أخي الكريم احمد منصور
لكل علم أصوله وأسسه ومنهجه.
ومن قرأ كلامكم يظهر له ـ بلا أدنى شكٍّ ـ أنكم لم تتحققوا في علم التفسير، وليس لكم فيه نظر ولا باع، وكل بحثكم قائم على الظنون والاحتمالات ، بل على المجازفات.
وفي قولكم في هذه المواضيع أمور خطيرة جدًا، ولابد من بيان بعضها.
أولاً: إن من لازم تحليلكم وما توصلتم إليه أنكم تدَّعون على الله أنه خاطب الصحابة العرب برموز وألغاز لا يفهمونها، فلم يفهم أي واحد منهم ما منَّ الله به عليكم، إذ أجزتم مخالفة فهمهم، وفهم الأمة من بعدهم في هذه الأمور.
ومعنى ذلك أن علماء الأمة في فهم هذه الآيات في طرف، وأنتم في طرف آخر، فهل تختار لنفسك هذا!
ولا تقل لي : أنت تمنع الاجتهاد وتدبر كتاب الله ، كما يحلو لبعضهم أن يحمل كلامي في مثل هذا المقام على هذا.
بل أنا أدعو إلى تدبر كلام الله، وإلى استنباط الفوائد منه، لكن بعد أن نعرف المواضع التي يجوز لنا الاجتهاد فيها، والمواضع التي لا يجوز الاجتهاد فيها، إذ ليس كل موضع من القرآن يجوز الاجتهاد فيه.
ولو كنتَ بصيرًا بأصول التفسير ومناهجه لبان لك ذلك.
وهذا ما أدعو إليه كل المعتنين بوهم الإعجاز العلمي، إذ أراهم لم يتحققوا في علم التفسير، ولم يبلغوا فيه جانب التأصيل، بل هم باحثون يتلقفون هذه الكلمة وتلك، ويحللون ألفاظ القرآن بناء على معطيات العلوم الدنيوية التي عندهم، بحيث لو لم يكن لهذه العلوم سطوة على تفكيرهم لما ذهبوا بالآية تلك المذاهب الغريبة المخالفة لسواد الأمة، والتي تعود بالتجهيل على سلفها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة العلم.
ثانيًا: قولكم :
(الجواب لانه صلى الله عليه وسلم يعلم ان السد ليس على ارضنا هذه والله اعلم).
لا ادري هل تعلم ما تحتويه هذه الكلمة من خطر؟!
إنَّك تدَّعي أن محمدً صلى الله عليه وسلم يعلم مكان السدِّ.
فإن كان يعلمه، ولم يبلِّغه لأصحابه، فكيف علِمت أنه يعلم؟!
وأقول:
نحن نعلم أنه مامن سبيل إلى معرفة تفاصيل ما يعرفه صلى الله عليه وسلم ولم يقله مما لم يكن للأمة حاجة إلى معرفتهم به، فلم يخبرهم.
أما ما كان للأمة به حاجة، فإنه بلَّغه أتمَّ البلاغ، وترك أمته على المحجة البيضاء.
وإذا ثبت أن عنده من العلم ما لم تدع الحاجة إلى الإخبار به، فإن ادعاء أن هذه الجزئية العلمية مما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم هو من التقوُّل عليه.
والحال الصحيح أنه لا يمكن التقوُّل عليه بها، ولا يجوز أن نقول: يحتمل أنه مما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذه التفاصيل لا يصلح فيها الاحتمال والطنون، وإلا لكنَّا أمام سيلٍ من المعلومات التي يمكن لكل واحد منا أن يدعي أن محمد صلى الله عليه وسلم يعلمها ، لكنه لم يخبر بها أصحابه.
وهذا التعبير مما يقع في كلام بعض أصحاب وهم الإعجاز العلمي، فادَّعو مثلما ادَّعيت هنا، والله المستعان.
وأخيرًا:
أرجوك قبل أن تُقدِم على مخالفة الأمة، فضلاً عن جماهير أهل العلم في فهم كلام الله وما يؤدي إليه = أن تتأمل قول الله تعالى: (
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33).
فالقول على الله بالظنون والاحتمالات من القول على الله بغير علم، فليحذر المسلم من أن يكون من أهل هذه الآية، ولا يظنَّنَّ أن الأمر يسير، كما يتوهمه بعضهم اليوم، فتراه يخبط في فهم الآيات يمنة ويسره، وليس من أهل العلم بالتفسير، ويزعم أن فهم القرآن يستطيعه أي مسلم، وأن بعض المتخصصين يصنعون كهنوتًا لهم لا يريدون أحدًا أن يفسر القرآن غيرهم.
ليس الأمر كذلك أبدًا، بل الأمر خطير جدًا، إذ فيه قول على الله بغير علم، ولا أريد أن يقع ـ أيها الفاضل ـ في هذا مثلكم ، وأنا ادعو بصراحة إلى أن يتعلم المرء قبل أن يتكلم، وأن يتهم رأيه قبل أن ينشره، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
فائدة:
عقد الراغب الأصفهاني ـ في مقدمة تفسيره ـ فصلاً فقال: ( فصل في بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر ) ، ثم ذكر في آخره هذه العبارات التي تحتاج منا إلى تأمل ومدارسة: (... فإن القائل بالرأي - ها هنا - من لم تجتمع عنده الآلات التي يستعان بها في ذلك، ففسره وقال فيه تخميناً وظناً.
وإنما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مخطئاً وإن أصاب، فإنه مخبر بما لم يعلمه، وإن كان قوله مطابقاً لما عليه الأمر في نفسه.
ألا ترى أن الله تعالى قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فشرط مع الشهادة العلم وكذب المنافقين في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ}، فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
ومن حق من تصدى للتفسير أن يكون مستشعراً لتقوى الله، مستعيذاً من شرور نفسه والإعجاب بها، فالإعجاب بالنفس أسُّ كل فساد، وأن يكون اتهامه لفهمه أكثر من اتهامه لفهم أسلافه الذين عاشروا الرسول وشاهدوا التنزيل، وبالله التوفيق) انتهى كلامه.
مقدمة جامع التفاسير للراغب الأصفهاني، تحقيق الدكتور أجمد حسن فرحات (ص: 96 ـ 97 ).