صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (128)
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "ص": (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)
(الْمِحْرَابَ) بيت عبادة داود عليه السلام.
(تَسَوَّرُوا) اعتلوا وصعدوا على السور حتى دخلوا عليه.
(وَلَا تُشْطِطْ) لا تجر والشطط مجاوزة الحد.
(نَعْجَةً) شاة.
(أَكْفِلْنِيهَا) ضمها إلي فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي، أي: هبها لي.
(وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) غلبني.
(فَتَنَّاهُ) ابتليناه واختبرناه.
(وَخَرَّ رَاكِعًا) أي: ساجداً.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصة مكذوبة على نبي الله داود فيها أن داود أعجب بامرأة فبعث زوجها (أوريا) في الحرب وأمر القائد أن يجعله في المقدمة حتى قتل بعد عدة محاولات.
ذكر هذ القصة مفصلة مطولة ابن جرير، والبغوي، وابن عطية، وغيرهم.
وضعفها كثير من المفسرين وهذا سوق لنصوص أقوالهم:
قال الزمخشري: "فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء".
وقال ابن عطية: "وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله".
وقال الرازي: "والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه:
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لاستنكف منها ومن يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه.
الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وهذا منكر عظيم وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
والثالث: أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة"
وقال ابن كثير: "ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً".
وقال القرطبي: "قال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم".
وقال القرطبي: "قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعاً، فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك"
وقال ابن عاشور: "واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به لدفع ما قد يتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب (صمويل الثاني) من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب)"
وذكر بعض المفسرين أقوالاً أخرى والذي يبدو والله أعلم أنها مجرد تلطيف لأصل القصة.
فقيل: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. (ذكره ابن عطية*)
وقيل: إنما الخطأ في أنه لم يجزع عليه لما قتل كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة (ذكره البغوي*, وابن عطية*).
وقيل: وقعت عين داود على امرأة أوريا فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده ففعل، فتزوجها (ذكره الزمخشري*, والقرطبي*, وابن عاشور*)
وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. (ذكره البغوي*, والزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*)
وقيل: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلال له، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك. (ذكره البغوي*)
قال الزمخشري: "والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب".
قال صاحب الظلال: "خاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضاً كبيراً. تتنزه عنه طبيعة النبوة. ولا يتفق إطلاقاً مع حقيقتها. حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطاً. وهي لا تصلح للنظر من الأساس. ولا تتفق مع قول الله تعالى: «وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب» ..
والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس"
بقي أن يقال: إن التنبيه لداود عليه السلام والله أعلم إنما كان لأحد أمرين:
إما لاحتجابه عن الناس ويشير لذلك كونه في المحراب عاكفاً على العبادة وتسور الخصمين اليه تسوراً.
أو للتسرع في الحكم قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر.
قال الرازي: "لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني، فحكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفاً للصواب" (وذكره القرطبي *، وصاحب الظلال*)
قال صاحب الظلال: "والقضية- كما عرضها أحد الخصمين- تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: «قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» ..
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً! عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:
«وظن داود أنما فتناه» ..
وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. «فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب» ..
«فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب» .."
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "ص": (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)
(الْمِحْرَابَ) بيت عبادة داود عليه السلام.
(تَسَوَّرُوا) اعتلوا وصعدوا على السور حتى دخلوا عليه.
(وَلَا تُشْطِطْ) لا تجر والشطط مجاوزة الحد.
(نَعْجَةً) شاة.
(أَكْفِلْنِيهَا) ضمها إلي فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي، أي: هبها لي.
(وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) غلبني.
(فَتَنَّاهُ) ابتليناه واختبرناه.
(وَخَرَّ رَاكِعًا) أي: ساجداً.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصة مكذوبة على نبي الله داود فيها أن داود أعجب بامرأة فبعث زوجها (أوريا) في الحرب وأمر القائد أن يجعله في المقدمة حتى قتل بعد عدة محاولات.
ذكر هذ القصة مفصلة مطولة ابن جرير، والبغوي، وابن عطية، وغيرهم.
وضعفها كثير من المفسرين وهذا سوق لنصوص أقوالهم:
قال الزمخشري: "فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء".
وقال ابن عطية: "وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله".
وقال الرازي: "والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه:
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لاستنكف منها ومن يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه.
الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وهذا منكر عظيم وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
والثالث: أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة"
وقال ابن كثير: "ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً".
وقال القرطبي: "قال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم".
وقال القرطبي: "قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعاً، فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك"
وقال ابن عاشور: "واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به لدفع ما قد يتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب (صمويل الثاني) من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب)"
وذكر بعض المفسرين أقوالاً أخرى والذي يبدو والله أعلم أنها مجرد تلطيف لأصل القصة.
فقيل: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. (ذكره ابن عطية*)
وقيل: إنما الخطأ في أنه لم يجزع عليه لما قتل كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة (ذكره البغوي*, وابن عطية*).
وقيل: وقعت عين داود على امرأة أوريا فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده ففعل، فتزوجها (ذكره الزمخشري*, والقرطبي*, وابن عاشور*)
وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. (ذكره البغوي*, والزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*)
وقيل: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلال له، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك. (ذكره البغوي*)
قال الزمخشري: "والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب".
قال صاحب الظلال: "خاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضاً كبيراً. تتنزه عنه طبيعة النبوة. ولا يتفق إطلاقاً مع حقيقتها. حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطاً. وهي لا تصلح للنظر من الأساس. ولا تتفق مع قول الله تعالى: «وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب» ..
والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس"
بقي أن يقال: إن التنبيه لداود عليه السلام والله أعلم إنما كان لأحد أمرين:
إما لاحتجابه عن الناس ويشير لذلك كونه في المحراب عاكفاً على العبادة وتسور الخصمين اليه تسوراً.
أو للتسرع في الحكم قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر.
قال الرازي: "لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني، فحكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفاً للصواب" (وذكره القرطبي *، وصاحب الظلال*)
قال صاحب الظلال: "والقضية- كما عرضها أحد الخصمين- تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: «قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» ..
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً! عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:
«وظن داود أنما فتناه» ..
وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. «فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب» ..
«فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب» .."
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/