المنهج التاريخي في نزول القرآن الكريم..لعمران نزال

إنضم
25 أبريل 2010
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مكـة المكرمة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً، الحمد الله الذي جمع القرآن وأبانه، وجعله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على النبي الأمين، المرسل إلى الناس كافة شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وبعد:
فإن بعض الكتاب والقراء ينظرون إلى المباحث التاريخية حول القرآن الكريم بعين الريبة والشك، ويقررون بأنفسهم دواعي هذا العلم، ولا ينظرون بما كتب حوله من كتب مهمة في التراث الإسلامي ، وبالأخص في كتب التفسير وكتب علوم القرآن ، وما كتب عنه حديثاً، وقد ذكرنا بعضه في كتاب «علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره» ().، والوحدة التاريخية للسور القرآنية «تفسير سورة الأحزاب نموذجا».
فقد بينا في كتاب « علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره « أن هذا العلم مبني على الاستدلال بالنص الصريح من بعض آيات القرآن الكريم، والتي بينت طريقة نزول القرآن الكريم مفرقاً في مدة زمنية طويلة، متزامنة مع تاريخ البعثة المحمدية من أولها إلى آخرها، وقد بينا أن تأويلنا لهذه الآيات اعتمد على كتب التفسير والتأويل وكتب علوم القرآن والسنة والسنن والسيرة النبوية وغيرها، دون خلاف على تفسيرها فيما نعلم.
فقد أخبرنا الله تعالى في سورة الفرقان المكية عن اعتراض الذين كفروا على عدم نزول القرآن جملة واحدة فقال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)).
وقلنا : إن في هذه الآيات الكريمة تسجيل لاعتراض الذين كفروا أولاً، وفيها جواب على المعترضين ثانياً، وإن في الجواب إقرار وبيان للطريقة التي كان ينزل بها القرآن الكريم مفرقاً ثالثاً، وإن في الجواب تعليل لهذه الطريقة التي كان ينزل بها القرآن الكريم وهو التثبيت رابعاً.
وما نلفت الأنظار إليه هو الاهتمام في بيان أوجه تعليل نزول القرآن الكريم مفرقاً، إذ في التعليل نص على مقصد التثبيت أولاً ، وأن نزوله كان مرتلاً ترتيلاً ثانياً، أي مرتباً ومتتابعاً، وتنزيلاً بعد تنزيل وليس في نزول واحد، وهذا مستفاد أيضاً من قوله تعالى : (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32))، أي رتبناه منتظماً نزولاً بعد نزول وآيات بعد آيات، وهذا الترتيل للآيات في السورة الواحدة قبل أن يكون للقرآن الكريم كله، فلم ينزله دفعة واحدة، فالجواب كشف عن السبب العام لطريقة النزول، وهو التفاعل مع الواقع المكي ثم المدني، وهو معنى الآية التالية من سورة الفرقان: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33))، فكلما أتوك بمثل جئناك بما هو الحق وبما هو أحسن تفسيراً، أي أن القرآن الكريم كان يجيب على أمثال الذين كفروا وأقوالهم، فلم يكونوا يأتون بمثل خلال فترة نزول القرآن الكريم كله إلا ونزل الجواب من الله تعالى على هذا المثل، كل في وقته وزمنه وحينه، وبما يثبت الحقيقة ويزهق الباطل، بل وكان مثل القرآن أفضل وأحق من مثلهم، وأحسن تفسيراً أي حجة وبياناً.
وفي ذلك تأكيد على علة وحكمة النزول مفرقاً، وهو أن القرآن الكريم كان في نزوله يتفاعل مع أحداث الدعوة الإسلامية وما يثار عليها من اعتراضات أو أسئلة أو ردود، طوال تاريخ البعثة المحمدية، سواء في مكة أو في المدينة، وسواء من الذين كفروا من قريش أو مع كفار أهل الكتاب أو مع المشركين، أو غيرهم، وقد كان القرآن الكريم يتفاعل ويجيب على أسئلة المسلمين واستفسارهم، أي أن القرآن الكريم كان يتفاعل في نزوله مع الواقع، وكان الواقع هو سبب نزوله أو مناسبته، سواء كان سبباً عاماً أم خاصاً، وأن القرآن الكريم تفاعل مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتدرج بها فكرة بعد فكرة وحكمة بعد حكمة ونهياً بعد نهي حتى اكتمال الدين وإتمام النعمة، قبيل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
ولا بد أن نجد في احتفاظ القرآن الكريم بما اعترض عليه من الذين كفروا بشأن طريقة التنزيل، ثم الاحتفاظ بالجواب عليهم بآيات كريمة من القرآن الكريم تتلى ويتعبد بها في الصلاة إلى يوم الدين، أهمية كبرى، وذلك لأنها تكشف عن أمور هامة منها:
أولاً ـ تكشف عن المنهج التاريخي الذي نزل به القرآن الكريم، وهو المنهج الذي جمع بين نزول القرآن مفرقاً ومتزامناً مع السيرة النبوية وتاريخ الدعوة الإسلامية في العهد النبوي.
ثانياً ـ ترشد إلى المنهج الواقعي في تفاعل نزول القرآن الكريم مع الأحداث، وهو الربط بين تاريخ النزول والوقائع التي كان القرآن الكريم يعالجها، فالتنزيل تفاعل مع الواقع اليومي الذي عاشته الدعوة الإسلامية في مكة والمدينة، وتفاعله مع المناسبات والأسباب الزمنية والتاريخية.
ثالثاً ـ تدعو إلى تحقيق أهداف هذا المنهج التاريخي الواقعي، وهو تحقيق التثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام.
رابعاً ـ تعليم المؤمنين المنهج التاريخي والواقعي والتثبيتي ، وأنه المنهج القادر على كشف حقائق التنزيل، وأنه منهج تدبر للقرآن الكريم من الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين.
هذه المعاني لا بد من التذكير بها، والسعي لوضع مناهج علمية تساعد الباحث على تحقيق أهداف نزول القرآن مفرقاً، وهذا ما قصدناه من كتاب علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره، وهو التذكير بهذا المنهج القرآني في تدبر القرآن الكريم مفرقاً كما أنزل، وقد اجتهدنا في وضع قواعد لهذا العلم، وبيان مصادره وجذوره الأصلية في العلوم الإسلامية، وبخاصة في كتب علوم القرآن الكريم.
لقد كان الهدف من بناء هذا العلم أن يوحد بين علوم القرآن وبالأخص المباحث التاريخية منها، ولذا اجتهدنا في التأكيد على أهمية معرفة تاريخ النزول للآية أو السورة، وكانت دعوتنا إلى اعتماد المنهج التاريخي في النزول، بقصد تحقيق التثبيت في الإيمان والعمل الصالح، فالربط بين تاريخ النزول وموضوعاته هو المنهج الذي نجد فيه القدرة على فهم القرآن فهماً قويماً.
وإثر حوارات مع أخوة كرام، تبين لنا أن هناك حاجة للحديث عن إحدى النتائج العلمية التي كنا نأمل أن يتوصل إليها القراء بأنفسهم، أي من خلال قراءتهم لكتاب «علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره»، دون أن نجعلها في كتاب مستقل، لأنها نتيجة طبيعية لعلم المناسبة الذي فصلنا فيه القول وجعلنا له ثلاثة أنواع هي المناسبة التنـزيلية والمناسبة التاريخية والمناسبة الموضوعية.
وكنا نأمل من تأصيل علم المناسبة على هذه الأنواع الثلاثة، وبالأخص المناسبة التنـزيلية والتي عرفت بأنها: هي اقتران الآية بما قبلها وما بعدها في السورة الواحدة بعلاقة تربطهما في سياق النزول ()، وأما المناسبة التاريخية : فهي : موضع ذكر الآية مقرونة بالحدث التاريخي في السيرة النبوية، ومعرفة تاريخ نزول الآية أو السورة من معرفة تاريخ نزول آية أخرى نزلت قبلها أو بعدها، فإذا علم تاريخ نزول آية ما فإن تاريخ نزول الآيات التي معها في نفس السياق والسورة هو نفس تاريخها إلا إذا وجد لآية منها تاريخ نزول آخر ثابت بنفس الدرجة أو أقوى من التاريخ الأول، وقلنا إن المناسبة التنـزيلية تلتقي مع المناسبة التاريخية في سياق النزول في السورة الواحدة وفي سياق الحدث التاريخي للقصة الواحدة ().
وهذا يعني بالضرورة وجود وحدة تاريخية للسور القرآنية، فلكل سورة قرآنية مدة زمنية تاريخية نزلت فيها بحكم المناسبات التاريخية والتنزيلية، وكنا نأمل أن يتواصل بحث غيرنا في هذا الاتجاه التاريخي التفسيري، حتى تكتمل صورته وتتجلى معالمه، إلا أن البعض يعترض على التفسير التاريخي بحجج واهية من أضعفها ظنهم أنه يهدف إلى إعادة ترتيب المصحف بحسب النزول، وليس الأمر كذلك إطلاقاً، والأغرب من ذلك أن يعترض عليه بنفس الحجة التي يقوم عليها منهج التفسير التاريخي، وهي حجة نزول القرآن مفرقاً، فظنوا أن نزول القرآن مفرقاً يلغي الوحدة التاريخية للسور القرآنية دون أن يقيموا على دعواهم برهاناً صحيحاً كما سيأتي، فكان لا بد من بيان المعنى الأصلي لنزول القرآن مفرقاً، وأنه قائم على الوحدة التاريخية لنزول آيات السورة القرآنية الواحدة، وأن نزول القرآن مفرقاً لا يتنافى مع الوحدة التاريخية ولا علم ترتيب النزول.
ويكفي للرد على ذلك الإجماع على معرفة الوحدة التاريخية لنزول القرآن الكريم كله، وهو المدة الزمنية الكلية التي نزل بها القرآن الكريم على النبي عليه الصلاة والسلام، وهي ثلاثة وعشرون عاماً، فإذا كانت الوحدة التاريخية للقرآن كله معروفة ومتفق عليها، أفلا يمكن معرفة الوحدة التاريخية لكل سورة قرآنية بمفردها، وهي متضمنة في الوحدة التاريخية للقرآن كله؟
إن الهدف من هذه الأبحاث مواصلة النظر في بيان المنهج التاريخي لتفسير القرآن الكريم في إحدى قضاياه الهامة وهي الوحدة التاريخية في السور القرآنية، وقد شجعنا على ذلك نصائح اخوة لنا، تدعو إلى بيان الأثر العملي لعلم تاريخ النزول وبيان أثر المنهجية التاريخية في تجديد تفسير القرآن كله أو بعضاً من سوره، أما وقد تأكدت الحاجة لدينا إلى مواصلة البحث والنظر في قواعد هذا المنهج، والأخذ بالنصائح، فإننا نفضا أيضاً التعليق على بعض الاستشكالات التي قد تنتج عن سوء فهم لما ندعو إليه، ولكن المهمة الأصلية هي التركيز على إحدى قضايا علم تاريخ النزول الهامة، وهي الوحدة التاريخية في تفسير السور القرآنية، وبيان أثر هذه الوحدة التاريخية في تفسير القرآن كله، وكأنه وحدة موضوعية واحدة منتظمة مع بعضها بعضاً، ومنسجمة ومتجانسة مع السيرة النبوية المكية والمدنية.
غفر الله لنا ولمن قرأ بإخلاص ما نكتب، ونسأل الله لنا وله التوفيق والسداد، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.


المصدر :صحيفة السبيل
 
عودة
أعلى