قلنا إن أركون يتباكى على ضياع "وثائق مهمة وأساسية" كانت كفيلة بأن تكشف لنا لغز النبوة لو لم تَضِع، ورغم أننا سخرنا من هذا الكلام المتهافت فإننا سنغضى على ما فيه من تفاهة وسنعامله على أنه كلام يقبل المناقشة :
أتراك يا د. أركون لو وصلتْ إليك هذه الوثائق (رغم أنى لا أعرف عن أى وثائق تتحدث)، أكنتَ ستسكت فلا تكفّ عن إثارة الاعتراضات ؟
لا إخال أبدا، بل أُرَجِّح، بل أكاد أجزم موقنا، أنك كنت ستتعلل بأنك لا تستطيع أن تصدر حكما فى الأمر لأنك لم تشاهد النبى وهو يمارس النبوة. وحتى لو تحققت لك هذه الأمنية فلا أحسب إلا أنك ستتحجج بأنك تريد أن تَخْبُر تجربة النبوة من الداخل بنفسك وأن تعيشها كما عاشها النبى ولا تكتفى بمشاهدته وهو يتلقى الوحى، أى أن تكون أنت أيضا نبيا. ولم لا ؟ هل محمد أحسن منك ؟
لكنك نسيت أنّ هذا، وإنْ حَلّ المشكلة بالنسبة لك، فلن يحُلّها بالنسبة للآخرين الذين سيكون من حقهم هم أيضا أن يقولوا، مثلما قلتَ، إنهم يريدون أن يَخْبُروا تجربة النبوة خُبْرًا مباشرا...وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة سوف يصبح الناس جميعا أنبياء، ولكن إلى من يتوجهون بدعوتهم ؟ إلى لا أحد، وبذلك تفقد النبوة معناها.
لقد فاتك، فى الواقع، شىء مهم لم تُرِد أن تلمسه رغم أنه كان ينبغى أن يكون أول شىء تتناوله، ألا وهو دراسة شخصية النبى، والظروف التى كان الوحى ينزل فيها، والأعراض التى كانت تصاحبه، والمضمون الذى اشتمل عليه، والاتهامات التى وُجِّهَتْ إلى متلقى هذا الوحى زاعمة أنه إنما كان يعلمه بشر أو أن القرآن ليس سوى كلام من تأليفه هو...إلخ.
فهل فى شخصية النبى ما يجعلك تشكّ فى إلاهية المصدر القرآنى، وبخاصة بعدما فندنا نظريتك المتهافتة فى "المخيال الجماعى" ؟ أقول: "نظريتك" على سبيل المجاز، فأنت لا تزيد على أن وجدتَها فى الفكر الأوربى فوضعتَ يدك
عليها وقلت: ما المانع فى أن ننتفع بها فى الشغب على الإسلام ؟
ترى هل كان النبى كذابا ؟ أم هل كان من المصابين بالهَلاوِس أو الصَّرْع مثلا ؟
لقد درستُ هذه الاتهامات بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن" وحاولتُ أن أعثر بين أوراق الدعاوى التى يرفعها مكذِّبو النبى فى وجهه على أية شهادة، مكتوبة أو شفوية، ذَكَر فيها أحدٌ ممن اتُّهِم النبى بالإفادة منهم أنه قد تعلم على أيديهم وأخذ مادة القرآن عنهم فلم أجد شيئا من هذا البتة ! بالعكس لقد اتضح لى أن هؤلاء الذين اتُّهِم النبى بالاستفادة منهم إما أسلموا أو، إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته عليه السلام، قد أسلم أبناؤهم وأقاربهم.
كما كان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان قد طمع فى النبوة لنفسه زمنا، فلم يا ترى لم يقل إن محمدا قد تعلم منه، وقد كان شاعرا، وهو ما كان كفيلا أن يجعل كلامه يجلجل فى أرجاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ويفضح النبى فضيحة الأبد ؟
كذلك لِمْ لَمْ يفتح فمه بحيرا، الذى طالما أبدأ المرجفون باسمه وأعادوا، ويقول: نعم، لقد تعلم محمد منى كذا وكذا ؟
لقد كان الرسول فى ذلك الوقت مستضعفا أشد الاستضعاف هو وأتباعه فى مكة، ومن ثم فليس من الممكن أن يتذرع أحد من المتَّهِمين بأن هؤلاء الشهود لم يتكلموا لأنهم كانوا يخشَوْن بأس محمد وسطوته وسلطانه، إذ لم يكن له فى أم القرى أى سلطان .
ثم ها هى ذى حياة النبى عليه السلام واضحة جلية تمام الوضوح والجلاء، وليس فيها ما يمكن اتهامه بسببه بالكذب أو المرض النفسى والعصبى، علاوة على أن الأعراض التى كانت تصاحب الوحى لا تشبه من قريب أو من بعيد أَيًّا من أعراض الصَّرْع أو الهلوسات أو الهستريا على ما بَيَّنّا فى كتابنا المومإ إليه.
ولعله يحسن فى هذا السياق أن نشير إلى الطريقة التى اتبعها كاتب مادة "Muhammad" فى الطبعة الأولى من "Encyclopaedia of Islam"، وهى تشبه طريقة محمد أركون فى معاندة الحق واعتماد أسلوب اللف والدوران بغية تجنب المواجهة مع ذلك الحق فى عينيه، إذ زعم أن الأطباء النفسيين المحدثين يعترفون بصحة تشخيص الأعراض المصاحبة للوحى على أنها أعراض الصَّرْع، وإن سارع عقب هذا مباشرة إلى القول بأننا "يجب أن ندعهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة"، وذلك دون أن يذكر لنا اسما واحدا (واحدا فقط) من هؤلاء الأطباء المزعومين، فضلا عما فى كلامه من تناقض ساطع يراه حتى الأكمه، إذ بعد أن يؤكد أن الأطباء قد شخّصوا حالة الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس إصابته بالصَّرْع يعود فى الحال قائلا: "فلنتركهم يقررون بأنفسهم طبيعة مرضه بدقة"، أى أنهم لم يقرروا بعدُ طبيعةَ مرضه، وهو ما يكشف أن كاتب هذا الهراء مستشرقٌ محترقٌ وكذابٌ أَشِرٌ من الذين سيَصْلَوْن جهنم فى الدرك السفل منها مع الأنذال الجامعين بين الكفر والنفاق.
وغنىٌّ عن القول أن من بين المستشرقين والمبشرين من يعترض على اتهام الرسول بالصَّرْع مثل ألفرد جيوم فى كتابه "Islam" (Pelikan Books, 1964, P. 25).
كذلك عندنا مضمون الوحى، فهل فيه ما ينبئ أنه يعكس رغبات النبى وكراهاته أو آماله وآلامه أو أفراحه وأشجانه ؟
أبدا، فقد ماتت خديجة مثلا هى وأبو طالب فى العام العاشر للبعثة، وكان حزن النبى عليهما من الشدة والألم أَنْ سُمِّىَ العام الذى ماتا فيه: "عام الحزن"، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع ؟
وبالمثل مات ابنه إبراهيم، الذى رُزِقَه على كبر، وبعد أن سمع سخفا كثيرا ووقاحة من المشركين فى بداية الدعوة مرارا وتكرارا ينبذونه بـ"الأبتر" جَرّاءَ موت أولاده الذكور واحدا واحدا فى صغرهم، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع ولو لتعزية النبى والتسرية عن فؤاده ؟ أبدا.
ومعروف أنه كان يحب عائشة لجمالها وصباها وذكائها وشدة حبها له ولأنها، فوق ذلك كله، ابنة صديقه الحميم أبى بكر، فهل فى القرآن ما يمكن أن يُشْتَمّ منه رائحة الفرح حين بنى عليه السلام بها، وهو الذى قال المبشرون والمستشرقون فى زواجه منها وفارق السن بينه وبينها وتدلهه فى هواها الكثير ؟ إن القرآن الكريم يخلو حتى من مجرد ذكر اسمها كما يعرف الجميع.
وبالمثل هل يجد أحد فى القرآن ما يشى بوقع الانتصار العظيم الذى أحرزه المسلمون فى بدر على غير ما كانوا يتوقعون؟ أبدا...وهكذا، وهكذا مما يدل على أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من لدن محمد على أى نحو من الأنحاء.
ويزيد الأمر يقينا الدراسة الطويلة والمفصلة التى قام بها كاتب هذه السطور بعنوان "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" والتى ثبت من خلالها بطريقة علمية إحصائية أن أسلوب القرآن شىء آخر مختلف تماما عن أسلوب الأحاديث. والكتاب يقع فى 600 صفحة لمن يريد أن يرسو على شاطئ اليقين لا أن يعاند لأن هناك من كلفه بالعناد والشغب على دين محمد.
ثم هناك النبوءات، والحقائق العلمية القاطعة التى ذكرها القرآن الكريم، والروح الإلهى الذى يترقرق فى كل آية من آياته والذى يخلو تماما من أى ملمح إنسانى مهما صغر.
وفضلا عن ذلك كله فالمقارنة بين القرآن والكتب التى يقال كذبا إنه مأخوذ منها تبرهن بأجلى برهان وأقواه أنه لا يمكن أن يكون قد تأثر بتلك الكتب لأنه كثيرا ما يخالف تلك الكتب ويكون الحق والمنطق وحقائق التاريخ والعلم فى جانبه هو.
ويجد القارئ هذه الموضوعات فى كتبى التالية: "مصدر القرآن"، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" والدراسات التى وضعتها عن سُوَر "طه" و"المائدة" و"يوسف"...إلخ.
حتى النصوص التى يزعم فريق من الشيعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان، وكأن القرآن لعبة فى يد مجموعة من الأطفال يعبثون بها ويحطمونها كما يشاؤون دون أن يجدوا من يعقّب عليهم، هذه النصوص قد اخترتُ من بينها السورة الكاملة، وهى سورة "النورين" التى لا تزيد على صفحتين بحال إن لم تقلّ، وحللتها فى خمسين صفحة كاملة لأجد فى نهاية المطاف أنه لا توجد أية وشيجة بينها وبين أسلوب القرآن ولو فى آية أو جملة واحدة. وهذا، لمن يبحث عن الحق لا المشاغبة، متاح فى كتابى "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، فوق أن علماء الشيعة جميعا ينفون نفيا قاطعا أنه كان هناك فى يوم من الأيام نصوص قرآنية زيادة على تلك التى فى المصحف المعروف للناس كلهم.
ومِثْلُ سورة "النورين" الجملتان اللتان تُسَمَّيان: "آيتَىِ الغرانيق" واللتان أقدم ريجى بلاشير بغَشْمٍ وتهورٍ على إثباتهما فى سورة "النجم" فى ترجمته الفرنسية للقرآن، فقد ثبت من خلال التحليل الأسلوبى المتأنى الذى قمتُ به فى كتابىَّ: "ماذا بعد إعلان سلمان رشدى توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" أنهما لا تمتان لكتاب الله بأية صلة.
وأخيرًا، وليس آخِرًا، ما الذى جاء به القرآن فى مجال العقيدة والتوجيهات الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية مما يمكن أن يكون محل انتقاد على أساس أنه يعوق سير الحضارة أو أنه يكبّل العقل البشرى بقيود تمنعه من أداء مهمته فى التفكير والاستكشاف مهما وقع أثناء ذلك من أخطاء ؟
أهو التوحيدُ ومحاربةُ الثنويةِ والتثليثِ والوثنيةِ ؟
أهو عالميّة الربوبية وعدم اقتصارها على قوم بعينهم مهما أثبتوا بسلوكهم الدنس وأنانيتهم البشعة أنهم لا يستحقون ذرة واحدة من هذا التركيز عليهم دون سائر الخلق ؟
أهو الرحمة التى يكرر القرآن أن الله سيعامل بها عباده يوم الحساب، وأن الحسنة ستكون بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، على حين ! أن صاحب السيئة سيُجْزَى عليها بمثلها، وقد يغفرها الله له فلا يكون ثَمَّ حساب عليها أصلا ؟
ولا نَنْسَ أيضا البعد الثقافى والافتصادى المتمثل فى الإعلاء من شأن العمل والإنتاج والإبداع والتنفير من الكسل والاعتماد على الآخرين دون موجب، هذا البعد الذى يكمّله الحث الدائم على الصبر، سواء فى ذلك الصبر على المكاره ومتاعب الحياة وحدثانها المزعجة أو على مشقات العمل والجهاد ومكافحة آفات النفس وعوامل الانهيار فى المجتمع، كما يكمّله التبغيض العنيف فى الاستسلام لمشاعر اليأس أو القنوط من رَوْح الله، مع التلويح من الجهة المقابلة بأن الرحمة الإلهية لا تغيب أبدا وأن مع العسر، مهما تكاثف واشتد، يُسْرَيْن لا يُسْرًا واحدا.
وبالمثل لا ينبغى أن ننسى البعدَ الاجتماعى فى القرآن الكريم حيث جعل للفقراء والمحتاجين نصيبا مفروضا فى أموال الأغنياء يخرجونه على سبيل الوجوب لا مَنًّا ولا تفضُّلا.
كذلك لا يفوتنا هنا أن نشير إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام إن المجتهد إذا أخطأ فله أجر. إنه لم يقل إن عقابه سيخفَّف، أو إنه سيحظى بالعفو، بل قال إنه يأخذ أجرا، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب فلسفى أو أى نظام سياسى أو اجتماعى. والحق أنه لو لم يكن فى الإسلام فى مجال الفكر إلا هذا المبدأ الأخير لكفاه فخرًا واستحقاقًا لأن يُقْبِل الناس عليه إقبالا ويدخلوا فى فسطاطه مباهين !
على أن مناقشتنا للدكتور أركون فى موضوع القرآن لن تقف عند كلامه النظرى فيه، إذ إن له جهودا تطبيقية أراد بها أن يقدم تحليلا للخطاب القرآنى على حد تعبيره بدلا مما سماه: "التفسير الموروث".
وهو فى هذه الجهود كثير الدعاوى يركب المراكب الوعرة ملوِّحًا بسوطه فى الهواء محدثًا فرقعاتٍ تلقى الرعب فى قلوب غير المتمرسين، إذ يظنون أن الرجل سوف يكرّ على خصومه فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ويفتك بهم كما تصنع الحمم البركانية بمن قدر له حظه التاعس أن يسكن قريبا من فوهة بركانها، ليفاجأوا به فى نهاية المطاف وقد ثَنَى عِنَان جواده الهزيل "للخلف دُرْ" وأخذ يعدو بأقصى سرعته وكأنه قد برز له عفريت فجأة ألقى الجزع والفزع فى قلبه الخفيف الرهيف.
كذلك سوف نراه يتناقض من موضع إلى آخر، وقد يكون مجال التناقض فقرتين متتاليتين.
ثم إنه كثيرا ما يَعْلَق فى شَرَكٍ يكون قد وضعه هو بنفسه فى التراب موهما نفسه وإيانا بأنه سوف يصطاد به الذئب ويجىء به من ذيله، لكنه سرعان ما يقع هو لا الذئب فى هذا الشَّرَك، ثم لا يستطيع تخليص نفسه منه ويظل يضرب بجناحه على غير هدى ولا أمل فى الفرج بأية حال.
وإليكم البيان:
فى إحدى هذه الفرقعات الخنفشارية، وتحديدا فى مدخل محاولته تحليل سورة "الفاتحة"، نراه يضع عدة "إضاءات" يقدم بها لهذا التحليل، وعلى رأس هذه الإضاءات قوله: "إن القرآن مدونة متجانسة...كل العبارات التى يحتويها كانت قد أُنْتِجِتْ فى نفس الوضعية العامة للكلام أو نفس الظرف العام للخطاب" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114).
وقد فسر تابعه "..." معنى الظرف العام للخطاب بأن "كل خطاب أو كلام يقال فى ظرف معين أو أحوال معينة، والذين يحضرون الجلسة التى قيل فيها هذا الكلام يفهمونه بشكل أفضل من الغائبين الذين يطَّلعون عليه قراءةً " (بالهامش).
وليس لهذا من معنى إلا أن القرآن كله قد نزل فى نفس الظروف العامة للخطاب، وهى الظروف التى حددها أركون بعد أسطر بأنها ثلاث وعشرون سنة. أى أن القرآن قد انتهى تشكّله فى حياة الرسول، ولم يستمر نصًّا مفتوحا يُزاد فيه ويُنْقَص طَوال عدة قرون كما رأينا قبل قليل!
ولعل القراء الكرام يذكرون أن الكاتب العبقرى قد قال فى موضع ثالث إن القرآن قد أخذ صورته النهائية على عهد عثمان.
أرأيتم إلى هذا التناقض الفِجّ العارى فى هذه المساحة الضيقة من السطور والصفحات ؟
كذلك ففى مقارنته بين طريقته فى تناول النص القرآنى التى يسميها : " بروتوكول القراءة الألسنى النقدى " وبين الطريقة التى يتبعها المفسرون المسلمون والتى يُطْلِق عليها سعادته : "البروتوكول التفسيرى" يبدأ بتعداد المبادئ التى تقوم عليها القراءة التفسيرية كما يراها والتى ينظر إليها بترفع بوصفها أثرا من مخلفات الماضى التى ينبغى أن تُزَال، ذاكرا من بينها أن الحقيقة التى يتضمنها القرآن، والتى هى الحقيقة الوحيدة حسب الرؤية التقليدية للمسلمين، لا يمكن أحدا أن يحددها أو يعرفها إلا "عن طريق الاستعانة بأقوال الجيل الشاهد عليها، أقصد جيل المؤمنين الأوائل الذين تَلَقَّوُا الوحى من فم النبى مباشرة، والذين طبقوه عمليا فيما بعد" (المرجع السابق/ 122).
ومن الواضح الذى لا يحتاج إلى فضل بيان أن ذلك يتناقض تناقضا أبلق مع ما سماه : "الوضعية العامة أو الظرف العام للخطاب "، ومع ما شرح به تابعُه معنى هذا "الظرف العام للخطاب" مثلما رأينا قبل أسطر قلائل.
فماذا ينبغى أن نسمى هذا أيضا ؟
أما أنا فأسميه: "فرقعات خنفشارية". إنها قد تلقى الرعب فى قلوب العامة والصغار فيبصق الواحد منهم فى عُبّه وهو يبسمل لإزالة الخوف من قلبه، أما الذين ودَّكتهم الحياة فإنهم يبصقون، ولكن ليس فى عُبّهم !
هذا، ولم نغادر بَعْدُ "الظرف العام للخطاب"، الذى يحدده البروفيسير (على عادته فى المبالغات والفرقعات الخنفشارية التى تأخذ ذيلها فى أسنانها وتطلق ساقيها للريح عند أول عقبة) بأنه "مجمل الظروف التى جرى فى داخلها فعلٌ كلامىٌّ، سواء أكان مكتوبا أم شفهيا. ويخص ذلك فى آن معا المحيط الفيزيائى- المادى والاجتماعى الذى نُطِق فيه الكلام، كَمَا ويخصّ الصورة التى شكلها المستمعون عن الناطق لحظة تفوهه بالخطاب، ويخص هوية هؤلاء، والفكرة التى يشكّلها كل واحد منهم عن رأى الآخر فيه. كما ويخصّ الأحداث التى سبقت مباشرةً عملية التلفظ بالقول، وبخاصة العلاقات التى كان المخاطبون يتعاطَوْنها فيما بينهم، ثم بشكل أخصّ التبادلات التى اندرج فيها الخطاب المعنِىّ" (السابق/ 114).
يا ألطاف السماوات !
كل هذا يا دكتور أركون ؟
لقد سببتَ لى الدُّوَار يا رجل !
بالله عليك متى يمكننا أن ننتهى من فَهْمِ بَلْهَ شَرْحَ أىّ شىء فى القرآن إذا كان علينا أن نحيط بذلك كله قبل البدء فى عملية الفهم ؟ إن هذا أمر أخشى، لو بدأنا فيه، أن يأخذنا هبوطا إلى آدم، وصعودا إلى يوم القيامة. ذلك أن الدنيا متشابكة بعضها مع بعض على نحو لا يكاد يُتَصَوَّر !
ومع الفرقعات الخنفشارية نمضى خطوة أخرى لنرى إلامَ يأخذنا هذا التنطع الألسنى البِسْبِسَانى وعَمّ ينجلى فى نهاية
المطاف !
إن الرجل لا يكتفى بهذا على ما فيه من استحالة التطبيق، بل يشترط قراءة كل ما كُتِب فى تفسير سورة "الفاتحة" من تفاسير منذ بداية التفسير القرآنى حتى اليوم ثم التقفية بما يحتاجه ذلك من جرد وفرز. إلا أنه سرعان ما يحيص قائلا إن هذا العمل " لا يمكن أن يقوم به شخص واحد، وإنما فريق كامل من فرق البحوث ".
وبالمناسبة فما "الفاتحة" إلا مجرد مثال لأية سورة أخرى نريد تحليلها طبقًا لبروتوكوله الألسنى النقدى.
هل يمكنك، أيها القارئ الكريم، أن تبلع هذه المطواة ؟ (والمطواة: هى الفَشْرَة من فشرات أبى لمعة، وفى رواية أخرى: من فشرات أم لمعة، رضى الله عنهما).
إننا لو رُمْنا ذلك فلن ننتهى أبدا من تحليل القرآن كما هو واضح !
ثم فلنفترض أننا قد استطعناه، فمن ذا الذى يا ترى يمكنه الزعم بأنه سيكون التحليلَ المثالى الذى لا يخرّ الماء ؟ إن هذا أيضا بدوره مستحيل !
خلاصة الكلام أن البروفيسير قد انتهى إلى أنْ طامَنَ من غُلَوائه المتنطعة الفارغة وقنع من الغنيمة بالإياب فأخبرنا أنه سيكتفى بتفسير الرازى، الذى زعم أنه "قد جمع فى تفسيره أهم ما أنتجه الجهد التفسيرى خلال القرون الهجرية الستة الأولى السابقة له". لكنه ، ككل معّارٍ مُغْرَمٍ بالمطاوى (و"المطاوى" فى العامية المصرية هى الكلام الواسع الذى لا يصدقه ولا حتى صاحبه كما سبق القول)، قد عزَّ عليه أن ينهزم هكذا على الملإ أمام أول تجربة، بينما لا تزال ترن فى الآذان أصداء فرقعاته الألسنية المأمآنية، فأخذ يؤكد لنا أنه يزمع أن يقدم لتفسير الرازى طبعة محققة مصحوبة بقراءة تهدف للإجابة عما لا أدرى ماذا (السابق/ 135- 137).
وليس لدىّ من تعليق على هذا إلا قول الرسول الكريم الذى يبدو وكأنه قد قاله خصيصا فى هذا الوعد: "أَفْلَحَ إنْ صَدَق"!
ثم إنه بعد ذلك كله لم يرجع إلى الرازى إلا مرتين اثنتين لا غير نَقَلَ فى الأولى منهما ثلاثة أسطر ونصفا (ص 127)، وفى الثانية فقرةً لا تزيد على ثلاثة عشر سطرا (ص 139- 140)، ولشديد الأسى والأسف لم يحسن الاستفادة من أىٍّ من النصين.
وهكذا ينبغى أن تكون الفرقعات الخنفشارية، وإلا فلا !
كذلك فإن تفسير الرازى، الذى تغلب عليه الصبغة الفلسفية، هو مجرد لون واحد من التفاسير لا يغنى عن غيره ولا يغنى غيره عنه، فهناك التفسير بالمأثور والتفسير الاعتزالى والتفسير الصوفى والتفسير الخارجى والتفسير الشيعى والتفسير اللغوى والتفسير الفقهى والتفسير العلمى...وهلم جرا.
وحتى لو وافقْنا المؤلفَ على ما يقوله عن قيمة تفسير الرازى وأنه يغنى عن التفاسير السابقة عليه، فماذا نحن فاعلون فى التفاسير التى جاءت بعده ؟
وعلى أية حال فلو تحوَّلنا بعد ذلك كله لنرى ماذا أنجز الأستاذ الدكتور فى التحليل الفعلى لسورة "الفاتحة" من هذا كله راعَنا كثرة العناوين وتعمد الكاتب انتقاء الكلمات الضخمة التى تسبب الدوار للرأس دون أن يكون وراءها شىء بالمرة، أو على الأقل دون أن تقدِّم لنا ثمرة تستحق كل هذه الطنطنات والفرقعات.
كيف ذلك ؟
لنأخذ أولا العناوين، وسوف أوردها بالترتيب التى أتت به فى التحليل المذكور:
"اللحظة الألسنية أو اللغوية: عملية القول أو عملية النطق، المحدِّدات أو المعرِّفات، الضمائر فى سورة "الفاتحة"، الأفعال فى سورة "الفاتحة"، الأسماء أو التحويل إلى اسم فى سورة "الفاتحة"، البِنْيات النحوية فى سورة "الفاتحة"، النظم والإيقاع. العلاقة النقدية- الفاتحة كمنطوقة أو عبارة: اللحظة التاريخية، النسق اللغوى أو الشيفرة اللغوية، النسق الدينى أو الشيفرة الدينية، النسق الثقافى أو الشيفرة الثقافية، النسق التأويلى أو الباطنى، اللحظة الأنثربولوجية".
وهى، كما ترى، عناوين مخيفة تجعل قلب الواحد منا يسقط فى قدميه كما كنا نعتقد ونحن صغار، ثم ظننّا بعد أن
كبرنا ونضجنا واتسع أفقنا الثقافى أن سقوط القلب فى الرجلين أمر خرافى ومستحيل...إلى أن وقعتُ على هذا الكلام الذى يقوله الدكتور أركون فتبين لى أن ما كنا نقوله ونحن صغار هو أمر صحيح لا وهم فيه ولا تخريف، فها هو ذا قلبى قد سقط فعلا فى رجلىّ. والتجربة، كما يقولون، خير برهان. ومن لا يرد أن يصدّق فليأت ولْيَرَ بنفسه !
إلا أن المسألة لا تخلو مع هذا من الجانب الفكاهى، فهذه العناوين التى تخلع القلوب من أماكنها لا تساوى ثمن الحبر الذى كُتِبت به، إذ لا شىء وراءها، أو إذا كان وراءها شىء فإنه لا يستحق كل هذه الزيطة والزنبليطة.
أى لحظات تاريخية ؟ وأى بروتوكولات ؟ وأى شفرات ؟ أنحن داخلون حربا عالمية ؟
المهم : لننظر مثلا تحت عنوان "النظم والإيقاع"، وهو، كما ترى معى أيها القارئ، مما يمكن فهمه. فماذا نجد تحته ؟
لقد كتب المؤلف العبقرى تحت هذا العنوان أربعة عشر سطرا فى فقرتين : فأما فى الفقرة الأولى فقد أشار سيادته
(مجرد إشارة عابرة ع الماشى) إلى أهمية الدور الذى يلعبه التشديد والإيقاع والنغم والمدة وارتفاع الصوت والكثافة فى عملية القول والعلاقة بين علم النحو والنبرة، وأننا فى اللغة العربية، والنص القرآنى بالذات، نمتلك أدبياتٍ (يعنى بلغتنا نحن عباد الله المتواضعى العقل والفهم: كتاباتٍ) غنيةً وغزيرةً خاصةً بالنظم والإيقاع، ولا تزال تنتظر من يدرسها طبقا للمناهج الحديثة فى التحليل العلمى، وأنه "من غير الممكن (فى الحالة الراهنة) المخاطرة بتفسيرٍ مُرْضٍ لنصٍّ قصيٍر كـ"الفاتحة".
صحيح أن بروتوكول القراءة الشعائرية (يقصد الطريقة القديمة فى تفسير القرآن، وإن كان كلامه يوحى بأن المقصود هو قراءة القرآن على الجبّانات وفى المآتم، وإلا فما معنى مصطلح "الشعائرية" هنا بالله عليكم؟) وتقنين التجويد يقدمان لنا بعض التعليمات التى لم يُدْرَس تأويلها الصوتى والفونيمى والنظمى- الإيقاعى بشكل جاد حتى الآن" (بالمناسبة: الدكتور أركون دائما ما يقول عن أى شىء فى تراثنا إنه لم يُدْرَس بشكل جاد حتى الآن، أو لم يدرس أصلا لا بشكل جاد أو هازل. هذه شِنْشِنته على الدوام، وتحتاج إلى دراسة نفسية، لا ألسنية ولا شعائرية، ولا مارشات عسكرية، من التى تصاحب المراسم البروتوكولية، فى اللحظات التاريخية ! فقط دراسة نفسية. أكرر: "فقط دراسة نفسية"! ويا بخته أنه لم يتقدم به الزمن كم عِقْدًا من السنين أو تأخر الزمن بالشدياق كم عِقْدا، وإلا لكان الكاتب اللبنانى الذى لم يكن يعجبه هذا التنطع الفارغ قد وضعه على السَّفُّود كما فعل مع المستشرقين الذين قُدِّر له أن يعمل معهم فى أواسط القرن التاسع عشر فى ترجمة الكتاب المقدس ! ) .
لكن حين جد الجِدّ أخذ ذيله فى أسنانه وولَّى هاربا ولم يعقّب : يا أركون، أقبل ولا تخف، إنك من الآمنين!
لكنْ من يقرأ ومن يسمع فى مثل هذا الظرف العصيب ؟
وإليك كل ما قاله البروفيسير بعد هذه الطبول والزُّمُور المزعجة التى أصمَّت لنا الآذان وخلعتْ منا القلوب: قال لا فُضَّ فوه، ولا برئ من تباريح ألم الحقد شانئوه : "ولهذا السبب فإننا سنكتفى فقط بالتنبيه إلى الملاحظة البسيطة التالية، وهى وجود قافية "إيم" متناوبة مع قافية "إين" فى سورة "الفاتحة". أما فيما يخص الوحدات الصوتية الصغرى (الفونيمات) فإننا نلاحظ هيمنة الوحدات التالية: "ميم" 15 مرة، و"لام" 12 مرة، و"نون" 12 مرة، و"هاء" 5 مرات. نحن نعلم أن التفسير التقليدى يضفى قيمة رمزية على كل وحدة صوتية وعلى عدد التكرارات، وبالتالى
فإن الدراسة النظمية أو الإيقاعية للعلامات أو الكلمات ينبغى أن تتلوها الدراسة الرمزية، أو ينبغى أن تستطيل عن طريق الدراسة الرمزية" (ص 134).
أرأيت ؟
إن الرجل لم يقدم شيئا على الإطلاق رغم كل الوعود الجبارة التى لا أظن إلا أنه سينجزها يوما ما ، عندما تقوم القيامة بإذن الله، وتكون فى يد الواحد منا فسيلة فيغرسها طبقا لنصيحة الرسول عليه السلام ولا يتعلل بأن القيامة
ستقوم. فالدكتور أركون حين يُنْفَخ فى الصور وينادى المنادى: "يا دكتور أركون، ألم تنته بعد من إنجاز ما وعدتَ به قراءك فى كتابك عن القرآن ؟ سوف تقوم القيامة بعد خمس ثوان، بعد أربع، بعد ثلاث، بعد ثانيتين، بعد ثانية"،
الدكتور أركون عندما يسمع هذا التنبيه، وقبل أن يصل المنادى فى عدّه إلى كلمة "بعد ثانية" سيكون قد غرس البحوث والدراسات التى وعد بها، غَرَسَها فى الطين مع سائر الفسائل "لأنها دراساتٌ فَسْلة"، ولسوف تنبت إن شاء الله (ولكن فى العالم الآخر طبعا لأنه قد غرسها فى الوقت الحرج القاتل، أو كما يقولون فى لغة معلِّقى الكرة: فى الوقت الضائع) سوف تنبت أشجارا ضخمة وارفة الظلال مثقلة بالأثمار التى تتساقط فى أفواهنا ونحن نائمون تحتها نتمطى فى كسلٍ يليق بأهل الجنة التى يكذِّب بها الحداثيون والألسنيون والبروتوكوليون، فنمتلئ فى الحال من نعمة المعرفة الألسنية البروتوكولية، ونجد مادة للكلام والنقاش نقطع بها الوقت الطويل الذى نقضيه دون عمل، وندعو للدكتور أركون بأن "يزيده الله مما هو فيه" أنْ أَضْفَى على حياتنا هناك مسحة من الطرافة، إذ أعطانا الفرصة لكى نَرْكَب بتهكماتنا وسخرياتنا هذا الفكر البسبسانى المأمآنى، ونتسلى بما فيه من مأمآت ونَوْنَوَات مثلما كنا نفعل فى الدنيا ! وهل وراءنا حاجة ؟ الحمد لله، لا شغلة ولا مشغلة رغم ما يقوله بعض القاديانيين من أن حياة أهل الجنة لن تكون حياة سكون ودعة، بل حياة عمل وجهاد من أجل الارتقاء الروحى، تصورًا منهم أن قوله تعالى فى سورة "يس": "إن أصحاب الجنة اليوم فى شُغُلٍ فاكهون" معناه أنهم سيكونون دائما فى شغل وتعب وجهاد، مع أن الآية تحدد طبيعة هذا "الشغل" بأن المؤمنين سيكونون فيه فاكهين، لا عابسين ولا مرهقين ولا بَرِمين، وأنهم سيكونون مع زوجاتهم فى ظلال على الأرائك متكئين كما تقول الآية التى تلى ذلك ! فأل الله ولا فألكم يا أتباع غلام أحمد ! هل تريدون لنا وجع الدماغ من أول وجديد ؟ ألم يكفكم ما نقاسيه فى هذه الدنيا المزعجة حتى تضيفوا إليه إزعاجا آخر فى الجنة ؟ فأية جنة هذه يا ربى ؟
( انظر The Holy Quran, Edited by Malik Ghulam Farid, The London. Mosque, 1891, P. N. 2454, 952 )
وعَوْدًا إلى ما قاله د. أركون عن مبادئ البروتوكول التقليدى فى تفسير القرآن وما توجبه من الاستعانة بالنحو وعلم اللغة التاريخى والبلاغة والمنطق للوصول إلى معنى النص القرآنى، والفرق بينها وبين مبادئ بروتوكوله هو التى لا تعرف هذه الاستعانة ولا تبالى بها، نلفت نظر القارئ إلى أنه أمضى الصفحات التى خصصها لسورة "الفاتحة" فى الكلام عما تشتمل عليه السورة الكريمة من ضمائر وأسماء وأفعال وبنيات نحوية، محاولا الوصول إلى شىء من المعنى من وراء هذه الإحصاءات عبثا، ومتخبطا فى أثناء ذلك تخبطا لا يليق بمن يتصدى لتفسير كتاب الله العظيم حتى لو كان من طائفة البسبسانيين المأمآنيين !
فمثلا يرى سيادته بعلمه العبقرى أن السورة تحتوى على فعلين مضارعين (هما: "نعبد، ونستعين") أُسْنِدا إلى البشر (جماعة المؤمنين)، وفعلٍ واحدٍ ماضٍ مسند إلى الله (هو: "أنعمتَ")، وأن السبب فى هذا أن الفعل المضارع يدل على استمرار المحاولة وديمومة التوتر، فهو يناسب البشر، بخلاف الماضى الذى يدل على أن الأمر قد تم وانتهى الأمر ولا مرجوع عنه، وهو ما يناسب القدرة الإلهية (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 130- 131).
وهذا كلامٌ خديجٌ لا نضج فيه، إذ كثيرا ما تُسْنَد الأفعال المضارعة إلى الله، والماضية إلى البشر، والعبرة بالسياق والمعنى لا بصيغة الفعل كما فى الشواهد التالية، وكلها من القرآن الكريم ذاته: "الله يستهزئ بهم ويَمُدّهم فى طغيانهم يعمهون"، "قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارض ولا بِكْر"، "قد نرى تقلُّب وجهك فى السماء"، "والله يرزق من يشاء بغير حساب"، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، "الله ولىّ الذين آمنوا يُخْرِجهم من الظلمات إلى النور"، "قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء"، "يُوصِيكم الله فى أولادكم: للذَّكَر مثل حظ الأُنْثَيَيْن"، "فأولئك يتوب الله عليهم"، "يريد الله أن يخفف عنكم"، "أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم"، "ويستفتونك فى النساء. قل: الله يفتيكم فيهن"، "لكنِ اللهُ يشهد بما أنزل إليك"، "يَهْدِى به الله من اتَّبع رضوانه سُبُل السلام"، "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون"- "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم"، "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه"، "وقالت اليهود: يد الله مغلولة"، "فقد كذَّبوا بالحق لما جاءهم"، "انظر كيف كذَبوا على أنفسهم"، "وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهم الحياة الدنيا"، "وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْره"، "وجعلوا لله شركاءَ الجِنَّ"...إلخ إن كان لذلك من آخر.
لكنك، يا بروفيسير، لا بضاعة علمية لديك ذات قيمة. إنما هى الحذلقة والانتفاش بما تظن أنه عندك من العلم
الخطير العميق، وما هو بعميق ولا خطير.
ومما قاله سيادته أيضا فى تحليله للسورة إن أداة التعريف "أل" التى تكررت فى قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" تدل على أن "هذه التراكيب هى عبارة عن مفاهيم أو أصناف أشخاص محدَّدين بدقة من قِبَل المتكلم وقابلين للتحديد من قِبَل المخاطب عندما يصبح بدوره قائلا أو متكلما" (ص 127).
ويزيد تابعُه "..." الأمرَ بيانا فيعلّق فى الهامش قائلا إن "المقصود بذلك أن كلمة "المغضوب عليهم" أو "الضالين" تدل على أشخاص محدَّدين بدقة فى مكة، وكانوا معادين للرسالة الجديدة، ولذلك دُعُوا بـ"المغضوب عليهم"
و"الضالين".
ولكن القرآن لا يحدد أسماءهم، وإنما يترك الصياغة عامة شمولية تنطبق على أعداء هذا الدين فى كل زمان ومكان، مع أن المفسرين لا يذكرون أبدا أن المقصود أحد من أهل مكة ، فضلا عن أن يحددوا هذا "الأحد"، بل الموجود عادة فى كتب التفسير أنهم اليهود والنصارى ، وإن كنت أفهم الكلام فى الآية على أنه عام لا يختص بقوم دون غيرهم.
ولو كان القرآن يقصد أشخاصا بأعيانهم كما يزعم بروفيسيرنا لجاء تعبيره مختلفا مثلما هو الحال فى قوله تعالى: "عبس وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى"، "أفرأيتَ الذى تولَّى* وأَعْطَى قليلا وأَكْدَى ؟ * أعنده علم الغيب فهو يَرَى ؟ "، "ذَرْنِى ومن خلقتُ وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * ومهَّدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد "، حيث يدل السياق الحكائى والتعبير اللغوى على أن الكلام يدور على شخص بعينه وليس كلاما عاما.
أى أنه ليس فى أسباب النزول الخاصة بالسورة ولا فى طريقة التعبير فيها ما يمكن أن يفهم منه أن المقصود بـ"الضالين" و"المغضوب عليهم" أشخاص معينون من أهل مكة، وبخاصة أن "فاتحة الكتاب" هى النص القرآنى الوحيد الذى يجب الصلاة به، وفى كل ركعة منها لا فى واحدة وكفى، ولا تصحّ الصلاة من دونه، فلا يعقل أن يكون مدارها على شخص أو أشخاص بأعيانهم.
وهكذا ترَوْن، أيها القراء، كيف أن الرجل الذى يقلل من شأن النحو واللغة فى عملية التفسير القرآنى كما رأينا، لم يستطع أن يتجاهل فيما يسميه: "تحليل الخطاب القرآنى" اللغة ولا النحو، لكن دون أن يستطيع الاستفادة منهما للأسف.
ليس هذا فحسب، بل ثمة ارتباك واضطراب فى استعمال المصطلحات النحوية واضحان، وهو ما يؤكد ما قلناه مرارا عن قلة بضاعة البروفيسير من العلم بالموضوع الذى تصدى له رغم أنه هو الميدان الذى تخصص فيه وأصبح أستاذا.
وهذا كل ما يقدمه لنا الدكتور أركون من خلال ما يسميه: "تحليل الخطاب الدينى"، وهو لا يشفى غليلا ولا يزيد القارئ علما بشىء فى السورة، فلا رجوع لأسباب النزول ولا تعمق فى تحليل دلالات الاختيارات المعجمية أو الصيغ الصرفية أو التراكيب النحوية التى رُوعِيَتْ فى كلمات السورة وبناء جملها وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وذكر وتكرير وما إلى ذلك، ولا التفات لما تريد السورة أن تغرسه فى عقل المسلم وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم مما تعج به كتب التفسير، التى لا تعرف هذه البهلوانيات الألسنية الضحلة، ويعمل الأستاذ الدكتور عبثا على التقليل من شأنها.
إن ما نطالبه به هو من الأمور الصعبة التى تحتاج إلى صبر وجِدّ، ولا يصلح فيها التنفج الكاذب، ومن هنا ينصرف عنها النابتة الجديدة الذين يُسَمَّوْن بـ"الكتاب الحداثيين" ممن يقبلون بغَشْم على نصوص الأدب والقرآن فيعيثون فيها فسادا كما يفعل الثور الهائج حين يقتحم محلا لبيع تحف الخزف، فهو يدوسها بأظلافه وينطحها بقرونه لأنه لا يدرك قيمتها !
وهذا المتنطس الذى لا يعجبه المنهج الذى يتبعه المفسرون المسلمون والذى يستعينون فيه، ضمن ما يستعينون، بالنحو والصرف والبلاغة، يغرق فى شبر ماء أمام كلمة " أَمْ " الواردة فى الآية التاسعة من السورة الثانية التى يريد تحليلها على منهجه (أو "بروتوكوله" حسب تعبيره، وكأننا بصدد تشريفات ملكية)، وهى سورة "الكهف" فلا يجد إلا ما يقوله الجاهل ريجى بلاشير (الذى أعماه الله سبحانه فى أخريات حياته حتى يكون عَمَاه من العَمَى الحيسى ويجمع بين عمى البصيرة والبصر)، فيردده فرحا به كأنه وقع على كنزٍ شماتةً منه بالقرآن، وكان الأحرى به بدلا من هذا أن يشعر بالخجل لأنه دائم التنفج فى كتاباته بأن منهجه الجديد (الذى هو آخر صيحة فى عالم الأزياء التحليلية) يختلف عن منهج المستشرقين السابقين البالى. إلا أن الكيد للإسلام يستحق أن يلحس أركون كلامه وتنفجاته وينسى ما صدع رؤوسنا به فى كثير من كتاباته ويجرى وراء المستشرقين الذين كانوا لا يعجبونه مرددا كلامهم.
فماذا قال بلاشير وردده وراءه أركون دون أن يتمعن فيه ؟
قال بلاشير إن "أَمْ" هذه لا تستعمل إلا للتناوب أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنها فى آيتنا هذه لا يسبقها شىء يمكن أن يشكّل الطرف الآخر فى عملية التناوب، ومن ثم فإن الآيات قد تعرضت لعملية تلاعب، وهذا التلاعب يدل عليه غياب الطرف الآخر للتناوب (ص 148).
يقصد أن "أم" فى قولنا مثلا: " أتأكل تفاحا أم كمثرى ؟ " هى للمناوبة بين هاتين الفاكهتين اللتين ينبغى أن تختار واحدة منهما فقط.
لكن فات بلاشير ومقلده أن " أم " لا تنحصر فى هذه الوظيفة، بل لها عدة وظائف: ففى قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتَهم أم لم تُنْذِرهم: لا يؤمنون" نراها تدل على أنه لا فائدة فى هذا أو ذاك، فالنتيجة واحدة فى الحالتين. أما فى قولنا: " أزيد عندك أم عمرو ؟ " فتدل على الرغبة فى تحديد الموجود من الشخصين. وتسمى "أم" فى هذين التركيبين: "أم المتصلة"، لأنها متصلة بما قبلها، وهذا ما ظن بلاشير ومقلده أنه كل مهمتها.
لكنهما قد فاتهما (أو بالأحرى: "فات بلاشير وحده" لأن أركون هنا إنما هو مجرد مردِّد لما قاله بلاشير دون تمعن، فينبغى ألا يُحْسَب له حساب) فات بلاشير أن هناك "أم" أخرى هى "أم المنقطعة" التى ليس للاسم الذى بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلاما جديدا كما هو الحال فى الآية محور الكلام، ونصها: "أم حَسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقِيم كانوا من آياتنا عَجَبا ؟ " ، والتى يقول المفسرون إن معناها هنا "بل أ ... ؟ "، وإن كانت تأتى أحيانا بمعنى "بل" فقط دون همزة كما فى قوله تعالى: "فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ؟ " (النساء/109).
وأنا أضيف حالتين أُخْرَيَيْن: أولاهما تأتى فيها "أم" للمناوبة بين طرفين، لكن الطرف الأول لا يُذْكَر، بل يُفْهَم ضمنيا من الكلام السابق، كما فى قول أحدنا مثلا: "رأيى أن تأخذ فلانا باللين والهوادة وأن تصبر عليه طويلا، ولسوف يَصْلُح حاله بهذا الأسلوب إن شاء الله. أم لك رأى آخر ؟ ". والمعنى: "أتوافقنى على رأيى هذا أم إن لك رأيا آخر ؟ "، إلا أن عبارة "أتوافقنى على رأيى هذا " ليست مذكورة فى الكلام كما هو واضح، بل تُفْهَم فهمًا من السياق.
والأخرى بمعنى : " أَتُراك ... ؟ " ، وهذا المعنى الأخير لا يكون إلا فى بعض حالاتِ مجيئها منقطعة، وأنا أفهم الآية على هذا المعنى .
ومع ذلك كله لقد كان ينبغى على بلاشير ومقلده ألاّ يُطَنْطِنا بهذا الذى طَنْطَنَا به، فالنبى الذى جاء بالقرآن (أو "اخترعه" كما يقول من لا يؤمنون بنبوته عليه السلام) عربى، ومن ثم فإن ما يقوله هو الصواب لا ما يُرْجِف به هؤلاء الأعاجم.
وحتى لو قلنا إن المسلمين قد غيَّروا فى القرآن من بعده صلى الله عليه وسلم، فالذين غيروا فيه هم أيضا عرب، ومن ثم فما يقولونه هو الصواب.
أليس هذا ما يمليه المنطق ؟
لكن القوم، حين يتعلق الأمر بالإسلام والقرآن، لا يهتمون بمنطق ولا عقل، بل تشغلهم أحقادهم وتُذْهِلهم عن كل شىء !
وهذا الاستعمال قد تكرر فى القرآن كثيرا جدا بحيث لا يمكن، مهما تسامحنا مع الببغاوات، أن نظن أنه خطأ فى كل هذه المواضع ! اللهم إلا أن يكون العرب والمسلمون من الجهل والبلادة فى لغتهم بدرجة ليس لها نظير فى التاريخ !
وقد رجعتُ إلى كتاب النحو الذى وضعه بلاشير (بمشاركة جودفروا ديمومبين) لطلاب الاستشراق فوجدتهما لا يذكران من "أم" إلا المتصلة، وهى التى سبقتها همزة، سواء كاتت همزة استفهام أو همزة تسوية، كما فى المثالين اللذين ضربتهما قبل قليل (Grammaire de L Arabe Classique, Maisonneuve et Larose, Paris, 1966, PP. 218, 469 ) , فهذه كل بضاعة النحو عند هذا المستشرق، وذلك هو السر فى الخبط الجاهل الذى تناول به الآية وزعم أنه قد سقط قبلها كلامٌ جرّاءَ العَبَث الذى وقع فى القرآن بعد وفاة النبى عليه السلام.
وعلى أية حال هأنذا أورد العينة التالية من الشواهد القرآنبة على ذلك الاستعمال لمن يريد أن يطمئن على هذا الذى نقول:
"أم حسِبْتم أن تدخلوا الجنة ولـَمّا يأتكم مَثَلُ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم؟" (البقرة/ 214، ومثلها كل الآيات التى تبتدئ بعبارة "أم حسبـ(ـتَ/ تم))")، "أم يقولون: افتراه؟" (يونس/ 38، وهود/ 35 مرتين، والسجدة/ 3، والأحقاف/ 8)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأَصْفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16)، "ما لكم؟ كيف تحكمون ؟ * أم لكم كتاب فيه تَدْرُسون ؟ " (القلم/ 37). ومن يُرِدْ شواهد أخرى من القرآن فبمكنته أن يراجع المواضع التالية: البقرة/ 133، والنساء/ 53، والرعد/ 33، والأنبياء/ 21، 24، 43، والنمل/ 20، وفاطر/ 40، والصافات/ 156، وص/ 9، والزمر/ 43، والشورى/ 9، 21، 24، والأحقاف/ 4، ومحمد/ 29، والطور/ 30، والملك/ 20، والقلم/37.
ومثلُ "لم" فى هذا استخدامُ القرآن للظرف "إذ" فى أول الكثير من قصصه دون أن يسبقه كلام، وهو ما لا أذكر أنى رأيته خارج القرآن شعرًا أو نثرا.وهذه الـ"إذ" يقابلها قولنا حين نريد أن نحكى لأحدٍ حكاية: "كان يا ما كان" أو "يحكى أن" أو "حدث ذات مرة" أو ما إلى ذلك. ويقول المفسرون بأن معناها: "اذكر"، وهو معنى لا يذهب بعيدا عما قلناه.
فهل يصح أن يأتى من يتحامق قائلا إن هذا استعمال خاطئ، وإنه يدل على أنه كان ههنا كلام، ثم حُذِف ؟
لكن أين ذهب ؟ ألعله أكلته القطة ؟
كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم فى رأى رواة حكايتهم : "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص" كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148).
ثم يضيف الدرويش فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء".
يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة !
ترى هل من المنهج العلمى أن يطير الباحث مع أوهامه دون أن يراجع نفسه لعله قد أخطأ أو تسرَّع أو سَهَا أو فاتته أشياء يجهلها ؟
لماذا كلما كان الأمر ينصبّ فى ناحية الإساءة للقرآن والتشكيك فيه نرى أستاذك يفقد حذره ووسوساته التى يفلقنا بها دائما عندما تكون الوقائع كلها فى صف النص القرآنى ؟
فمثلا معروف بين العالمين جميعا أن حرص المسلمين على قراءة القرآن فى الصلاة وخارج الصلاة يتعبدون به ويتقربون إلى الله منذ بداية نزوله حتى الآن كان له دور عظيم فى الحفاظ على النص القرآنى فى الذاكرة المسلمة، والدكتور محمد أركون لا يمارى فى ذلك، إذ يقول: "إن الاستخدام الطقسى أو الشعائرى للنص القرآنى ساهم بالتأكيد وبشكل مبكر فى تثبيته" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 155/ هـ1).
ويحسب القارئ المسكين أنه لا خلاف إذن بينه وبين الكاتب، بيد أن البروفيسير لا يعطيه فرصة للاستمتاع بهذا الوهم، إذ سرعان ما يسدد ضربة غير قانونية إلى فكه قائلا: "لكن لهذا الاستخدام بالذات تاريخ لا نعرفه، بمعنى أننا لا نعرف متى بدأ المسلمون يستخدمون النص القرآنى كنص عبادى فى الصلوات والطقوس، ولا كيف تطور ذلك على مدار التاريخ " (نفس المرجع والصفحة والهامش).
ترى هل يُعْقَل أن أركون يجهل منذ متى شرع المسلمون فى قراءة القرآن فى صلواتهم وعبادتهم ؟
إن قراءة القرآن هى فى حد ذاتها عبادة وقربى إلى الله، وهو ما يعنى، لهذا السبب على الأقل، أنها قد بدأت منذ اللحظة الأولى لنزوله.
لكن الدكتور أركون لا يستطيع إلا أن يكون تلميذا وفيًّا لذلك الصنف من المستشرقين الذين لا يتركون أى شىء فى الإسلام إلا ويشككون فيه: هكذا "لله فى لله".
ولنعد الآن لما كنا بسبيله، ولسوف أطرح عليه وعلى من ينقاد لهم دون تبصر أو تفكير عدة أسئلة لعلهم يحاولون الإجابة عليها فتتضح لهم على ضوء هذه المحاولة حقيقة الأمر، وإن كنت أشك فى ذلك كثيرا:
هل يظن المستشرقون أن من حقهم، وهم الأعاجم، وبعد كل هذه القرون المتطاولة، أن يخطِّئوا أسلوب القرآن حتى لو قلنا معهم إن صاحبه هو محمدبن عبد الله ؟!
أليس ما يقوله محمد هو الصواب الذى يُحْتَجّ به لا الخطأ الذى يُسْتَدْرَك على صاحبه ؟
إن محمدا لا يختلف فى هذه الحالة عن أى شاعر أو خطيب جاهلى، فضلا عن أى أعرابى ممن كان العلماء يسعَوْن إلى البادية للالتقاء بهم وأخذ اللغة عنهم، فلماذا هو من دون العرب جميعا الذى ينبغى أن يكون مخطئا ؟
الأن هذا التركيب وأمثاله لم ترد فى كتب النحو التى تُدْرَس فى المدارس ؟
لكن متى كانت هذه الكتب تستوعب كل إمكانات اللغة العربية فى الجاهلية قبل أن تُقَنَّن القواعد على النحو الذى نعرفه فى كتب النحو والصرف الخاصة بتلاميذ المدارس ؟
إن القرآن نفسه رغم كونه المثال الأعلى فى الفصاحة العربية لا يستوعب هذه الإمكانات، فكيف يفكر أحد فى محاكمته إلى كتب الطلاب الصغار الذين أُريد الابتعاد بهم عن كل ما يخرج عن القوالب البسيطة المباشرة ولا يعرفون من هذه الإمكانات إلا أقل القليل ؟
إن هذا لأشبه بمن يريد نَطْل البحر بكستبان إبرة !
على أن ليس معنى كلامى هذا أننى أغضّ الطرف على التشكيك فى مصدر القرآن الإلهى، بل كل ما أريد قوله أن الحجة التى يستند إليها من يقصد التشكيك فى هذا المصدر هى حجة داحضة لا تثبت على محكّ النقد على الإطلاق، ومن ثم فالاستناد إليها للتشكيك فى إلاهية المصدر القرآنى استناد إلى حائط مائل كما نقول فى مصر.
أما إيمان أمثال هؤلاء أو كفرهم فلا يعنينى، فلست موكلا بالقلوب أهديها. إنما أنا واحد من أهل العلم مقتنع بأن هذا القرآن هو من عند الله، ولهذا أرى أنه لا بد من وقف هذه الهجمات الجَراديّة الحمقاء، بالمنطق طبعا والحجة والتدقيق فى الكلام والاستشهاد بالنصوص على الوجه المستقيم...إلخ.
ولقد غَبَرَ علىّ زمان كنت أسارع فيه إلى تخطئة أىّ أسلوب لا يجرى على القواعد كما درسناها فى المدارس، وإلى الاعتراض على أية كلمة لا أجدها فى المعجم الصغير الذى لم أكن أملك غيره فى شبابى الأول. لكنى كلما كَبِرْتُ واسْتَحْصَدَتْ معارفى واتسع أفقى اللغوى تبين لى أن الأمور ليست كما كنت أظن، وأن اللغة بحرٌ هدّارٌ لا يستطيع السباحة فيه كل من هب ودب، وإلا فعلينا أن نخطّئ معظم الشعراء العرب الأقدمين، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يجرون دائما على قواعد النحو والصرف كما ندرسها فى المدارس، وهو ما لا يقول به أى عاقل، بل الحاقدون الموتورون وحدهم !
وفى الكتب التى تُعْنَى بالصحة اللغوية كثير من الأقاويل التى شاعت وذاعت على غير أساس، ومع هذا يرددها الخلف عن السلف كأنها "قرآن منزل" (أكاد أضحك الآن على هذا التشبيه بعد أن ظهر لنا أمثال بلاشير وأركون وجماعات المبشرين الذين يتطاولون على القرآن ويخطّئونه ).
لنأخذ مثلا تأكيدهم أن تكرار كلمةِ " بين " مع اسمين ظاهرين خطأ، فلا يصح أن نقول: "بين عمر وبين أحمد" بل لا بد أن نقول: "بين عمر وأحمد"، بخلاف ما لو كان أحد طرفَىِ البينيّة أو كلاهما ضميرا مثل: "بين محمد وبينى" أو "بينى وبينه"، مع أن العبد لله قد استطاع أن يضع يده قبل عدة أعوام على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى لتكرار "بين" مع اسمين ظاهرين أوردتُها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية" فى آخر الفصل الخاص بكتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموى، غير ماعثرت عليه بعد ذلك.
كما ثارت بينى وبين زميل لى أحبه وأقدر علمه مناقشةٌ منذ وقت ليس بالبعيد حول مدى الصحة فى مجىء فعلِ" كلما" أو جوابِها مضارعا، وأردت أن أتثبت بنفسى من صواب رأى من يرفضون هذا ويلحّون على أنه لا بد أن يكون فعل هذه الأداة وجوابها كلاهما ماضيا، فإذا بى أجد نحو اثنى عشر شاهدا من الشعر القديم يستعمل فيها أصحابها فعلَ "كلما" وجوابَها مضارعا، وفى الحال تراجع الزميل الكريم عن موقفه الذى كنت فى البداية أكثر ميلا إليه تبعا لما كننت أسمع من تخطئة من يخالفونه.
ومثل ذلك ما كنت قد قرأته فى مطلع شبابى عند بنت الشاطئ من أنه لا يصح أن نقول: "قد لا يأتى محمد"، بإدخال "لا" على "قد"، بل لا بد من استعمال "ربما" بدلا من "قد" فى حالة النفى، وإبقاء "قد" للإثبات فقط. ثم تبين لى فيما بعد أن من العرب القدماء من كان يجمع بين "لا" و"قد".
إن السبب فى هذه المسارعة إلى التخطئة هو الظن بأننا قد أحطنا باللغة خُبْرا، على حين أن معرفتنا بها ليست بهذه الإحاطة التى يتصورها بعضنا، وقد كنت أنا من هؤلاء البعض يوما. أما الآن، وبعد انتشار الموسوعات والمعاجم الألكترونية، فقد أصبح من السهل علينا أن نعرف فى ثوانٍ قلائل ما كان أجدادنا ينفقون فى تحصيله الشهور، وربما السنين أيضا، وإن لم ينقص هذا من قدرهم، فقد كانوا عباقرة رغم ذلك !
هل هذا كل شىء ؟
لا، فما زلنا فى بداية الكلام، فالصَّبْرَ الصَّبْرَ أيها القارئ لترى بنفسك السخف الشيطانى الصبيانى الذى يتعامل به أعداء القرآن مع هذا الكتاب العظيم يظنون أنهم قادرون على أن يطفئوا نور الشمس بنَفَسٍ من أنفاسهم الواهنة المنتنة.
معروف أن اللغة العربية، بسبب من إعرابها الذى يحاربه هذه الأيام بعض من يكرهونها ولا يستطيعون أن يرَوْا بهاء محاسنها للرَّمَد الذى فى عيونهم، يعطيها مرونة عالية فى تركيب العبارة، إذ مهما قدّمنا أو أخرنا أو حذفنا فإن الإعراب يُسَهِّل التعرف على وظيفة الكلمة رغم ذلك فى معظم الأحيان، وهو ما لا يتوفر للّغات الأخرى بوجه عام.
إن بلاشير، وأركون من ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى.
لكن هذا، وإن كان هو ما يعرف التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر الجمعُ اشتهار الإفراد.
وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء مثلما سبق أن شرحنا.
إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه، ولا يمكن أن يقال فى حق أية لغة أخرى فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله !
وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةِ سنين، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاثَ مئاتٍ من السنين، ثلاثَ مئين من السنين، مئين ثلاثًا من السنين، مئاتٍ ثلاثًا من السنين، ثلاثًا من مئات السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية.
وأحب أن أقف عند التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون.
فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً.
إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة ! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة.
ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا : "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية : "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا.
ومرة أخرى : هل هذا كل شىء ؟
والجواب : كلا، فما زال هناك ما يقال مما يمكن أن يتعلم منه المستشرقون وصبيانهم لا لأنى أذكى منهم أو أكثر علما، وإن كان هذا جائزا، فلست بالذى يعمل فى هذا المقام على أن يبخس نفسه حقها، ولكن لأنى أبذل كل ما لدىّ من جهد رغم أنى فى الظروف التى أنا فيها الآن لا أملك من المراجع ولا أدوات البحث ما يجده هؤلاء تحت أيديهم، فضلا عما أُحِسُّه فى أعماق ضميرى من الرغبة الحارقة المخلصة للوصول إلى برد اليقين.
وعلى هذا فقد أخذت أنقّب بحثًا عن شواهد من خارج القرآن توضح ما أقول، لا لأنى أرى أن القرآن يحتاج لما يعضده (فقد شرحت كيف أن القرآن، حتى لو قلنا إن محمدا هو مؤلفه...إلخ، لا يمكن أن يكون محل شك عند من له مُسْكة من عقل)، بل لمزيد من التوضيح ونزولا إلى مستوى من نناقشهم. فقد قرأنا مثلا أن والدة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لم تكن تطمئن إلى ما يفتيها به، إذ كانت رغم كل شىء تنظر إليه على أنه ابنها لا ذلك العالم العملاق، فكانت تقصد أحد تلاميذه ممن تظن أن عنده من العلم ما ليس عند ابنها، وكان هذا يحرج التلميذ إحراجا شديدا. وهو نفسه ما يقاسيه بعضنا عندما يسألنا أحد أولادنا فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية مثلا عن شىء فى تخصصنا فنجيبه بما لم يسمع به فى المدرسة، فينظر إلينا فى تشكك ويأبى أن يقتنع ظنًّا منه أن الكتاب المدرسى والمدرس الذى يدخل عليهم الفصل فيقومون قياما على أمشاط أرجلهم وهم صامتون لدرجة أنك لو رميت الإبرة لَرَنَّتْ لا يمكن أن يخطئا، بل المخطئ هو بابا الذى يراه فى مباذله فى البيت أمامه ليلا ونهارا، ولا يوجب له نظامُ المنزل أن ينتصب له عند دخوله عليه واقفا أو يصمت فلا يتكلم.
وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل :
فكان فيها ما أتاك وفى .. .. .. .. .. تسعين أسرى مقرنين وصفد
وقول عمرو بن كلثوم:
رددت على عمرو بن قيس قلادة .. .. .. .. .. ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب
وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:
إذا عاش الفتى مائتين عامًا .. .. .. .. .. فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ
وقول السيد الحِمْيَرى:
ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا .. .. .. .. .. عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا
وقول أبان اللاحقى:
يُجْرِى على أولاده خمسةً .. .. .. .. .. أرغفةً كالريش طيارة
وقول ابن المعتز:
وأجّلونى خمسةً أياما .. .. .. .. .. وطوّقونى مثلكم إنعاما
وقول أبى العلاء المعرى:
يدٌ بخمس مئين عسجدًا وُدِيَتْ .. .. .. .. .. ما بالها قُطِعَتْ فى ربع دينارَ؟
وقول ابن أبى الحديد:
عام ثلاث ثم أربعينا .. .. .. .. .. من بعد ستمائةٍ سنينا
وقول إبراهيم الحضرمى:
وخمس مثين بعد خمسين درهما
وقول أحمد بن مأمون البلغشى:
من عام خمسة وأربعينا .. .. .. .. .. بعد ثلاث عشرةٍ مئينا
وقول أحمد بن على بن مشرف:
إلى ثلاثمائةٍ سنينا .. .. .. .. .. يخادعون الله والذينا
ومضِيًّا فى سياستى فى النزول على شرط الخصم وعقليته أُضِيفُ، إلى ما سبق، الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس". وقد يبدو ذلك غريبا، فلهذا أكرر هنا ما قلته من قبل من أننى أربأ بالقرآن أن يكون أى شىء آخر حاكما عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصوم سخفاء لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتاب نصرانى كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه.
جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18).
والآن ماذا يا ترى يمكن أن يقول د. أركون ؟ أيرى أنه يتبع فعلا منهجا علميا صارما ومتقشفا كما يلحّ ويكرر دون أن يمل حتى مللنا مللا شديدا من هذا التنفج الكاذب ؟
إن الرجل لا يكلف نفسه أن يتعب قليلا للتثبت مما يرمينا به من كل مصيبة علمية وأختها. إنه ما إن يقع على أى شىء يحسب أن فيه إساءة للإسلام حتى يطير به فرحا، ولا أحب أن أصادر حقه فى هذا الفرح، فكل إنسان وما اختار لنفسه، لكنى أحب أن أُسِرّ إليه بنصيحة لعلها تنفعه إن أراد أن ينتصح وينتفع: ألا وهى التثبت مما يقول،ثم فليؤمن بعد ذلك بالقرآن ومحمد عليه السلام أو لا يؤمن، فهذه مسؤوليته هو.
والذى أغضبنى هنا ليس أنه لا يؤمن بإلاهية المصدر القرآنى، بل عدوانه الأثيم على الحقيقة العلمية دون أن يطرف له جفن !
على أن د. أركون لا يقف عند هذه النقطة، بل يضيف شيئا آخر يظن أنه يستطيع به أن يسىء إلى النص القرآنى، وهو الابتهاج بما صنعه بلاشير بالآيات من 9 إلى 25، إذ زعم هذا الـ"بلاشير" أن السورة قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف أن الآيات المذكورة ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها، بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتين 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16 عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحد أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها ( Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, PP. 318-319, 1957 )
وهذه النسخة التى معى الآن من تلك الترجمة كانت تخص المستشرق البريطانى هاملتون جب، ثم انتقلت ملكيتها إلىّ فى يوليه 1982م. وقد وصلتنى اليوم صورة من صفحاتها التى تحتوى على نص ترجمة سورة "الكهف". ويجد القارئ كلام أركون فى ص 148 من كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى").
من الذى أفتى لبلاشير بهذا ؟
لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف الاستشراقى الأثيم !
وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أولم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له ؟
لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ التعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى. ومن هنا أراد بلاشير أن يكون هو "الفأر الزردوق" الذى يعلّق الجُلْجُل فى رقبة القط ويحصل له الشرف، شرف الإساءة إلى العلم والحق، بل إلى الشرف نفسه !
هذه هى حقيقة المسألة، ولا شىء غير ذلك، وما كل هذه الطنطنات الأركونية إلا ألاعيب صغيرة لا تنطلى على من يعرف هذه الأساليب الاستشراقية الخبيثة !
إن هذا الصنف من المستشرقين ليس له من عمل إلا التشكيك فى كل ما يتعلق بالإسلام والقرآن، حتى إنهم ليشككون مثلا فى نسب الرسول عليه السلام زاعمين أن "عبد الله" ليس أباه، بل هو مجرد اسم معناه : "إنسان" على اعتبار أن كل إنسان هو "عبد الله"، أى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أب معروف، فلذلك قيل إنه ابن عبد من عباد الله، بما يعنى أنه "ابن رجل"، والسلام. أما مَنْ هذا الرجل ؟ فلا أحد يعرف !
تالله إن من يقول هذا عن رسول الله إنما هو " مَرَة مِنْ ظَهْر مَرَة " !
(مع احترامى الشديد للجنس اللطيف الذى لايمكن أن يدور فى بالى الإساءة إليه بحال، بل هو مجرد تعبير مجازى مغروس فى "المخيال" الشعبى أستعين به لغرض فنى ولإتاحة الفرصة لنفسى كى أتفيهق أنا أيضا، ولو مرةً فى العمر، بكلمة "مخيال").
ومن هذا الوادى أيضا قول مستشرق آخر إن خطبة الجمعة كانت بعد ركعتَىِ الصلاة كما هو الحال فى صلاة العيدين، ثم أصبحتْ فى العصر الأموى قبلهما.
ومنه كذلك زَعْمُ ثالثٍ أن عبد الملك بن مروان قد بنى قبة الصخرة كى يستعيض بها الحجاج الأمويون عن الحج، الذى يستلزم الذهاب إلى الحجاز حيث يبسط ابن الزبير نفوذه، ومن ثم يمكنه أن يؤثر فى ولاء حجاج الشام إذا ذهبوا إلى هناك.
ومنه زَعْم هذا الأعمى البصر والبصيرة، متابعةً منه لكايتانى، أن "سدرة المنتهى" ليست شجرة سماوية، بل شجرة فى أطراف مكة، وأن "جنة المأوى" دارةٌ (فيللا) هناك.
ألا ما أعجب هذا العلم الخارج من أستاه المستشرقين !
هل من المعقول أن أى مستشرق تنبض فى استه فكرة ما تنغّص عليه توازنه وراحة باله لا يجد لها من حل إلا الافتراء على القرآن والزعم بأن هذه الآية أو تلك كان مكانها هناك، لكنها نُقِلت إلى هنا ؟
وبالمناسبة فإن ما يقوله بلاشير، ويردده خلفه أركون، ليس له أى أساس من الصحة، لكنها السخافة الاستشراقية التى يدَّعى أركون أن منهجه يتخطاها، ثم يتضح أنه ليس إلا تقليدا لها !
وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة الاستشراقية :
"أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1)
"نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن ؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2).
والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة ؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين ؟
ومع ذلك فإن أركون يبتهج به ويشمت رافعا ذيله تيهًا وعُجْبًا !
إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا !
وبالنسبة للقصص الثلاث التى تحتوى عليها سورة "الكهف" يقول أركون إنها "مغروسة عميقا فى الذاكرة الجماعية العتيقة للشرق الأوسط" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 151)، ومعنى هذا، مرة أخرى، أن القرآن ليس إلا النتاج المخيالى للبيئة التى ظهر فيها على عكس ما يتوهم المفسرون التقليديون الذين يرى سيادته أن منهجهم لا يصلح لتناول القرآن (ص153، 154- 155، 162).
وهذا تدليس علمى على أخيب طراز.
لماذا ؟
لأن القرآن لم يورد هذه القصص الثلاث ابتداءً، بل أوردها ردًّا على التحدى الذى وجهه كفار قريش إلى الرسول بناءً على تحريض من أحبار اليهود، الذين قالوا لهم إن بإمكانهم أن يحرجوه بسؤاله عن أبطالها، على اعتبار أنه لن يعرف كيف يجيب على هذا التحدى، إذ لا علم له بهذه القصص الثلاث.
فما معنى هذا ؟
معناه أن أحبار اليهود كانوا متأكدين أن محمدا ليس عنده أى علم بهؤلاء الأشخاص، وأن قريشا نفسها لم تكن على علم بهم، وإلا لقالوا لليهود إن ذلك من تراثنا، ومن ثم فسوف يكون بمستطاع محمد الإجابة على السؤال فلا يحصل المراد من التحدى، ألا وهو تكذيبه فى قوله إنه يتلقى الوحى من السماء. أليس هذا هو ما يُفْهَم بكل جلاء من التحدى ؟
ثم ينبغى ألا يفوتنا أن الوفد القرشى الذى ذهب إلى يثرب لمقابلة أحبار اليهود فى هذا الشأن كان مكونا من النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، أو على الأقل كان النضر وعقبة على رأسه، وهذا موجود فى النص الذى نقله د. أركون عن الطبرى (ص157). ونحن نعرف أن النضر كان يتهم الرسول بأنه إنما يقص فى قرآنه أساطير الأولين، وعلى هذا فإن النضر لا بد أن يكون حريصا على ألا تكون الأسئلة التى يعود بها من يثرب هى من أساطير الأولين التى يمكن أن تطولها يد محمد.
أما قول أركون إن هذه الحكايات الثلاث كانت مغروسة بعمق فى الذاكرة الجماعية العتيقة لشعوب الشرق الأوسط، فهو كلام فارغٌ أفرغُ من فؤاد أم موسى !
لو كان ما يزعمه أركون صحيحا ما فكر أحبار اليهود الخبثاء أن يحرّضوا قريشا على تحدى الرسول بهذا السؤال، فالإنسان لا يقدم على مثل هذا التحدى الخطير إلا وهو موقن أن الخصم لن ينجح فى الجواب. أليس ذلك كذلك يا بروفيسير ؟
وهب أن هذه النقطة قد فاتت اليهود، وهم أخبث أهل الأرض فلا يمكن أن تفوتهم، أفكانت تفوت مشركى قريش ؟
وعندنا أيضا الشعر الجاهلى، وهو يخلو من الإشارة إلى أى من الحكايات الثلاث.
ثم كيف نفسر تحير المفسرين فى شرح معنى "الرقيم"، وفى تحديد مكان الكهف، وفى معرفة الشخصية الحقيقية للعبد الصالح بل لموسى نفسه، وفى التعرف على مواضع البلاد التى بلغها ذو القرنين والأقوام الذين قابلهم... إلخ ؟
كل هذا يجعلنا نلقى بنظرية "المخيال الجماعى" أو "الذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوسط" فى القُمَامة، وضمائرنا مطمئنة.
على أن د. أركون، عندما يدَّعِى أن محمدا قد استمد هذه القصص الثلاث من تراث البيئة التى ينتمى إليها، إنما يردد هنا أيضا مايقوله المستشرقون، الذين لا يكفّ أبدا عن التنفج بأن منهجه يتجاوز مناهجهم ويصل إلى نتائج لا يستطيعون أن يتوصلوا إليها بهذه المناهج. فهذا هو كاتب مادة "Ashab al-Kahf: أصحاب الكهف"، فى الطبعة الثانية من "Encyclopaedia of Islam"، يقول إن "محمدا قد ألمَّ بهذه الحكاية وكثير غيرها من الحكايات ذات الأصول اليهودية والنصرانية، ثم تمثَّلها واتخذ منها فى القرآن أداة للتربية الأخلاقية".