قول الأخ سليم برهان : وقد عكفت أدرس ما كتبت مراتٍ ومرات وعدت الى التفاسير.........
قول الأخ سليم برهان : وقد عكفت أدرس ما كتبت مراتٍ ومرات وعدت الى التفاسير.........
التعليق والرد على كلام الأخ سليم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وبعد :
فلا جناح عليك أخي الكريم سليم أن تتأخر عن شكرٍ أو أن تخالف في أمرٍ عن دليل، وأسأل الله مصرف قلبي أن يرزقني الإخلاص فيما أكتب وابتغاء مرضاته وأن ينزع من قلبي بفضله ورحمته ابتغاء ثناءِ الناس بما أكتب أو قصد الشهرة بينهم، وعلم الله أني ما ظننت بك حنقاً أو غضباً، فنحن نلتقي أرواحاً على مائدة هذا المنتدى المبارك الطيبة، وقد لا تلتقي شخوصنا في الحياة الدنيا أبداً، فيكون الله الموعد، فلا مكان بيننا بإذن الله لحنق أو غضب، بل تجمعنا خلة التقوى إن شاء الله وأخوة الإيمان، والذي أعلمه من نفسي أني دون ما تفضلت به أنت و الأخوان الفاضلان صلاح وتيسير من ثناء، فأربع على نفسك، وأرح خاطرك، والله يتولانا جميعاً بما يسعدنا في الدنيا والآخرة، وجزاك الله على تواضعك وعظمة كتاب الله في صدرك خيراً، وجنَّبني وإياك أن نُذْهِنَ في إظهار الحق.
وبعد : فإن الرد عليك يتلخص في أمرين :
الأمر الأول : إجابة سؤاليك -
1 – لقد أجبت في مشاركتي الأولى حول هذه الآية على سؤالك هذا، وبينت ما يمكن أن يكون سبباً في إيثار "وهن" على "ضعف" في هذا الموضع بكون (وهن) هنا أليق وأسعد به(أي الموضع) من ضعف من الناحية اللفظية، فليُرجَع إليه هناك.
ثم الأهم من ذلك أنه بإعادة النظر والتأمل في استعمال القرآن مادةَ "وهن" اللغوية وكلامِ أهل العربية في شرحها ظهر لي – والله أعلم – أن ثمة فرقاً معنوياً دقيقاً بينهما أيضاً فـ"ضعف" تستعمل للضعف مطلقاً مثل قوله تعالى : {
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً.... } فقد استعمل الضعف هنا مرتين واستعمالها الأخير مقرونة بالشيب الدال على تقدم السن ومس الكِبَر، وهو نفس المقام التي استعملت فيه "وهن" التي معنا في قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً . . . } لكن آية "الروم" تحدثت عن ضعف عام يعتري الإنسان في جسده، وقد يشمل عقله أيضًا كما قال تعالى :{..... وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً......} وآية "مريم" تحدثت عما يخالط العظم فقط من وهن، وقد وجدت - حسب نظري القصير - أن العرب إذا وصفوا تثاقل العظام وقلة القدرة على العمل لا يكادون يعدلون عن لفظ الوهن إلى غيره، قال الأعشى ميمون بن قيس "وما إن على قلبه غمرة ... وما إن بعظمٍ له من وهن".
أما معناه فقد قال في اللسان : "الوهن الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم ونحوه" "ورجل واهن لا بطش عنده" وقال الزمخشري في الأساس شارحاً "تَوَهَّنُ" من قول النابغة "تَوَهَّنُ فيه المضرحية بعدما . . . روين رجيعاً من دم الجوف أحمرا" قال :" أي تضعف عن النهوض لامتلاء أجوافها".
وكذلك هو معنى الوهن في قوله تعالى :{ وَوَصَّيْنَا
ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ. . . } فوهنُ الأم المضاعفُ هو قلة القدرة على القيام بشؤونها وضعف نهوضها المعتاد بما تأتيه من قبلُ بسبب امتلاء بطنها بالحمل وتأثر وظائف جسمها باحتوائه.
ويُفصِح ابنُ عاشور بصورة أجلى عن الفرق الدقيق بين الوهن والضعف والحقيقة اللغوية لكليهما لدى تفسير قوله تعالى " فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ" فيقول : "
وجمع بين الوهن والضّعف، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل، وعلى النُّهوض في الأمر، وفعله كوعَد وورِث وكرُم. والضّعف ـــ بضم الضّاد وفتحها ـــ ضدّ القوّة في البدن". اهـ
فيتقرر من كلام ابن منظور والزمخشري وابن عاشور أن الوهن يغلب في الاستعمال إذا أُرِيدَ التركيزُ على قلة القدرة على عمل ما وعلى الفتور والتثاقل عن النهوض به، وذلك أثر من آثار الضعف الذي هو ضد القوة ومظهر من مظاهره على وجه العموم.
ولو قيل بالنحت في الثلاثي لقلتُ : لعلَّ فِعل "وهن" أيضاً قد نُحِت من فعلين هما : "وهى" بمعنى ضعف - فقد قرنه صاحب الأساس به - و"وَنِيَ" التي من معناه فتر أيضاً، فكان من أجل ذلك أخص بقلة القدرة على القيام بالأمور من لفظ الضعف. نظير النحت الذي ذكره الزمخشري في قوله تعالى{
وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } حيث قال عن معنى "بعثرت" : بعث موتاها وأُثير ترابها، لكنه في الرباعي، ولم أسمع بنحت في ثلاثي كنحو "وهن"، فلا أجرُؤُ على القول به، والله أعلم.
وعلى إرادة التركيز على المعنى المتقدم يكون "وهن" أقربَ لمراد زكرياء وحاله من ضَعُفَ وأدل عليه، ولذلك جأر بهذا الدعاء إظهاراً لما نزل بعظامه من وَهَنٍ بطَّأ حركته وحدَّ نشاطه، وجعل دنوَّ أجله ماثلاً بين عينيه، ولو فرض ذكر فعلِ "ضعف" هنا الصادقِ على أيِّ ضعف كان لفات هذا التركيز، ولصح صدقه أيضاً على ضعف قليل لا يصل إلى ما أريد التركيز عليه، أوشديد مُقْعِدٍ يُعيق الحركة تماماً لا يناسب واقِعَ حال عظامه، ولا يجمل به في مقام استضعافه لبارئه العليم بحاله واسترحامه، فضلاً عن اجتماع ضعف مع "العظم" الذي لا يخلو من ثقل لفظي كما ذكرت في المشاركة الأولى، والله أعلم.
وقد يُلاحظ أيضاً أن العرب إذا أرادوا التركيز على هذا المعنى في العظام لا يكادون يعدلون عن وصفها بالوهن إلى غيره، قال الأعشى ميمون بن قيس "وما إن على قلبه غمرة ... وما إن بعظمٍ له من وهن".
ولذا ترى جريراً لمَّا لم يُرِدْ التركيزَ على هذا المعنى ولا هشاشةَ العظام في هجو مجاشعٍ، بل قصد ضعف حالهم وعامة أمرهم وأن لا مآثر لهم تحتسب عند المفاخرة وصف عظامهم بالضعف (لا بالوهن) وأمخاخهم بالرقة فقال :
ويُفايشونك والعظام ضعيفة . . . والمخُّ مُمْتَخَرُ الهُنانة رارُ
فهنا ليس المقصود التركيزَ على ما تقدم من هشاشة عظامهم وقلة قدرتها، وإنما المقصود ضعف حجتهم في الفخر بانعدام ما يُعد من مباعث الفخر لديهم لبخلهم وضعف غَنائهم، ولذا قال قبله :
لا يخفينَّ عليك أن مجاشعاً . . . لو يُنفخون من الخؤور لطاروا
قد يُؤسَرون فلا يُفَكُّ أسيرهم . . . ويُقَتَّلون فتسلم الأوتار
وقال بعده :
نظروا إليك وقد تقلب هامهم . . . نظر الضباع أصابهن دُوار
أي في مقام المفاخرة، والله أعلم.
ومن الناحية اللفظية (أي بصرف النظر عَمَّا رام جريرٌ من معنى) نلاحِظ ثقلَ قولِه: (والعظام ضعيفة) وخفةَ قولِ البارئ تعالى : "وَهَنَ الْعَظْمُ" ولطفَه، فسبحان من أنزل القرآن بأرشق المباني وأوفى المعاني، لا إله إلَّا هو.
أمَّا الضعف في الاستعمال القرآني سواء كان بدنيًّا أو غيره فمعنى عام في كل ما يمُتُّ إلى انتقاص القوة الجسدية أو غيرها انتقاصاً قليلاً أو كثيراً أو انعدامها، فقد يدل على العجز الكامل أو على ما دونه قال جلَّ من قائلٍ : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ... } إذ يشير بوضوح إلى خلق الإنسان في طوره الأول الذي لا يملك الإنسان فيه شيئاً من أمره ولا يعي شيئًا مما حوله بل الخالق هو الذي ييسر سبل عيشه ويرعاه خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث، وبعد أن يولد يهيئ الله له بتدبيره الجميل والديه فيكلآنه ويقومان عليه حتى يستوي على سوقه، ويتولى بعض شؤونه.
إذن هذه الآية استعملت الـضعف البدني في درجاته كلها حيث يلابس الإنسانَ في معظم أطواره من ابتداء خلقه حتى يفارق الدنيا، ومنها طور الطفولة المتقدمة قليلاً والتي تمتد سنين يستطيع خلالها الإنسان القيامَ بما يناسب حجمه وسنه من أعمال في حيوية ونشاط، فلا يلابسه الوهن، ولا يصح أن يوصف به، لكنه ضعيف البنية صغيرها لا يستطيع القيام بأعمال من شب واستوى، فصلب عوده، وبلغ أشده، فلذا كان الأوفق أن يعبر بالضعف في هذه الآية لعموم معناه، فتدخل تلك الأطوار لبداية النشأة أو للكِبَرِ جميعُها تحته على وجه الإجمال، ولو عبر بالوهن لما ناسب بعض أطوار النشأة ومراحل تقلبها كما قلت، والله أعلم.
وقد يكون الضعف معنويًّا خفيفاً كما في آية أخرى وهي قوله تعالى : {ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } استعمل فيها الضعف بالمعنى القليل، فهو ضعفٌ يَقْدر معه المسلم أن يثبت في المعركة لرجلين من أعدائه، فهو إذنْ في هذه الآية أقل في الدرجة من الضعف المعنوي الذي تعقبه الاستكانة والاستسلام في قوله تعالى : "وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ " فهو ضعف نسبي أي بالنسبة للحالة التي تقدمت في السياق القرآني هنا، وهي قوله تعالى : {
إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }.
ويشبه هذا أيضاً في الرتبة الضعفُ في قوله تعالى : { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَابِعَزِيزٍ } حيث لم يكُ في الجسد بل في قلة الظهير والسند، فهو اعتباري نسبي كذلك، والأمثلة كثيرة، والله أعلم.
والمستخلص من هذا كله أن مادة الضعف في القرآن عامَّةٌ في معناها تطلق على أي ضعف كان خفَّ أو توسَّط أو اشتدَّ في الجسد أو في غيره، فما يميز مقدار الضعف ويُعيِّنه إنما هو المقام فقط، وأكتفي ببعض ما ورد من مادتي الوهن والضعف في القرآن إرادة للاختصار ولأن ما لم أذكره من ذلك لا يبعد معنى عمَّا ذكرته، ولا أدَّعي أني قد بلغت الغاية في التفصيل، بل أستغفر الله إن وقعتُ في خطأٍ أو تقصير، والعلم لله تعالى.
2 – أما حمْلُ (مِنْ) على الابتداء في قوله تعالى :" وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي" فباطل لا يستقيم لفظاً ولا يصح معنًى لأمور منها :
· أن فعل "وهن" لا يتعدى بـ"مِنْ" أبداً ولا بغيرها من حروف الجر في المعهود من كلام العرب، إلا على فرض أن الوهن قد لابس بعض العظم دون البعض الآخر – وهو غير مرادٍ في هذه الآية - فيقال مثلاً : وهن عظمي من أسفل الركبة إلى الكعبين، ويكون حينئذٍ مدخولُ "مِنْ" طرفَ العظم الذي يبتدئ تحديدُ الوهن منه، وليس ضميرَ صاحبِ العظمِ نفسه كما في هذه الآية.
· أن ضابط "مِنْ" الابتدائية أن تتلُوَها "إلى" الانتهائية لتدل على انتهاء ذلك الابتداء ظاهرةً كانت " إلى" كما في المثال السابق وشبهه أو مقدرة فتقول خرجت من البيت إلى السوق وقد تقول :" خرجت من البيت الساعة الثامنة" وتقصد "إلى الجامعة" مثلاً فتضمر ذلك لعدم أهميته أو لمعرفة السامع به من خلال المقام.
ولم تصحب "من" في الآية " إلى" الانتهائيةُ ظاهرةً، ولا يصح تقديرها كذلك، لأن مدخولَ "من" - وهو ضمير المتكلم - لا يصلح لمعنى الابتداء، فلو قُدِّرَت ابتدائيتُها جدلاً فـكيف سيكون المعنى؟ (وهن العظم مني) إلى أين؟!!!
ثم إن تقديرها ابتدائية - على فرض تجاوز هذا الشرط جدلاً – يلزم منه كونُ "ال" لمعنى الإضافة حتى يتحقق رابط معنوي لاسم إن (الذي هو ضمير المتكلم ) بخبرها وهو جملة " وهن العظم مني" ولا يصار إلى معنى الإضافة إلا لداع، وقد أغْنَت "مني" عنه بأجلى في إبراز المعنى منه، ولا مكان لإرادة العهد هنا، فلم يبق لـ"ال" في "العظم" إلا الدلالة على الجنس.
الأمرالثاني : ادِّعاءُ التضمين -
أمَّا التضمين الذي تقول إنك لم تزل تراه قائماً في الآية فأَخْبِرْنا أي فعل ضُمِّنَه "وهن" ؟ إن كان انفلت أو ما في معناه - وهو الواضح من قولك في مشاركتك التي قبل هذه : (وهو على تقديري "
انفلتت") فقد فصلت في مشاركتي السالفة بطلانَه معنى فراجعه متأمِّلاً هناك.
وأمَّا قولك : " وعدت الى التفاسير" فإذا عثرت على ما يؤيد التضمين أو يشير إليه فاذكره حتى نعرف أثَمَّ من أنظارهم ما يمكن أن يعتضد به وجودُ التضمين هنا أم لا؟
ولا أحسبك واجداً - أخي الفاضل - فإني قد نظرت في كتب التفسير وإعراب القرآن التي بين يديَّ أو في الشبكة فلم يقع نظري على قولٍ يوحِي بالتضمين في "وهن" لا من قريب ولا من بعيد. ولو كان رأيُك التضمينَ في "وهن" يخالفني أنا وحدي لهان الأمر، لكنه يخالف كل من تكلم في الآية من أهل التفسير وغيرهم من أقدم تلك المؤلفات إلى أحدثها، فتنبَّهْ أخي الكريم، خاصةً أن قناعتك بالتضمين هذه خلت في كلامك من أيِّ دليلٍ إلا مجردَ شعورٍ غائمٍ لا برهانَ له ومطلقَ خاطرٍ فكريٍّ وارتباطٍ وهميٍّ متخيَّلٍ بين "وهن" و"مني" لعله قد داخلك وعلق بذهنك من مشاركة أختنا الفاضلة "إشراقة" فيما طرحته من اجتهاد خاطئ حين اعتقدت أن لفظ "مني" في "وهن العظم مني" يعني : بغير إرادتي ، ونظَّرته خطأً بقول القائل : انسكب الماء مني، فتعسر عليك مِن بعدُفكُّ هذا العلوقِ واستبعادُ خطوره، وكون وهن العظم من زكريا عليه السلام بغير إرادته صحيح، لكن ليس بدلالة "مني" عليه كما توهمت الأخت الكريمة، بل بطبيعة الوهن المترتب على رد الله الإنسان إلى أرذل العمر التي هي من سنن الله الحكيمة الجارية في خلق الإنسان شاء ذلك الإنسان أو أبى، قال الله تعالى : {
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } وقال { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ ... }
ومهما يكن الأمر فنصيحتي لك أخي الكريم أن تعيد على ذهنك المرة تلو الأخرى ارتباطَ "العظم" بـ"مني" مردِّداً "العظم مني" فلعله بالتكرار يتخلص ذهنك من تخيل ارتباط "مني" بـ"وهن" غلطاً، فيندفع عنك خاطره.
ثُمَّ إن التضمين عند القائلين به لا تنطبق حقيقته على هذا الموضع، ولا يتوفر فيه مااشترطوه من وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر ويؤمَن معها اللبس.
ولا قرينة متحقَّقة هنا بل ادعاء باطل لفظاً ومعنى كما ذكرت هنا وفي المشاركة السابقة
وكذلك قالوا : إنه لا يُلْجَأُ إليه إلَّا لغرضٍ بلاغي، ولم يسلم التضمين هاهنا من البطلان والاضطراب في اللفظ والمعنى، فأنى له بالبلاغة وأغراضها؟!
فضلاً عن أن أصل وجود التضمين في العربية مختلف فيه، فكثيرٌ من أهل العلم رأوا منعه.
ولقد بسط عضو مجمع اللغة العربية الاستاذ عباس حسن رحمه الله في كتابه "النحو الوافي" بحثاً ماتعاً في التضمين، فعرض آراء الأولين حول حقيقته وكونه سماعيًّا أو قياسيًّا - وقد قصره على السماع كثير منهم - كما تناول أقوال المَجمعيين من معاصريه أيضاً، ثم خلص مستمسكاً بحجج قوية إلى أن أدلة وجود التضمين ضعيفة لا تقوى على تقريره، فاستبعده من الأصل ونفاه، فلينظره من شاء.
· أما كيف تفهم أن "مِنْ" بيانيةٌ في الآية الكريمة فإن "ال" في "العظم" للجنس الذي يفيد العموم فيصدق على كل عظم، ولا يتخصص ههنا الا بـ "مِن " البيانيةِ التي بينتْ نسبةَ العظم لصاحبه زكريا عليه السلام.
وكذلك "مِن" في قوله تعالى آخر سورة الفتح { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } بيانية أيضاً.
فإنْ بينت "مِنْ" البيانيةُ معرفةً كآيتي "مريم" و"الفتح" فضابطها أن يصح استبدالُها بالموصول مع الضمير - والمعنى مستقيم - فيقال في آية مريم بدلَ " مني" من "وهن العظم مني" : الذي هو إياي، كما يقال في "الفتح" { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم .... } : الذين هُمْ هُمْ بدلَ "
مِنْهُم" وبيانية "مِنْ" في هذه الآية وإفادتها أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وعدهم الله مغفرةً وأجراً عظيماً هنا هم الصحابة جميعاً من اليقين الحق المتأكِّد لأن أوصافَهم في صدر الآية "وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ" لا تكون إلا للمؤمنين الصالحين.
وبقوله تعالى : "ليغيظ بهم الكفارُ" كفَّر بعضُ أهلِ العلم الروافضَ الذين راغوا – قاتلهم الله - إلى اعتبار "من"هنا تبعيضيةً وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات الموعودين بمغفرة وأجرٍ عظيم إنما هم بعضُ الصحابة فقط بزعمهم، ولجُّوا في عتُوِّهم ومكابرتهم فزعموا - أخزاهم الله - أن "مِن " البيانيةَ لا تدخل على الضمير، فلما حاجَّهم أهل السنة بأن مفسري الرافضة أنفسَهم قد قالوا ببيانية "من" الداخلة على ضمير الجماعة " مِنْهُمْ " في قوله تعالى" { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أُفْحِموا فبُهِتوا وانقطعوا، لأن هذه الآية نظيرةُ آيةِ "الفتح" في سياقها الدَّالِّ على تَعَيُّن "مِن" للبيان و دخولها على الضمير.
وإن تلت "مِن " البيانيةُ نكرةً فعَلامتُها صحةُ أَنْ يخلُفها الضميرُ كما في قولنا مثلاً :هذا خاتم من ذهب، فيقال هذا خاتم هو ذهب، أو أن يصح الإخبار بما بعدها عما قبلها (الذي استحسنه الصَّبَّان) فيقال : الخاتم ذهب وكذا في أشباهه.
ويكون مدخول "مِن " البيانيةِ في الحالين جنساً لما قبلها أو كالجنس له لشموله إياه، و"من" البيانيةُ تُعرب مع مجرورها صفةً إذا سُبِقت بنكرة، فإن تقدمتها معرفة أُعرِبَتْ مع المجرور حالاً على ما عُهِد من أنَّ الجمل أو شبهها بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال.
وقد كنت قلت في المشاركة السالفة :" ولعل القول بأن "مني" متعلق بمحذوف صفة للعظم هنا أولى لأن الغالب على الحال الانتقال ......)الخ والذي جرَّني إلى ذلك أنَّ بعض المحققين – وأحسبه ابن عاشور – لم يطرد قاعدة (الجمل أو شبهها بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات) وخالفها في بعض المظانِّ، لكني اليوم بعد إعادة النظر مليًّا في "مني" من قوله سبحانه على لسان عبده زكريا :"وهن العظمُ مني" والتأمل في كلام أهل العلم الذين اتفقوا على حاليتها أَرجع عن القول بصفتها إلى اعتبارها أو المحذوفِ الذي تعلقت به حالاً من العظم كما ذكر الآلوسي وغيرُه، لأنَّ انتقاليةَ الحال الغالبةَ - التي اتكأت عليها قبلُ في استبعاد حاليتها وكون الوصفية فيها أفضلَ - لا تقاوم قاعدة (الجمل أو شبهها بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات) التي قرر اطِّرادَها جمهورُ النحويين، ولأني رأيت كل من تكلم عن محل "من" البيانيةِ ومدخولِها من الإعراب طرد فيه هذه القاعدة، والله أعلم.
هذا ما تسنى من التعليق على كلامك أخي الفاضل سليم وقد استطرد حينا، أو أستدرك.
وأنصحك أخي الكريم سليم أن لا تتسرع في الجزم برأي يتعلق بكتاب الله إلا أن تَرْجِع النظر فيه أكثر من مرة، وتتأكد من وجاهته بسؤال أهل الاختصاص إن لزم ذلك خاصةً إذا لم يتقدمك إليه أحد، أما ما تطرحه على سبيل الاستفسار والتباحث فلا بأس.
وأعتذر للقراء عن تأخر ردي لأشغال حالت دونه كما ذكرت في المشاركة السابقة.
ملاحظة هامة : إن ما أثاره الأخ سليم مجدداً حول دلالة المفرد ومسألة التفاحة فيه خلط وخطأ في فهم كلام أهل العلم وتنزيله.
وأما ما ذكره الأخ سليم - هداه الله وعفا عنه – في إعراب "شيباً" فشيء مؤسف من الأغلاط الفادحة في صنعة الإعراب يصل إلى العبث بلغة الكتاب، وقد اطلعت على إثاراته الثلاث هذه بُعَيْدَ انتهائي من ردي هذا الذي طال، وخفت أن يزداد لو ألحقتها به طولاً، ففضلت إرجاءَ نقدِها والتنبيهِ على ما فيها من أخطاء إلى المشاركة التالية قريباً، فلتُتَرَقَّبْ.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه وهداه : صالح العُجَيْلي