المعجزة
أستميح القارئ عذراً أن يكون مدخلي للموضوع حديثاً عن النفس؛ فقد درست في الجامعة مساقاً يُعنى بإعجاز القرآن وكان من أثقل المساقات لا لصعوبته بل لأنه تعذر علي معرفة وجه الإعجاز بعد أن حفظت كل الآراء والأقوال فيه، وقرأت بحوثاً مطولة عن القول بالصرفة والردود عليها ولم أضع يدي على الإعجاز. ولما كنت أحمل فكراً تجريدياً تنظيرياً كما ينعتني أساتذتي، فكراً لا يؤمن بالنسبية ويحتاج إجابات قاطعة فقد ظل ملف الإعجاز مفتوحاً عندي أذكره تارة وأنساه أخرى، وظل سؤال يتردد في النفس مالذي سمعه عتبة من القرآن حتى قال أصحابه بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به؟ وما الذي جعل أنيس الشاعر يقول: والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون؟ ولماذا قال الوليد بن عقبة فور سماع كتاب الله: ما يقول هذا بشر؟ مالذي سمعه أهل البلاغة وأبناء بجدتها حتى لا يزيدون في جوابهم عن الصمت عند سماعهم(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)؟
فلما أُسقط في يدي وعدمت الأجوبة سلَّيت النفس بأنها ليس لها ناقة ولا جمل في البلاغة والبيان فانّى لها أن تعرف موطن إعجاز كتاب الله والقرآن.
ثم عاد الأمر ملحاً إلى ذهني إذ كيف أستطيع فهم معجزة النبي موسى عليه السلام وعيسى ولا أفهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم؟
وإذا كان من شروط المعجزة نقض العادة فكيف كان نقض العادة في القرآن؟
ومما أسعدني أن وقفت على كلام لعبد الله محمد صديق الغماري نقله عنه محمود شاكر يقرّ فيه أنه يتعذر معرفة وجه إعجاز القرآن ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته، هذا الكلام جعلني أعرف أن مشكلتي مع الإعجاز ليست شخصية وجعلني أنظر للأمر من وجهة نظر أخرى وهي أن دراسات الإعجاز ليست كافية في تجلية المعجزة الخالدة معجزة القرآن.
لعلي أطلت ولو اختصرت لكان أليق لكني أردت القول أنه في ظل هذه التساؤلات حصلت على كتاب(المعجزة: إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم) للدكتور أحمد بسام الساعي، وقد أنفق المؤلف في إنجازه عقدين من الزمان وهو من أعذب وأمتع الكتب في الدراسات القرآنية، ولعل القارئ يتعجب من وصفي للكتاب بالعذوبة وهو لفظ جرت العادة أن يطلق على الأدب والشعر، والسبب أن هذا الكتاب له تأثير رواية ممتعة لا تملك منها فكاكاً حتى تنتهي من قراءة آخر سطر فيها.
يقول الكاتب تحت عنوان رحلتي في آلة الزمان:" كم تساءلت فيما بيني وبين نفسي : ترى هل هناك آلة تستطيع أن تسبح بي في فضاءالزمان لتعبر بي أربعة عشر قرناً إلى الوراء فأستطيع سماع القرآن بأذن العربي الأول وكأنني أسمعه كما سمعه هو أول مرة؟ هل أستطيع التجرد من ذاكرتي القرآنية بل الإسلامية وأتصور أنني ذلك الجاهلي الذي عاش عصر الوحي، وسمع القرآن وهو يتنزل آية بعد آية، فتلتقط أذناه عذرية التعبير القرآني، وهما ما تزال بريئتين من التعود والتكرار والألفة التي تحجب عنهما عبقرية هذا التعبير وجدته وتفرده"(المعجزة،ص49).
طرح الكاتب كل ما كان يجول في نفسي من تساؤلات بأسلوب أدبي رصين ومن الأسئلة التي طالما حيرتني رواية ابن عساكر لقصة عتبة عندما عاد إلى قومه بعد سماعه القرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام فسألوه ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عادوثمود، قالوا: يكلمك الرجل بالعربية ولا تدري ما قال، قال: والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. الرواية السابقة كانت بالنسبة لي لغزاً من الألغاز إذ كيف لم يفهم عتبة القرآن وهو بالعربية؟ وقد أجاب الكاتب عن تساؤلي تحت عنوان: (وقع الصدمة التجديدية على العربي الأول:" هكذا كان شأن عتبة مع النسيج اللغوي القرآني الجديد، إنه لم يفهم ما تلي عليه، ليس لأن لغة القرآن ليست عربية أو ليست مفهومة، بل لأن عقله كان لا يستطيع أن يجمع في وقت واحد القدرة على التقاط معاني ما يسمع، وهي أيضاً معاني جديدة ومختلفة وغريبة كلياً عليه، والقدرة على تلقي اللكمات القوية والصدمات المتلاحقة للغة الجديدة وألفاظها وتراكيبها وبنائها وعلاقاتها التي تختلف عن كل ما عرف من قبل، فإما أن يتلقى هذه وإما أن يتلقى تلك، شأنه شأن حارس المرمى الذي لا يستطيع ان يصد في مرماه كرتين في وقت واحد لقد علقت بذهنه آخر عبارة فقط من الآيات، وهي وحدها التي أدرك معناها، فقد كان لديه الوقت الكافي، وقد توقفت الصدمات اللغوية مع انتهاء قراءة الآيات، ليلتقط أنفاسه ويبتلع هذا المعنى ويتبينه ويهضمه في أثناء رحلة العودة إلى قومه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"(المعجزة، ص35).
وتتلخص نظرية الدكتور الساعي في الإعجاز بأن للقرآن لغته واستعمالاته الخاصة التي تختلف عن استعمالاتنا البشرية، أي أن" للقرآن لسانه الخاص ليتصل باللسان العربي كما يشاء وينفصل عنه عندما يريد ويهيمن عليه سائر الأحوال، وما التحدي والإعجاز –خاصة-بالنظم والأسلوب والبلاغة والفصاحة إلا بعض مظاهر هذا الانفصال عن لسان العرب"(المعجزة، ص17).
عرض الكاتب نظريته تحت عنوانات متميزة تتسق مع كون الكتاب تجديداً في دراسة الإعجاز او كما سماه صاحبه (إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم) من هذه العنوانات: الشخصية اللغوية للقرآن الكريم، السبيكة القرآنية، البناء الجديد للصورة القرآنية، الفن القرآني الجديد،اللغة المنفتحة في القرآن الكريم ....وغيرها.
إن قول الكاتب بأن القرآن أتى بلغة جديدة ليس بدعاً من القول بل هي إشارات التقطها من هنا وهناك وبنى عليها نظريته ومن هذه الإشارات قول الجرجاني أن دلائل إعجاز هذا الكتاب هو ما جاء به الجديد في القرآن، ومن هذه الإشارات كذلك قول الرافعي بأن "أكثرما جاء في القرآن الكريم كان جديداً لم يوضع من قبله ذلك الوضع، ولم يجر في استعمال العرب كما أجراه فهو يصب اللغة صباً في أوضاعه لأهلها لا في أوضاع أهلها"، ومن هذه الإشارات ما هو مبثوث في كتاب (مداخل إعجاز القرآن) لمحمود شاكر.
ما سبق ذكره لا يعني أن كتاب(المعجزة) بدون ثغرات، فقد بلغت جرأة الكاتب في طرح نظريته أحياناً حد التهور، ووقع في بعض التناقضات، وعانت بعض فرضياته من عدم كفاية الأدلة، لكن هذا لا ينفي أن الكتاب يعد فريداً في بابه، ويمكن أن يفتح آفاقاً واسعة في دراسة الإعجاز القرآني ليس فقط في البناء عليه من المتأحرين وإنما في إعادة قراءة الإعجاز عند المتقدمين.