يعتبر موضوع النسخ من أخطر الموضوعات المطروحة في فكرنا الإسلامي ، بل إننا نكاد نجزم بأنه أخطرها على الإطلاق حيث رفضته بعض الطوائف ولم تستوعبه بعضها ، وهو اتجاه في يتجدد الان أو قل يتمدد.
أقسام النسخ في القرآن:
يتحدث العلماء عن النسخ في القرآن ويقسمونه أقساما ثلاثة
1. نسخ الحكم دون التلاوة وهو الأصل الذي لا خلاف حوله إلا من قبل من لا يقرون النسخ أصلا ويمزجون بينه وبين البَداء وعلى النقيض رأينا كثيرين يسرفون في القول به ويعمدون إلى كل ما توهموه متعارضا من كل وجه فيسقطون عليه الحكم بالنسخ حتى ألفينا كتبا طوالا عراضا حملت اسم " الناسخ والمنسوخ " فوهموا في ذلك وأوهموا ولو أمعنوا النظر في أكثر ما أوردوه لما جعلوه في باب النسخ وكم كان السيوطي حصيفا في قوله – في الإتقان - : وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة وهوعلى الحقيقة قليل جدًا وإن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه.أ.هـ
وقد حصر السيوطي مواضع النسخ في القرآن في بضعة عشر موضعا وبالنسبة لنا فيها نظر أيضا ، فمن أين جاءت هذه الكتب الكاملة في الناسخ والمنسوخ بمواضعها ؟
لست أدري !!!!
لكن مما لا يغيب عن وعينا أن الحكم بالنسخ وعدمه في أكثر مواضع النسخ المطروحة هو محض اجتهاد ولذا نجد كثيرا من المواضع التي قال فيها البعض بالنسخ يلجأ البعض الآخرفيها إلى النفي لماذا؟
لأن النسخ في جوهره ما هو إلا ورود دليلين متعارضين من كل وجه لا يستطيع الفقيه التوفيق بينهما بأي وجه من الوجوه فيلجأ إلى القول بالنسخ بأن يحكم بأن المتأخر من الدليلين ناسخ للمتقدم.
وهنا تتفاوت الرؤى فبينما يبدو لفقيه أن التعارض التام حاصل بين الدليلين يبدو لغيره أن التوفيق بينهما ممكن بحيث يعمل الدليلان معا في آن.
ولنضرب مثالا لذلك حتى يكون الأمر بينا واضحا:
لجأ البعض إلى أن قوله تعالى في سورة آل عمران: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } منسوخ بقوله تعالى في سورة التغابن: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بالنظر إلى أن حد حق التقوى أرفع من حد الاستطاعة ومن ثم لجأوا إلى القول بالنسخ في ضوء الطرح المذكور
لكن هذا الكلام غير مقبول من قبل الكثيرين – وهو الأرجح – لماذا لأن الدليلين ليسا متعارضين كل التعارض كما فهم القائلون بالنسخ بل من السهل في فهمٍ آخر للنصين الحكمُ بأنه لا نسخ فيهما وأن كليهما يعملان فمن استطاع أن يقيم حق التقوى فقد بلغ رأس الأمر وذروة سنامه ومن لم يستطع فله ما استطاع لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وبذا يتضح لنا أنه لا نسخ في ذلك
أقول: هذا التسرع من قبل البعض أفرغ كمًّا من الأدلة قضوا فيها بالنسخ بينما الأمر على خلاف ذلك ومن ثم وضعت قاعدة تقول " إعمال الدليلين من وجه أولى من إعمال أحدهما وإهمال الآخر من كل وجه " وقد تختصر إلى " الإعمال أولى من الإهمال "
2. نسخ التلاوة والحكم وهو القسم الذي انحسر التمثيل له في موضع واحد
دل عليه حديث مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات، فحكم العشر رضعات غير معمول به إجماعاً وإنما الخلاف في التحريم برضعة واحدة على نص القرآن في قوله: { وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } وبظاهر نص القرآن أخذت الحنفية والمالكية فحرّموا برضعة وبحديث عائشة أخذت الشافعية والحنابلة فحرموا بخمس رضعات. وهذه رواية آحاد لا تثبت قرآنا ولا حتى قراءة فمثل هذا لا يتعدى أن يكون خبر آحاد تضمن حكما شأنه شأن غيره من أخبار الآحاد ولا أدل على عدم اعتباره من كون جمهرة الفقهاء لم يعولوا عليه في تحديد عدد الرضعات التي تثبت الحرمة فلا منسوخه وهو عشر رضعات ولا ناسخه وهو خمس عندهم بمعتبر حيث قليل الرضاع وكثيره عندهم سواء بلا حد ولا عد.
3. نسخ التلاوة دون الحكم وهو كسابقه يعتمد في إثباته على خبر آحاد هو المعروف بآية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة "
ما قيمة هذه الرواية وما مدى قدرتها على إثبات قرآنية حتى لو كانت منسوخة ؟
هذا ما سنعرفه الآن !!!!
هذه الرواية آحادية ولا داعي لتكرار القول بأن الآحادية لا تثبت قرآنا ومع ذلك فهناك من الشواهد الأخرى ما يحجب كونها قرآنا ومن ذلك ما يلي:
1- لا يعرف القرآن الكريم ولا السنة النبوية ولا لغة العرب استعمال كلمة شيخ وشيخة في معنى المحصن أو المحصنة فهذان اللفظان لا يعنيان سوى الوصف بالهرم للرجل أو للمراة ولندلف إلى هذه الكلمة في استخدام القرآن الكريم محل البحث لنرى في أي المعاني يستخدم هذه الكلمة
وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم ثلاث مرات :
الأولى في سورة هود في قوله تعالى: { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72 } والثانية في سورة يوسف في قوله تعالى: { قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 78 } والثالثة في سورة القصص في قوله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23 } وهي في هذه المواطن جميعها لا تعني سوى الهرم والطعن في السن وبالطبع يستوي في ذلك لفظ شيخ أو شيخة
2- إن الحكمة غير واضحة في تقرير هذا النوع من النسخ فما فائدة أن يظل الحكم باقيا ورفع اللفظ الدال عليه
تكلف بعضهم فقال: إن الحكمة في ذلك راجعة إلى شناعة الحكم وهو الرجم فهو مما تقشعر منه الأبدان عند سماعه
وهو تكلف ممقوت وتعليل غير سائغ لأن القرآن الكريم تحدث صراحة عن القصاص وعن قطع يد السارق وعن حد الحرابة الذي يشتمل على قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو الصلب ......... فيس هناك ما يدعو إلى تخصيص الرجم بالشناعة لأن هذا شأن العقوبات فواضح من اسمها هي عقوبة وليست جائزة أو مكافأة وكلما كانت العقوبة على الجرم عظيمة كان ذلك أردع وأدعى لعدم قربانه
3- الروايات الواردة في شأن آية الرجم هذه مضطربة في ألفاظها مختلفة في دوالها فكيف يدعى كونها قرآنا والقرآن لا يختلف فيه
أنظر إلى هذا الكتاب الخالد وهو يتلى في مختلف أصقاع الدنيا دون تمايز أو اختلاف في حرف أو شكل إلا في ضوء ما نزل من قراءات وأما هذه المفتراة قرآنيتها فقد اضطربت فيها الألفاظ فبينا تقتصر بعض الروايات على هذا المقطع " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " تزيد روايات أخرى " نكالا من الله والله عزيز حكيم " ثم يؤكد الحاكم في المستدرك تشككنا حين يذكرها بهذا اللفظ " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة " ونتساءل: ما موقع بما قضيا من اللذة هنا مع كون قضاء اللذة بالمباشرة ليس خاصا بالشيخ والشيخة وماذا لو أنهما باشرا دون انقضاء لذة هل عليهما حد أو لا ؟
4- ورد عن عمر قوله إبان الجمع: لولا أن يقال : زاد عمر في كتاب الله لأثبتها.
فأين هذا الكلام من دعوى قرآنيتها ولو كانت منسوخة
5- هذا القول لا يتسق والدليل القرآني على مشروعية النسخ وأعني قوله تعالى سورة البقرة: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106 } وكذلك قوله تعالى في سورة النحل: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 101 } فمقتضى الآيتين أن النسخ ينبغي أن يكون ببدل وأين بدل هذه المدعاة قرآنيتها ؟
والحاصل أننا لا نقر من أقسام النسخ سوى القسم الأول مع نحفظ على الإسراف الذي وقع من البعض في سرد الايات المنسوخة
ويحق لنا العجب من اعتماد هذا التقسيم الذي بلغ من الشهرة ما بلغ وهو في قسميه الأخيرين لا يعتمد إلا على رواية واحدة لكل منهما لا تنهضان لأحاديتهما لإثبات قرآنية كما لا تنهضان لوحدانيتهما لإقرار قسمين للنسخ ما أغنانا عنهما
ولقد ألفينا كثيرين ممن يوثق بهم من أهل العلم يعتمدون هذا الرأي ويتبنونه :
1. فيقول الخضري: "أنا لا أفهم معنى لآيةٍ أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها ، لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز معاً بنظمه، فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إنّ ذلك غير مفهوم، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به".
2. ويقول الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن : "أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعمهم آيات معينة، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها، والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأً مركباً، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضربٍ شواهد كثيرةٍ أو كافيةٍ على الأقل ليتيسّر استنباط قاعدةٍ منها، وما لعشّاق النسخ إلا شاهدٌ أو اثنان على كلّ من هذين الضربين، وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها"9
3. وكذلك الدكتور مصطفى زيد الذي قال : "ومن ثمّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعةٍ واحدةٍ، ولهذا نرفضه، ونرى أنّه غير معقولٍ ولا مقبول"
4. وقال عبد الرحمن الجزيري صاحب الفقه على المذاهب الأربعة : "إنّ الأخبار التي جاء فيها ذكر كلمةٍ 'من كتاب الله' على أنّها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه لا يُطلق عليها أنّها قرآن، ولا تُعطى حكم القرآن باتّفاق، ثمّ ينظر إنّ كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً، فإنّ الإخبار بها يعطي حكم الحديث، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنّها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي ، لأنّ دلالتها موقوفةٌ على ثبوت صيغتها. وصيغتها يصحّ نفيها باتّفاقٍ، فكيف يمكن الاستدلال بها؟! فالخير كلّ الخير في ترك مثل هذه الروايات"
هذا ما ندين به ولئن انبرى علماء الأسانيد للتصحيح فإن لفقهاء المتون رأيا آخر ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب مبلَّغ أوعى من سامع فلا يعجلن متعجل بالنقل من كتب القوم جاهرا بأن الروايات صحيحة فمهما يكن من شيء فهي أحادية لا تثبت ما يشترط في إثباته التواتر.
أقسام النسخ في القرآن:
يتحدث العلماء عن النسخ في القرآن ويقسمونه أقساما ثلاثة
1. نسخ الحكم دون التلاوة وهو الأصل الذي لا خلاف حوله إلا من قبل من لا يقرون النسخ أصلا ويمزجون بينه وبين البَداء وعلى النقيض رأينا كثيرين يسرفون في القول به ويعمدون إلى كل ما توهموه متعارضا من كل وجه فيسقطون عليه الحكم بالنسخ حتى ألفينا كتبا طوالا عراضا حملت اسم " الناسخ والمنسوخ " فوهموا في ذلك وأوهموا ولو أمعنوا النظر في أكثر ما أوردوه لما جعلوه في باب النسخ وكم كان السيوطي حصيفا في قوله – في الإتقان - : وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة وهوعلى الحقيقة قليل جدًا وإن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه.أ.هـ
وقد حصر السيوطي مواضع النسخ في القرآن في بضعة عشر موضعا وبالنسبة لنا فيها نظر أيضا ، فمن أين جاءت هذه الكتب الكاملة في الناسخ والمنسوخ بمواضعها ؟
لست أدري !!!!
لكن مما لا يغيب عن وعينا أن الحكم بالنسخ وعدمه في أكثر مواضع النسخ المطروحة هو محض اجتهاد ولذا نجد كثيرا من المواضع التي قال فيها البعض بالنسخ يلجأ البعض الآخرفيها إلى النفي لماذا؟
لأن النسخ في جوهره ما هو إلا ورود دليلين متعارضين من كل وجه لا يستطيع الفقيه التوفيق بينهما بأي وجه من الوجوه فيلجأ إلى القول بالنسخ بأن يحكم بأن المتأخر من الدليلين ناسخ للمتقدم.
وهنا تتفاوت الرؤى فبينما يبدو لفقيه أن التعارض التام حاصل بين الدليلين يبدو لغيره أن التوفيق بينهما ممكن بحيث يعمل الدليلان معا في آن.
ولنضرب مثالا لذلك حتى يكون الأمر بينا واضحا:
لجأ البعض إلى أن قوله تعالى في سورة آل عمران: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } منسوخ بقوله تعالى في سورة التغابن: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بالنظر إلى أن حد حق التقوى أرفع من حد الاستطاعة ومن ثم لجأوا إلى القول بالنسخ في ضوء الطرح المذكور
لكن هذا الكلام غير مقبول من قبل الكثيرين – وهو الأرجح – لماذا لأن الدليلين ليسا متعارضين كل التعارض كما فهم القائلون بالنسخ بل من السهل في فهمٍ آخر للنصين الحكمُ بأنه لا نسخ فيهما وأن كليهما يعملان فمن استطاع أن يقيم حق التقوى فقد بلغ رأس الأمر وذروة سنامه ومن لم يستطع فله ما استطاع لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وبذا يتضح لنا أنه لا نسخ في ذلك
أقول: هذا التسرع من قبل البعض أفرغ كمًّا من الأدلة قضوا فيها بالنسخ بينما الأمر على خلاف ذلك ومن ثم وضعت قاعدة تقول " إعمال الدليلين من وجه أولى من إعمال أحدهما وإهمال الآخر من كل وجه " وقد تختصر إلى " الإعمال أولى من الإهمال "
2. نسخ التلاوة والحكم وهو القسم الذي انحسر التمثيل له في موضع واحد
دل عليه حديث مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات، فحكم العشر رضعات غير معمول به إجماعاً وإنما الخلاف في التحريم برضعة واحدة على نص القرآن في قوله: { وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } وبظاهر نص القرآن أخذت الحنفية والمالكية فحرّموا برضعة وبحديث عائشة أخذت الشافعية والحنابلة فحرموا بخمس رضعات. وهذه رواية آحاد لا تثبت قرآنا ولا حتى قراءة فمثل هذا لا يتعدى أن يكون خبر آحاد تضمن حكما شأنه شأن غيره من أخبار الآحاد ولا أدل على عدم اعتباره من كون جمهرة الفقهاء لم يعولوا عليه في تحديد عدد الرضعات التي تثبت الحرمة فلا منسوخه وهو عشر رضعات ولا ناسخه وهو خمس عندهم بمعتبر حيث قليل الرضاع وكثيره عندهم سواء بلا حد ولا عد.
3. نسخ التلاوة دون الحكم وهو كسابقه يعتمد في إثباته على خبر آحاد هو المعروف بآية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة "
ما قيمة هذه الرواية وما مدى قدرتها على إثبات قرآنية حتى لو كانت منسوخة ؟
هذا ما سنعرفه الآن !!!!
هذه الرواية آحادية ولا داعي لتكرار القول بأن الآحادية لا تثبت قرآنا ومع ذلك فهناك من الشواهد الأخرى ما يحجب كونها قرآنا ومن ذلك ما يلي:
1- لا يعرف القرآن الكريم ولا السنة النبوية ولا لغة العرب استعمال كلمة شيخ وشيخة في معنى المحصن أو المحصنة فهذان اللفظان لا يعنيان سوى الوصف بالهرم للرجل أو للمراة ولندلف إلى هذه الكلمة في استخدام القرآن الكريم محل البحث لنرى في أي المعاني يستخدم هذه الكلمة
وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم ثلاث مرات :
الأولى في سورة هود في قوله تعالى: { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72 } والثانية في سورة يوسف في قوله تعالى: { قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 78 } والثالثة في سورة القصص في قوله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23 } وهي في هذه المواطن جميعها لا تعني سوى الهرم والطعن في السن وبالطبع يستوي في ذلك لفظ شيخ أو شيخة
2- إن الحكمة غير واضحة في تقرير هذا النوع من النسخ فما فائدة أن يظل الحكم باقيا ورفع اللفظ الدال عليه
تكلف بعضهم فقال: إن الحكمة في ذلك راجعة إلى شناعة الحكم وهو الرجم فهو مما تقشعر منه الأبدان عند سماعه
وهو تكلف ممقوت وتعليل غير سائغ لأن القرآن الكريم تحدث صراحة عن القصاص وعن قطع يد السارق وعن حد الحرابة الذي يشتمل على قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو الصلب ......... فيس هناك ما يدعو إلى تخصيص الرجم بالشناعة لأن هذا شأن العقوبات فواضح من اسمها هي عقوبة وليست جائزة أو مكافأة وكلما كانت العقوبة على الجرم عظيمة كان ذلك أردع وأدعى لعدم قربانه
3- الروايات الواردة في شأن آية الرجم هذه مضطربة في ألفاظها مختلفة في دوالها فكيف يدعى كونها قرآنا والقرآن لا يختلف فيه
أنظر إلى هذا الكتاب الخالد وهو يتلى في مختلف أصقاع الدنيا دون تمايز أو اختلاف في حرف أو شكل إلا في ضوء ما نزل من قراءات وأما هذه المفتراة قرآنيتها فقد اضطربت فيها الألفاظ فبينا تقتصر بعض الروايات على هذا المقطع " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " تزيد روايات أخرى " نكالا من الله والله عزيز حكيم " ثم يؤكد الحاكم في المستدرك تشككنا حين يذكرها بهذا اللفظ " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة " ونتساءل: ما موقع بما قضيا من اللذة هنا مع كون قضاء اللذة بالمباشرة ليس خاصا بالشيخ والشيخة وماذا لو أنهما باشرا دون انقضاء لذة هل عليهما حد أو لا ؟
4- ورد عن عمر قوله إبان الجمع: لولا أن يقال : زاد عمر في كتاب الله لأثبتها.
فأين هذا الكلام من دعوى قرآنيتها ولو كانت منسوخة
5- هذا القول لا يتسق والدليل القرآني على مشروعية النسخ وأعني قوله تعالى سورة البقرة: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106 } وكذلك قوله تعالى في سورة النحل: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 101 } فمقتضى الآيتين أن النسخ ينبغي أن يكون ببدل وأين بدل هذه المدعاة قرآنيتها ؟
والحاصل أننا لا نقر من أقسام النسخ سوى القسم الأول مع نحفظ على الإسراف الذي وقع من البعض في سرد الايات المنسوخة
ويحق لنا العجب من اعتماد هذا التقسيم الذي بلغ من الشهرة ما بلغ وهو في قسميه الأخيرين لا يعتمد إلا على رواية واحدة لكل منهما لا تنهضان لأحاديتهما لإثبات قرآنية كما لا تنهضان لوحدانيتهما لإقرار قسمين للنسخ ما أغنانا عنهما
ولقد ألفينا كثيرين ممن يوثق بهم من أهل العلم يعتمدون هذا الرأي ويتبنونه :
1. فيقول الخضري: "أنا لا أفهم معنى لآيةٍ أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها ، لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز معاً بنظمه، فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إنّ ذلك غير مفهوم، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به".
2. ويقول الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن : "أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعمهم آيات معينة، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها، والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأً مركباً، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضربٍ شواهد كثيرةٍ أو كافيةٍ على الأقل ليتيسّر استنباط قاعدةٍ منها، وما لعشّاق النسخ إلا شاهدٌ أو اثنان على كلّ من هذين الضربين، وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها"9
3. وكذلك الدكتور مصطفى زيد الذي قال : "ومن ثمّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعةٍ واحدةٍ، ولهذا نرفضه، ونرى أنّه غير معقولٍ ولا مقبول"
4. وقال عبد الرحمن الجزيري صاحب الفقه على المذاهب الأربعة : "إنّ الأخبار التي جاء فيها ذكر كلمةٍ 'من كتاب الله' على أنّها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه لا يُطلق عليها أنّها قرآن، ولا تُعطى حكم القرآن باتّفاق، ثمّ ينظر إنّ كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً، فإنّ الإخبار بها يعطي حكم الحديث، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنّها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي ، لأنّ دلالتها موقوفةٌ على ثبوت صيغتها. وصيغتها يصحّ نفيها باتّفاقٍ، فكيف يمكن الاستدلال بها؟! فالخير كلّ الخير في ترك مثل هذه الروايات"
هذا ما ندين به ولئن انبرى علماء الأسانيد للتصحيح فإن لفقهاء المتون رأيا آخر ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب مبلَّغ أوعى من سامع فلا يعجلن متعجل بالنقل من كتب القوم جاهرا بأن الروايات صحيحة فمهما يكن من شيء فهي أحادية لا تثبت ما يشترط في إثباته التواتر.