توسّع بعض العلماء كأبي حيان فعدُّوا الشهرة والاستفاضة تواتراً، وبهذا الرأي تأثر ابن الجزري في شبابه وانتصر له ولكنه رجع إلى الصواب في آخر أمره فقال كنت أميل إلى هذا القول (أي القول بتواتر السبع) لكن تبين لي خطؤه. فتبين لنا أن سبب الخلاف هو تحديد مصطلح متواتر، فإن التواتر ليس الصحة ولا الشهرة ولا الاستفاضة بل هو شيء فوق ذلك. ومن خلال حواري مع كثير من الإخوة الفضلاء في هذا المنتدى المبارك تبين لي أن كثيرين ما يزالون على رأي ابن الجزري في شبابه أي رأي أبي حيان في عد القراءات السبع أو العشر متواترة كلها أي ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه من فرش الحروف.
ولكي يتضح الأمر نضرب أمثلة: فنحن نؤدي الصلاة بأن نقرأ فيها الفاتحة بأحاديث صحيحة ولكنها ليست متواترة فالمتواتر هو فقط عدد الصلوات والركعات ولذلك لم يختلف المسلمون فيما هو متواتر ولكنك واجد في كتب الفقه أقوالا للحسن البصري ت110هـ ولأبي حنيفة ت150هـ على سبيل المثال لا يقولان بقراءة الفاتحة في كل ركعة
فالصحة تختلف عن التواتر.
أحاديث الصحاح معظمها صحيح آحادا وليس فيها إلا القليل جدا من المتواتر.
فالتواتر ليس أمرا سهل الحصول لأنه فوق قدرة التاريخ نفسه على التدوين والنقل إلا ما كان منه معلوما من الدين بالضرورة.
وفي القرآن الكريم تواتر لدينا عن الصحابة رضي الله عنهم المصحف مجردا من النقط والشكل لأن الخط لم يكن في عصر كتابة المصحف عام 12 هـ ولا في عصر توزيعه على الأمة عام 30هـ لم يكن الخط قد تطور بالنقط والشكل بعد.
والخط دون نقط وشكل أعجز من أن ينقل النص بل كان مساعدا للحفظ فقط.
وقد كان ابن الجزري محقا بقوله لأن التواتر لو وجد لم يحتج إلى الشرطين الآخرين أي موافقة المصحف والعربية.
وهذا السبب في قصور أحكام أبي حيان التي أوردها الأخ وائل مشكورا فهي مبنية على مفهومه هو للتواتر ولو وافقناه على مفهومه لقلنا بقوله، ولكنا لا نوافقه عليه لأنه خلاف قول المحققين من علماء أصول الفقه.
ولا قدرة للذاكرة البشرية أن يتواتر المصحف كاملا لأنه نص طويل جدا يفوق قدرة الذاكرة على الحفظ دون خط مساعد. ولذلك خشي عمر بن الخطاب على كتاب الله حين قتل سبعون من القراء، لأن القراء يصحح بعضهم بعضا ويذكر بعضهم بعضا وقد كان لبعضهم مصاحف منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم
ولأن االقراءة بذاتها تختلف عن الكتابة إذ يمكن في الكتابة أن تقول:" وفي رواية.." أو أن تصف الكلمة لكن لم يمكن للقراء أن يقرئوا بالوجهين أو بكل الوجوه بل كانوا يختارون من بين ما يعرفون من وجوه جائزة وراجحة ومرجوحة وفق ضوابط لم تُنقل إلينا. إلا أنا نعلم أن نافعا قد أقرأ ورشا بوجه أسميناه رواية، وقالون بوجه أسميناه رواية أيضاً. ونعتقد أن نافعا كان يعرف أغلب خلاف الناس في القراءات ولكنه اشتهر عنه أقوى وجوه اختياره التي اشتُهر بها وعرف بها.
تعددت القراءات للقرآن ونسبت لأسباب تاريخية إلى أسماء من لزموا وجها يختلف عن سواه ويجمع إلى ذلك موافقة أحد المصاحف العثمانية وصحة السند والأخذ عن شيوخ معتبرين. إلى أن جمع ابن مجاهد من بين المشهور بين الناس من قراءات قراءات سبعة قراء واختار لكل منهم راويين. وقد سار علم القراءات على نحو خدم القرآن أداءً ولكنها لم تكن أحسن المناهج لتاريخية النصّ.
فاختيار القراءة لتُقْبل من أول القرآن إلى آخره لم يكن أفضل المناهج لحفظ الحروف المختلف فيها.
فقراءة ابن محيصن نبذها ابن مجاهد لأن فيها مخالفة ظاهرة لخط المصحف في نحو عشرة مواضع! فكان الأولى تضعيف العشرة المواضع وحدها لا تشذيذ القراءة كلها! فمثلا يقرأ أبو عمرو حرف {بورِقكم} بسكون الراء أي {بورْقكم} فلم يمكن معه الإدغام ولو قرأها كعاصم {بورِقِكم} لأدغم القاف في الكاف. ولما كان ابن محيصن قد قرأها كعاصم فإنه أدغمها فقرأها {بِوَرِقكُّم} واليوم لو قرأ بها إمام في الصلاة لعده التقليديون من تلاميذ القراء ممن يقرأ بالشاذّ! لأن حكم الشاذ الذي يصح فقط في العشرة المواضع التي خالفت فيها قراءة ابن محيصن خط المصحف قد انسحب بسبب المنهج القاصر لابن مجاهد ومن وليه على جميع قراءة ابن محيصن!
وهكذا لم يكن بد بسبب المنهج الذي يقبل القراءة كلها أو يشذذها كلها من أن نفقد حروفا وقراءات أصح من حروف السبعة أو بعضهم في مواضعها.
فالترجيح بين القراءات على فهم قراءة فلان وفلان قد صرح به بعض العلماء ففضلوا قراءة اهل المدينة ثم فاضلوا بين غيرها من حيث الفصاحة والقرب الى لغة قريش.
وأما الترجيح بين الحروف المفردة أي بين فرش الحروف واختلاف القراءات فيها فجائز سار عليه المحققون كابن جرير وغيره وتورع عنه المتأخرون لمزجهم بين الشهرة والتواتر، ومعلوم أن حجة أبي حيان ومن وافقه أو سبقه في قوله تصح فقط إذا كان فرش الحروف متواترا وهو لم يتواتر قطعاً.
وقد هداني الله تعالى إلى وضعه في مرتبة فوق الصحيح ودون المتواتر المجمع على تواتره فأسميه بـ"ـالمتواتر احتمالاً" لأن له علاوة على ميزة الصحة المتوفرة في كثير من الأحاديث ميزةً أخرى لا يجوز بخسها أهميتها وهي تواتر رسمِه أي "موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو حتمالاً"
في
هذا المقال
ولي عودة بإذن الله