محمد خليل الزروق
New member
[align=justify][align=center]الميم عند الباء
بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
هذه ورقة نشرت من قبل في الملتقى في صيغة الوررد ، وأعدت فيها النظر بالتنقيح والتصحيح .
[align=center]1
مصطلح إخفاء الميم مفقود عند المتقدمين[/align]
لم يعبر سيبويه بالإخفاء إلا في حالتين : إخفاء النون ، وإخفاء الحركة ، وهو الاختلاس ( الكتاب 2/415 و407 بولاق ) . فمصطلح الإخفاء في الحروف خاص بالنون ، وأحد أسباب الخلل في فهم حكم ملاقاة الميم الباء جعلُ الإخفاء حكمًا عامًّا شاملاً النون والميم.
وأكد هذا الذي يفيده كتاب سيبويه الإمام الداني ( -444 ) ، فحصر الإخفاء في نوعين - وذلك في أول كتابه في التجويد حيث بيَّن المصطلحات - فقال : " وأما الْمُخْفَى فعلى نوعين : إخفاء الحركات ، وإخفاء النون والتنوين " ( التحديد 100 ) .
ولم يذكر سيبويه وأهل العربية من بعده من أحكام الميم إلا أنها تدغم في ميم مثلها ، وقال الخاقاني ( -325 ) - وهو صاحب أقدم نظم في التجويد - جاريًا على مذهب أهل العربية :
[align=center]ولا تُدْغِمَنَّ الميمَ إن جئتَ بعدَها * بحرف سواها ، واقبل العلم بالشكر[/align]
ولم يذكر من أحكامها غير هذا .
وعلى هذا جرى كلام مكي بن أبي طالب ( -437 ) صاحب أقدم كتاب مفصَّل مفرد للتجويد ، قال : " فإذا سكَنَت الميم وجب أن يُتحفظ بإظهارها ساكنة عند لقائها باءً أو فاءً أو واوًا " ( الرعاية 232 ) ، ولا فرق بين أن تكون الميم أصلاً وأن تكون منقلبة عن نون ، نحو : ( أنبئهم ) .
[align=center]2
دخول مصطلح إخفاء الميم إلى علوم القراءة[/align]
فمن أين جاءت تسمية حال لقائها الباء بالإخفاء إذًا ؟
الجواب : هي من استعمال الفراء ( -207 ) - وهو كوفي - إذ سمى قلب النون ميمًا عند الباء إخفاء ، وسمى مرة الإدغام إخفاء ، ونقل عنه ذلك السيرافي ( انظر كتاب الإدغام من شرح الكتاب للسيرافي ص 342 ، تح الدكتور سيف العريفي ) . والقدماء يتجوَّزن في التعبير ، فأخذ بعبارته من يأخذ بمذهب الكوفيين من القراء ، وابتداء ذلك من ابن مجاهد ( -324 ) ، استعمل الإخفاء في الميم الأصيلة .
وهذا الذي ذكرت من مبدأ استعمال الإخفاء في الميم دلنا عليه أبو الحسن علي بن أحمد بن الباذِش ( -528 ) فيما نقل عنه ابنه أبو جعفر أحمد بن علي ( -540 ) في كتاب الإقناع ، ورأيه هذا مفصَّل ، وفيه احتجاج يطول ، وأكتفي منه بهذا النص الدال ، قال : " و[ أما ] ما ذُكر عن الفراء من إخفاء النون عند الباء فوجه ذلك أنه سمى الإبدال إخفاء ، كما سمى الإدغام في موضع آخر من كتابه إخفاء ، فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعنى ؛ إذ الإخفاء الصحيح لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ، ولا حكوه في لغة . وكذلك ما ذُكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قولٌ مُتجَوَّز به على سيبويه ، فعلَّق مذهب الفراء على عبارة سيبويه " ( الإقناع 1/182 ) .
وعلى هذا الفهم من المتأخرين القَيْجاطي ( -811 ) ، قال : " فإذا نُطق به ( أي الميم ) ساكنًا فهو مُظهرٌ أبدًا ، لا يجوز إخفاؤه ولا إدغامه إلا في مثله " ( شرح الدرر اللوامع للمِنْتُوري 2/859 ) .
وبهذا يصح ما ذكره مُلاَّ القاري ( -1014 ) من أنه اشتهر عند العامة أن أحرف ( بوف ) تظهر الميم عندها ( المنح الفكرية 44 ) .
[align=center]3
الاختلاف في حكم الميم عند الباء اختلاف عبارة[/align]
وقول ابن الباذش مع ما يفيده في تنقُّل هذا المصطلح - يفيد أن الاختلاف المحكي عن القراء في حال الميم عند الباء اختلاف عبارة ، لا اختلاف نطق . وقد حكاه الداني بلفظ بيِّن لا لبس فيه ، فقال : " فإذا التقت الميم بالباء نحو : ( آمنتم به ) ... فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنها معها " ( التحديد 166 ) ، فانظر إلى قوله : مختلفون في العبارة ، أي لا في اللفظ .
فيكون القول بأنهم مختلفون في اللفظ فهمًا غير صحيح لما أرادوه ، كما هو ظاهر نظم السخاوي ( -643 ) المسمى : عمدة المفيد ، ونظم ابن الجزري ( -833 ) المسمى : المقدمة ، ونظم الطِّيبي ( -979 ) المسمى : المفيد .
والفرق بين المذهبين عندهم أن المخفاة مبيَّنة الغنة ، والمظهرة ليست كذلك . والصحيح أن النطق واحد عند الجميع ، وهو بيان الغنة ، ولكنهم اختلفوا في التسمية .
وإذا كان الصواب أن الميم الساكنة مظهرة عند الباء فما هذه الغنة المبيَّنة في ذلك ؟
والجواب : هي غنة الميم الساكنة ، والساكن الرخو والمتوسط يمتد زمن النطق به كما هو معروف ، ولكنها تُطوَّل شيئًا قليلاً من أجل موافقة الميم الباء في المخرج ، وكينونة الباء لا غنة فيها ، فتُبيَّن قليلاً ليمتاز الإظهار من الإدغام ، وقد أشار مكي إلى إظهار هذه الغنة في نحو : ( أنبئهم ) ، فقال : " ولا تشديد في هذا ، والغنة ظاهرة فيه في نفس الحرف الأول ؛ لأنك أبدلت من حرف فيه غنة حرفًا آخر فيه غنة " ( الرعاية 265 ) .
وهذا النص مع ما سبق أن نقلته عن مكي هو ما بنى عليه ابن الجزري أن الإخفاء إجماع في المنقلبة عن نون ، واختلاف في الأصيلة ( النشر 1/222 ) ؛ ذلك أنه ينظر إلى أن مكيًّا ذكر إظهار الغنة في المنقلبة ، ولم يذكره في الأصيلة . ولا فرق بين الميمين .
[align=center]4
اجتهاد المرعشي اغترارًا بمصطلح الإخفاء[/align]
ثم جاء الْمَرْعَشي ( -1150 ) - وهو صاحب كتاب ( جهد المقل ) ، وهو من أفضل كتب المتأخرين جمعًا وتفصيلاً في مسائل التجويد ، وله عليه حاشية سماها : ( بيان جهد المقل ) - فوجد القوم عبروا في لقاء الميم ساكنةً الباءَ بالإخفاء ، بعد ما استقرَّ هذا المصطلح عند المتأخرين ، وكان حريصًا على تبيُّن حقائق نطق الحروف وتبيينها ، وقد استقرَّ أيضًا أن للإخفاء حقيقة عامة ، لا أنه مصطلح خاص بالنون كما بينت ، وهذه الحقيقة أنه النطق بالحرف بحالة بين الإظهار والإدغام ، وقد عُرِف أنه في النون إبطال عمل اللسان بها وإبقاء الغنة ، فكيف يكون في الميم ، وهي من الشفتين ولا يبطل عمل الشفتين بها ؟ فقال : " فالظاهر أن معنى إخفاء الميم ليس إعدام ذاتها بالكلية ، بل إضعافها وستر ذاتها في الجملة بتقليل الاعتماد على مخرجها ، وهو الشفتان ... فتَلفِظ بالميم ... بغنة ظاهرة ، وبتقليل انطباق الشفتين جدًّا " ( جهد المقل 201-202 ) .
وهذا تفكُّر منه وتصوُّر ، لم ينقله أهل اللسان ، ولا أهل القرآن ، حمله عليه اسم الإخفاء ، وليس للميم فيه نصيب ، وما استعملوه إلا تجوُّزًا في التعبير . وقوله : " فالظاهر " اعتراف بأنه اجتهاد وتأمل بلا اعتماد على نص ، أو متابعة لقائل سابق .
وفوق هذا هو مناقض لنصوص كثيرة ، منها تشبيه سيبويه الميم بالباء في لزوم الشفتين ، أي انطباقهما ( الكتاب 2/416 ) ، وقول الداني في الميم : " وهي أقوى من النون ؛ لأن لفظها لا يزول ( أي لا يزول انطباق الشفتين بها ) ، ولفظ النون قد يزول عنها فلا يبقى منها إلا الغنة " ( التحديد 109 ) ، أي بالإخفاء .
هذا ، مع أن المرعشي لم يستعمل اللفظ العجيب : ( الفرجة ) ، وهو لو فُهم على ظاهره ، وهو مجافاة الشفتين ، لكان إبطالاً لنطق الميم ، وهذا لم يقل به أحد قط ، فيما نعلم ، وهذا يدلك على مبلغ خطورة أخذ الأمور بالتسليم بغير تفقه أو تبصر ، إذ يتلقفها العوام ويبالغون في أصل الأمر ، متكلين على التلقي من الشيوخ - كأنهم والشيوخ معصومون من الخطأ - والمرعشي قال بتقليل الانطباق لا انفراج الشفتين الذي هو إبطال نطق الميم ، وأول كلامه : " إن قلت : ما معنى قلب النون الساكنة ميمًا مخفاة مع الغنة قبل الباء ، مع أن ذات الميم ملفوظة غير معدومة ؟ ... فالظاهر .. إلخ " . وقال في حاشيته على كتابه يوضح هذا السؤال : " فأي فائدة في قلبهما ميمًا ثم إعدام الميم ؟ " ( بيان جهد المقل 54أ الأزهر عمومي 2787 ) . وهو واضح الدلالة على انطباق الشفتين .
وهذا الكتاب ( جهد المقل ) لم يُنشَر إلا بأخَرَة ، حققه الدكتور سالم قدّوري الحمَد ، ونشرته دار عمَّار في عمَّان سنة 2001 . ومنه نسخ في دار الكتب المصرية ، وفي المكتبة الأزهرية .
وأغلب مادته كانت في كتاب آخر نشر قديمًا ، هو كتاب ( نهاية القول المفيد ) لمحمد مكي نصر الْجُرَيْسي ، كان حيّا سنة 1305=1888 ، وهي سنة فراغه من كتابه ، وطبع الكتاب في مطبعة بولاق بمصر بعد ثلاث سنوات من تأليفه ، أي سنة 1308=1891 ، ثم طبع في سنة 1323=1905 ( معجم المطبوعات العربية 2/1698 ) ، ثم في مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1349=1931 .
ومن أشهر من أخذ بقول الْمَرْعَشي هذا - شيخ المقارئ المصرية الشيخ عامر السيد عثمان ( 1318-1408 = 1900-1988 ) - رحمه الله ! - وكان يُلزم به ( انظر الدراسات الصوتية 466 للدكتور غانم قدوري ) ، وكان يشرف على تسجيلات القرآن الكريم بالإذاعة المصرية ، وكان عضوًا في لجنة اختيار القراء بها ( له ترجمة في تتمة الأعلام 1/262 ، وإتمام الأعلام 216 ، وترجمة جليلة في مقالات الدكتور محمود الطناحي 1/237 ) ، وهذا فيما يبدو الذي أشاع هذا النطق للميم الساكنة عند الباء ، ومصدره المرعشي وحده ، كما علمت .
[align=center]5
ضبط الميم الساكنة عند الباء[/align]
وعلى القول بأن الميم الساكنة عند الباء مظهرة كان يجب أن تضبط في المصاحف بالسكون ، والنص في ضبطها مفقود - وهو دليل على أنها ليست كالنون في ذلك - حتى قال التَّنَسي ( -899 ) في شرحه لنظم الخراز ( -718 ) في الضبط : " لم يتعرض الناظم ولا غيره إلى حكم الْمُخفَى من غير النون ، وذلك الميم عند الباء على المختار " ( الطراز 145 ) ، ولم يذكر لنا الخراز العمل في هذه الحال .
وقال الْمارِغْني ( -1349 ) في شرحه لهذا النظم كقوله ، وزاد : " والذي جرى به عملنا أن ضبطها كضبط النون الساكنة عند حروف الإخفاء ، وهو أن تُعرَّى من علامة السكون " ( دليل الحيران 260 ) .
وما جرى به العمل أثرٌ من القول الشائع في أنها مخفاة ، وسكوت المصنفين في الضبط عنه دليل على أنه لم يُؤْثَر فيه شيء ، وأن حكمه كحكم نظيره من الحروف المظهرة ، وهو أن يضبط بالسكون .
وقد نظرته في المكتبة السليمانية بإستانبول في مصاحف من القرون الثامن والتاسع والعاشر فوجدته مضبوطًا بالسكون ، والمصاحف الأقدم من ذلك أولى به لو نُظِرَت .
[align=center]6
الخلاصة[/align]
الخلاصة في الناحية العملية :
أن الميم الساكنة عند الباء مظهرةٌ مبيَّنةٌ غنتُها شيئًا قليلاً زائدًا على مقدار الغنة في الميم الساكنة عند غير الباء ، وأن الشفتين منطبقتان بها كحالهما عند نطق الميم في كل أحوالها.
والخلاصة في الناحية النظرية :
1- أن أهل العربية والمتقدمين من القراء لم يجعلوا من حالات الميم الإخفاء ، وأن الإخفاء عند سيبويه ومن بعده خاص بالنون من الحروف .
2- واستعمل مصطلح الإخفاء الفراء في الميم المنقلبة عن نون ، على عادة القدماء في التجوُّز في التعبير ، فأخذه عنه ابن مجاهد ، ونقله إلى الميم الأصيلة ، وشاع من ثَم اختلاف القراء في التعبير عن حال الميم الساكنة عند الباء ، فبعضهم يسميه إظهارًا ، وبعضهم يسميه إخفاء . وهو اختلاف تسمية لا اختلاف نطق . وفهم المتأخرون أنه اختلاف نطق .
3- واغتر المرعشي بمصطلح الإخفاء فقاس الميم على النون ؛ إذ كان عمَلُ اللسان يبطل في حال إخفاء النون ، ولا يمكن بطلان عمل الشفتين بالميم ، فقال بتقليل انطباقهما ، أو تقليل الاعتماد عليهما عند الباء ، وهو نظر عقلي محض لا يؤيده نص .
4- وأشاع هذا النطق في العصر الأخير شيخ المقارئ المصرية الشيخ عامر السيد عثمان ، وألزم به .
5- وبالغ بعض الناس مع الزمن على مراد المرعشي والشيخ عامر عثمان فقالوا بانفراج الشفتين ، وهو أقبح ؛ لأنه إبطال لنطق الميم بالكلية .
والله أعلم
8/7/2009[/align]
بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
هذه ورقة نشرت من قبل في الملتقى في صيغة الوررد ، وأعدت فيها النظر بالتنقيح والتصحيح .
[align=center]1
مصطلح إخفاء الميم مفقود عند المتقدمين[/align]
لم يعبر سيبويه بالإخفاء إلا في حالتين : إخفاء النون ، وإخفاء الحركة ، وهو الاختلاس ( الكتاب 2/415 و407 بولاق ) . فمصطلح الإخفاء في الحروف خاص بالنون ، وأحد أسباب الخلل في فهم حكم ملاقاة الميم الباء جعلُ الإخفاء حكمًا عامًّا شاملاً النون والميم.
وأكد هذا الذي يفيده كتاب سيبويه الإمام الداني ( -444 ) ، فحصر الإخفاء في نوعين - وذلك في أول كتابه في التجويد حيث بيَّن المصطلحات - فقال : " وأما الْمُخْفَى فعلى نوعين : إخفاء الحركات ، وإخفاء النون والتنوين " ( التحديد 100 ) .
ولم يذكر سيبويه وأهل العربية من بعده من أحكام الميم إلا أنها تدغم في ميم مثلها ، وقال الخاقاني ( -325 ) - وهو صاحب أقدم نظم في التجويد - جاريًا على مذهب أهل العربية :
[align=center]ولا تُدْغِمَنَّ الميمَ إن جئتَ بعدَها * بحرف سواها ، واقبل العلم بالشكر[/align]
ولم يذكر من أحكامها غير هذا .
وعلى هذا جرى كلام مكي بن أبي طالب ( -437 ) صاحب أقدم كتاب مفصَّل مفرد للتجويد ، قال : " فإذا سكَنَت الميم وجب أن يُتحفظ بإظهارها ساكنة عند لقائها باءً أو فاءً أو واوًا " ( الرعاية 232 ) ، ولا فرق بين أن تكون الميم أصلاً وأن تكون منقلبة عن نون ، نحو : ( أنبئهم ) .
[align=center]2
دخول مصطلح إخفاء الميم إلى علوم القراءة[/align]
فمن أين جاءت تسمية حال لقائها الباء بالإخفاء إذًا ؟
الجواب : هي من استعمال الفراء ( -207 ) - وهو كوفي - إذ سمى قلب النون ميمًا عند الباء إخفاء ، وسمى مرة الإدغام إخفاء ، ونقل عنه ذلك السيرافي ( انظر كتاب الإدغام من شرح الكتاب للسيرافي ص 342 ، تح الدكتور سيف العريفي ) . والقدماء يتجوَّزن في التعبير ، فأخذ بعبارته من يأخذ بمذهب الكوفيين من القراء ، وابتداء ذلك من ابن مجاهد ( -324 ) ، استعمل الإخفاء في الميم الأصيلة .
وهذا الذي ذكرت من مبدأ استعمال الإخفاء في الميم دلنا عليه أبو الحسن علي بن أحمد بن الباذِش ( -528 ) فيما نقل عنه ابنه أبو جعفر أحمد بن علي ( -540 ) في كتاب الإقناع ، ورأيه هذا مفصَّل ، وفيه احتجاج يطول ، وأكتفي منه بهذا النص الدال ، قال : " و[ أما ] ما ذُكر عن الفراء من إخفاء النون عند الباء فوجه ذلك أنه سمى الإبدال إخفاء ، كما سمى الإدغام في موضع آخر من كتابه إخفاء ، فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعنى ؛ إذ الإخفاء الصحيح لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ، ولا حكوه في لغة . وكذلك ما ذُكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قولٌ مُتجَوَّز به على سيبويه ، فعلَّق مذهب الفراء على عبارة سيبويه " ( الإقناع 1/182 ) .
وعلى هذا الفهم من المتأخرين القَيْجاطي ( -811 ) ، قال : " فإذا نُطق به ( أي الميم ) ساكنًا فهو مُظهرٌ أبدًا ، لا يجوز إخفاؤه ولا إدغامه إلا في مثله " ( شرح الدرر اللوامع للمِنْتُوري 2/859 ) .
وبهذا يصح ما ذكره مُلاَّ القاري ( -1014 ) من أنه اشتهر عند العامة أن أحرف ( بوف ) تظهر الميم عندها ( المنح الفكرية 44 ) .
[align=center]3
الاختلاف في حكم الميم عند الباء اختلاف عبارة[/align]
وقول ابن الباذش مع ما يفيده في تنقُّل هذا المصطلح - يفيد أن الاختلاف المحكي عن القراء في حال الميم عند الباء اختلاف عبارة ، لا اختلاف نطق . وقد حكاه الداني بلفظ بيِّن لا لبس فيه ، فقال : " فإذا التقت الميم بالباء نحو : ( آمنتم به ) ... فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنها معها " ( التحديد 166 ) ، فانظر إلى قوله : مختلفون في العبارة ، أي لا في اللفظ .
فيكون القول بأنهم مختلفون في اللفظ فهمًا غير صحيح لما أرادوه ، كما هو ظاهر نظم السخاوي ( -643 ) المسمى : عمدة المفيد ، ونظم ابن الجزري ( -833 ) المسمى : المقدمة ، ونظم الطِّيبي ( -979 ) المسمى : المفيد .
والفرق بين المذهبين عندهم أن المخفاة مبيَّنة الغنة ، والمظهرة ليست كذلك . والصحيح أن النطق واحد عند الجميع ، وهو بيان الغنة ، ولكنهم اختلفوا في التسمية .
وإذا كان الصواب أن الميم الساكنة مظهرة عند الباء فما هذه الغنة المبيَّنة في ذلك ؟
والجواب : هي غنة الميم الساكنة ، والساكن الرخو والمتوسط يمتد زمن النطق به كما هو معروف ، ولكنها تُطوَّل شيئًا قليلاً من أجل موافقة الميم الباء في المخرج ، وكينونة الباء لا غنة فيها ، فتُبيَّن قليلاً ليمتاز الإظهار من الإدغام ، وقد أشار مكي إلى إظهار هذه الغنة في نحو : ( أنبئهم ) ، فقال : " ولا تشديد في هذا ، والغنة ظاهرة فيه في نفس الحرف الأول ؛ لأنك أبدلت من حرف فيه غنة حرفًا آخر فيه غنة " ( الرعاية 265 ) .
وهذا النص مع ما سبق أن نقلته عن مكي هو ما بنى عليه ابن الجزري أن الإخفاء إجماع في المنقلبة عن نون ، واختلاف في الأصيلة ( النشر 1/222 ) ؛ ذلك أنه ينظر إلى أن مكيًّا ذكر إظهار الغنة في المنقلبة ، ولم يذكره في الأصيلة . ولا فرق بين الميمين .
[align=center]4
اجتهاد المرعشي اغترارًا بمصطلح الإخفاء[/align]
ثم جاء الْمَرْعَشي ( -1150 ) - وهو صاحب كتاب ( جهد المقل ) ، وهو من أفضل كتب المتأخرين جمعًا وتفصيلاً في مسائل التجويد ، وله عليه حاشية سماها : ( بيان جهد المقل ) - فوجد القوم عبروا في لقاء الميم ساكنةً الباءَ بالإخفاء ، بعد ما استقرَّ هذا المصطلح عند المتأخرين ، وكان حريصًا على تبيُّن حقائق نطق الحروف وتبيينها ، وقد استقرَّ أيضًا أن للإخفاء حقيقة عامة ، لا أنه مصطلح خاص بالنون كما بينت ، وهذه الحقيقة أنه النطق بالحرف بحالة بين الإظهار والإدغام ، وقد عُرِف أنه في النون إبطال عمل اللسان بها وإبقاء الغنة ، فكيف يكون في الميم ، وهي من الشفتين ولا يبطل عمل الشفتين بها ؟ فقال : " فالظاهر أن معنى إخفاء الميم ليس إعدام ذاتها بالكلية ، بل إضعافها وستر ذاتها في الجملة بتقليل الاعتماد على مخرجها ، وهو الشفتان ... فتَلفِظ بالميم ... بغنة ظاهرة ، وبتقليل انطباق الشفتين جدًّا " ( جهد المقل 201-202 ) .
وهذا تفكُّر منه وتصوُّر ، لم ينقله أهل اللسان ، ولا أهل القرآن ، حمله عليه اسم الإخفاء ، وليس للميم فيه نصيب ، وما استعملوه إلا تجوُّزًا في التعبير . وقوله : " فالظاهر " اعتراف بأنه اجتهاد وتأمل بلا اعتماد على نص ، أو متابعة لقائل سابق .
وفوق هذا هو مناقض لنصوص كثيرة ، منها تشبيه سيبويه الميم بالباء في لزوم الشفتين ، أي انطباقهما ( الكتاب 2/416 ) ، وقول الداني في الميم : " وهي أقوى من النون ؛ لأن لفظها لا يزول ( أي لا يزول انطباق الشفتين بها ) ، ولفظ النون قد يزول عنها فلا يبقى منها إلا الغنة " ( التحديد 109 ) ، أي بالإخفاء .
هذا ، مع أن المرعشي لم يستعمل اللفظ العجيب : ( الفرجة ) ، وهو لو فُهم على ظاهره ، وهو مجافاة الشفتين ، لكان إبطالاً لنطق الميم ، وهذا لم يقل به أحد قط ، فيما نعلم ، وهذا يدلك على مبلغ خطورة أخذ الأمور بالتسليم بغير تفقه أو تبصر ، إذ يتلقفها العوام ويبالغون في أصل الأمر ، متكلين على التلقي من الشيوخ - كأنهم والشيوخ معصومون من الخطأ - والمرعشي قال بتقليل الانطباق لا انفراج الشفتين الذي هو إبطال نطق الميم ، وأول كلامه : " إن قلت : ما معنى قلب النون الساكنة ميمًا مخفاة مع الغنة قبل الباء ، مع أن ذات الميم ملفوظة غير معدومة ؟ ... فالظاهر .. إلخ " . وقال في حاشيته على كتابه يوضح هذا السؤال : " فأي فائدة في قلبهما ميمًا ثم إعدام الميم ؟ " ( بيان جهد المقل 54أ الأزهر عمومي 2787 ) . وهو واضح الدلالة على انطباق الشفتين .
وهذا الكتاب ( جهد المقل ) لم يُنشَر إلا بأخَرَة ، حققه الدكتور سالم قدّوري الحمَد ، ونشرته دار عمَّار في عمَّان سنة 2001 . ومنه نسخ في دار الكتب المصرية ، وفي المكتبة الأزهرية .
وأغلب مادته كانت في كتاب آخر نشر قديمًا ، هو كتاب ( نهاية القول المفيد ) لمحمد مكي نصر الْجُرَيْسي ، كان حيّا سنة 1305=1888 ، وهي سنة فراغه من كتابه ، وطبع الكتاب في مطبعة بولاق بمصر بعد ثلاث سنوات من تأليفه ، أي سنة 1308=1891 ، ثم طبع في سنة 1323=1905 ( معجم المطبوعات العربية 2/1698 ) ، ثم في مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1349=1931 .
ومن أشهر من أخذ بقول الْمَرْعَشي هذا - شيخ المقارئ المصرية الشيخ عامر السيد عثمان ( 1318-1408 = 1900-1988 ) - رحمه الله ! - وكان يُلزم به ( انظر الدراسات الصوتية 466 للدكتور غانم قدوري ) ، وكان يشرف على تسجيلات القرآن الكريم بالإذاعة المصرية ، وكان عضوًا في لجنة اختيار القراء بها ( له ترجمة في تتمة الأعلام 1/262 ، وإتمام الأعلام 216 ، وترجمة جليلة في مقالات الدكتور محمود الطناحي 1/237 ) ، وهذا فيما يبدو الذي أشاع هذا النطق للميم الساكنة عند الباء ، ومصدره المرعشي وحده ، كما علمت .
[align=center]5
ضبط الميم الساكنة عند الباء[/align]
وعلى القول بأن الميم الساكنة عند الباء مظهرة كان يجب أن تضبط في المصاحف بالسكون ، والنص في ضبطها مفقود - وهو دليل على أنها ليست كالنون في ذلك - حتى قال التَّنَسي ( -899 ) في شرحه لنظم الخراز ( -718 ) في الضبط : " لم يتعرض الناظم ولا غيره إلى حكم الْمُخفَى من غير النون ، وذلك الميم عند الباء على المختار " ( الطراز 145 ) ، ولم يذكر لنا الخراز العمل في هذه الحال .
وقال الْمارِغْني ( -1349 ) في شرحه لهذا النظم كقوله ، وزاد : " والذي جرى به عملنا أن ضبطها كضبط النون الساكنة عند حروف الإخفاء ، وهو أن تُعرَّى من علامة السكون " ( دليل الحيران 260 ) .
وما جرى به العمل أثرٌ من القول الشائع في أنها مخفاة ، وسكوت المصنفين في الضبط عنه دليل على أنه لم يُؤْثَر فيه شيء ، وأن حكمه كحكم نظيره من الحروف المظهرة ، وهو أن يضبط بالسكون .
وقد نظرته في المكتبة السليمانية بإستانبول في مصاحف من القرون الثامن والتاسع والعاشر فوجدته مضبوطًا بالسكون ، والمصاحف الأقدم من ذلك أولى به لو نُظِرَت .
[align=center]6
الخلاصة[/align]
الخلاصة في الناحية العملية :
أن الميم الساكنة عند الباء مظهرةٌ مبيَّنةٌ غنتُها شيئًا قليلاً زائدًا على مقدار الغنة في الميم الساكنة عند غير الباء ، وأن الشفتين منطبقتان بها كحالهما عند نطق الميم في كل أحوالها.
والخلاصة في الناحية النظرية :
1- أن أهل العربية والمتقدمين من القراء لم يجعلوا من حالات الميم الإخفاء ، وأن الإخفاء عند سيبويه ومن بعده خاص بالنون من الحروف .
2- واستعمل مصطلح الإخفاء الفراء في الميم المنقلبة عن نون ، على عادة القدماء في التجوُّز في التعبير ، فأخذه عنه ابن مجاهد ، ونقله إلى الميم الأصيلة ، وشاع من ثَم اختلاف القراء في التعبير عن حال الميم الساكنة عند الباء ، فبعضهم يسميه إظهارًا ، وبعضهم يسميه إخفاء . وهو اختلاف تسمية لا اختلاف نطق . وفهم المتأخرون أنه اختلاف نطق .
3- واغتر المرعشي بمصطلح الإخفاء فقاس الميم على النون ؛ إذ كان عمَلُ اللسان يبطل في حال إخفاء النون ، ولا يمكن بطلان عمل الشفتين بالميم ، فقال بتقليل انطباقهما ، أو تقليل الاعتماد عليهما عند الباء ، وهو نظر عقلي محض لا يؤيده نص .
4- وأشاع هذا النطق في العصر الأخير شيخ المقارئ المصرية الشيخ عامر السيد عثمان ، وألزم به .
5- وبالغ بعض الناس مع الزمن على مراد المرعشي والشيخ عامر عثمان فقالوا بانفراج الشفتين ، وهو أقبح ؛ لأنه إبطال لنطق الميم بالكلية .
والله أعلم
8/7/2009[/align]