نادر بن عبدالعزيز ال عبدالكريم
New member
بسم1
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله ، أما بعد:
فإن من أهم شروط البحث العلمي موضوعية الباحث ويقصد بها جانبان مهمان؛ هما: التمكن من مادة البحث، و ترك الانحياز إلى نتائج مسبقة او التعصب لأقوال معينة . و يمكن القول أن هذا هو العدل الذي أمر الله به مع الموافق و المخالف كما قال تعالى: (ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة:8).
ويحتفي المستشرقون حفاوةً كبيرة بمصطلح الموضوعية و يعدونه العمود الأساس لكل بحث علمي، و يدعون أن أبحاثهم في الطبقة العليا من الموضوعية بخلاف من سبقهم من علماء المسلمين الذين ينظرون لتراثهم و خصوصا الكتاب و السنة بعين التقديس و بالتالي لا يبحثون فيها و عنها بموضوعية حسب زعم بعض المستشرقين.
و هذه الورقة تناقش مدى التزام المستشرقين بالموضوعية و صحة ادعاءهم إياها، و الله الموفق.
ماهي الموضوعية؟
الموضوعية هي الترجمة العربية لكلمة Objectivity ، و هي : "معيار أساسي من معايير البحث، يقوم على الصِّدق والعلم والأمانة، والبُعد عن الأهواء الشخصية"[SUP]([1]) [/SUP]، و بالتالي فركنا الموضوعية اثنان : أولهما العلم و هي فرع عن سعة اطلاع الباحث على الموضوع المراد بحثه و استحضاره للأقوال المختلفة فيه و تمييز صحيحها من خاطئها من المشوب بالخطأ و الصواب و استيعاب احتمالات صحة النقل و القدرة على تحليل تلك النقول و الاستنباط منها. و إحاطته كذلك بأسرار اللغة التي يكتب عنها أو بها، و إحاطته بأسرار الثقافة التي يكتب عنها أو فيها[SUP]([2])[/SUP]. و ثانيها الصدق والأمانة و البعد عن الأهواء الشخصية و هي أمانة الباحث في نقل ما توصل إليه من نتائج بغض النظر عن أي مؤثرات أخرى كهواه و مصلحته و رضا أحد عنه أو غضبه عليه أو تأثير ما يسمى بالرأي العام، و صدقه في نقل الأقوال التي تؤيده و تعارضه على حد سواء.
وهذا الركنان ذكرها الله عزوجل على لسان ابنة الرجل الصالح واصفة موسى عليه السلام فقالت: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص:26)، وهما كذلك عكس الصفتين اللتين أخبر الله عزوجل أنها منبع الخطأ في بني آدم فقال عزوجل: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب:72)، فالظلم ضد للعدل و الأمانة و الصدق، و الجهل ضد للعلم.
من هم المستشرقون؟
الاستشراق مصطلح شاع في القرن التاسع عشر يعرفه ادوارد سعيد بأنه : "أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين الشرق معظم الوقت وبين الغرب ، أو هو : نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق"[3].
وللاستشراق مفهومان : عام وهو الذي يعنى فيه الاستشراق بدراسة علوم العالم الشرقي كله الإسلامي و غيره، و المفهوم الثاني خاص وهو الذي يتناول الدراسة الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي، بحيث يكون المستشرق هو من: يدرس الشرق الإسلامي. وهذا هو المعنى الغالب في إطلاق وصف: استشراق و مستشرق في عالمنا العربي و الاسلامي[4].
و يرى الشيخ محمود شاكر أن الاستشراق بدأ متقدما حين بدأت أوروبا ترسل أبناءها ليتعلموا علوم المسلمين التي هي الحضارة القائمة آنذاك، بقصد التغلب العسكري و الاستيلاء على أراضي المسلمين و ثرواتهم و إعادتهم إلى النصرانية ثانية و بهذا يكون الاستشراق و الاستعمار و التبشير نشأت مرتبطة ببعضها البعض، وهم بذلك يجعلون الإسلام عدوهم الأكبر الذي يستخدمون معه كل الأساليب الهمجية التي اعتادوا عليها في القرون الوسطى من الغدر و الكذب و الحقد و الجشع و سفك الدماء وصارت طابعا لهم و عمودا لأخلاقهم. أما عمود الصورة التي رسمها المستشرقون عن الإسلام فيقوم على: أن المسلمين بدو جهلة جياع!، لغتهم ملفقة من اللغات المجاورة لهم! ،قام بينهم رجل يدعي النبوة –وحاشاه صلى الله عليه و سلم- لفق لهم دينا من اليهودية و النصرانية! ، و عاثوا في الأرض فسادا بسيوفهم!، و كونوا حضارة ملفقة من حضارات الامم حولهم كاليونان و الفرس و الهنود!، وكان غير العرب هم أكثر علماء هذه الحضارة! ، و أن العنوان الأبرز للفترة الزمنية التي ساد فيها هؤلاء هو القرون المظلمة ! و يخلص الشيخ شاكر أن كتب المستشرقين كتبت للقارئ الأوروبي لهدف معين و بأسلوب معين في زمان معين و لم يكن هدفهم في الجملة خدمة الحق بل خدمة الاستعمار و التبشير و تذليل طريقهما . [5]
و لا ينكر أن بعض المستشرقين كانوا باحثين عن الحق مذعنين له مهما كانت نتائجه.
ما مدى التزام المستشرقين بالموضوعية؟
في القرن التاسع عشر الميلادي و الذي احتلت فيه الدول الغربية كثيرا من بلاد المسلمين ، تسارعت محاولة اكتشاف هذه الثقافة الغريبة عليهم و تراثها الضخم جدا و علومها المتنوعة. و جاب المستشرقون البلاد الإسلامية لدراسة كل ما يتصل بهذا التراث مستعينين في ذلك بالسلطات السياسية التي تستفيد من أعمالهم البحثية في سبيل تركيع هذه الشعوب لهم و امتصاص ثرواتها و قدراتها. و خرجت أبحاث المستشرقين دراسة لعلوم الإسلام و تحقيقا لمخطوطاتهم، مستفيدين في ذلك من علوم شتى صاعدة كعلم الفيلولوجيا و الأنثربولوجيا و غيرها.
و سبق ذكر أن ركني الموضوعية هما العلم و الاستيعاب لكل ما يتعلق بالبحث و القدرة على تحليل ذلك، و الصدق و الأمانة في وصف مادة البحث و نتائجه، فإن المستشرقين قد أخلوا بهذين الركنين خللا كبيرا، يتبين ذلك مما يلي:
الأول: جانب العلم و القدرة، و معلوم أن اللغة هي عمود ذلك ، ولا يمكن لباحث في علوم المسلمين أن يكون بحثه موضوعيا محيطا بمادة بحثه دون أن يكون محيطا باللغة خفيها و ظاهرها و أسرارها ، وهو مالا نجده عند المستشرقين الذين بالكاد يستطيع أحدهم أن يتعلم اللغة و ينطقها نطقا صحيحا ! فضلا أن يتقنها و يكشف أسرارها ! فضلا أن يغوص في بحار العلوم المكتوبة بها !
و من أمثلة ذلك: ما ترجم به أحد المستشرقين قوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) (الإسراء: 13 ) ، فزعم أن القرآن يقول إن الكافر يأتي وفي رقبته حمامة يوم القيامة. [6]
وفي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) (هود: 69 و 70). مع أن من الواضح عودة الضمير في جملة " لا تَصِلُ إِلَيْهِ " إلى العجل، إلا أن المستشرق سافاري ظن أن الضمير يعود إلى إبراهيم ، فتخيل المشهد بأن إبراهيم مد يده ليصافح الضيوف، ولكنهم حين لم يمدوا أيديهم ليصافحوهُ علِمَ أنهم غرباء فأوجس خيفة منهم. [7]
وهذا الخطأ منشأه من جهل المستشرق بعادات العرب، قال قتادة: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه [أي: الطعام] نكَرَهم وأوجس منهم خيفة، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرٍّ ".[8]
و من أمثلته كذلك ترجمة قوله تعالى: ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (البقرة: 138)، ترجمها جاك بيرك فكان معنى ترجمته: " صباغة (تلوين) من الله، لكن من ذا الذي يمكنه أن يصبغ (يلوِّن) أفضل من الله، عندما نعبده؟ ". [9] و المعنى الصحيح لصبغة الله هي دين الله كما ذكره ابن جرير رحمه الله. [10]
الجانب الثاني : الأمانة و الصدق ، وقد وقع المستشرقون في مغالطات كبيرة سببها ضعف الأمانة و قلة الصدق و الحقد الكبير الذي في نفوسهم على الإسلام، منها ما زعمه جولدزيهر و غيره من المستشرقين، بأن ألوف الأحاديث النبوية من صنع علماء الإسلام في الطبقات التالية لعصر الصحابة و التشكيك في أئمة الحديث من علماء القرون المفضلة، و أدنى قارئ لعلوم الحديث يجد الجهد الكبير و الدقة العالية و الأمانة الكبيرة التي لم توجد لدى أمة من الإمم في علم الجرح و التعديل الذي عليه مدار تنقية الحاديث، لكن جولدزيهر و غيره يرنو بطريقة ماكرة إلى إقصاء السنة من التشريع الإسلامي.
يقول جولدزيهر أيضا مشككا في أمانة علماء الإسلام بعد ان شكك في علمهم :" إذا أرادت أن تعمم رأياً، أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضاً ، بالحديث الموافق لوجهات نظرها، فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه"[11]. و يقول شارحا ذلك: " إن عبدالملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة ابن الزبير، وبنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفوا حولها بدلاً من الكعبة، ثم أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية، فوجد الزهري وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية مستعدًا لأن يضع له أحاديث في ذلك، فوضع أحاديث، منها حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" ومنها حديث: "الصلاة في المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة فيما سواه" وأمثال هذين الحديثين، والدليل على أن الزهري هو واضع هذه الأحاديث، أنه كان صديقًا لعبدالملك وكان يتردد عليه وأن الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مروية من طريق الزهري فقط"[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP].
والزهري لم يلتق بعبدالملك بن مروان في عهد ابن الزبير، وإنما كان أول لقاء بينهما بعد مقتل ابن الزبير، والسنة التي ولد فيها الزهري كانت إحدى وخمسين أو ثمانية وخمسين، وكان مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، فيكون عمر الزهري اثنين وعشرين عامًا أو خمسة عشر عامًا، وغير معقول أن يشتهر الزهري في هذه السن المبكرة ثم تتلقى عنه الأمة بالقبول حديثاً موضوعاً يدعوها فيه للحج إلى قبة الصخرة بدلاً عن المدينة. بل النصوص التاريخية القاطعة أن الزهري وفد إلى عبدالملك أول مرة سنة ثمانين أو ثنتين وثمانين، بعد مقتل ابن الزبير بعدة سنوات.أما كلام جولدزيهر أن حديث "لا تشد الرحال" لم يروه غير الزهري فهذا باطل لا أصل له، فقد رواه غير الزهري ثمانية عشر راوٍ غيره، فبأي منطق أن يُنسب وضع هذا الحديث للزهري وحدة؟[13].
و يرى أستاذ الفلسفة الشهير الدكتور عبدالرحمن بدوي أن دراسة لوودفيجومراش ( 1700 م ) بعنوان عالم النص القرآني، هي نقطة الانطلاق للدراسات الأوربية عن القرآن من بعده رغم أنها مليئة بالأخطاء اللامعقولة، و تكررت هذه الأخطاء في كتب المستشرقين من بعده رغم توفر المخطوطات و تطور المناهج العلمية و أدوات فهم اللغات، و يعزو بدوي ذلك إلى الحقد الشديد الذي يكنه المستشرقون للإسلام.
وقد كتب الدكتور بدوي وهو مؤلف موسوعة المستشرقين و الخبير بهم، و هو خريج الحضارة الغربية و كان منقطعا عن حضارته الإسلامية إلا في آخر سنواته، كتب خمس ملاحظات عامة على منهج المستشرقين كفيلة بأن تبصر القارئ بمدى الموضوعية في منهج المستشرقين، هي:
1- ضعف المستشرقين في اللغة العربية من الناحية الأدبية و الفنية.
2- ضعف رجوعهم للمصادر العربية الأصلية مع أن فيها معلومات تغنيهم عن طرح فرضياتهم الخطيرة و الخاطئة.
3- الحقد الشديد على الإسلام عند بعض المستشرقين مما يفقدهم الموضوعية.
4- ذهب بعض السطحيين منهم إلى الجزم بأن القرآن انتحال و سرقة معتمدين على تشابه موهوم.
5- كان لبعض المستشرقين دوافع أخرى كالتبشير و التعصب المتحفز. [14]
أما الشيخ إبراهيم السكران فيرى أن نقطة النهاية لأبحاث المستشرقين و من قلدهم من العرب و المسلمين تصل إلى أمرين: إما رد العلوم الإسلامية إلى حضارات سابقة على الإسلام كاليونانية و الفارسية و الكتابية و الهيلينية و غيرها، و اعتبارها وافدة على الإسلام، أو ردها إلى حصيلة الصراع السياسي المصلحي لا النظر الموضوعي، وهما ما يمكن أن يسميا تقنية التوفيد و تقنية التسييس. [15] وهذا يعطي دلالة واضحة أن بعض المستشرقين قد وضعوا النتيجة مسبقا و سعوا في بحثهم لإثبات هذه النتيجة متلمسين كل دليل موهم او ساقط، و حسبك بهذا خللا في الموضوعية.
و الله أعلم و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه اجمعين.
([1])الموضوعية في العلوم التربوية، عبدالرحمن بن صالح عبدالله، ، ص6 ،دار المنارة، جدة، ط(1)، 1407. نقلا عن: الموضوعية، استبدال مصطلح، وإصلاح مفهوم، د. بليل عبدالكريم،شوهد في 28 محرم 1436، الموضوعية: استبدال مصطلح، وإصلاح مفهوم
([2])انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر، ص 65 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1997 .
[3] الاستشراق، ادوارد سعيد،ص23
[4] انظر: الاستشراق و الخلفية الفكرية للصراع الحضاري، محمود حمدي زقزوق، دار المعارف، ص 18
[5] انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، ص 48 وما بعدها.
[6] اللغة الشاعرة، عباس العقاد، ص 75. نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[7] انظر: المستشرقون والقرآن، د. إبراهيم عوض، ص19. نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[8] جامع البيان في تاويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، 7/ 92.
[9] مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم، د. عبدالراضي بن محمد عبدالمحسن، ص17، نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[10] جامع البيان في تاويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، 3/ 117.
[11] المستشرقون و مصادر التشريع الإسلامي، عجيل جاسم النشمي، ص 95-96
[12] المرجع السابق، ص216.
[13] انظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، محمد مصطفى الأعظمي،2/459-460 ، و السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي ، ص 243 -246.
[14] انظر: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبدالرحمن بدوي، ترجمة كمال جاد الله، الدار العالمية للكتب و النشر،ص 5.
[15] انظر: التأويل الحداثي للتراث، التقنيات و الاستمدادت، إبراهيم السكران، دار الحضارة، 1435 ، ص 35.
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله ، أما بعد:
فإن من أهم شروط البحث العلمي موضوعية الباحث ويقصد بها جانبان مهمان؛ هما: التمكن من مادة البحث، و ترك الانحياز إلى نتائج مسبقة او التعصب لأقوال معينة . و يمكن القول أن هذا هو العدل الذي أمر الله به مع الموافق و المخالف كما قال تعالى: (ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة:8).
ويحتفي المستشرقون حفاوةً كبيرة بمصطلح الموضوعية و يعدونه العمود الأساس لكل بحث علمي، و يدعون أن أبحاثهم في الطبقة العليا من الموضوعية بخلاف من سبقهم من علماء المسلمين الذين ينظرون لتراثهم و خصوصا الكتاب و السنة بعين التقديس و بالتالي لا يبحثون فيها و عنها بموضوعية حسب زعم بعض المستشرقين.
و هذه الورقة تناقش مدى التزام المستشرقين بالموضوعية و صحة ادعاءهم إياها، و الله الموفق.
ماهي الموضوعية؟
الموضوعية هي الترجمة العربية لكلمة Objectivity ، و هي : "معيار أساسي من معايير البحث، يقوم على الصِّدق والعلم والأمانة، والبُعد عن الأهواء الشخصية"[SUP]([1]) [/SUP]، و بالتالي فركنا الموضوعية اثنان : أولهما العلم و هي فرع عن سعة اطلاع الباحث على الموضوع المراد بحثه و استحضاره للأقوال المختلفة فيه و تمييز صحيحها من خاطئها من المشوب بالخطأ و الصواب و استيعاب احتمالات صحة النقل و القدرة على تحليل تلك النقول و الاستنباط منها. و إحاطته كذلك بأسرار اللغة التي يكتب عنها أو بها، و إحاطته بأسرار الثقافة التي يكتب عنها أو فيها[SUP]([2])[/SUP]. و ثانيها الصدق والأمانة و البعد عن الأهواء الشخصية و هي أمانة الباحث في نقل ما توصل إليه من نتائج بغض النظر عن أي مؤثرات أخرى كهواه و مصلحته و رضا أحد عنه أو غضبه عليه أو تأثير ما يسمى بالرأي العام، و صدقه في نقل الأقوال التي تؤيده و تعارضه على حد سواء.
وهذا الركنان ذكرها الله عزوجل على لسان ابنة الرجل الصالح واصفة موسى عليه السلام فقالت: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص:26)، وهما كذلك عكس الصفتين اللتين أخبر الله عزوجل أنها منبع الخطأ في بني آدم فقال عزوجل: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب:72)، فالظلم ضد للعدل و الأمانة و الصدق، و الجهل ضد للعلم.
من هم المستشرقون؟
الاستشراق مصطلح شاع في القرن التاسع عشر يعرفه ادوارد سعيد بأنه : "أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين الشرق معظم الوقت وبين الغرب ، أو هو : نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق"[3].
وللاستشراق مفهومان : عام وهو الذي يعنى فيه الاستشراق بدراسة علوم العالم الشرقي كله الإسلامي و غيره، و المفهوم الثاني خاص وهو الذي يتناول الدراسة الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي، بحيث يكون المستشرق هو من: يدرس الشرق الإسلامي. وهذا هو المعنى الغالب في إطلاق وصف: استشراق و مستشرق في عالمنا العربي و الاسلامي[4].
و يرى الشيخ محمود شاكر أن الاستشراق بدأ متقدما حين بدأت أوروبا ترسل أبناءها ليتعلموا علوم المسلمين التي هي الحضارة القائمة آنذاك، بقصد التغلب العسكري و الاستيلاء على أراضي المسلمين و ثرواتهم و إعادتهم إلى النصرانية ثانية و بهذا يكون الاستشراق و الاستعمار و التبشير نشأت مرتبطة ببعضها البعض، وهم بذلك يجعلون الإسلام عدوهم الأكبر الذي يستخدمون معه كل الأساليب الهمجية التي اعتادوا عليها في القرون الوسطى من الغدر و الكذب و الحقد و الجشع و سفك الدماء وصارت طابعا لهم و عمودا لأخلاقهم. أما عمود الصورة التي رسمها المستشرقون عن الإسلام فيقوم على: أن المسلمين بدو جهلة جياع!، لغتهم ملفقة من اللغات المجاورة لهم! ،قام بينهم رجل يدعي النبوة –وحاشاه صلى الله عليه و سلم- لفق لهم دينا من اليهودية و النصرانية! ، و عاثوا في الأرض فسادا بسيوفهم!، و كونوا حضارة ملفقة من حضارات الامم حولهم كاليونان و الفرس و الهنود!، وكان غير العرب هم أكثر علماء هذه الحضارة! ، و أن العنوان الأبرز للفترة الزمنية التي ساد فيها هؤلاء هو القرون المظلمة ! و يخلص الشيخ شاكر أن كتب المستشرقين كتبت للقارئ الأوروبي لهدف معين و بأسلوب معين في زمان معين و لم يكن هدفهم في الجملة خدمة الحق بل خدمة الاستعمار و التبشير و تذليل طريقهما . [5]
و لا ينكر أن بعض المستشرقين كانوا باحثين عن الحق مذعنين له مهما كانت نتائجه.
ما مدى التزام المستشرقين بالموضوعية؟
في القرن التاسع عشر الميلادي و الذي احتلت فيه الدول الغربية كثيرا من بلاد المسلمين ، تسارعت محاولة اكتشاف هذه الثقافة الغريبة عليهم و تراثها الضخم جدا و علومها المتنوعة. و جاب المستشرقون البلاد الإسلامية لدراسة كل ما يتصل بهذا التراث مستعينين في ذلك بالسلطات السياسية التي تستفيد من أعمالهم البحثية في سبيل تركيع هذه الشعوب لهم و امتصاص ثرواتها و قدراتها. و خرجت أبحاث المستشرقين دراسة لعلوم الإسلام و تحقيقا لمخطوطاتهم، مستفيدين في ذلك من علوم شتى صاعدة كعلم الفيلولوجيا و الأنثربولوجيا و غيرها.
و سبق ذكر أن ركني الموضوعية هما العلم و الاستيعاب لكل ما يتعلق بالبحث و القدرة على تحليل ذلك، و الصدق و الأمانة في وصف مادة البحث و نتائجه، فإن المستشرقين قد أخلوا بهذين الركنين خللا كبيرا، يتبين ذلك مما يلي:
الأول: جانب العلم و القدرة، و معلوم أن اللغة هي عمود ذلك ، ولا يمكن لباحث في علوم المسلمين أن يكون بحثه موضوعيا محيطا بمادة بحثه دون أن يكون محيطا باللغة خفيها و ظاهرها و أسرارها ، وهو مالا نجده عند المستشرقين الذين بالكاد يستطيع أحدهم أن يتعلم اللغة و ينطقها نطقا صحيحا ! فضلا أن يتقنها و يكشف أسرارها ! فضلا أن يغوص في بحار العلوم المكتوبة بها !
و من أمثلة ذلك: ما ترجم به أحد المستشرقين قوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) (الإسراء: 13 ) ، فزعم أن القرآن يقول إن الكافر يأتي وفي رقبته حمامة يوم القيامة. [6]
وفي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) (هود: 69 و 70). مع أن من الواضح عودة الضمير في جملة " لا تَصِلُ إِلَيْهِ " إلى العجل، إلا أن المستشرق سافاري ظن أن الضمير يعود إلى إبراهيم ، فتخيل المشهد بأن إبراهيم مد يده ليصافح الضيوف، ولكنهم حين لم يمدوا أيديهم ليصافحوهُ علِمَ أنهم غرباء فأوجس خيفة منهم. [7]
وهذا الخطأ منشأه من جهل المستشرق بعادات العرب، قال قتادة: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه [أي: الطعام] نكَرَهم وأوجس منهم خيفة، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرٍّ ".[8]
و من أمثلته كذلك ترجمة قوله تعالى: ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (البقرة: 138)، ترجمها جاك بيرك فكان معنى ترجمته: " صباغة (تلوين) من الله، لكن من ذا الذي يمكنه أن يصبغ (يلوِّن) أفضل من الله، عندما نعبده؟ ". [9] و المعنى الصحيح لصبغة الله هي دين الله كما ذكره ابن جرير رحمه الله. [10]
الجانب الثاني : الأمانة و الصدق ، وقد وقع المستشرقون في مغالطات كبيرة سببها ضعف الأمانة و قلة الصدق و الحقد الكبير الذي في نفوسهم على الإسلام، منها ما زعمه جولدزيهر و غيره من المستشرقين، بأن ألوف الأحاديث النبوية من صنع علماء الإسلام في الطبقات التالية لعصر الصحابة و التشكيك في أئمة الحديث من علماء القرون المفضلة، و أدنى قارئ لعلوم الحديث يجد الجهد الكبير و الدقة العالية و الأمانة الكبيرة التي لم توجد لدى أمة من الإمم في علم الجرح و التعديل الذي عليه مدار تنقية الحاديث، لكن جولدزيهر و غيره يرنو بطريقة ماكرة إلى إقصاء السنة من التشريع الإسلامي.
يقول جولدزيهر أيضا مشككا في أمانة علماء الإسلام بعد ان شكك في علمهم :" إذا أرادت أن تعمم رأياً، أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضاً ، بالحديث الموافق لوجهات نظرها، فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه"[11]. و يقول شارحا ذلك: " إن عبدالملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة ابن الزبير، وبنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفوا حولها بدلاً من الكعبة، ثم أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية، فوجد الزهري وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية مستعدًا لأن يضع له أحاديث في ذلك، فوضع أحاديث، منها حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" ومنها حديث: "الصلاة في المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة فيما سواه" وأمثال هذين الحديثين، والدليل على أن الزهري هو واضع هذه الأحاديث، أنه كان صديقًا لعبدالملك وكان يتردد عليه وأن الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مروية من طريق الزهري فقط"[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP].
والزهري لم يلتق بعبدالملك بن مروان في عهد ابن الزبير، وإنما كان أول لقاء بينهما بعد مقتل ابن الزبير، والسنة التي ولد فيها الزهري كانت إحدى وخمسين أو ثمانية وخمسين، وكان مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، فيكون عمر الزهري اثنين وعشرين عامًا أو خمسة عشر عامًا، وغير معقول أن يشتهر الزهري في هذه السن المبكرة ثم تتلقى عنه الأمة بالقبول حديثاً موضوعاً يدعوها فيه للحج إلى قبة الصخرة بدلاً عن المدينة. بل النصوص التاريخية القاطعة أن الزهري وفد إلى عبدالملك أول مرة سنة ثمانين أو ثنتين وثمانين، بعد مقتل ابن الزبير بعدة سنوات.أما كلام جولدزيهر أن حديث "لا تشد الرحال" لم يروه غير الزهري فهذا باطل لا أصل له، فقد رواه غير الزهري ثمانية عشر راوٍ غيره، فبأي منطق أن يُنسب وضع هذا الحديث للزهري وحدة؟[13].
و يرى أستاذ الفلسفة الشهير الدكتور عبدالرحمن بدوي أن دراسة لوودفيجومراش ( 1700 م ) بعنوان عالم النص القرآني، هي نقطة الانطلاق للدراسات الأوربية عن القرآن من بعده رغم أنها مليئة بالأخطاء اللامعقولة، و تكررت هذه الأخطاء في كتب المستشرقين من بعده رغم توفر المخطوطات و تطور المناهج العلمية و أدوات فهم اللغات، و يعزو بدوي ذلك إلى الحقد الشديد الذي يكنه المستشرقون للإسلام.
وقد كتب الدكتور بدوي وهو مؤلف موسوعة المستشرقين و الخبير بهم، و هو خريج الحضارة الغربية و كان منقطعا عن حضارته الإسلامية إلا في آخر سنواته، كتب خمس ملاحظات عامة على منهج المستشرقين كفيلة بأن تبصر القارئ بمدى الموضوعية في منهج المستشرقين، هي:
1- ضعف المستشرقين في اللغة العربية من الناحية الأدبية و الفنية.
2- ضعف رجوعهم للمصادر العربية الأصلية مع أن فيها معلومات تغنيهم عن طرح فرضياتهم الخطيرة و الخاطئة.
3- الحقد الشديد على الإسلام عند بعض المستشرقين مما يفقدهم الموضوعية.
4- ذهب بعض السطحيين منهم إلى الجزم بأن القرآن انتحال و سرقة معتمدين على تشابه موهوم.
5- كان لبعض المستشرقين دوافع أخرى كالتبشير و التعصب المتحفز. [14]
أما الشيخ إبراهيم السكران فيرى أن نقطة النهاية لأبحاث المستشرقين و من قلدهم من العرب و المسلمين تصل إلى أمرين: إما رد العلوم الإسلامية إلى حضارات سابقة على الإسلام كاليونانية و الفارسية و الكتابية و الهيلينية و غيرها، و اعتبارها وافدة على الإسلام، أو ردها إلى حصيلة الصراع السياسي المصلحي لا النظر الموضوعي، وهما ما يمكن أن يسميا تقنية التوفيد و تقنية التسييس. [15] وهذا يعطي دلالة واضحة أن بعض المستشرقين قد وضعوا النتيجة مسبقا و سعوا في بحثهم لإثبات هذه النتيجة متلمسين كل دليل موهم او ساقط، و حسبك بهذا خللا في الموضوعية.
و الله أعلم و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه اجمعين.
([1])الموضوعية في العلوم التربوية، عبدالرحمن بن صالح عبدالله، ، ص6 ،دار المنارة، جدة، ط(1)، 1407. نقلا عن: الموضوعية، استبدال مصطلح، وإصلاح مفهوم، د. بليل عبدالكريم،شوهد في 28 محرم 1436، الموضوعية: استبدال مصطلح، وإصلاح مفهوم
([2])انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر، ص 65 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1997 .
[3] الاستشراق، ادوارد سعيد،ص23
[4] انظر: الاستشراق و الخلفية الفكرية للصراع الحضاري، محمود حمدي زقزوق، دار المعارف، ص 18
[5] انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، ص 48 وما بعدها.
[6] اللغة الشاعرة، عباس العقاد، ص 75. نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[7] انظر: المستشرقون والقرآن، د. إبراهيم عوض، ص19. نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[8] جامع البيان في تاويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، 7/ 92.
[9] مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم، د. عبدالراضي بن محمد عبدالمحسن، ص17، نقلا عن و لتستبين سبيل المجرمين، عبدالرحيم الشريف ، http://vb.tafsir.net/tafsir31995/#.VF8WIvnLeFE
[10] جامع البيان في تاويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، 3/ 117.
[11] المستشرقون و مصادر التشريع الإسلامي، عجيل جاسم النشمي، ص 95-96
[12] المرجع السابق، ص216.
[13] انظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، محمد مصطفى الأعظمي،2/459-460 ، و السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي ، ص 243 -246.
[14] انظر: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبدالرحمن بدوي، ترجمة كمال جاد الله، الدار العالمية للكتب و النشر،ص 5.
[15] انظر: التأويل الحداثي للتراث، التقنيات و الاستمدادت، إبراهيم السكران، دار الحضارة، 1435 ، ص 35.