أبو المقداد
New member
- إنضم
- 29/06/2005
- المشاركات
- 10
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بحث في المراد بالإسرار في قوله تعالى: (وأسروا الندامة)
بسم1
اللهم إنا نستعينك على فهم كتابك ففهمنا، ونستلهمك الرشد في القول والعمل فأرشدنا، لا حولا لنا ولا قوة إلا بك.
قال أبو المقداد عفا الله عن تقصيره وزلله، وبلغه غاية سؤله وأمله:
ذهب الجمهور من أهل التفسير واللغة إلى أن معنى قوله تعالى: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي: أخفوها، فلم يظهروها، وهذا معنى صحيح في لغة العرب لا يمكن إنكاره، وثابت لا يستطاع جحوده، وهو المعنى المتبادر من هذه اللفظة، فلذا صاروا إليه وقالوا به.
وذهب بعضهم إلى أن المعنى: أظهروها، وممن صار إلى هذا القول: أبو عبيدة معمر بن المثنى([1])، والأصمعي في أضداده ص21، وابن قتيبة في الغريب ص357، وابن السكيت في أضداده ص176، والمفضَّل بن سلمة، فيما نسبه له ابن الجوزي في تفسيره (2/335)، ومنهم ابن سِيده في المحكم (8/406)، وفي المخصص (4/177)، ومكيُّ بن أبي طالب في تفسيره (9/5929)، ومن المتأخرين: الكفوي في الكليات ص116.
ونسبه ابن الأنباري في الأضداد ص46، إلى قطرب ولفظه لا يحتمله، فغاية ما قاله: إجازة ذلك.
وحتى يصار إلى هذا القول لابد من مقدمتين:
***الأولى: أنه يجوز في لغة العرب أن يأتي الإسرار بمعنى الإظهار، أعني: إثبات كونه من الأضداد.
***والثانية: أنه يمتنع حمله في هذا الموضع على ظاهره، أعني: جواز التأويل.
وقد نازع ابن عطية في المقدمة الأولى، ونازع غيره في الثانية.
قال ابن عطية في تفسيره (4/421): «ولم يثبت قط في لغةٍ أن أسرَّ من الأضداد»
وجماهير اللغويين على أن هذا الفعل من الأضداد، منهم قطرب في أضداده ص89، والأصمعي ص21، وأبو حاتم ص114، والتوزي ص91، وابن السكيت ص176، وأبو الطيب اللغوي ص231، في أضدادهم، وابن قتيبة في الغريب ص357، وابن الأنباري في أضداده ص45، وفي شرح المعلقات ص49، ، وأبو عبيدة في مجاز القرآن (2/34)، وأبو أحمد العسكري في التصحيف ص221، وابن دريد في الجمهرة (1/121) وهؤلاء أعلم باللغة من ابن عطية، فصح أن هذا الفعل من الأضداد بنقل هؤلاء الأئمة.
ومن الشواهد على ذلك قول الفرزدق:
فلَمَّا رَأَى الحَجّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ * أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كانَ أَضْمَرَا
وقد أشار بعض أهل العلم إلى التشكيك في نسبة هذا البيت للفرزدق، قال الأزهري في تهذيب اللغة (12/201): «قال شمر: لم أجد هذا البيت للفرزدق، وما قال غير أبي عبيدة في قوله: (وأسروا الندامة) أي أظهروها، قال: ولم أسمع ذلك لغيره».
وهذا البيت قد ذكره جماعة من أهل العلم، منهم قطرب، والأصمعي، وابن السكيت وابن الأنباري، فلم ينفرد به أبو عبيدة.
فهذا الكلام في ثبوت البيت عن الفرزدق.
ونازع بعض أهل العلم في الاحتجاج بشعر الفرزدق، قال أبو حاتم في أضداده ص115: «ولا أثق أيضا بقول الفرزدق في القرآن ولا أدري لعله قال:
... الذي كان أظهرا
وهذا احتمال لا دليل عليه، والفرزدق من الشعراء الفحول، وما زال أهل العلم يحتجون بشعره.
أما المقدمة الثانية، وهي جواز التأويل في هذا الموضع، فقد استدل لها بعض أهل العلم بأنهم قد أظهروا الندامة حقيقة، فحمْلُ الآية على الإخفاء يوقع في التعارض، فوجب حملها على الإظهار لينتظم سياق الآيتين.
قال قطرب في أضداده ص89: «ويجوز أن يكون المعنى: أظهروا؛ لقولهم: (يا ليتنا نرد)، وقولهم: (فلو أن لنا كرة)، فقد أظهروا الندامة، إلا أن ابن عباس كان يقول: أخفوها في نفوسهم».
والجواب عن هذا: أن الله سبحانه خص إسرارهم الندامة بوقت رؤيتهم للعذاب، وهذا لا ينفي إظهارهم الندامة في وقت آخر.
وبغير نهوض هاتين المقدمتين معا لا يمكن المصير لهذا القول، لذا فإن الذي يترجح هو القول الأول، والله أعلى وأعلم.
___
تعقيب: رأى البيضاوي (4/248)، وأبو حيان في تفسيره (6/72)، والنسفي (3/65)، وابن عادل (10/354)، وأبو السعود (7/135) أن الآية تحتمل الوجهين، وهذا مبني على مسألة حمل المشترك على معنييه، والتضاد ضرب من ضروب الاشتراك.
قال أبو المقداد: قد يكون المصير إلى هذا القول جائزا في غير هذا الموضع، أما ههنا فلا، إذ ثم ما يمنع جوازه هنا، وذلك أن الندامة شيء يكون في القلب، فلا يمكن أن تكون ظاهرة، والذي يظهر إنما هو آثارها، وهذه نكتة بديعة أشار إليها ابن عطية رحمه الله، فيلزم على قول من صحح الوجهين حملُ اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه في آن واحد، فيكون المعنى: أخفوا الندامة، وأظهروا آثارها، وهذا أمر لا يحتمله اللفظ، وإغراق في صرفه عن ظاهره بغير موجب، وهذا الإشكال قائم على أصحاب القول الثاني كذلك، والقول الأول سلم منه، والله أعلى وأعلم.
___
([1]) نسب هذا القول في تفسير هذه الآية لأبي عبيدة: أبو حاتم في الأضداد ص114، و أبو بكر ابن الأنباري في شرح المعلقات ص49، وأبو الطيب في الأضداد ص230، والأزهري في تهذيب اللغة (12/201)، ورواه ابن فارس في المقاييس (3/67) من طريق علي بن عبد العزيز، عن أبي الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، وهذا أحد أسانيد كتاب المجاز، وبه وصلتنا نسخه، انظر مقدمة تحقيق الكتاب ص19 لفؤاد سزكين، ولم أجده في المطبوع من الكتاب، وعليه فيمكن استدراكه على المطبوع. وإن كان أبو عبيدة قد قال بهذا القول في قوله تعالى: ((وأسروا النجوى)).