أسال الله سبحانه وتعالى أن يمنّ علي وعليكم بالقيام بالحق وتبليغه للناس والصبر عليه وأن لا نكون خلطاء لأهل الباطل ولا مشجعين لهم بشيء من باطلهم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذلك أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة الثامنة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا هو المجلس الثامن من برنامج أضواء المقاطع ونحن الآن في الجزء الثامن في سورة الأنعام في الاية 151 يقول الله سبحانه وتعالى (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)) هذه عشر وصايا أوصانا الله سبحانه وتعالى بها هي من أصول هذا الدين وهي قضايا لا يدخلها النسخ لأنها من الحقائق المجمع عيها التي اتفقت عليها الشرائع بها وجاء بها الأنبياء ونزلت بها الكتب ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مبيناً أهمية هذه الوصايا "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهي الآيات الثلاث التي ذكرناها. وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتب ثم قرأ الآيات (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) وهذا الحديث كما قال الحاكم صحيح الإسناد. هذه الآيات لو تأملناها لوجدناها جامعة لأصول وحقائق عظيمة جداً تمثل الركن الأساس لقيام هذا الدين ولذلك جعلها الله عز وجل حقائق معدودة وأيضاً محدودة ليسهل فهمها وجمعها من أجل أن يجتمع القلب عليها وأن يراعيها كل إنسان وجاءت في القرآن المكي لأنها من أصول الدين. قال الله جل وعلا (قُلْ) وكل آية افتتحت بـ (قُل) ففيها مزيد عناية (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) تجد أن الآيات التي تفتتح بـ (قُل) فيها شيء من العناية ومزيد من الاهتمام. (قُلْ تَعَالَوْاْ) هلمّوا (أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أبيّن لكم الشيء الذي حرمه الله عليكم وحذركم من الوقوع فيه وهذه نستفيد منها أن المحرمات في الإسلام معدودة بخلاف المباحات فإنها غير معدودة ولا محدودة. يعني الأصل في الأشياء النافعة أنها مباحة وحِلٌ لنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً (29) البقرة) فكل شيء فيه نفع لنا فالأصل فيه أنه حلال لنا ما لم يرد ما يدل على تحريمه. وهنا قال الله جل وعلا (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) عندما قال (ربكم) عرفنا أن فيها مزيداً من العناية فهذا من تربية الله لنا ومزيد عنايته لنا فالله ما حرمها علينا إلا لشدة ضررها بنا ولأنها لا تليق بنا ولأنها مفسدة لأحوالنا الدنيوية والأخروية. قال الله جل وعلا (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) حرّم علينا أن نشرك به أيّ شرك قليلاً كان أو كثيراً ويدخل في هذا صغير الشرك وكبيره والشرك أن يُجعل مع الله شريك بأي وصرة من الصور أو شكل من الأشكال سواء كان ذلك عن طريق عبادة الصنم أو السجود له وهو أجلى أنواع الشرك أو الطواف بالقبر وسؤال المقبورين المدد والغوث والمغفرة والرحمة والرزق وغير ذلك مما يُسأله بعض المقبورين أو أن يتخذ الإنسان شركاً من نوع (ما شاء الله وشئت) ومن نوع (والأمانة، والنبي) كالحلف بغير الله عز وجل، فكل ذلك من الشرك الذي ينبغي على المسلم أن يتقيه. فأعظم الحرمات عندنا هو جانب الشرك وجانب التوحيد تصفيته وتنقيته هو أجل ما يقوم به الإنسان ولذلك قال الله جل وعلا (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) النساء) إذن إحذر أن تقع في الشرك فإنك إذا سلمت منه سملت من شر عظيم وأنت بإذن الله عز وجل قريب من رحمة الله سبحانه وتعالى. ثم قال (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) بعد أن ذكر حقه في أن لا يُشرك به ذكر حق الوالدين لأنهما سبب وجود الإنسان ولم يذكر حقهما على سبيل أن لا يؤذيهما الإنسان ليس هذا هو المطلوب وليس المطلوب أن لا تعقهما بل المطلوب من كل أحد أن يحسن إلى والديه كما أحسنا إليك (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) الإسراء). فأنت تحسن إليهما وتبدأ بفعل ذلك الإحسان قاصداً رضى الله أولاً ثم رضاهما ثانياً واعلم أن رضى الله برضى الوالدين وسخط الله بسخط الوالدين كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح. الوصية الثالية (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) لما وصى بالوالدين انتقل بعد ذلك إلى الأولاد وهذا أمر كان شائعاً عند أهل الجاهلية وما يزال إلى اليوم موجوداً كما تسنه الآن نظم وقوانين ودول وتعمل به ولا تجد من ينكر عليهم ففي الصين يقتلون الأولاد بالملايين وكذلك في الهند وفي كوريا وفي الدول الغربية يسن الإجهاض ويشرّع ويؤمر به حتى تستمتع النساء بشهواتهن وخصوصاً الفتيات القاصرات. (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) لا تقتلوهم خوفاً من الوقوع في الفقر أو لأنكم قد وقعتم في الفقر بالفعل كما هو مقتضى هذه الآية. (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) نحن نرزفكم أنتم أيها الفقراء وإياهم أي وأولادهم فقد يدعو الإنسان فقره إلى أن يقتل ولده فيقال له لا تقتله من فقر فإن الله سبحانه وتعالى يرزقك ايها الفقير ويرزق ولدك وفي سورة الإسراء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم (31)) أنتم الآن أغنياء ولكن تخافون الفقر على أولادكم نحن نرزقهم أولاً وإياكم. فلما كانوا فقراء قال نرزقكم ولما كانوا يخشون الفقر قال نرزقهم وإياكم. ثم قال (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الفواحش هي كل الأثام وما يستفحش يعني يتناهى في القبح (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) فالزنا ظاهر والحسد والكبر باطن. (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ) وهي النفس المعصومة لا يحل لامرئ أن يقتل نفساً إلا في حالات ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة. (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهذه الأمور لكا كتنت تُدرك بالعقل ذكر العقل هنا. يعني العقل يدل عليها لو لم يأتي بذلك الشرع. وقال الله عز وجل (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي إحذروا من قربان مال اليتيم إلا بالصورة التي هي أحسن أي على وجه ترون أنكم تحسنون به إلى اليتيم (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) يعني حتى يصل إلى المرحلة التي يقدر فيها على حسن التصرف في المال كما قال الله عز وجل (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ (6) النساء). الوصية الثامنة (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فكلما تتكلمون تكلموا به على وجه العدل يعني قولوا قولاً سديداً كما الله عز وجل في سورة الأحزاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (71)) عذرنا الله في الكيل والميزان فقال (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وأما في القول فإنه لم يعذرنا لأنن نقدر على ذلك قال (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) قولوا قولاً عادلاً بلا ظلم ولا شطط. (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) ولو كان الذي تقولون فيه صاحب قربى فإياكم أن تظلموا الناس بسبب قرابة من تتحدثون له أو عنه بل اعدلوا حتى مع قرابتكم لو جاءك إنسان يقول لك ما حال أبيك؟ وقد خطب ابنتي وأنت تعرف أن أباك لا يستحق ذلك فقل الحق فيه (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى). ثم قال الله عز وجل (وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ) إذا عاهدتم عهداً فوفّوا بها ومن ذلك الوفاء بالمواعيد وإذا عقد الإنسان عقداً كعقد النكاح وفّى بما عقد عليه وكذلك ما يكون بيننا وبين أعدائنا.
ثم ختم الله هذه الوصايا بوصية جامعة عظيمة قال (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) إتبعوا هذا الصراط وهو القرآن فإنه الموصل إلى الله عز وجل فإذا اتّبعناه اهتدينا. (وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) فإنكم لن تجدوا من وراء القرآن ومن خلاف القرآن إلا سبلاً وهذه السبل كلها توصل إلى النار ولا تهديكم إلى الله عز وجل (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التقوى وأن يجعلنا من المستقيمين على صراطه المتّبعين له إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة التاسعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا هو المجلس التاسع من برنامج أضواء المقاطع وحديثنا اليوم في الجزء التاسع في سورة الأعراف في الاية 199 يقول الله عز وجل (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)). في هذه الآية يأمرنا الله عز وجل بأن نأخذ العفو وأن نأمر بالعُرف وأن نعرض عن الجاهين وإذا نزغنا من الشيطان نزغ فلنستعيذ بالله إنه سميع عليم. هذه الآيات من الآيات الجامعة في القرآن الكريم الجامعة لمكارم الأخلاق والتي لا يستغني مسلم يريد الحياة الطيبة عن الأخذ بما جاء فيها من وصايا وحكم ربانية. أولها يقول الله جل وعلا (خُذِ الْعَفْوَ) يعني خذ من الناس ما سمحت به أنفسهم واحتمل منهم ما جاؤوا به واقبله منهم وإياك أن تكلفهم ما لا يريدون أن يقدموه وما لا يرضون أن يأتوا به فإن الإنسان إذا امتلأ قلبه بذلك وأخذ من الناس ما جادوا به وما سمحت به أنفسهم فذلك والله خير له. وذلك أطمن لقلبه وأرضى لنفسه وأبعد له عن الشقاق وعن الخلاف وعن الضغينة البغضاء وعن الحسد. يقول العلماء رحمهم الله تعالى خذ العفو أي من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس. وقال هشام بن عروة عن أبيه: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وهذا أمر ينبغي على كل داعية أن ينتبه له، فأنت عندما تقابل الناس وتجالسهم وتخالطهم تجد فيهم الكريم وتجد فيهم البخيل وتجد فيهم اللئيم وتجد فيهم السمح وتجد فيهم الشجاع وتجد فيهم من يقوم بقضاء الحاجات ويغيث الملهوفين وتجد منهم من يشح بذلك فلا يخدم الناس ولا يقضي حوائجهم فإذا أردت أن تعيش معهم سالماً من كل أذى موفور العِرض من غير أن يقع في قلبك شيء من الضيق والضيم والضررفخذ العفو من أخلاقهم فإن الله جبل الناس على أخلاق كثيرة فإذا أردت أن تحاسبهم على ذلك وأن تأخذ في نفسك عليهم آذاك هذا الأمر أذى شديداً وأتعبك وصرت في معاملتك للناس لن تجد من تأنس به. قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما مثل الناس كإبل المائة لا تكاد فيها واحداً" يعني لا تكاد تجد من يوافقك في أخلاقك وطريقتك إلا واحد في المائة. وهذا والله نجده الآن عندما نكون في المدارس وفي الجامعات وفي الوظائف ترى أناساً كثيرين فلا يوافقك من هؤلاء الناس إلا واحد أو إن أكثرت اثنين. إذن حتى تحيا سالم الصدر معافى من كل ضغينة وشحناء تعامل الناس معاملة بالقسط تطلب ما عند الله عز وجل وتريد وجهه (خُذِ الْعَفْوَ). يقول أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: بقيت مع النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لِمَ فعلته ولا لشي لم أفعله لم لم تفعله" وهذا تطبيق عملي لقول الله عز وجل (خُذِ الْعَفْوَ) يعني إياك أن تحمل في صدرك على أحد لأنه لم يوافقك على الأمر الذي تريد وهنا نلاحظ أن كثيراً من الناس تجده يعيش زمانه وهو يشمت بالناس ويسخر منهم ويحاسبهم ويعاتبهم على تقصيرهم في حقه، فلان طلبت منه خدمة فلم يقم بها، فلان أردت منه أن يفعل كذا فلم يفعل، فلان نصحته فلم يمتثل، فلان كانت عنده مناسبة أو وليمة أو عرس أو جمع الناس ولم يطلب مني أن آتي ولم يدعني كما دعا سائر الناس، تجده دائماً يتشكى من الناس الذين لم يقدروه قدره ولم يعرفوا له حقه. نقول (خُذِ الْعَفْوَ) إن دُعيت فأجِب، إن أُحسِن إليك إفرح، إن أُسيء إليك فاقبل واطمئن واعلم أن هذه النفوس بيد الله عز وجل. قال الله جل وعلا (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) لا يعني لك إذا فعلت الذي فعلت أو رأيت الناس على تلك الحال أن لا تأمر بالمعروف مُر بالمعروف ودٌلّ الناس على الخير ليكن قصدك وحظك أن تدل الناس على الله ولا يكن قصدك وحظك أن تأخذ بحقك من الناس. إياك أن تدعو وأنت تريد من الناس أن يحترموك ويقدروك وأن يكرموك وأن يرفعوا منزلتك وأن يقوموا بشأنك ولكن ليكن همك أن تأمرهم بالمعروف وتدلهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وهذا أمر عظيم. عندما تكون مع الناس إنسَ نفسك وقم بحق الله عز وجل وإذا قمت بحق الله فإن الله سيسخّر هؤلاء الناس لك يقومون بحقك. إذن مُر بالمعروف قم بالواجب وأد ما أوجبه الله عليك من الأمر بالمعروف والنصح لخلقه والقيام بشؤونهم وإياك أن تنتظر منهم أن يردوا إليك هذا الجميل أو أن يحسنوا إليك بل خذ منهم ما سمحت به أنفسهم وما تفضلت به ولا تلمهم على شيء ادخروه عنك. وأنت قم بما أوجب الله عليك فأُمر بالعرف وإذا أمرت بالعرف ماذا يكون؟ لا بد أن يصلك شيء من الأذى من الخلق ولا بد أن يصيبك شيء من ظلمهم وبغيهموعدوانهم فإن هذه سنة الله عز وجل فيمن يأمرون بالمعروف ولذلك قال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) فأنت سينالك شيء من جهلهم وعدوانهم فإياك أن تقابل الجهل بجهل مثله. فإذا أمرت إنساناً أن يصلي وقلت له صلِّ يا فلان أو قلت له يا فلان حضرت الصلاة فقم إلى الصلاة فقال إذهب، أُغرب عني، دعني وما أنا فيه، لكم دينكم ولي دين، يا رجعي، يا أصولي، مالك ولي؟ نحن في دولة ديموقراطية، مالك والناس؟ عليك أن يخصك. إياك أن يحملك هذا الكلام من هذا الرجل الذي استفزك بأن ترد عليه بمثل كلامه، أعرض عن الجاهلين. أنت أمرت ولا يأمرك الله عز وجل بشيء أكثر من ذلك. انتبهوا لهذا المعنى العظيم وهذا المعنى الطيب (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ولذلك الداعية الحق عندما يدعو لا يلتفت إلى الوراء ولا يحاسب الناس بل يدعو إلى الله عز وجل ويقابل السيئة بالحسنة (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (34) فصلت) هذا ما سيكون حقاً وهو أن تقابل جهل الجاهلين بالإحسان منك فإنك سترى أثر ذلك واضحاً عليك وعلى طريقة تعاملهم معك قال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كأنه بسبب إحسانك إليه ولي حميم (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت) جعلني الله وإياكم منهم.
قال الله عز وجل (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إذا وسوس الشيطان في قلبك وقذف في قلبك شراً وقال لك انظر ماذا يفعل هذا الرجل، ماذا قال هذا الرجل، فلان لم يحترمك وفلان لم يقدرك وفلان لم يستمع إليك، متى نزغ الشيطان بنزغ من عنده فرُدّ كيده بشيء واحد لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، رُدّه بشيء واحد وهو أن تعتصم بالله وحده وبجنابه الكريم من شر الشيطان الرجيم فتقول أعوذ بالله من شر الشيطان ويرتد على عقبيه. وهذا جاء بعد قوله (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ومناسبة ذلك أتم مناسبة لأن الإنسان في أول الأمر قد يُعرض عن الجاهلين لكن الشيطان يأتي إليك ويقول لك فلان يسخر منك وتتركه؟ فلان يحط من قدرك ولا ترد عن نفسك؟ بل إنه أحياناً يتلبس لبوس الدين غيرة للدين فيقول يؤذيك ويسب دينك ولا تنتصر لدينك؟ إنتصر لدينك وهو يريد أن يغرر بك ويوسوس لك بحجة أنه يريد إكرامك. قال الله عز وجل (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) إذا جاءت هذه الوساوس إلى قلبك وبدأت ترد على فؤادك فاحذر والجأ إلى الله لردّها فإنك لا تستطيع أن تدافع إبليس. المسيء إليك من بني الإنسان تدفعه بالإحسان (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أما إبليس فلا تنفع معه مداراة عدو حقيقي لدود لا يرضى إلا أن تدخل معه في نار جهنم، هذا الذي يرضيه، إذن ماذا تفعل؟ في هذه الحالة مالك إلا شيء واحد وهو أن تستعيذ بالله وأن تعتصم بجنابه الكريم فتقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فيندحر أو تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم أي الله فيندحر إبليس أو تقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فيندحر إبليس. هذا الذي يجب علينا عندما ينزغ الشيطان في قلوبنا نلجأ إلى الله ونستعيذ بجنابه. وهنا قد يسأل سائل لماذا؟ لأن الشيطان لا يُرى ولا يُعرف مكانه والأعلم بكيده ونزغاته ووساوسه هو الله والأقدر على ردّ ذلك هو الله، إذن اختصر الطريق، تجلس أنت تدافع وتدافع، إلى متى؟ أنت تمل وهو لن يمل وسيبقى لأنه خلق من أجل هذا وأنت لا قدرة لك ولا طاقة بك على المصابرة في هذا الباب إذن إختصر الطريق واتصل بالله الذي خلقك وخلقه وهو أدرى بضعفك وأسمع لدعائك وقل أعوذ بجنابك يا الله من شر هذا الشيطان فيندحر الشيطان ويذهب ولا يصل إليك بإذن الله. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يجعلنا جميعاً ممن يأخذون العفو ويأمرون بالعرف ويعرضون عن الجاهلين وإذا نزغهم من الشيطان نزغ استعاذوا بالله إنه هو السميع العليم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
لا أملك إلا الدعاء لك بأن يجعلك الله مع العلماء الربانيين ،
حقا كم ووفرت علي الجهد فأنا كنت أود متابعة هذا البرنامج لكن لا توجد عندي القناة
 
بارك الله فيك أختي الكريمة التواقة على تعقيبك والحمد لله أن يسر لي طباعة هذه الحلقات فأنا أطبعها مباشرة وأرفعها على الملتقى بعد ساعة من إذاعتها وهو فعلاً برنامج موفق للدكتور الخضيري وهذا ليس جديداً عليه فبرامجه السابقة والحالية تشهد له بذلك ومنها برنامجه أفانين القرآن وبينات ولنحيا بالقرآن.
تابعي الحلقات بإذن الله ولا تنسيني من دعائك في هذه الأيام المباركة.
 
وقت البرنامج مع وقت صلاة العصر عندنا فلا أستطيع مشاهدته ولا أعرف وقت الإعادة لذا أصبحت أتابع البرنامج هنا فجزاكم الله خيراً كثيراً، وجزى الله الشيخ محمد الخضيري.
 
بارك الله فيك أخي الفاضل الغزالي. لا أعلم متى إعادة البرنامج وهل يعاد أصلاً لكن بحمد الله يبدأ عندنا بعد صلاة العصر فأطبع الحلقة مباشرة وأرفعها بعد تنقيحها في نفس اليوم. والتفريغ حرفي بفضل الله ولا ينقص سوى الحلقة الثانية لأنهم أعادوا الحلقة الأولى في اليوم الثاني. أما الباقي فأضيفه تباعاً بفضل الله. متابعة طيبة وجزى الدكتور الخضيري عنا خير الجزاء.
 
الحلقة العاشرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس العاشر من برنامج أضواء المقاطع وحديثنا اليوم في الجزء العاشر وفي سورة التوبة في الآية 71 يقول الله عز وجل (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)) يصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم يوالي بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً ولا يرضى أحد منهم أن يصل لأخيه شيء من الأذى فهو يرى أن أخاه هو جزء منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". فهذا هو حال المؤمنين ولذلك يجب علينا أيها المسلمون أن نراعي حق الولاية للمؤمنين متى ضعفت هذه الولاية في قلبك فاعلم أن هذا دليل على ضعف إيمانك لأن الله تعالى قال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) وهذا الأمر يتحتم علينا في مل عصر وفي كل مصر ولا يجوز أن نخضعه للاختلافات السياسية والعصبيات الجاهلية وننسى ما أوجبه الله علينا من الولاية الإيمانية فنحن يجب علينا أن نحب إخواننا وأن ننصرهم وأن نكون معهم في سرّائهم وفي ضرّائهم وأن نتفقد أخبارهم ونعينهم عندما يصيبهم ضيم أو ظلم هذا مقتضى الولاية الإيمانية ولا نخضع هذا للخلافات السياسية أو للمشاكل التي بين الدول وبين الأحزاب بل يجب علينا أن نتقي الله في ذلك فنقوم بهذه الولاية خير قيام. قال الله عز وجل (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) لما ذكر أن بعضهم أولياء بعض ذكر الصفات وهذه الصفات لها علاقة بهذه الولاية لأن المؤمنين إذا تولى بعضهم بعضاً لا شك أنهم سيقومون بهذه الصفات التي ذكرها الله وهي أولاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. هل تتصورون أن مؤمناً يكون موالياً لمؤمن لا يأمره بالمعروف ولا يدله على طريق الجنة ولا ينهاه عن المنكر ولا يحذّره من طرق النار؟ لا يمكن ذلك. المحبة العاطفية الجوفاء الباردة الباهتة التي تكتفي بالابتسامات والكلمات الحلوة ليست هي مقصود الولاية وإنما مقصود الولاية أخوة إيمانية صادقة تجعل من المؤمن إنساناً مشفقاً على أخيه ناصحاً له محباً للخير أن يصل إليه في دنياه وفي أخراه. وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم جملة من أصحابه على النصح لكل مسلم بل قال النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أبلغ من ذلك قال: "الدين النصيحة" قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين هو النصيحة وأن النصيحة تكون لله بتوحيده واتّباع أمره وتكون لرسوله كذلك وتكون لكتابه أيضاً وتكون لأئمة المسلمين وعامتهم بنصحهم ونصرتهم والأخذ على ايديهم ودلالتهم على الخير في كل حال أئمة المسلمين وكذلك عامتهم. وهنا عندما ذكر الولاية ذكر أول مقوم من مقوماتها وأول مظهر من مظاهرها وهو أن نكون مترابطين وأن يخشى كل واحد منا على أخيه كما يخشى على نفسه ولذلك إذا رأى أخاه قصّر في معروف نبهه وإذا رآه قد وطيء على منكر حذّره دعاه وأشفق عليه وناداه، فلنتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الولاية. ثم قال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) تأملوا كيف بدأ بهما وهذا من أعاجيب هذه الآية مع أن الذي جاء بعدهما أولى منهما ولكن أبرزهما الله عزووجل اعتناءً بهما ودلالة على أن الولاية لا تكون صادقة ولا تتحقق إلا بهما وإلا طاعة الله ورسوله هي أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن أردنا أن نفصل، علماً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من طاعة الله ورسوله ولكن طاعة الله ورسوله أعمّ وأشمل وتستوعب الدين كله، فلننتبه لذلك. إنما قُدِّما إعتناء بهما وقُدِما لصلتهما بالولاية الإيمانية والأخوة التي يجب أن تكون بين المؤمنين. قال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ما هو المعروف؟ المعروف هو كل ما عُرِف بالشرع والعقل حسنه فهم يأمرون به كل ما كان حسناً عند الله وعند الناس مما لا يخالف الشرع فإنه يجب علينا أن نأمر به وندل عليه. تأمر بالصلاة لأنها معروف وتأمر ببر الوالدين لأنه معروف وتأمر بصلة الأرحام وتأمر الإنسان أن يغير إطار سيارته لأنه قديم فهذا أمر بالمعروف وتأمر فلان أن يضع اللون الفلاني على جدار بيته لأنه أصلح له فهذا أمر بالمعروف. إذن كل ما عرف حسنه بالشرع والعقل فهو معروف فنأمر به. ثم قال (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر) يحذرون ويأخذون بحجز إخوانهم عن الوقوع في المنكر، فما هو المنكر؟ المنكر هو كل ما عُرِف قبحه بالشرع والعقل، فما عُرِلإ قبحه بالشرع والعقل ينهون عنه سواء كان ذلك نهياً عن الزنا أو عن الشرك أو عن شرب الخمر أو عن النميمة والغيبة أو حتى نهياً عن الأشياء التي لا تصلح بها الحياة فلو أراد إنسان أن يشرب مشروباً يضر به وقلت له يا فلان إحذر هذا المشروب فهذا من النهي عن المنكر. قال الله عز وجل (وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ) أتبع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغقامة الصلاة لأن إقامة الصلاة عونٌ على إقامة بهاتين الشريعتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأقم الصلاة ترى من نفسك قوة وقدرة وطاقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولاحظوا كيف أن الصلاة عندما ذكرت لم تذكر بلفظ يصلّون وإنما بلفظ يقيمون الصلاة وهذا يكاد يكون في سائر القرآن إلا ما شذّ وهو قليل مثل قوله عز وجل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) الكوثر) فيقول يقيمون الصلاة أي يؤدونها على وجه الإقامة قائمين بشروطها وأركانها وواجباتها خاشعين فيها مقبلين فيها على الله عز وجل متبعين فيها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي الصلاة التي تأمرك بالمعروف وتنهاك عن المنكر وهي التي تعينك على الأمر بالمعروف وعلى النهي عن المنكر كما قال الله عز وجل (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) العنكبوت). قال (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) لما ذكر حق الله ذكر حق المخلوقين لأن هذا هو بناء الدين. الدين ليس حقاً خالصاً لله عز وجل بمعنى عبودية من العبد لربه فقط بل هي حق لله وقيام أيضاً بحقوق المخلوقين الذين أوجب الله علينا أن نقوم بحقوقهم كالوالدين والأصدقاء والأقارب والزوجة والولد والأيتام وكل من أوجب الله عز وجل علينا تجاههم حقاً. فالله عز وجل ذكر حقه بإقامة الصلاة ثم ذكر حق المخلوق بقوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ونلاحظ في سائر القرآن أن إيتاء الزكاة يقترن بإقامة الصلاة أولاً لأنهما ركنان في الإسلام مقترنان وثانياً لأن إقامة الصلاة حق الله وإيتاء الزكاة حق المخلوق ولا قيام للدين إلا بالقيام بحق الله وحق المخلوق. وأيضاً لأن من اقام الصلاة رزقه الله ومن رزقه الله وجبت عليه الزكاة ولذلك قال الله عز وجل (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه) فمن أقام الصلاة واصطبر عليها رزقه الله ومن رزقه الله وجبت عليه الزكاة. ثم قال الله عز وجل مبيناً ما هو أعم من ذلك شاملاً كل مسائل الدين لأننا لا نأخذ جزءاً من الدين مما نهوى ومما لا نهوى أو مما هو سائر في بيئتنا وسائر في جماعتنا وندع ما سوى ذلك بل نحن نطيع الله ورسوله في السراء والضراء وفي المنشر والمكره وفيكل أمر. قال الله عز وجل (وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) وعطف الرسول على الله لأن طاعة الرسول هي طاعة لله سبحانه وتعالى والنتيجة فيهما واحدة. قال (أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ) من أراد الرحمة فعليه بالقيام بهذه الأمور الخمسة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله هؤلاء هم الحقيقون بالرحمة ليس كما يقول بعض الناس الله غفور رحيم وهو يرتكب المعاصي وينتهك حدود الله ولا يقوم بما أوجب الله، لا، الحقيقون برحمة الله هم أولئك الذين يفعلون هذه الأمور ويؤدونها حق الأداء قال الله عز وجل (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). إذن إذا أردنا أن نكسب رحمة الله وأن نستجلبها لأنفسنا فعلينا القيام بشروطها التي ذكرها الله عز وجل أسأل الله أن يعينني وإياكم على ذلك. أقول في ختام هذا اللقاء اللهم اجعلنا ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويطيع الله ورسوله في كل حال إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
حلقة اليوم 11 رمضان 1430 هـ كانت إعادة للحلقة الثالثة من البرنامج ولم تعرض حلقة جديدة.
إن شاء الله نواصل غداً مع حلقة جديدة من البرنامج فعذراً لمتابعي الدكتور محمد الخضيري.
 
الحلقة 13
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فهذا هو المجلس الحادي عشر من برنامج أضواء المقاطع واليوم نتحدث في الجزء الحادي عشر في سورة يونس الآية 61، قال الله عز وجل (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) هذه الآيات تحيي في نفوس المؤمنين مراقبة الله سبحانه وتعالى وتُعلِمنا بأن الله سبحانه وتعالى مطلع علينا لا يخفى عليه شيء من أمرنا كما قال سبحانه وتعالى (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) الأنعام) فالمؤمن عندما يقرأ هذه الآية يمتلئ قلبه من مهابة ربه ومن خشيته ومن علمه باطلاع الله عليه في كل أحواله، لا يعزب عن ربنا سبحانه وتعالى مثقال ذرة مما نعمل ولا مما نقول ولا مما نُضمر ولا مما نجهر به. يقول جل وعلا (وَمَا تَكُونُ) أي يا محمد وإن كانت صورة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إنها عامة في حق كل أحد، (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي شأن كان، شأن في بيتك، شأن مع الناس، شأن في الليل شأن في النهار شأن يخص شأن يعم الناس، إلى آخر ما هنالك (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ) أي ما تتلوه من هذا الكتاب من قرآن أي من آية أو جملة أو كلمة. (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) ما تعملون من عمل ولاحظوا كيف تأتي المبالغة في هذه الآية بالاتيان بكلمة (من) فإن (من) هنا إنما يؤتى بها لللمبالغة في العموم أي تعم جميع الأشياء، ما تعملون من عمل أيّ عمل كان صغيراً كان أو كبيراً قليلاً كان أو كثيراً يُرى عند الناس أو يكون سراً في الظلام أو تحت الشمس. (إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) يعني إذ تعملون ذلك الشيء وتقومون به وتأخذون في صنعه والقيام به. (إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) أي نحن مطلعون، عالمون لا يخفى عنا شيء ولا يعزب عنا مثقال ذرة. وقال الله عز وجل (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ) لاحظوا كيف تأتي (من) مرة ثانية وثالثة للإستغراق في العموم والدلالة على أن أيّ مثقال مهما كان قليلاً فإنه داخل في هذا العموم. (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ) ومثقال الذرة شيء لا يكاد يرى بالعين المجردة ومع ذلك ربنا سبحانه وتعالى يبين لنا أن هذا لا يعزب أي لا يغيب ولا يخفى عن الله سبحانه وتعالى ولا عن علمه ولا أيضاً عن كتابته. فكل ما يكون في هذا الكون من حركات وسكنات سواء كان لبني الإسنان أو كان للجان أو كان للثقلين أو غير الثقلين من دواب الأرض ومن الطيور وغيرها إلا والله سبحانه وتعالى يعلم أحوالها وقد دوّن ذلك في كتاب وإن ذلك على الله يسير. قال (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) سواء كان ذلك في الأرض أو كان في السماء (وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ) ما هو أصغر من الذرة وما هو أكبر منها كله في كتاب مبين ومعلوم أن الكتابة هي مرحلة من مراحل الإيمان بالقدر. فالإيمان بالقدر إيمان بعلم الله عز وجل الواسع الشامل وسع كل شيء رحمة وعلماً ثم الإيمان بكتابته لهذا العلم فالله عز وجل لما خلق القلم قال له اكتب فكتب ما هو كائن وكان ذلك قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم بعد ذلك المشيئة مشيئة الله للأشياء ثم خلقه لها وإيجاده لها بعد العلم والكتابة والمشيئة فهذه مراتب الإيمان بالقدر لا بد على المسلم أن يؤمن بها وأن يعلم أن كل ما كان وكل ما يكون من أعمالنا وأحوالنا وأعمال غيرنا من الإنس والجن ومن في السماء حتى حركة الدواب كل ذلك قد دون وسجل ولا يخفى على الله منه شيء.وإذا كان هذا المخاطب به هو ما يتصل ببني الإنسان أو المكلفين الذين أُنزل عليهم القرآن فإن الله عز وجل قد بيّن في آيات أخرى أن حركات حتى الحيوانات محسوبة ومقدرة ومكتوبة ومقدرة (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الأنعام) فإذا كان هذا في غير المكلفين فما بالكم بغير المكلفين؟! وبهذا نعلم أن مجالسنا هذه وأن هذا الجهد وهذه الخطوات التي نخطوها لبيوت الله عز وجل كلها مكتوبة وكلها محسوبة ولا شيء يخفى على الله عز وجل منها. قال الله جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) يبين الله سبحانه وتعالى أن أولياءه لا خوف عليهم ولا يحزنون وهؤلاء أضيفوا إلى الله جل وعلا إضافة تشريف وتكريم وهم القريبون من الله الذين عبدوا الله حقاً وقد جاء تفسيرهم في الآية التي تليها بقوله (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فهؤلاء هم أولياء الله ولذلك لا ينبغي أن يختلف في تفسير الولي لأنه قد جاء تفسيره في القرآن العظيم فهذا مما جاء البيان في القرآن بتبيانه وكشفه فلا حاجة لنا لمعرفة ما يقال في غير القرآن. ولي الله هو الذي آمن واتقى الله ولذلك ليس الولي هو الذي تجري على يده المعجزة أو الخارقة أو الكرامة ولكن الولي الذي يؤمن ويتقي ولذلك قال الإمام الشافعي إذا رأيت الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء لا يغرنّك حتى ترى إلى عمله أيوافق الكتاب والسنة أو يخالفهما؟ فنحن لا نعرف الناس بالكرامات ولا نعرف الأولياء بخوارق العادات وإنما نعرفهم بإيمانهم وتقواهم لله عز وجل فإذا كان متخلفاً عن أداء الواجبات ومتهاوناً في أداء المفروضات ومتعدياً لحدود الله منتهكاً لحرماته فلا والله لا يمكن أن يكون ولياً لله حتى وإن تمخرق على الناس وجاء بالعجائب. فالله عز وجل بيّن لنا حالهم هنا وقد جمع وصفين (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فالإيمان وصف دائم ثابت لهم والتقوى وصف أيضاً من أوصافهم العظيمة وحقيقة التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه كما قال الشاعر:
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
هذه هي حقيقة التقوى فسّرها بعض السلف بتفسير التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله. وعلى كل الأحوال فتفسير العلماء للقتوى يدور حول هذا التفسير. هؤلاء الأولياء قال الله عز وجل (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) لهم البشارة والبشارة هي ما يقدم للإنسان قبل حصوله على الجائزة فيبشر ويُسر بسماع الخبر السار أبشِ{ برضوان الله وأبشر برحمة الله. (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) يقول العلماء إن هذه البشرى تكون بالرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرى له وهذا بحمد الله كثير فإن كثيراً من الصالحين يُرى ما أعد الله عز وجل له من المنزلة والكرامة سواء يرونه بأنفسهم أو يراه غيرهم لهم وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النبوة ذهبت وبقيت المبشرات، قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له. هذا واحد من المبشرات والثاني هي تلك البرشى التي ينالها أو يسمعها أو يحصل عليها المؤمن عندما يكون في اللحظات الأخرى من حياته كما قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (31) فصلت) فالمؤمن إذا كان في حالة الاحتضار تأتيه الملائكة وتبشره وتقول له أبشر بما يسرّك عند الله فالملائكة تبشر وبذلك يُسر المؤمن ويُرى المؤمن في كثير من الأحوال ضاحكاً مسروراً مبتهجاً هذا السرور لأنه رأى ملائكة بيض الثياب فيهم من الدلالات والعلامات ما يسر المؤمن كما ورد في حديث البراء بن عازب إن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء وهذا في حديث طويل رواه الإمام أحمد وأبو داوود والنسائي وغيرهم. قال الله عز وجل (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) لهم البشر في الآخرة بدخولهم الجنة فهم إذا خرجوا من الصراط جاءت الملائكة تبشرهم تتلقاهم الملائكة وتبشرهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون تبشرهم بالجنة فيسروا وتقر عينهم. وايضاً تكون لهم البشرة بعد دفنهم فإنهم يأتيهم من يأتيهم في قبورهم فيبشرهم بجنة الله عز وجل حتى إنه يفتح لكل واحد من المؤمنين باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها فيقول يا رب أقم الساعة يا رب أقم الساعة لما يعلم أن ما ينتظره خير مما هو فيه. قال الله عز وجل (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) أي ذلك وعد من الله حتماً سيقع والله لا يخلف الميعاد والله لا يغيّر ما وعد به عباده فعل المسلم أن يطمئن وأن يعلم أن هذا الوعد من الله لا تغيير فيه ولا تبديل. قال الله عز وجل (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الفوز الذي فازه هؤلاء والخير الذي حصّله هؤلاء الأولياء جعلني الله وإياكم منهم هو الفوز الذي يجب أن يتنافس الناس فيه وهو أعظم الفوز أن ينالوا هذا الرضوان وأن ينالوا هذه المبشرات في الدنيا والآخرة. أسأل الله بمنّه وكرمه أن يجعلني وإياكم من أوليائه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 14
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهذا هو المجلس الثاني عشر من برنامج أضواء المقاطع ومقطعنا هذا اليوم هو في الجزء الثاني عشر من كتاب الله العظيم في سورة هود الآية 112، قال الله عز وجل (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116)). هذه الآيات العظيمة هي من أشد الآيات في القرآن العظيم حتى قال بعض العلماء إنها هي المقصودة بقول النبي صلى الله عليه وسلم "شيبتني هود وأخواتها" قالوا إن محل الخوف من سورة هود هي هذه الاية التي أمر الله فيها رسول صلى الله عليه وسلم أن يستقيم كما أُمر أن يطيع ربه ويؤدي الواجبات على ضوء ما أُمر من غير زيادة ولا نقص وهذا شديد على النفوس ليس أمراً هيناً ولا أمراً ميسوراً وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "سددوا وقاربوا". سددوا أي إئتوا بالأمر على وجه السداد من غير نقص ولا تجاوز، وقاربوا إذا لم تستطيعوا السداد يعني إذا لم تقدروا على السداد لنقص علم أو لنقص قدرة أو لأمر عارض أو لعذر يعذركم الله به فقاربوا وهذا لا شك أمر شديد على النفوس ونحن مطالبون به وعلينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى في القيام به. ولهذا قال العلماء أن هذه من أشد الآيات في القرآن العظيم. قال (فَاسْتَقِمْ) أي يا محمد (كَمَا أُمِرْتَ) يعني كما أوحي إليك تأتي بالواجبات كما طلب منك وتترك المنهيات كما طلب منك دون أن تقصر ودون أن تغلو أو تزيد. قال (وَمَن تَابَ مَعَكَ) أي وكذلك الذين تابوا معك وأنابوا إلى الله عز وجل ورجعوا إلى الحق ودخلوا في الدين يجب عليهم أن يستقيموا كما تستقيم أنت. قال (وَلاَ تَطْغَوْاْ) وهذا يدلنا على أن أمر الاستقامة ليس مقصوراً على رسول الله ولا على العلماء بل هو أمر قد أمرنا به جميعاً. إن الاستقامة تعني أن يطيع العبد ربه سبحانه وتعالى فلا يعصيه وأن يقوم بأوامره في كل الأحوال وأن إذا وقع في شيء من الذنوب والمعاصي إذا به يسارع إلى التوبة ويستعجل إليها ولا يرتكس في معصيته. إن الاستقامة تعني أن يثبت الإنسان على الدين فلا ينحرف عنه وإن الاستقامة تعني أن يأخذ الإنسان هذا الدين بجد وألا يتوانى في أخذه بهذه الروح الجادة وأن يعزم العزم كله على تنفيذ كل ما يبلغه من أوامر الله عز وجل وترك كل ما يبلغه من نواهي الله جل وعلا. إن الاستقامة تعني ألا يتأول الإنسان شيئاً من دين الله تأولاً رخيصاً ليوافق هواه أو يوافق مجتمعه أو البيئة التي يعيش فيها أو ليحاول أن يخضع دين الله عز وجل لأهواء الناس ولما يشتهونه وهذا لا شك أن هذا مما تزل به الأقدام ومما تزيغ به الأفهام فكثير من الناس تحت ضغط الواقع وتحت تكاثر المجرمين والملبسين وأهل الباطل يتراجع عن الصدع بالحق وعن الأخذ به وعن القيام بأمر الله عز وجل ويبدأ يعلن تنازلاته. ولو كانت هذه التنازلات التي يعلنها يعلن معها أنه مخالف لأمر الله لكان الأمر محتملاً لكن الأسوأ من ذلك أن يقول للناس إن هذا الذي أفعله من التقصير هو ما دل عليه الله وما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيّضِل الإنسان ويُضل اللهم إنا نعوذ بك من أن نَضل أو نُضل أو نَزِل أو نُزِل أو نجهل أو يُجهل علينا. هذا الأمر خطير وفي الأزمان التي تعلو فيها راية الباطل ويكثر فيها المرجفون وأهل الشبهات يقل المستقيمون على أمر الله وهذا ما ستؤكده لنا الآيات بعد قليل عندما قال الله عز وجل (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ) قال الله عز وجل لما ذكر الاستقامة نهى عن ضدها قال (وَلاَ تَطْغَوْاْ) ولاحظوا كيف فرق بين الأسلوبين ففي أسلوب الأمر وهو أمر بالاستقامة جاء به خطاباً للنبي وفي أسلوب النهي جاء به خطاباً للجماعة ولعلّ هذا والله أعلم تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً لقدره ورفعاً لمكانته فهو يقول فاستقم كما أمرت يا محمد ولا تطغوا كأنه لا يتصور من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطغى. قال (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذا تهديد وهذا فيه إحياء لجانب المراقبة يعني استقيموا فالله مطلع عليكم وأدوا ما أُمرتم كما أمرتم فإن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه من عملكم شيئاً وإياكم أن تطغوا فإن الله مطلع عليكم وقادر على أن يعاقبكم سواء عجل العقوبة أو ادخرها. وهنا نشير إلى ملاحظة مهمة في كتاب الله وهي اللازم من الخبر فإنه عندما يقول إنه بما تعملون بصير لا يريد أن يبين أن الله سبحانه وتعالى يبصر الأشياء فقط وإنما يريد لازم ذلك وهو أن الله يبصر الأشياء وسيحقق من وراء ذلك شيئاً وهو أنه مطلع عليكم وسيجازيكم بما تعملون إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ. ثم نهاهم الله عز وجل عن أمر آخر وهو أمر عظيم فقال (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) يعني لا تداهنوا الظالمين ولا تميلوا إليهم ولا ترضوا بأعمالهم ولا تستعينوا أيضاً بهم فإن هذا كله يدخل في الركون إلى القوم الظالمين أياً كان هؤلاء الظالمين سواء كانوا من المشركين أو من اليهود والنصارى أو من الطغاة المنتسبين إلى الإسلام فإن الركون إليهم وإعانتهم على ظلمهم والتصفيق لهم والتطبيل لظلمهم وتأييدهم على ما يفعلون كل ذلك من الركون الذي يدخل الإنسان به في عداد المخالفين لهذه الآية. قال (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) يعني إن ركنتم إليهم مستكم النار. وأيّ شيء هذه النار حتى يستهين الإنسان بها؟! إنها نار عظيمة عذابها شديد وقعرها بعيد ولا يطيقها أحد فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا حرها وشرها وأن يحرم بشرتنا ولحومنا عليها. قال (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) يعني إن ركنتم وطغيتم ولم تستقيموا كما أمرتم فما لكم من دون الله من أولياء ليس لكم أولياء دون الله عز وجل يمنعون عنكم عذابه أو ينتصرون لكم. (ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) ما كان أحد ينتصر لكم ويمنع عذاب الله عنكم فاحذروا من ذلك أشد الحذر ولذلك على المسلم أن يخشى الله ويتقيه وهذا الخطاب للمؤمن التقي الذي إذا ذكر بالعذاب ارتجف قلبه وتغيرت نفسه وخاف من الله عز وجل أشد الخوف. قال الله عز وجل (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ) نؤكد على أن الأوامر تأتي بصيغة المفرد مخاطباً بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنواهي بصيغة الجماعة. قال (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ) كأن إقامة الصلاة هي عنوان الاستقامة فمن اقام الصلاة أعانه الله على سائر أبواب الطاعة ووفقه لذلك ودله عليه وأعانه على الثبات على دين الله وعلى أوامر الله سبحانه وتعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قلنا مراراً إن الصلاة لم يؤمر بها في القرآن عادة إلا على وجه الإقامة كأنها هي الصلاة المقبولة وما سواها فليست مرادة من الله ولا مقبولة ممن يؤديها نسأل الله العافية والسلامة. قال (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) اختلف المفسرون في طرفي النهار فقيل صلاة الفجر وصلاة المغرب وقيل طرفا النهار صلاة الفجر وصلاة العصر وقيل وهو أقرب طرفا النهار صلاة الفجر وصلاتي الظهر والعصر فهذا في أول النهار وهذا في نصفه الثاني. (وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْل) قال العلماء يراد به صلاة المغرب والعشاء وقال آخرون يراد به صلاة العشاء وذكر ابن كثير رحمه الله تعالى أن هذه الاية تحتمل أن تكون نزلت في أول الإسلام قبل أن يأتي فرض الصلوات الخمس فتكون أقم الصلاة طرفي النهار أي صلاتي الفجر والعصر وزلفاً من اليل أي قيام الليل ولم يكن واجباً على المؤمنين في أول الإسلام إلا صلاة بالنهار وصلاة بالليل وكان الله قد أوجب عليهم أيضاً قيام الليل ثم نسخه عن عامة المؤمنين وابقاه واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سورة المزمل. قال (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) الحسنات أياً كانت صلاة أو صوماً أو وكاة أو حجاً أو عمرة أو ذكراً أو تلاوة للقرآن يذهبن السيئات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" فإن الإنسان إذا فعل سيئة ثم أتبعها بحسنة محت تلك الحسنة السيئة. قال الله عز وجل (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) ذلك الذي أمرناكم به ودللناكم عليه ذكرى للذاكرين وليس المقصود بهذا أنها ليست ذكرى لغيرهم ولكن الذاكرين ينتفعون بها ولذلك خصهم الله عز وجل بذلك. ثم ختم الله هذه الآيات بقوله (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بدأ الأمر بالاستقامة وختم بالصبر وماذا بين الاستقامة والصبر؟ متلازمان،لا يمكن للإنسان أن يستقيم إلا بالصبر ولا يمكن للإنسان أن يكون صابراً وهو غير مستقيم وأعظم الصبر هو الصبر على طاعة الله عز وجل ولاحظوا كيف جعل الله عز وجل المُظهر مقام المضمر فقال (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ولم يقل واصبر فإن الله لن يضيع أجركم أو أجره وإنما قال (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) للدلالة على أن من استقام كما أثمر ولم يطغَ ولم يركن إلى الذين ظلموا واقام الصلاة وصبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله المؤلمة فإنه يكون من المحسنين. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن استقاموا كما أمروا ولم يطغوا ولم يركنوا للذن ظلموا واقاموا الصلاة وأدّوها كما أمر الله أن تؤدى وصبروا في كل الأحوال صبروا على طاعة الله وصبروا عن معصية وصبروا على أقدار الله المؤلمة وجعلهم الله بذلك من المحسنين وأورثهم حسن العاقبة في الدنيا وفي الآخرة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 15
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس الثالث عشر من مجالس هذا البرنامج المبارك أضواء المقاطع نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما فيه من العلم والهدى والإيمان. في هذا المجلس نأخذ مقطعاً من الجزء الثالث عشر من سورة إبراهيم من الآية 35، قال الله عز وجل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) إلى آخر الآيات التي ذكرها الله عز وجل من قصة إبراهيم ودعواته في سورة إبراهيم. في هذه الايات يذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم ليحتج بها على المشركين. المشركون الذين اشركوا في البلد الحراك ليقول لهم إن أباكم إبراهيم جاء بالتوحيد وبالحنيفية وبنبذ الأصنام ودعا الله سبحانه وتعالى أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام فكيف خالفتم طريقته وسلكتم غير مسلكه وجئتم بهذا الشرك العظيم الذي غيرتم به ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولذلك قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً. والذي يظهر والله أعلم أن هذا الدعاء كان بعد أن بنى إبراهيم البيت وبعد أن كبر إسماعيل عليه الصلاة والسلام بخلاف الدعاء الذي كان في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) ولذلك نكّر (بلداً) في سورة البقرة وعرّفها في هذه السورة لأن هذا البلد صار موجوداً ولذلك قال (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فدعا الله سبحانه وتعالى أن يجعله آمناً ما يقصده جبار بسوء إلا قصمه الله. ولذلك أبرهة لما قدم إلى البيت يريد أن يفسده وأن يهدمه قصمه الله سبحانه وتعالى وأرسل عليه الطير الأبابيل فجعله الله عز وجل آمناً وأمر بأن يأمن وأن يؤمّن (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (97) آل عمران) لذلك لا ينفر فيه الصيد ولا يصطاد لأنه إذا دخل الصيد فيه دخل في هذا الحكم وهو أن يكون آمناً. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قربه من ربه وكونه إمام الحنفاء واب الأنبياء إلا أنه لا يدع الدعاء. بل إني لا أعلم في القرآن نبياً ذكرت أدعيته كما ذكرت عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويكاد ذلك يكون مضطرداً في سائر المواطن التي ذكر فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما من موطن إلا وتجد له فيه دعاء أودعاءين أو عدداً من الدعوات. وهنا قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) إجعله آمناً ليقرّ من فيه وليكون الأمن سبباً لأن يعبدوك ويوحّدوك ولا يشركوا معك أحداً سواك. ولذلك قال بعدها (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) وهذا يدعونا لأن نتذكر أن من أعظم أسباب وقوع الخوف وأعظم اسباب حصول المكروه في الأمن هو أن لا يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وألا يفردوه بالعبادة وهذا ما حصل للمسلمين في هذه العصور الأخيرة لما اختل أمر الشرك فيهم بمعنى أنه دخل عليهم الشرك واختل أمر التوحيد دخل عليهم الخوف ولن يعود إليهم الأمن حتى يعيدوا هذا التوحيد ويكونوا على الجادة التي كان عليها إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليها سائر الصحابة رضوان الله عليهم ومن سار على نهجهم. وهذا أمر في غاية الدقة والخطورة كما قال الله عز وجل (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) الأنعام) بظلم أي بشِرك، فمتى أخللنا بالتوحيد جاءنا الخوف ومتى حققنا التوحيد جاءنا الأمن بإذن الله عز وجل. الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة. ثم قال إبراهيم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) ماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد أن إبراهيم على جلالة قدره وعلو منزلته وقربه من ربه سبحانه وتعالى يخاف على نفسه من عبادة الأصنام فيقول (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) وهل المراد ببنيه جميع ذريته أو المراد من بنيه الذين من صُلبه؟ الذي يظهر أن المراد هنا هم من كان من صلبه فقد وقاهم الله سبحانه وتعالى أن يعبدوا الأصنام بل كان الذين من صلبه أنبياء أخيار من خيرة عباد الله وهم إسماعيل وإسحق. قال (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) أي هذه الأصنام أضلت كثيراً من الناس واليوم هذه الأصنام لا تزال تضل كثيراً من الناس وما يزال كثير من الناس يخضع لها ففي الهند وحدها يعبد من الآلهة ملايين كل ما يُخاف وكل ما يُرجى وكل ما يُحب وكل ما يُطمع يُعبد حتى فرج المرأة وذكر الرجل يُعبد من دون الله عز وجل وهكذا في سائر أمم الأرض إلا من وقاهم الله وجنبهم عبادة الأصنام فإنهم قد ضلوا بعبادة هذه الأصنام. قال (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي من عصاني فأشرك وعبد الأصنام فإنك غفور رحيم وليس في هذا بيان لطلب إبراهيم بأن يشفع لهم ولكن بيان لتمام مشيئة الله وأنه يتصرف في عباده كيف يشاء. قال الله عز وجل (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يقول لربه سبحانه وتعالى مناجياً ومخاطباً وداعياً إني أسكنت من ذريتي أي من أولادي لأنه لم يذكر كل ذريته وإنما أسكن هاجر التي أهدتها له سارة وولدها إسماعيل قال (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعني الوادي الذي فيه البيت الحرام وادي مكة. (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) هذا البيت الذي جعله الله سبحانه وتعالى محرّماً فلا يحل فيه الصيد ولا القتل ولا القتال هذا البيت المعظم المشرّف. قال (رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ) أي جعله الله محرّماً من أجل أن يقيموا فيه الصلاة أي من أجل أن يكون محلاً للعبادة. ولما كانت العبادة شيئاً كثيراً ذكر الله عز وجل أعلاها وأجلّها وهي إقامة الصلاة فقال (رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) انظروا كيف جاء الدعاء قال (أفئدة من الناس) ولم يقل أفئدة الناس لأنه لو قال أفئدة الناس لغالبنا على البيت كما قال ابن عباس فرس والروم وجميع أمم الأرض ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال أفئدة من الناس وهي افئدة المؤمنين فهؤلاء تهوي قلوبهم وتأوي وتشتاق أشد الشوق لبيت الله الحرام وهذا شيء شاهدناه ورأيناه في عباد الله، رأينا كيف أن المسلم منذ أن يفتح عينيه على الدنيا وهو يشتاق إلى بيت الله وذلك إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فما زالت دعواه مباركة وما زالت إلى اليوم. والعجيب أن هذه الآيات جاءت بعد قول الله عز وجل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)) ما هي الكلمة الطيبة؟ قيل لا إله إلا الله وقيل كل كلمة طيبة أصلها ثلبت وفرعها في السماء وكذلك كلمة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فالناس في كل زمان وفي كل مكان ومن ذاك العصر إلى اليوم وهم يتفيئون ظلال وبركة دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قال الله عز وجل (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي إجعل هذا البيت آمناً ليقيموا الصلاة واجعله محرّماً ليقيموا الصلاة وارزقهم من الثمرات لعلهم أن يعبدوك ويتفرغوا لعبادتك ومكة من بين بلاد الله من سائر الأزمان ترزق من الثمرات بما لا يرزق بها غيرها. فتجد فيها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء وتجلب لها الخيرات من كل أصقاع الأرض وتأتي مع الحجيج من كل مكان وهي أرض جرداء لا زرع فيها ولا ماء ولكن الله سبحانه وتعالى بفضله ومنّه وكرمه وإجابته لدعوة خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد جلب لها الأرزاق وهيأ لها الأمور. ثم قال الله عز وجل (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) يعني إني لم أقصد بهذا الدعاء إلا وجهك ولا أريد إلا الخير لبيتك وحرمك ولقطان هذا الحرم ولمن وحدوك قال (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) انظروا كيف يخلط إبراهيم في دعائه الثناء على ربه والاعتراف له والانطراح بين يديه والخضوع التام له جل جلاله. قال (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) كأنه يقول إسمع دعائي وأجبني يا رب كما سمعت دعائي الأول وأجبتني إليه عندما دعوتك أن ترزقني بالذرية فرزقتني بإسماعيل وإسحق على كبر من سني، رزق إسماعيل وعمره 99 ورزق إسحق وعمره 112 عاماً. قال الله عز وجل (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) ختم بإقامة الصلاة لأن إقامة الصلاة هو عنوان العبودية قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة خير موضوع فمستقلٌّ ومستكثر" اي خير شيء وضعه الله. (وَمِن ذُرِّيَّتِي) قال بعض العلماء هذه للتبعيض أي من ذريتي من يقيم الصلاة لأنه قد علم أن بعضهم يكفرون ومنهم من قال أن (من) هنا بيانية أي واجعل ذريتي كذلك. (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) هذا فيه مشروعية أن يقول الإنسان اللهم تقبل دعائي في ختام دعائه. ثم يختم بالاستغفار (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) ودعا لوالديه قبل أن يُنهى عن الدعاء لأبيه فإنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. قال (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أيضاً فيه مشروعية الدعاء للمؤمنين ومشروعية إذا دعا الإنسان أن يدعو لنفسه أولاً ثم لوالديه ثم للمؤمنين يوم يقوم الحساب. أسأل الله أن ينفعني وإياكم بكلامه وكتابه وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
حلقة اليوم 21 رمضان إعادة للحلقة العاشرة من البرنامج.

أسأل الله تعالى أن يكون الدكتور بخير وإذا أمكن أن يجيبنا لماذا لا تعرض حلقات جديدة من البرنامج؟
 
الحلقة 22
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس الرابع عشر من برنامج أضواء المقاطع نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكتابه وأن يجعلنا من الهداة المهتدين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. مقطعنا من الجزء الرابع عشر ومن سورة النحل تحديداً من الآية 112، قال الله عز وجل (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)) في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى جزاء من يكفرون بنعمة الله وهذه السورة سورة النحل يسميها كثير من السلف سورة النعم لأنها ذكرت نعم الله النعم التي أنعم بها على الإنسان وقال الله عز وجل فيها (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (18)) أي إن نعم الله عليكم كثيرة لو اجتمع الناس على عدها لم يستطيعوا إحصاءها. وقد ذكرت هذه النعم إجمالاً وتفصيلاً تأصيلاً وتفريعاً وهنا قال في ختام السورة (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) هذا يقال إنه مثل لأهل مكة ضربه الله لهم بأمة سبقت وأمة بادت حلّت بها عقوبة الله جل وعلا وقال بعضهم بل المقصود بهم أهل مكة فالذين قالوا إن المقصود بهم أهل مكة قالوا إنهم بالفعل كانوا أهل قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فبعث الله لهم محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحدوا هذا الخير العظيم من الله بأن عبدوا مع الله غيره، الله يرزقهم وهم يعبدون سواه ويشركون معه أحداً غيره، فماذا فعل الله بهم؟ أذاقهم الله لباس الجوع والخوف. جعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليهم سنيناً كسني يوسف عليه السلام فسلطت عليهم سبع سنين رأوا فيها شدة حتى إنهم في أحد هذه السنين ذهب لهم كل شيء حتى أكلوا الجلود وأكلوا الذي لا يؤكل في العادة من شدة الجوع الذي حلّ بهم. وكذلك سلط الله عليهم الخوف وذلك عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم حصل لهم خوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت سراياه تصل إلى نواحي مكة وكان يخافون من أن يتغلب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينزل بهم بأسه عليه الصلاة والسلام. وقال بعضهم بل هذا ضرب مثل لأمة حصل لها هذا الأمر فخوف أهل مكة بهم يعني إحذروا يا أهل مكة إن كفرتم وتماديتم فيما أنتم فيه فإن الله قادر على أن يعيد لكم هذا الأمر الذي فعله بمن قبلكم. وهذا يبين لنا أن التاريخ كما يقال يعيد نفسه وأن هذه السنن تتكرر وتأتي مرة بعد أخرى. قال الله عز وجل (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً) آمنة لا تخاف أحداً كما قال الله عز وجل عن أهل مكة (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا (57) القصص) فالله عز وجل يمتن عليهم بـن من كان حولهم من قبائل العرب كانت تغزوهم القبائل الأقوى منهم وكانوا يتعرضون للسلب والنهب والقتل وكانوا يخافون على أنفسهم وأهليهم وذراريهم وأموالهم وأما أهل مكة فكانوا في أمن مطبق ولم يكن بمكة حصون ولم يكن بها شيء يقيها من الأعداء لِما أمنها الله سبحانه وتعالى به. قال (كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ) وهذا ما قلناه عن مكة لأن الله استجاب فيها دعاء إبراهيم (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) إبراهيم) أهل مكة كانت تأتيهم الثمار والزروع والفواكه من كل مكان وكانت لهم رحلتان رحلة الشتاء إلى أرض اليمن ورحلة الصيف إلى أرض الشام وكانوا يجلبون من هاتين المنطقتين خيرات كثيرة غير ما يجلبه العرب لهم من الأرزاق والسمن والذبائح والخيرات التي لم تكن لغيرهم من أهل الأرض. قال الله عز وجل (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) أي واسعاً كثيراً شاملاً لكل أنواع الطيبات (مِّن كُلِّ مَكَانٍ) وليس من مكان معين كما يحصل في كثير من البلاد، دخلنا بلاداً لا يعرفون بعض أنواع الفواكه أو لا يعرفون بعض أنواع الخضار أو لا يعرفون بعض أنواع الأقوات ولم يروها وذلك لأن الرزق الذي يأتيهم إما من بلادهم أو من مناطق معينة أما مكة وكذلك ما جاور مكة فإن الرزق يأتيهم رغداً من كل مكان تأتيهم الفواكه من التشيلي ومن اسبانيا ومن الصين ومن روسيا ومن اليابان ومن اندونيسيا ومن كل مكان. قال الله عز وجل (فَكَفَرَتْ) يعني قابلت هذه النعم بالكفران والجحود، جحود هذه النعمة أول ما تكون بأن تنسب إلى غير الله وأن يُعبد غير الله سبحانه وتعالى وهو الذي أنعم وتفضل وجحود هذه النعمة أن تصرف في غير طاعة الله فيستعمل مثلاً التمر للخمر ويستعمل الرز ليقدم لمن يعصون الله سبحانه وتعالى ويستعان بع على النوم عن صلاة الفجر. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ) ماذا فعل الله عز وجل بها عندما كفرت؟ (فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) تأملوا كيف جاء بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب كأن عقوبة الكفر كفر أنعم الله تكون عاجلة وسريعة وغير مؤجلة لمن كفر بنعم الله. وهذا الكفر ليس المقصود به الكفر العملي وإنما الكفر التام المطبق وقد يُلحق الله عز وجل بعض الكافرين كفراً عملياً بهذا النوع من أنواع العقوبة. ثم قال (لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) يعني كأنهم ألبسهم هذا الجوع وألبسهم هذا الخوف، كيف ذلك؟ يلبسهم يعني كأنما يحيط بهم من كل جانب فالجوع يأتي إليهم بسبب قلة المطر وبسبب انقطاع الطريق وبسبب غلاء الأسعار وبأسباب كثيرة وكذلك الخوف ياتيهم بسبب تسلط أعدائهم عليهم وبسبب كثرة السُراق وقطاع الطرق وبستت عدم تأمن الطرق واشياء كثيرة من هذا القبيل. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يبدل أمننا خوفاً وشبعنا جوعاً وذلك بيده وحده فلا نأمن عقوبة الله وإيانا وإيانا أن نأمن مكر الله عز وجل بنا إن نحن كفرنا نعم الله!. ما هو المقابل لذلك؟ إن المقابل لذلك هو أن نشكر نعم الله سبحانه وتعالى فإن شكرنا فإن الله لم يعدنا بأن تبقى هذه النعم بل وعدنا وعداً قاطعاً أن يزدنا كما قال في سورة إبراهيم (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). قال الله عز وجل (فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) أي بسبب ما كانوا يصنعون، ليس تقديراً من الله سبحانه وتعالى دون أن يكون السبب منكم فالسبب منكم والفضل منه وحده فهو الذي أنعم وهو الذي تفضل فلما تسببتم بقطع هذه النعمة وقطع هذا الفضل جزاكم بذلك الجزاء وقطع عنكم هذا الخير. قال الله عز وجل (وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) انظروا ما هو السبب؟ جاءهم رسول منهم يعرفون صدقه ويعرفون أمانته ويعرفون نسبه ويعرفون حاله فكذبوه قابلوا دعوته بالتكذيب فأخذهم العذاب ولاحظوا تأتي كل هذه الجمل معطوفة بالفاء الدالة على التعقيب يعني أن العقوبة تأتي عاجلة لهؤلاء المكذبون. وهم ظالمون لم يظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم نسأل الله العافية والسلامة. ثم يوصينا الله عز وجل ويامرنا بأن نأكل من رزقه وأن نأكل من الطيبات وأن نستمتع بها لكن بشرط أن نشكر نعمة الله فيقول (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً) أي دون ما سواه (طَيِّبًا) عليكم بالطيب دون ما عداه (وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) اشكروا هذه النعمة. لما كانت هذه لسورة سورة النعم جيء بكلمة (وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ) علماً بأن هذه الاية موجود لها نظير في سورة البقرة قال (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ (172)) لكن هذه السورة سورة النعم قال (وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّه) والشكر يكون بالاعتراف بالقلب وإيمانه الصادق الجازم أنه ما من نعمة إلا من الله والشكر يكون باللسان أن يذكر الإنسان نعمة الله على لسانه ويحمد الله عليها والشكر يكون أيضاً بالجوارح كما قال الله عن آل داوود (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ). قال (وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) دل بذلك على أن الشكر لا يكون إلا بعبادته وهنا يتبين لنا أننا إذا أردنا أن ننجو من عذاب الله العام أو الخاص فإنه يلزمنا للنجاة من عذاب الله أن نبتعد عن مساخط الله وأن نقابل نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى بالشكر مقابلها بأن لا نكفر. كم من بيننا من ينعم الله تعالى عليه بالليل والنهار ويغدق عليه الرزق ويعطيه ثم يعطيه ثم يعطيه لكنه مع ذلك غافل عن الله. لو أحسن إليه رجل من عباد الله بأن أعطاه مبلغاً يسيراً أو كفاه مؤونة شيء أو قام معه في أمر تفريج كربة فإنه يجد في قلبه محبة لهذا الرجل ويتمنى أن يرد إليه الإحسان والله سبحانه وتعالى ينعم علينا في الليل والنهار، في الصغر والكبر في أنفسنا وفي أهلينا وفي ديارنا وأوطاننا وفي كل حال من أحوالنا ومع ذلك ننسى الله وننسى نعمته علينا. اسأل الله أن يعينني وإياكم جميعاً على أن نقوم بشكر نعمته علينا. اللهم اجعلنا من الشاكرين واجعلنا من الذاكرين واجعلنا من الصابرين واجعلنا من القائمين بطاعتك على كل حال يا رب العالمين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 22
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس الخامس عشر من هذا البرنامج المبارك أضواء المقاطع في هذا المجلس نأخذ مقطعاً من الجزء الخامس عشر من كتاب الله الكريم ومن سورة الإسراء تحديداً من الآية 23، يقول الله جل وعلا (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)) هذه الاية جاءت من ضمن آيات الوصايا في سورة الإسراء. وآيات الوصايا في سورة الإسراء تبدأ من قول الله عز وجل (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً (22)). افتتحت هذه الايات آيات الوصايا في سورة الإسراء بأمر التوحيد والتأكيد عن النهي عن الشكر وختمت كذلك بقول الله عز وجل (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39)) وهذا يدلنا على شديد العناية بأمر التوحيد وأنه أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى فبه تفتتح الأعمال وبه تختتم. ثم ثنّى الله عز وجل بعد ذلك بأن ذكر بحقه وحق الوالدين لعظم حقهما فقال مفتحاً هذه الاية بقوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ومعنى قوله قضى أي أوجب وحكم وأوصى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا معه أحداً سواه. (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي قضى أن يُحسن إلى الوالدين ولاحظوا كيف أن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا بأن لا نسيء إلى الوالدين ولم ينهنا عن العقوق وحده بل أوجب علينا أن نحسن إلى والدينا والإحسان مرتبة زائدة عن النهي عن العقوق. فقد يترك الإنسان عقوق والديه فلا يسيء إليهما ولا يضرهما بشيء ومع ذلك لا يكون مطبقاً لما جاء في هذه الاية وهو أن يُحسن الإنسان إلى والديه فيوصل إليهما البر والخير ويعطف عليهما ويدعو لهما ويبذل تجاههما كل ما يستطيع. قال (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ومن هذا يتبين أن مراتب الناس بالنسبة للوالدين ثلاثة: المرتبة الأولى مرتبة المحسنين وهم الذين أدوا ما أوجب الله عز وجل عليهم في كتابه بأن برّوا آباءهم وقدموا إليهم الخير وأطاعوهم وامتثلوا أوامرهم وفعلوا ما بوسعهم مما يسمى براً وإحساناً. والقسم الثاني على الضد من ذلك وهم من عقوا والديهم وإساؤوا إليهم فضربوا وسبوا وشتموا وبخلوا وعصوا ولم يستجيبوا والقسم الثالث وهم برزخ بين هؤلاء وهؤلاء وهم الذين لم يعقوا ولم يحسنوا والله سبحانه وتعالى إنما أمر بالإحسان. فإذا لم يأت الإنسان لوالديه بالإحسان فإنه لا يكون ممتثلاً للأمر ويكون مخالفاً لمقتضى هذه الاية الكريمة. ثم بيّن الله عز وجل صورة من صور هذا الإحسان فقال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) هذه المرحلة من مراحل عمر الوالدين هي المرحلة التي يحتاج فيها الوالدان إلى الولد ولذلك خصها بالذكر وإلا فإن الإحسان إلى الوالدين لا يقتصر على مرحلة معينة بل يجب على الإبن أن يحسن إلى والديه في كل الأحوال فقال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) في تلك المرحلة مرحلة الضعف والوهن وقلة الحيلة وضعف التدبير وكثرة الأمراض ووصول الأبوين إلى سن الهرم بل والخرف أحياناً مع الأعياء الشديد وغير ذلك مما يحصل لمن رق عظمه ولان جسمه وأصبحت تنتابه الأمراض. قال (إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَر) لاحظوا قوله (عندك) يعني أن الأصل فيهما عندما يكونان كبيرين أن يكونا عندك لا عند أحد سواك، ليس في الملجأ وليس عند الأجنبي عنهما أو القريب لهما غير ابنهما بل عندك قال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) لا تظن أنك تبلغ البر بأن تحسن إلى أحدهما وتدع الآخر وتقول أنا أكتفي بأحد الوالدين وأدع الثاني بل يلزمك أن تحسن إليهما جميعاً وأن تقوم بحقهما جميعاً وأن لا تقصر أياً كان ما يحتاجوه سواء كانت الأم تحتاج إلى البر وإلى الإحسان أكثر أو كان الأب أو كان كل واحد منهما محتاجاً لذلك منك. قال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) وهنا يتبين لنا سر اختيار هذه المرحلة لتوجيه هذه الإرشادات والأوامر. العادة أن الإنسان لا يستطيع أن يقول لأبويه أف وهما نشيطان وهما قادران على العمل وهما يرجى منهما خير للإبن وهما يعقلان ما يقولان ويحسنان التدبير في أمورهما إنما يقول لهما أف عندما يكونا في حالة الضعف وعندما تضعف عقولهما وتضجر أنفسهما. فيأتي الأب ويطلب من ابنه أن يفعل أشياء لا يرغب فيها الإبن أو لا يحبها افبن أو يرى الإبن أنها غير مناسبة له أو لا تليق بحاله مع ابنه أو مع زوجته فتكون هذه من الأوامر المضجرة وليست من الأوامر المعقولة. مثل أن يقول لك كم بقي على صلاة الظهر؟ فتقول بقي نصف ساعة ثم بعد دقيقتين يقول كم بقي على صلاة الظهر؟ فتقول بقي نصف ساعة ثم يقولها مرة ثالثة ويستمر يسألك سؤالاً إثر سؤال فتضجر وتقول أف ما هذا لماذا تكرر علي السؤال؟! ألا تفهم! في هذه المرحلة يوصيك الله سبحانه وتعالى أن تثبت وأن تحسن وأن تتجمل بالقول فيقول (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ) ينهاك أن تقول أدنى شيء يمكن أن يقال للوالدين مما يخالف مرتبة الإحسان التي أمرك الله سبحانه وتعالى بها فيقول (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ). إذن ليس الحديث عن السب والشتم واللعن ولا الحديث عن الضرب واللكم واللكز إنما الحديث عن شيء تافه قد يضر بعلاقتك مع والديك، شيء قد لا يسمعه الأب وقد لا يدركه وقد ينساه لأول لحظة ولكنه لا يليق بالمؤمن البر الذي يريد أن يبلغ درجة الإحسان ويحقق ما أمر الله به في القرآن (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). قال (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) قال العلماء في جانب القول ذكر أقل ما يمكن أن يقال وفي جانب الفعل ذكر أدنى ما يمكن أن يفعل وهو النهر والنهر عادة يكون بأفعال كثيرة لكن من أقلها أن ينفض الإنسان يديه فهذا لون من ألوان النهر. قال العلماء فلما ذكر أدنى القول القبيح وأدنى الفعل القبيح ذكّر بضدهما (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) لم يقل لا تقل لهم أفّ وسكت عن ذلك، بل قابل ما يضجرانك به من الأقوال بألا تقل لهما أف وقل لهما قولاً كريماً، تقول يا والدي بقي على أذان الظهر نصف ساعة، يقول لك كم بقي على أذان الظهر؟ تقول يا والدي بقي 25 دقيقة، يقول لك يا ولدي كم بقي على أذان الظهر؟ تقول يا والدي يا حبيبي بقي عشر دقائق، بقي دقيقتان، الآن يؤذن، ولا نضجر بل تقول قولاً كريماً، غفر الله لك يا أبي بقي كذا، جعلني الله وغياك ممن يقيمون الصلاة، وقل لهما قولاً كريماً والقول الكريم النفيس الرفيع الطيب الذي يفيض بالعبارات الجميلة الطيبة والودودة الحنونة التي يحسن بالإنسان أن يسمعها من غيره ويحسن بالإنسان أن يسمعها لوالديه. ولما ذكر الفعل القبيح بقوله (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) ذكر أيضاً الفعل الجميل فقال (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) يعني لِن لهما وكن كالأرض الوطيئة مثل الرمل عندما يمشي عليه الإنسان بقدميه لا يشعر بوخز ولا يحس بشيء من الأذى. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) اخفض لهما جناحك هذا الجناح الذي تطير به وتمشي به وتسعى به اخفضه لهما يعني كن طيعاً كن ليناً كن رهن إشارتهما لا تخالفهما في أمر يريدانه منك. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي من شدة رحمتك بهما. (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سبحان الله! قبل قليل قال (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) ألا يكتفى بذلك؟ لا يكتفى بذلك الآن هما يحتاجان منك الدعاء ويطربان من سماعه من فمك وهما الآن قد تعطلت أعضاؤهما عن كثير مما كانا يقومان به من العبادة فعليك أن تكثر لهما من الدعاء (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) في هذه اللحظة ترد الجميل الذي أسدياه إليك وكل ما تفعله في حقهما لن يكون كبيراً ولن يكون كثيراً ولن يكون موازياً لما قدماه لك. (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) قل قولاً كريماً وفي الوقت نفسه أكثر لهما من الدعاء. وهذا يبين لنا إلى أن من أعظم ألوان البر البر بالقول وهو الذي يخطئه كثير من الناس فقد يحسن الإبن إلى أبويه فينفق عليهما وقد يحسن فيؤيهما وقد يحسن فيقوم على علاجهما وخدمتهما ونظافتهما ولكنه يقصر بأن يتكلم معهما بالكلام الطيب الرفيق اللين الذي يحتاجان إليه. إننا بحاجة لأن نتذكر هذا الأمر ونعمل به (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)). ثم ختمت الآيات بقوله (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا) أي الله يعلم ما في نفوسكم من إرادة البر إذا كنتم صادقين في ذلك أو إرادة العقوق وتمني الخلاص من الوالدين فإن كنتم صالحين فإن الله يغفر لكم ما يبدر منكم من نقصير في حق والديكم وهذا من رحمة الله بنا فإن البر لا يطاق على وجه الكمال ولا يقدره كل أحد في كل الأوقات ولكن الله يعلم أنك قد تخطئ هذا البر وليس في نفسك أنك تريد العقوق فالله يقول لك (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا). أسأل الله أن يجعلني وإياكم من البررة الذي يبرون والديهم في حياتهم وبعد مماتهم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 24
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خيرالمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس السادس عشر من برنامج أضواء المقاطع ونحن الآن في الجزء السادس عشر من القرآن وفي سورة الكهف تحديداً وفي الآية 103، يقول الله سبحانه وتعالى فيها (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)). في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى لنا قوماً من الكفار حالهم أنهم يجتهدون في العمل ويظنون أنهم باجتهادهم يحسنون صنعاً وما دروا أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم لا صرفاً ولا عدلاً ويقابل ما عملوه بأن يجعله هباء منثوراً كما قال في سورة الفرقان (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)). هؤلاء القوم وصفهم الله بقوله (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فهم أصيبوا بالضلال فهم كانوا يسعون وكانوا يجتهدون وكانوا يبادرون إلى أعمال كثيرة ولكنها مع كل أسف لم تكن متوجة بالإيمان ولم يرد بها طاعة الرحمن ولم تكن على منهاج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبذلك خسروا تلك الأعمال وشقوا في الحياة وضل سعيهم الذي سعوه. لقد سماه سعياً مما يدل على أنهم كانوا جادين في عملهم وكانوا بهذا السعي يستحقون أن يجازوا ولكن هذا السعي لما فقد شرطه الأساس وهو الإيمان بالله وتوحيد الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم شيء من ذلك العمل الذي تقدموا به أو تقربوا به. قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال هؤلاء الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) إذن قد يظن الإنسان أنه يحسن صنعاً ولكن لا ينبغي للإنسان أن يظن أن مجرد نيته الطيبة أو ظنه أنه يحسن صنعاً أنه كاف في بلوغ الأجر والوصول إلى الحال الحسنة التي يحبها الله. إنك لن تبلغ رضوان الله ولن تكون على منهاج الله حتى تطيع الله وتطيع رسوله صلى اله عليه وسلم وتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره وتقوم بالأعمال التي أوجبها الله عليك ولا تظن أن صدقاتك وزكواتك وأعمالك وبرك وصلتك ستؤجر عليها عند الله سبحانه وتعالى فإن هذا كله لا ينفعك كما قال الله عز وجل في سورة البلد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿١٧﴾ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿١٨﴾) فهؤلاء هم الفائزون. وكذلك قال الله عز وجل (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ (19) الإسراء) لا بد من الإيمان، إذا لم تأت بهذا الشرط الذي تزكو به الأعمال والذي هو شرط قبولها عند الله سبحانه وتعالى فإن سعيك يضل ولا ينفعك يوم أن تلقى ربك وتلقى الجزاء عليه في الدنيا لكنك في الآخرة لن تحصّل منه شيئاً. قال (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) هل هذا مراد به المسلمين؟ لا، هذا يراد به الكفار بدليل قوله سبحانه وتعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) كانت لهم أعمال حبطت لأنهم كفروا بآيات ربهم وكفروا بلقاء الله عز وجل ولم يؤمنوا بالله واليوم الآخر. كما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان وكان رجلاً كريماً محسناً يفك العاني ويغيث الملهوف ويطعم الجائع فقالت أنافعه شيء من ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. قال (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي ذهبت فلم يلقوا من جزاء تلك الأعمال شيئاً لأنهم جاؤوا بها بغير شرطها الذي أراده الله سبحانه وتعالى من كل عامل. قال (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) يعني يكونون في ذلك اليوم قد خفّت أوزانهم قال الله عز وجل (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) المؤمنون) وقال (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) القارعة) فبيّن الله عز وجل أنه لا يقيم لهم وزناً أي لا يزنون عند الله شيئاً. والميزان يوم القيامة توزن به على الصحيح من أهل العلم الجامع لكل الأحاديث والآيات الواردة في هذا الباب أنه يكون للعامِل وللعمل وللصحيفة فالعامِل يوزن والعمل يوزن والصحيفة التي كتب فيها العمل أيضاً توزن ومن تتبع الايات والأحاديث وجد ذلك واضحاً. وهذه الآية قال الله تعالى فيها (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) يكونوا خفيفي الوزن إذا وضعوا على الميزان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ورواه أبو هريرة رضي الله عنه "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا إن شئتم (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا). ولما كان الصحابة يوماً جالسين عند شجرة فصعد ابن مسعود فبدت ساقه وكانت دقيقة جداً فضحك الصحابة من دقة ساقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لأثقل في الميزان من جبل أُحد. فدلّ ذلك على أن العامل يوزن والعمل يوزن والصحيفة أيضاً توزن. (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)) لاحظوا كيف أن القرآن لا يأتي بالعقوبة مجردة من دون ذكر الأسباب التي توقع في تلك العقوبة بل تذكر العقوبة ويذكر السبب الموصل إلى تلك العقوبة كما يذكر الوعد ويذكر السبب الموصل إلى ذلك الوعد الكريم من الرب العظيم. قال (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم ولأنهم (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) استهزؤا بالله واستهزؤا برسل الله صلوات الله وسلامهم عليهم فكذبوهم واتهموهم بالسحر والشعر والكهانة وبأنهم جاؤوا باساطير الأولين وقالوا فيهم أقاويل يربأ المسلم أن يتلفظ بها في حق هؤلاء الثلة الأخيار من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم. لكن يأتي سؤال وهو أن المؤمن يقرأ هذه الايات فيخاف وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد حملوا هذه الايات على بعض المسلمين. نقول نعم، هذه الآيات تحمل على من شابه الكفار في شيء من أعمالهم فمن عمل عملاً من الأعمال الصالحة وهو يعمله لا يتقرب به إلى الله فإن عمله ذلك لن ينفعه وكذلك من عمل عملاً في نظره أنه صالح ولكنه لم يتبع به منهج رسول الله وظن أن عمله هذا يوصله إلى الله سبحانه وتعالى فنقول له انتبه لئلا تكون من الأخسرين أعمالاً. وقد حمل بعض الصحابة هذه الآية ونظائرها على الخوارج لأنهم كانوا يعملون أعمالاً يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم ويقرأون القرآن ولكنه لا يجاوز تراقيهم كما ورد في الحديث فقد كانوا يتعبدون وانوا يفعلون افعالاً ولكن من دون علم فضلّوا وأضلّوا نسأل الله العافية والسلامة. ولذلك حمل بعض الصحابة مثل هذه الآيات عليهم وعلى أمثالهم علماً أن الخوارج لم يكونوا إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لما ذكر الله هؤلاء ذكر في مقابلهم أهل الإيمان على عادة القرآن في ذكر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وتثنية أحدهما بالآخر فقال جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) فبدأ بالإيمان ثم ثنّى بالعمل الصالح مما يدل على أنهما قرينان وأنه لا يليق بأحد أن يدعي الإيمان دون أن يكون عنده ما يصدق ذلك الإيمان من العمل الصالح. ولا يجوز لأحد أن يعمل صالحاً دون أن يكون معه سلاح الإيمان الذي تقبل به الأعمال. ماذا لهم؟ (كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) كأنها من تحقق وقوعها قد صارت ومضت وحكمت وقضي بها لهم علماً بأنهم لم يملكوها ولم يصلوا إليها بعد ولكن من شدة التحقق وتأكيد الوقوع قال (كَانَتْ لَهُمْ) وليست لأحد سواهم. (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) وجنات الفردوس هي أعل الجنان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ل"إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة". قال (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) ضيافة فالله يجعلها بمثابة الضيافة لهم ولشدة كرامتهم عند الله ولكونهم يكرمون في كل يوم ويبالغ في إكرامهم جزاء ما قدموه وما فعلوه جُعلت الجنة كأنها ضيافة يعني ليست مجرد سكن ومستقر بل إنهم يعيشون فيها كالأضياف. ماذا تفعل بضيفك إذا جاء إليك؟ إنك تكرمه وتحسن غليه وترعى حقه قدر ما تستطيع وتفعل به كل ما بوسعك من الإكرام والإحترام والتقدير. قال الله عز وجل (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) أي إن الله كتب لهم الجنة وكتب لهم ما هو أعظم من الجنة وهو الخلود فيها. فإنه لو قيل لك إنك ستدخل الجنة يوماً ثم تموت أو تفنى الجنة، قلت وماذا بعد؟ّ ماذا أنتفع بهذا الخير إن كان لمدة يوم أو لمدة عام أو عامين أو أكثر أو أقل إذا لم يكن خالداً باقياً. قال (خَالِدِينَ فِيهَا) وخلودهم هذا من ورائه شيء وهو أنهم لا يبغون عنها حولا، لا يريدون أن يتحولوا عنها لشدة رضاهم بما آتاهم ربهم فيها، فهم مطمئنون ومرتاحون وملتذون ومسرورون وهو في كل يوم يزدادون نعيماً على النعيم الذي يعطيهم الله سبحانه وتعالى إياه. تأملوا في هذه الاية فإن الله ما ذكرها إلا لأنها تخالف الواقع الذي نعيشه في الحياة، في الحياة إما أن نؤتى النعيم فنفى نحن نموت وندع ذلك النعيم أو يذهب النعيم ونحن نراه وهو يفنى أمام أعيننا فتزداد حسرتنا. أما في الجنة فإن نعيمها لا يزول، شبابها لا هرم بعده ولباسها لا يفنى ونعيمها لا يتحول، لا إله إلا الله! ثم إنه قال (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) الدنيا مهما بلغت في لذتها وحبورها وجمالها وأعطت صاحبها ما أعطت إن الإنسان يملها ويبغي عنها حولا يبني البيت فيحسنه ويجمله ويتمه ويفعل به كل ما يشتهيه فإذا سكنه ملّ منه ثم طلب بيتاً آخر أما في الجنة فإن أهلها لا يبغون عنها حولا. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهلها. اللهم اجعلنا من أهل الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم اجعلنا ووالدينا ومن نحب وجميع المسلمين من أهل الفردوس الأعلى من الجنة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 25
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا هو اللقاء السابع عشر من لقاءات هذا البرنامج أضواء المقاطع ونحن الآن في الجزء السابع عشر من كتاب الله عز وجل وفي سورة الحج تحديداً وفي الآية 38، يقول الله عز وجل فيها (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴿٣٨﴾ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٤٠﴾)
في هذه الايات بشرى من الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان بأنهم إن صدقوا في إيمانهم وثبتوا على دينهم فإن الله يتولى الدفاع عنهم بل بأن ينصرهم في كل موطن يقابلون فيه عدوهم. قال الله سبحانه وتعالى (إن الله يدافع) فيا أيها المؤن إطمئن فإن الله معك ينصرك ويؤدك ويذب عنك ويحميك ويدافع عنك ولا يتركك ولا يسلمك لعدوك، أُصدق في إيمانك تحقق من الإيمان تأكد منه وتثبت من سلامته فإنك إذا كنت كذلك فإن الله كريم يفي بوعده والله لا يخلف الميعاد. هذا الوعد ينبغي أن يكون حاضراً في بالنا عندما يجتمع علينا أعداؤنا وينبغي ان يكون حاضراً في بال المسلم عندما يقوم برفع راية الحق ودعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى بأن لا يخاف وأن لا يجبن وأن لا يهن ولا يضعف ولا يحزن فإن الله سبحانه وتعالى يدافع عنه ويمكنه ويقوم بنصرته ويتولاه ولا يخذله. ثم قال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين الصفة الأولى صفة الخيانة وهي نقض العهد والميثاق وعدم الوفاء بهما والثانية الكفور وهو الذي يكثر منه الكفران فيكفر مرة يعد مرة ويبادر في الكفر نسأل الله العافية والسلامة. وهذا يستفاد منه أنه يجب على المؤمن حتى يستحق هذا الوعد الكريم من الله سبحانه وتعالى أن لا يكون خواناً وأن لا يكون كفوراً فإذا كان وفياً بوعده قائماً بالميثاق الذي عقده مع ربه ومع المخلوقين أيضاً وكان شاكراً لنعم الله سبحانه وتعالى إستحق هذا الموعود الكريم من الله جل وعلا. ثم قال الله سبحان وتعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قوله أُذن تدل على أن الجهاد كان محرّماً لأنه ما أذن الله فيه إلا لأنه كان محرماً من قبل وقد كان كذلك بالفعل. لما كان المؤمنون بمكة كان قد حُرم عليهم الجهاد في سبيل الله ولم يؤذن لهم به إلا عندما استقلوا وصارت لهم دولة وأيضاً لما صارت لهم دولة واستقلوا وبدأت تتكون لهم قوة لم يؤمروا بالجهاد مراعاة لحال الضعف الذي كانوا فيها بل أذن لهم به في أول الإسلام أو في أول العهد المدني وهذا الإذن ليس عاماً قال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) يعني فمن قاتلكم أيها المؤمنون في أول عهدكم بالمدينة فإن الله قد اذن لكم أن تردوا عليه فتقاتلوه. وهذه الاية كما يقول العلماء هي أول آية نزلت في الجهاد. أباح الله للمؤمنين أن يجاهدوا من قاتلهم من الكافرين ثم تطور أمر الجهاد بأن أمر الله عز وجل أن نقاتل من قاتلنا وأوجبه علينا ثم انتهى أمر الجهاد بأن أوجبه الله سبحانه وتعالى على المؤمنين فقال (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) التوبة). إذن نستفيد من هذه الاية بأن هذه المرحلة من مراحل الجهاد وكانت في اول العهد المدني وهنا ياتي سؤال مهم هل هذه المرحلة منسوخة؟ فنقول إنها منسوخة وليست منسوخة، منسوخة في حق أقوام وليست منسوخة في حق آخرين فمن كان حاله كحال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة من القوة والتمكن فإن هذه الآية منسوخة في حقه ولا يجوز له أن يعمل بها ومن كان حاله كحال رسول الله من الضعف في بداية الدولة الإسلامية في العهد المدني فإن هذه الآية باقية في حقه. ومن كان حاله كحال المسلمين في مكة في ضعفهم وتمكن عدوهم منهم وقلتهم وعدم وجود دولة تحميهم فإن هذه الحالة لم يؤمروا بها بعد بل يجب عليهم أن يتركوا الجهاد حتى يقووا وحتى يكون لهم دولة وتكون لهم فيئة ثم بعد ذلك يتدرجوا في مراحل تشريع الجهاد لهم كما حصل للمسلمين الأوائل وهذا ما أجاب به شيخ الإسلام ابن تيمية من سأله عن هذه الايات هل هي منسوخة أو باقية. قال الله عز وجل (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) هذا وعد من الله سبحانه وتعالى فأنتم أيها المؤمنون إذا قاتلتم فيما أباح الله سبحانه وتعالى لكم من القتال وأمركم به من الجهاد فإن الله سبحانه وتعالى ينصركم ويؤيدكم وهو قادر على ذلك ولاحظوا كيف جاءت قوله (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) مؤكَّدة بعدد من المؤكدات (إنّ، على نصرهم، لقدير) هذه لتؤكد للمؤمنين أن النصر واقع لا محالة. ثم قال الله عز وجل مبيناً حال هؤلاء المؤمنين الضعفاء الذين يستحقون النصر من الله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ظُلِموا والمظلوم له دعوة لا ترد والله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المظلوم. فهؤلاء المظلومون قد بُغي عليهم وطغى الكفار في حقهم، أخرِجوا ليس من ديار الكفار وإنما من ديارهم التي هي لهم حقاً وصدقاً. (بغير حق) أي ظلماً وعدواناً. (إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أي ليس لهم ذنب أُخرجوا بسببه إلا أنهم قالوا ربنا الله فلم يعتدوا ولم ينتقصوا حق الكفار ولم يظلموا أحداً من عباد الله ولكنهم صدعوا بالحق وجهروا به وآمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء حقيقون بالنصر. وهذا يبين لنا أن النصر من الله سبحانه وتعالى إنما يأتي عندما نلتزم أوامر الله ونتقي الله حق التقوى فلا نظلم أحداً من عباد الله ولا نتعدى شيئاً من حدود الله (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120) آل عمران). قال (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) يبين الله عز وجل لنا في هذه الاية سنة المُدافعة وهو أنه يجب علينا أن نقوم بالجهاد حتى ندفع عوان المعتدين ولا يبقى للكفر يد علينا وعلو على أهل الإسلام. ثم أكد الله عز وجل وعده الكريم بقوله (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) فإن الله سبحانه وتعالى قد قطع على نفسه وأقسم بأن سينصر من ينصره. ثم أكد ذلك باسمين كريمين له جل وعلا مبيناً أنه هو القوي وهو العزيز الذي يمنع عباده من كل ظلم فقال (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). اللهم انصرنا بنصر من عندك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
حلقة اليوم 29 رمضان إعادة للحلقة العاشرة من البرنامج.
نسال الله تعالى أن يتقبل من الدكتور محمد الخضيري ما قدمه وكنا نتمنى أن تستكمل هذه المجالس في باقي أجزاء القرآن الكريم لذا هذه دعوة مني للدكتور الخضيري أن يستكمل هذا البرنامج بعد رمضان إن شاء الله. وليته يعلن عن البرنامج وموعده على الملتقى لنتمكن من متابعته إن شاء الله.
تقبل الله منا ومنكم وجعلنا وإياكم من الفائزين المقبولين في هذا الشهر وأن يعيده على المسلمين في كل مكان وهم في أفضل حال وإلى ربهم أقرب وعلى دينه أثبت.
 
شكر الله لك ما سطرته أناملك وبارك الله لك في عمرك وعملك وأهلك .
وأعتذر عن التأخر في الرد على استفساراتك وأسئلتك وطلباتك التي هي محل العناية .
فأنا منذ زمن بعيد لم أدخل إلى هذا الملتقى المبارك ، وعندما دخلت اليوم ذهلت للجهد الذي قمت به .
لقد أعجبني جهدك وعلو همتك ، فجزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين والقرآن أهله خير الجزاء .
ووقاك شر كل ذي شر من عباده .
ولا أملك لك وأنا أرى هذا البذل والعطاء لأجل القرآن وأهله إلا أن أدعو الله لك بالتوفيق والتسديد والمزيد حتى تلقي ربك الحميد .
 
جزاكم الله خيراً شيخي الفاضل وهذه شهادة أعتز بها من عالم مثلكم ويكفيني أني ساهمت في نشر علمكم على المسلمين وهذا واجبي فأنا لا أتمالك نفسي أمام برنامج قرآني بهذا الرقي فتراني أطبعه مباشرة بلا تردد.
وقد كنت قررت أن أتفرغ في رمضان للعبادة ولكن عندما سمعت بهذه البرامج من أحد الإخوة في الملتقى تابعت أولى الحلقات فوجدت نفسي أطبعها وأتابعها وأحتسبها مجلس علم وتدبر معكم أسأل الله تعالى أن يكتب الأجر الجزيل لمن أرشدنا إلى هذه البرامج في الملتقى ولكل من ساهم في عرض هذه البرامج ولكم شيخي الفاضل على كل ما قدمتموه وأتمنى عليكم أن تواصلوا على مدار العام هذه البرامج النافعة.
إذا شئتم أرسل لكم الملف كاملاً على صيغة وورد ربما تقررون طباعته بعد التنقيح واستكمال باقي الأجزاء القرآنية.
 
((وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69))
جزاكم الله خيراً .
لا مانع أيضاً من جعْل الضمير في (لعلهم) يعود إلى الذين يتقون .
فيكون المعنى : لعلهم يتقون شبهات الذين يخوضون في آيات الله ، أو يتقون الختم على القلب إن نزل على الخائضين والعياذ بالله .
 
عودة
أعلى