المقولات التي أقرها القرآن العظيم

إنضم
17/04/2003
المشاركات
9
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
بسم الله الرحمن الرحيم

المقولات التي ذكرها الله تعالى عن أحد خلقه، وأقرها*

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فإن القرآن العظيم لا تفنى عجائبه، ولا تُحَدّ دلائله؛ والمتأمل في كتابات العلماء الذين كتبوا في علوم القرآن العظيم يجد أن باب المقولات لم يُعن به العناية اللائقة؛ فهو من علوم القرآن الكريم المهضومة.

وقد تضمنت المقولات التي ذُكرت في القرآن العظيم على جهة الإقرار لها، والسكوت عنها أحكامًا جمة، وفوائد عدة.

منها: كثرة الأحكام العلمية، والعملية المترتبة على المقولات المُقَرَّة، والمسكوت عنها، والتي تُعد مسلكًا صحيحًا للاحتجاج.

ومنها: التنبيه على بعض المقولات المسكوت عنها، والتي ورد شرعنا بخلافها، وأنها خارجة عن الأصل في باب المقولات المسكوت عنها، وحملها على المنسوخ من الشرائع السابقة، أو توجيهها بما لا يخالف شرعنا.

وما زال العلماء، والفقهاء يستنبطون أحكامًا من مقولة، أو حكاية مسكوت عنها؛ لأن القرآن حق؛ والحق لا يقر الباطل، ولا يرضى به.

فكل قضية ذُكرت في القرآن، ولم يُنبه اللهُ تعالى على بطلانها؛ فهي حق، وكل فعل، أو أمر، أو نهي صدر عن أحدٍ في القرآن؛ فهو حق إلا إذا نُبِّه على بطلانه.

وهذا يظهر من أمرين(1):

أولهما: الاستقراء؛ فالمتتبع لآيات القرآن العظيم يجد أنه إذا حكى أمراً لا يرضاه، أو ذكر شيئًا يوهم غير المراد؛ فإنه يُشير إلى بطلانه، أو يأتي بما يدفع الوهم، وينفي الاحتمال؛ كقوله:{وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يُعَذِّبُكم بذنوبكم}، فأبطل مقولتهم رأسًا، وقال: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1). فدفع ما قد يُتوهم من إتيانهم بشهادة الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم- فوصفهم بالكذب فيها، وأنها لو كانت صادقة؛ لما ذُمّوا.

ثانيهما: أن الله أنزل كتابه هدًى للناس، وبينات من الهدى، والفرقان، وسماه قرقانًا، وهدًى، وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكل شيء؛ فلا يناسبه أن يذكر عن أحد من الناس ما هو باطل، ثم يسكت عن التنبيه على بطلانه، فإن ذلك يُفهم منه رضاه به.

والمقولات التي أقرها القرآن العظيم لا تخلو من حالين:

إما أن تكون صادرة عن نبي من أنبياء الله تعالى.
أو عن غير الأنبياء، سواء كانوا بشرًا - مؤمنين أم لا - أم من غير البشر؛ كالنمل، والهدهد ...
والمقولات من النوع الأول الأصل فيها أنها وحي من الله تعالى، وقد لا تكون وحيًا، وإنما اجتهاد من النبي قد يصيب فيه، وقد لا يصيب.
وذلك نحو: قضاء سليمان عليه السلام في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، قال تعالى : {ففهمناها سليمان}.
قضاء داوود عليه السلام في نفس القضية.
وهي وإن كانت اجتهادًا فهي أقوى في الدلالة؛ باعتبارها مقولة صاحب شريعة؛ إلا أنه في كلا النوعين يُعد إقرارُ القرآن، وسكُوتُه عن المقولة المذكورة حُجَّةٌ يُحْتَجُ بها ما لم يعارضها دليل أصرح منها.
فمتى ما عارض المقولة دليل أصرح منها؛ حُملت على النسخ.
ولذلك أمثلة كثيرة:
المقولات التي قالها الأنبياء في تبليغ رسالة الله تعالى؛ كقوله تعالى: {اعبدوا الله ما لكم من آله غيره}، ومقولاتهم في محاجة، ومجادلة المبطلين؛ كموقف إبراهيم عليه السلام مع النمرود، ومع قومه، ومع أبيه، وموقف موسى عليه السلام مع فرعون، وملائه، والسحرة، وبني إسرائيل..

مقولة عن نبيٍّ أقرها القرآن، وليس لها معارض (مقولة محكمة): قوله تعالى عن يوسف عليه السلام- : {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف/55].

ففيها دلالة على تولي العمل لدى الكفار.
وعلى جواز طلب الرئاسة.
وعلى جواز إدلاء الطالب بما عنده من الصفات، والخصائص، والخبرات..

مقولة عن نبيٍّ أقرها القرآن، ولها في شريعتنا معارض: قوله تعالى عن شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم}(هود: من الآية78)؛ ففيها جواز تزويج الكافر من مسلمة، وفي شرعنا لها معارض؛ كقوله تعالى: { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا }(البقرة: من الآية221).

مقولة عن غير نبي أقرها القرآن، وليس لها مخالف: قوله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام-: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف:26-27).
أفادت: القضاء بالقرائن.

مقولة عن غير نبي أقرها القرآن، ولها في الشرع معارض: قوله تعالى عن قوم الفتية أصحاب الكهف:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (الكهف: من الآية21).
أفادت: جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد!
وقد جاء في حق من فعل ذلك: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين :"أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله".

ومن أمثلة استدلالات الأئمة على هذا النوع قول الإمام البخاري في صحيحه:
باب ما يجوز من اللو، وقوله تعالى: { لو أن لي بكم قوة }، وقوله: باب رؤيا إبراهيم عليه السلام، وقوله تعالى:{ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى...}.

ومنه استدلال الجصاص بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم – عليه السلام-: المجادلة في إثبات العقائد: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:83) وذلك بعد مناظرته لقومه" وهذه الآية تدل على :
صحة المحاجة في الدين ، واستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى .
وتدل على أن المحجوج المنقطع يلزمه اتباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه.
وتدل على بطلان قول من لا يرى الحجاج في إثبات الدين؛ لأنه لو كان كذلك لما حاجه إبراهيم عليه السلام .
وتدل على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما ألزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجا صار إلى ما يلزمه .
الوتدل على أن الحق سبيله أن لا يقبل بحجته إذ لا فرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وإلا فلولا الحجة التي بان بها الحق من الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل . " (2).


دلالة قوله تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْه}(الكهف: من الآية19)
على الشركة في الطعام المُشترى بمال الجماعة ، وهو ما يُسمى بالمناهدة في النفقات.

ومنه: جواز الإجارة المطلقة: قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } (القصص:26). ذكره القرطبي عن المالكية(4).


جواز الإجارة بالطعمة، والكسوة: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (القصص: من الآية27) (5).

والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تُحصر، ولو ضمت الحكايات التي أقرها القرآن للمقولات؛ أثمرت مادةً علمية نافعة.

أسأل الله لي ولإخواني التوفيق، والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وأله، وأصحابه أجمعين.

ــــــــــــــ

* المراد المقولات التي حكاها القرآن نصًا. والتعبير عما ذٌكر في القرآن بالمحكي جادة مطروقة لأهل العلم لا يُشكل عليها تعريف الأشاعرة للقرآن.

يُنظر الموافقات للشاطبي (3/354 و 4/64).
(2) قاله الجصاص في أحكام القرآن له (2/172).
(3) وقد أشار لها الجصاص ( 5/40).
(4) تفسيرالقرطبي ( 13/275).
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/386).
 
بارك الله فيكم يا أبا خالد .
هل هناك من أفاض وفصَّل في هذا الموضوع يا ترى من المتقدمين أو من المعاصرين ؟
 
موضوع قيّم ، وجدير بالبحث والتأمل.
جزاك الله كل خير، ونفع بعلمك.
 
بارك الله فيكم يا أبا خالد .
هل هناك من أفاض وفصَّل في هذا الموضوع يا ترى من المتقدمين أو من المعاصرين ؟

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا، وبارك فيكم...
وأعتذر عن تأخر الرد؛ فأنا لم أشارك في الملتقى منذ سنوات!

دفعت البحث بعنوان: " المقولات التي أقرها القرآن الكريم ودلالتها على الأحكام" لإحدى المجلات المُحكمة، وآمل أن تحظى بالقبول!

وإزاء استفسارك؛ فلا أعلم أحداً فصَّل في المسألة، وقد تعرض لها الدكتور الأشقر في كتابه " أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" والله أعلم.
 
عودة
أعلى